علماء من عصرنا

مذكرات الشيخ رفاعي طه (2) أول الطريق إلى المسجد .. وأول الطريق إلى السياسة

مذكرات الشيخ رفاعي طه (2)

أول الطريق إلى المسجد .. وأول الطريق إلى السياسة

 

سجّلها عنه وحرّرها: أ. محمد إلهامي

 

لما أقمنا في إدفو، بالتحديد في قرية كوم الأمير التي بها المصنع، ذهبتُ إلى كُتَّاب الشيخ حسين، وهو الكُتَّاب الثاني في حياتي، كان شيخه حسين أشهب، ثم حَدَثَتْ واقعة طريفة كانت طريق دخولي للمدرسة الابتدائية:

قدَّر الله أنّ جارنا في منزلنا بإدفو الأستاذ صادق كان مدرسا ابتدائيا، وكان يعطي الدروس الخصوصية لتلميذين: متولي وعبد الرازق، فكنت أذهب لأحضر معه هذه الدروس بحكم الجيرة، ولم يكن يصرفني ولم يطالبني بأموال أيضا، وأحيانا حين كان يسأل متولي أو عبد الرازق أسئلة كنت أجيبه عنها، وتكرر هذا مني حتى سألني بعد نحو شهر: أين تتعلم فإني لا أراك في المدرسة؟! ولم يكن بالمركز سوى هذه المدرسة التي يُدرِّس فيها، فذكرت له أني أذهب إلى كُتَّاب الشيخ حسين!

فقال: هل تريد الذهاب إلى المدرسة؟

فقلت: لا أدري، اسأل والدِي.

وحين عاد أبي من عمله بادره الأستاذ صادق فسأله: يا عم أحمد، أي مدرسة يذهب إليها ابنك؟

فقال أبي: المدرسة بعيدة عنا، ولكنه يذهب إلى الكُتَّاب.

فقال: يمكن أن آخذه معي إلى المدرسة.

فقال أبي: يكون لك جزيل الشكر!

وهكذا دخلت إلى المدرسة الابتدائية!

كان الأستاذ صادق يُدرّس في الصف الثالث الابتدائي، فاصطحبني معه فأجلسني في الصف الثالث مباشرة، ثم أجلسني في مقدمة الفصل، وحين جاءت حصة القراءة قال لي: اقرأ. فلم أعرف، فأخذ يشجعني ويقول: اقرأ.. اقرأ، فلم يكن مني إلا أن بكيت، فأخذ يربت على كتفي ويهدئني، ثم حين جاءت الراحة التي تكون في منتصف اليوم الدراسي، أخذ بيدي ووضعني في الصف الثاني الابتدائي، وكان يُدرّس به الأستاذ محمد عبد الجواد، ولم يكن ثمة مكان فارغ إلا آخر مكان، فأجلسني فيه، ولم يطلب مني القراءة في البداية، ثم بدأ الأطفال بالقراءة واحدا تلو الآخر، فلما جاء دوري كنت قد حفظت النصّ الذي يقرؤونه، فلاحظ الأستاذ أني لا أقرأ ولا أقلب الصحفة، لقد وضعت كل تركيزي في حفظ النص، وهو ما كان، فاقترب مني الأستاذ محمد كأنه معجب بي، وقال: اقرأ صفحة أخرى، فعجزت عن ذلك، فأدرك أنني لا أعرف القراءة ولكنني أحفظ بسرعة، فقال:

– ما اسمك؟

– اسمي رفاعي أحمد طه.

– من أين أنت؟

– من أرمنت.

– أنت جيد يا رفاعي.

وأعطاني إصبع طباشير أحمر كمكافأة، وصار يعاملني بلطف، ويعلمني القراءة كل يوم، ويعلمني في وقت الراحة وحدي بعيدا عن بقية التلاميذ، وبهذا بَقِيْتُ في الصف الثاني ولم أدخل الصف الأول، واستمررت في هذه المدرسة، وكنت دائما صاحب المركز الأول.

ومع هذا فقد استمر انتظامي في الكُتَّاب، إذ كنت أذهب إلى المدرسة صباحا وإلى الكُتَّاب عصرًا، وقد طلبت من الشيخ حسين أن أُغيّر موعدي إلى العصر، وكان في الكُتَّاب شاب في الخامسة عشرة من عمره يحفظ القرآن ويُحفِّظ آخرين كذلك، وفي ذلك الوقت عرفنا الألواح الخشبية وعرفنا “الطفلة” التي نمسح بها المكتوب. لقد كان الفارق بين القريتين كبيرا، ويرجع ذلك بالأساس بسبب المصنع، إذ أنه يستجلب الكفاءات للعمل، مما يعود على ارتفاع مستوى القرية، وكانت المدرسة جميلة نسبيا، وكنت أول مرة أعرف هذا الذي نجلس عليه، يُسمى “الدُّرْج”.

في تلك الفترة كان أكثر الناس تأثيرا فيّ الأستاذان: صادق ومحمد عبد الجواد، كان الأستاذ محمد يُحبُّني كثيرا، ويوليني عناية خاصة، وكنت مستمرا بالحضور في درس الأستاذ صادق مع متولي وعبد الرازق دون أن يطالبني بنقود لفترة طويلة، وكان يُعلِّمني الصلاة، وعلى الرغم من أن الشيخ حسن كان يعلمني القرآن لكنه لم يكن مهتما بهذا الأمر ولم نكن نصلي في الكُتَّاب.

بدأت مرحلة التدين حين انتظمت في الذهاب إلى المسجد، كان هذا في السنة الرابعة الابتدائية، كان والدِي يُصلّي الجمعة في المسجد ويأخذني معه، ولا أتذكر أنه اصطحبني في أي صلاة أخرى، وعندما ذهبت أول مرة للمسجد غمرتني السعادة، إذ وجدت كثيرا من الناس يصلون، فتعلقت بالمسجد، فكنت أقول لأبي: سأذهب للصلاة، وأذهب بمفردي، ثم لاحظ الشيخ محمود عسران إمام المسجد أني أصلي وليس معي والدي، فقال لي:

– أنت يا عِزّ، (واشتهرت في تلك الفترة باسم عزّ) تأتي دائما للصلاة، فلماذا لا تصلي معنا الفجر؟

– وما الفجر؟

– صلاة الصبح، هناك صلاة نصليها عند الصبح اسمها صلاة الفجر.. ألا تصلي الفجر في البيت؟

– لا، أنا أصلي الصبح قبل الذهاب إلى المدرسة.

– ألا تصليها في وقت الظلمة؟

– لا، أصليها عند ذهابي للمدرسة والشمس مشرقة

– إن صلاة الصبح تكون في الظلام وليس عند الشروق.

فكنت بعدها أريد أن أسهر الليل حتى يؤذن الفجر فأصلي، ولكني نمت وقلت لأمي: أيقظيني في صلاة الفجر، لكنها لم تفعل. ثم استيقظت في الظلام فظننت أن الفجر قد حان وقته، فتوضأت وصليت ركعتين، ثم رويت هذا للشيخ محمود عسران فضحك كثيرا، ووعدني أنه سيمرّ عليّ عند صلاة الفجر ليصطحبني معه، وأوفى بوعده.

لكن أزمة الربو كانت تشتد عليّ، ففي طريقي إلى المسجد أتوقف فأجلس خمس أو ست مرات لشدة الألم، وحاولَت أمي أن تُقنعني بالصلاة في البيت لسبب المرض، وذات مرة شتمت الشيخ محمود وصاحت به: ألا ترى أنه مريض، ولا يستطيع الذهاب؟! فقال لها: إن هواء الفجر جميل، ولعله يُشفى به، دعيه يصلي لعل الله يشفيه!
وكان الشيخ محمود على معرفة بمُمَرِّض نصراني اسمه ميلاد، فسأله عن حالتي، فكشف عليَّ ثم سألني: من والدُك؟ ولمّا عرف أنه يعمل قريبا من المصنع سألني: لماذا لا يأخذك إلى العيادة الطبية بالمصنع؟ أنا أشتغل هناك، ولعل الطبيب يعالجك، ثم أعطاني حقنة كالسيوم لتخفيف المرض، ولما سألت والدي تعجَّب وقال: فعلا أنا أعرف ميلاد، كيف لم أفكر فيه من قبل؟ ثم أخذني إلى الطبيب وأعطاني نفس تلك الحقن، وكانت تخفف من حالتي وبهذا انتظمت في الصلوات الخمسة جميعا.

كان الشيخ محمود عسران حاصلا على الثانوية الأزهرية، ويعمل كاتبا بالمصنع، وكلّفته إدارة المصنع إلى جوار هذا العمل بمسؤولية المسجد، فكان يعمل كاتبا وإماما للمسجد، كان متدينا بسيطا، لم يكن على كثير علم وكانت أكثر خطبته باللغة العامة لا الفصحى، وكان يقول لي: يا بني، هذا الملك (فاروق) كان ملكا صالحا، بل لقد كان لقبه “الملك الصالح”، ولكن أولئك العسكر أشاعوا عنه ما يُسيء إليه ليُدينوه به.

لقد كنت صغيرا لا أدرك معنى ما يقول، ولست أدري الآن ما هي المناسبة التي قال لي فيها هذا الكلام.

أول ما أتذكره من الأمور العامة هي إعدام سيد قطب، كنت في الصف الخامس الابتدائي، وأتذكر أن أمي كانت تدعو على الإخوان وتقول “ربنا ينتقم منكم يا إخوان، أنتو عايزين تهدوا السدّ العالي ليه؟”، فعلقت في ذهني كلماتُها فسألتُها: من هم الإخوان؟ فقالت لي: شخص يُدعى سيد أعدموه لأنهم يريدون هدم السد العالي، ولكن الرئيس أمسك بهم ونصره الله عليهم. كذلك كانت تقول عنهم “ناس عِفْشين”!
أما ما أتذكره جيدا فهو نكبة 1967، فقبل وقوع الحرب حدَّثنا مدرس المواد الاجتماعية، وكان اسمه عبد العظيم، بأننا سوف ننتصر في هذه الحرب حتما، يقول: هذا العالَم منقسم تحت دولتين: الاتحاد السوفيتي وأمريكا، فنحن سوف نهزم إسرائيل، فإذا ساعدتها أمريكا فسيتدخل الاتحاد السوفيتي ويساعدنا، والاتحاد السوفيتي أقوى من أمريكا، وحين ننتصر سيكون اسم دولتنا “مصر وفلسطين”، فغزة هي جزء من فلسطين ولكن مصر هي التي تحكمها.

قامت الحرب وهُزِمنا، ولم أكن حينئذ أدرك معنى الهزيمة، وأتذكر أن أبي عاد يومذاك حوالي الساعة 12 ظهرا، وكان يبكي بكاء شديدا، وفزعت أمي وصارت تسأله: “مالك فيه إيه؟ مالك؟”، فيقول لها: “اسكتي اسكتي جمال استقال”.

ثم أعطونا عطلة وجاءوا بسيارات كبيرة وجمعونا من البيوت لنذهب من قرية كوم الأمير إلى إدفو للتظاهر رفضا لاستقالة جمال عبد الناصر، وهي مظاهرات 9 و 10 يونيو. وأذكر أن تلميذا كان إلى جواري وقع على الأرض فمرت عليه السيارة، فسحقت رأسه تماما! لقد رأيت بنفسي رأسه مسحوقة ملتصقة بالأرض، وكان مشهدا لا أنساه أبدا، ولكن الناس صاحوا: فداءً لجمال عبد الناصر! فداء لجمال عبد الناصر. ولم تتوقف السيارة!

كان الناس كثيرون في إدفو، كانوا يهتفون “أنور أنور يا سادات.. احنا اخترنا جمال بالذات”، وكان السادات وقتها رئيسا لمجلس الأمة (البرلمان)، وكانت الاستقالة قد قدّمها عبد الناصر أمام مجلس الأمة واستخلف فيها زكريا محي الدين، ولم يزل هذا الهتاف محفورا في ذهني، ثم عدنا إلى القرية وأخبرونا في اليوم التالي بأن جمال عبد الناصر قد تراجع عن الاستقالة.

كان الناس في سعادة غامرة لمَا يأتيهم من أخبار الانتصار وما أسقطناه من الطائرات، ثم فجأهم خبر الهزيمة والتنحي كالصاعقة، وفي ذلك الوقت لم أكن أدرك كيف انتصرنا أو انهزمنا، ولم أكن أدرك لماذا استقال جمال عبد الناصر ولماذا تُطالِب الناسُ بعودته؟ لم أكن أدري كل هذا في هذه المرحلة ولكني أسمعه فقط.

 

 

(المصدر: مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى