تقارير وإضاءات

مخطوطة عثمانية لمعاني القرآن.. العودة إلى نقاشات قديمة

مخطوطة عثمانية لمعاني القرآن.. العودة إلى نقاشات قديمة

إعداد أحمد زكريا

تساؤلات عديدة أثارتها نسخة ترجمة القرآن التركية للمُفَسِّر وعالم الإلهيات العثماني محمد حمدي يَازِر (1878 – 1942)، بعد أن عثر عليها حديثاً الباحث التركي نجمي عتيق أثناء عمله على أطروحة دكتوراه في كلية الإلهيات بجامعة أنقرة. كما عثر الباحث على مخطوطات أُخرى ليَازِر، من بينها بعض قصائد لم ينشرها، ويوميات، وبعض اللوحات الخطّيّة. وقد صرّح الباحث بأن النسخة التي عثر عليها تختلف كثيراً عن النسخة التي نُشرت في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي.

يعود تاريخ ترجمة القرآن إلى التركية، بحسب العديد من الباحثين الأتراك، وعلى رأسهم المؤرخ البارز محمد فؤاد كوبرولو، إلى النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي، الذي شهد إنجاز أول ترجمة تامة للقرآن إلى التركية. لكن هذا الترجمة كانت حرفيةً، حيث كان يُكتب تحت كل كلمة عربية معناها باللغة التركية. وقد عثر زكي وليدي طوقان، المؤرخ المختص في تاريخ الترك، على نسخة من هذه الترجمة في بخارى عام 1914.

كما توجد أيضاً نسخة أخرى محفوظة في متحف الآثار الإسلامية بإسطنبول، ويعود تاريخ نسخها إلى عام 1333 ميلادي، وناسخها هو دولت شاه الشيرازي. وقد تُرجمت هذه النسخة عن الفارسية إلى اللهجة التركية الشرقية (أوغوز). إلا أن أغلب الترجمات التي أُنجزت في تلك المرحلة يصفها الباحثون بأنها كانت حرفية ولا تُراعى فيها قواعد اللغة التركية، وبأنها غير مفهومة في كثير من المواضع. ظهرت بعد ذلك، في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، ترجمات تفسيرية بصورة أوسع وأكثر تفصيلاً.

حظيت ترجمة يازر بانتشار واسع بين الأتراك على مدى عقود

مرّت عملية ترجمة القرآن ومعانيه للتركية بمراحل عديدة خلال العهد العثماني، وانقسمت إلى ترجمة كلمات الآيات، وترجمة بعض التفاسير العربية، كتفسير أبي الليث السمرقندي المعروف باسم “بحر العلوم”. إلا أن الملاحظ على كل الترجمات التي ظهرت في ذلك الوقت أنها لم تحظ بقبول الناس.

وقد كان القرآن مفهوماً بين العلماء والنخب في تلك العصور، بطبيعة الحال، لأن اللغة العربية كانت لغة العلم والثقافة مع الفارسية، لكن فهمه بقي بعيداً نسبياً عن المجتمع حتى مع ظهور ترجمات أثبت الباحثون بعد ذلك أنها كانت مستنسخة واحدة من الأخرى، فضلاً عن أنها اقتصرت على ترجمة قصار السور وسورة يس ويوسف والملك. وأبرز هذه الترجمات ترجمة إسماعيل بن أحمد الأنقروي في القرن السابع عشر، وترجمة محمد تشلبي النيكساري في بدايات القرن التاسع عشر.

محمد حمدي يَازِر
محمد حمدي يَازِر

ومع ضعف العربية في المجتمع العثماني قبيل انهيار الدولة، بدأ الحديث عن أهمية وجود ترجمة كاملة بلغة يفهمها الناس، وقد شهد عصر السلطان عبد الحميد الثاني خلافات عديدة حول هذه المسألة بين الشيوخ في إسطنبول، وامتدت هذه الخلافات إلى الأزهر في مصر، لتنتهي كما هو معروف بجواز وجود ترجمة تفسيرية للقرآن.

إلا أن مسألة ترجمة القرآن إلى التركية قد أخذت منحى جديداً في عصر الجمهورية، حيث دخلت ضمن التغيرات التي أرادها مصطفى كمال للدولة الجديدة. فبعد مرحلة إغلاق التكايا ومنع ارتداء العباءة والطربوش واستبدالهما بالقبعة الغربية، مروراً باعتماد التقويم الأوروبي والقانون المدني السويسري، واستبدال الحروف العربية باللاتينية، وما تبعها من نقاشات حول إقامة الصلاة باللغة التركية ورفع الأذان بها أيضاً، ظهرت الحاجة إلى وجود نسخة من القرآن باللغة التركية.

وبعد قرار من البرلمان التركي بضرورة ترجمته، تم تكليف رئاسة الشؤون الدينية التركية بهذه المهمة. وبالفعل، أتم محمد حمدي يازر الترجمة. وشهدت هذه المرحلة ظهور أكثر من ترجمة تركية للقرآن. ورغم الانتقادات التي وُجّهت لترجمة يازر آنذاك، إلا أن ترجمته حظيت بانتشار واسع بين الأتراك على مدى عقود.

اتُهم يازر بأنه “آلة” في ماكينة أتاتورك الأيديولوجية

ولم تقتصر الانتقادات الموجهة ليازر على نقد لغة الترجمة والأخطاء في بعض المعاني، بل وصلت إلى اتهامه من قِبل بعض المحافظين بأنه كان مجرد “آلة” في ماكينة أتاتورك الأيديولوجية، وأن وراء طلب أتاتورك ترجمة القرآن نوايا “خبيثة”، مثل الرغبة في هدم القرآن في تصوّر الأتراك المسلمين من خلال تسطيح معناه في الترجمة، ليصبح باهتاً ويفقد إعجازيّته، بحسب رؤيتهم. وقد أعاد عثور الباحث نجمي عتيق على نسخة أخرى من الترجمة، الموضوعَ إلى النقاش مرة أخرى.

في حديثه إلى “العربي الجديد”، يحكي الباحث نجمي عتيق عن  قصة هذه النسخة، وأبرز الفروق بينها وبين النسخة التي نُشرت من قبل، قائلاً: “تعود قصة هذه الترجمة إلى عام 1925، عندما كلفت رئاسة الشؤون الدينية في تركيا، كلاً من محمد حمدي يازر بتفسير القرآن بالتركية، والشاعر محمد عاكف آرصوي، صاحب نشيد الاستقلال الوطني، بترجمته. إلا أن آرصوي اعترض على ترجمة القرآن أول الأمر، ليوافق بعد إقناع بعض الشيوخ له، ومن بينهم يازر. هكذا، أتمّ آرصوي الترجمة عام 1928 في مصر، حيث كان يعيش”.

نجمي عتيق

وبحسب كثير من الروايات، فإن أسباب تراجع آرصوي عن إرسال الترجمة إلى إسطنبول مرتبطة بالأخبار التي كانت تصله من هناك بأن الصلاة ورفع الأذان سيجريان باللغة التركية أيضاً (وبالفعل، جرى رفع الأذان بالتركية عام 1932، قبل أن تعيده حكومة عدنان مندريس إلى العربية بعد 18 عاماً). ويرى عتيق أن آرصوي لم يرغب في تحمّل مسؤولية الترجمة، إذ “اعتذر عن نشرها في نهاية الأمر، وعن المهمة التي كُلّف بها بشكل رسمي عام 1931، خوفاً من أن تقتصر العبادة على اللغة التركية وأن يهجر الناس تعلّم العربية، خصوصاً بعد أن انتشرت نقاشات حول إمامة الصلاة بالقرآن المُتَرجم”.

ويرى الباحث الذي يعكف الآن على النسخة الثانية من الترجمة، أن الأولى لم تتم على أكمل وجه: “بعد اعتذار آرصوي بستة أشهر، قام المجلس الأعلى للشؤون الدينية بتكليف محمد حمدي يازر بترجمة القرآن إلى جانب مهمته الأولى بتفسيره، وقَبِل يازر المهمة، لكنه اشترط أن تصدر الترجمة مع التفسير في الوقت نفسه. وقد صدرا معاً بالفعل، لكن الترجمة، التي أُنجزت على عجل، تتضمن الكثير من الأخطاء والإشكاليات”.

وحول أبرز الفروق بين النسختين، يقول عتيق: “تختلف النسخة الجديدة عن النسخة الموجودة حالياً بأنها تُرجمت على مهل، بلغة واضحة يفهمها الناس. أما النسخة الأولى، فقد أُنجزت ضمن مشروع التتريك الذي تبنّاه أتاتورك. كما أن النسخة الثانية لم يُترجم فيها يازر أسماء الله الحسنى، وتركها كما هي. ومن أبرز الفروق أيضاً استخدام يازر للقوافي والبحور الشعرية في ترجمة الجزأين الأخيرين من القرآن”.

أولى ترجمات معاني القرآن تعود إلى النصف الأول من القرن الحادي عشر

ينفي عتيق معرفته بأسباب عدم نشر حمدي يازر للنسخة الجديدة المنقحة في حياته بعد إتمامها. هل كانت مخاوفه تشبه مخاوف زميله آرصوي، الذي قِيل عنه إنه أوصى بحرق ترجمته في مصر حتى لا تصل إلى حكومة أتاتورك، حرصاً على ألا يستخدم النظام الحاكم آنذاك عمله في حركة التغيير في البنية الدينية للمجتمع التركي؟ وكان آرصوي قد ذكر في مقدمة ترجمته أنها تساعد فحسب على استيعاب المفهوم العام للآيات لكنها لا تصلح أن تحل محل القرآن بأي حال من الأحوال، وهاجم أيضاً الترجمات التي ظهرت في عصره باسم “القرآن التركي”.

وربما حدث أمرٌ آخر بعد نشر يازر لترجمته الأولى، منعَه من نشر الأخرى، وخصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار أنه بدأ في ترجمة القرآن قبل قرار استبدال الأبجدية العربية باللاتينية بثلاثة أعوام، وعندما صار الكتاب جاهزاً للنشر كان قرار استبدال الأبجدية قد صدر (1928)، وأُعيدت كتابة الترجمة بالحروف الجديدة. رغم ذلك، حظي عمله باهتمام كبير لدى المجتمع باعتباره “الترجمة الرسمية”.

مع قلّة ملحوظة في عدد العارفين بالعربية اليوم، ثمة في تركيا اليوم، بحسب العديد من الإحصائيات، أكثر من ثلاثمئة ترجمة لمعاني القرآن بالحروف اللاتينية. إلا أن كثيراً من الباحثين يرون أن أكثرها غير دقيق، باستثناء بعض الترجمات التي أعدّها عارفون باللغتين، يتقنون التفسير والتأويل، مثل ترجمة إسماعيل حقي الإزميري، والترجمة التي قامت بها لجنة مختصة وأشرف عليها صدر بن عمر كوموش. ولكن بلا شك، تظل مسألة استبدال الأبجدية العربية باللاتينية من أبرز المشكلات التي تسببت في حدوث فجوة كبيرة بين الأتراك وتراثهم، وعلى رأسه القرآن.

(المصدر: العربي الجديد)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى