كتب وبحوث

محاولة للتعرف على الحياة الواقعية في بيئة ابن تيمية من خلال كتاب “مختصر الفتاوى المصرية”

محاولة للتعرف على الحياة الواقعية في بيئة ابن تيمية من خلال كتاب “مختصر الفتاوى المصرية”

الشيخ محمد خير رمضان يوسف

كتاب “الدرر المضية من الفتاوى المصرية” اختصره بدر الدين أبو عبدالله بن علي الحنبلي البعلي (ت 778هـ)، وسماه “التسهيل” كما في الأعلام للزركلي، وبقي معروفًا باسم “مختصر الفتاوى المصرية”.

نشر الكتاب لأول مرة عام 1368هـ على نفقة الملك عبدالعزيز، بتصحيح محمد حامد الفقي، وإشراف عبدالمجيد سليم، القاهرة: مطبعة السنة المحمدية، وكان اعتمادهما على النسخة المخطوطة الوحيدة في المكتبة الأزهرية، وأعيد طبعه بالأوفست في باكستان، نشرته دار نشر الكتب الإسلامية: كواجرانواله، ربيع الأول 1397هـ.

والطبعة الأخرى للكتاب كانت عام 1400هـ، راجعه وقدم له وفهرسه أحمد حمدي إمام، القاهرة: مطبعة المدني، ويقع في (667) صفحة.

وهناك مختصر آخر للفتاوى المصرية – أشار إليه أحمد إمام (ص: 16 من المقدمة) – وهو بعنوان: “الاختيارات العلمية في اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية”، وصاحبه هو علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عباس البعلي الدمشقي، ويختلف أسلوب اختصار هذا عن ذاك.

وبعد ذكر هذه البيانات الموجزة عن الكتاب، أود أن أذكّر القارئ أن هذه الدراسة ستنصبُّ على معالجة أمر مهم، لا يعيره كثير من الباحثين والمؤرخين الأهمية التي يستحقها، وهو الوقوف على الحياة الواقعية التي كان يعيشها مجتمع القرن الثامن الهجري في بلاد الشام – وقد يكون من بينها مصر وغيرها من بلاد المسلمين – من خلال النصوص الفقهية التي يعالجها علماء ذلك الوقت، ومن خلال إجاباتهم على أسئلة أفراد ذلك المجتمع، ومن خلال التركيز على بعض الأجوبة وإعطائها حقها من التبسيط والإسهاب، وذكر فروعها ومتعلقاتها.

إن كثيرًا من الفتاوى الواردة في الكتاب تضع أيدينا على الحياة اليومية التي عاشها بعض فئات المجتمع، وتبين المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية في نواحٍ جزئية لا تتطرق إليها الكتب التاريخية.

والذي أودُّ قوله هنا، أن بإمكان المهتمِّين بالتاريخ الإسلامي وعلم الاجتماع، إضافة معلومات كثيرة إلى دراساتهم عندما يعرّجون على كتب الفقه الإسلامي، التي ستذكر لهم كثيرًا من المشكلات الاجتماعية والنواحي الجزئية في ذلك الوقت.. ولعل في إيراد بعض الأمثلة ما يبين هذا الأمر.

المنهج والأسلوب:

وليعفني القارئ من عرض محتويات الكتاب؛ إذ من المعروف أنه كتاب فقه، وزِّعت أبوابه وفصوله على تقسيمات الكتب الفقهية المعروفة في جميع المذاهب الفقهية، وما سمي بـ الفتاوى، إلا لأنه يتعرّض لقضايا جزئية في نواحٍ كثيرة يتطلبها شيء مستحدث، أو إثارة لقضية معينة، أو اجتهاد في أمر من الأمور المختلف فيها بين الفقهاء، أو التعرض لموضوع استعصى فهم جوانبه.. وكما قال البعلي في مقدمته القصيرة للمختصر: “مما أكثره فقه المسائل، وما عسر علمه على الأوائل”، وقد وضع مصحح الكتاب مقدمة لا بأس فيها عن ذلك.

ويتلخص منهج ابن تيمية في هذا الكتاب ببيان الأحكام الشرعية، ومناقشة القضايا الفقهية، وذكر آراء الفقهاء في المذاهب الأربعة وغيرها، ومناقشتها في بعض الأحيان.. ويبدي المؤلف رأيه في مواضع، كما يقتصر على بيان الحكم في مذهب الإمام أحمد بن حنبل في مواضع أخرى.

ولكن الذي يلفت النظر – حتى في بيان الأمور الجزئية – هو محاربة المؤلف للبدع، والحملة على المبتدعين بكل ما أوتي من علم وبيان، والتشنيع عليهم والتشهير بهم، وبيان موضع الخطأ عندهم، وذكر وجوه العيب فيهم، وبيان مضار البدع ومخالفتها للشرع بالدلائل والاستنتاجات.. وهو لا يكاد يبين حكمًا إلا ويعرج فيه على قضية الإصلاح الاجتماعي، أعني أنه يتحين فرصة بيان حكم ليبرز عيب المجتمع وبعده عن المنهج الحق في عقيدته وسلوكه، وهو أبرز ما تتميز به جهود وكتابات ابن تيمية؛ فهو يعود في كل مرة ليركز على ناحية العقيدة، التي يرى فيها أساسًا لنظام المجتمع وسلوكيات أفراده، فإذا كانت سليمة دلَّ الأمر على الجانب المضيء، وإلا فإن الأمر يحتاج إلى إجلاء الظلام الذي يغلف جوانب المجتمع.

إنه يدلل ببيان هذه الأحكام على عيوب المجتمع وسبب تخلفه وفساده، ويقدم الحلول الناجعة للنهوض به وإيقاظه من غفوته من وجهة نظر عقدية وشرعية مُحكمة.

ومن حسن فقهه وسياسته أنه عندما يبين آفة مُستَشْرية في المجتمع لا يقتصر على بيان الحكم باجتهاده، بل أكثر ما يورده يذكر معه الدليل الشرعي وآراء العلماء الآخرين، وهذا المنهج فيه فائدتان:

1 – يجلب ثقة المجتمع المسلم.

2 – يبين لهم أنه رجل علم محافظ: لا يبتدع طريقة جديدة، بل يريد تجديد دورة الدين في شرايين القلوب.

ويدرس الأمور دراسة علمية ممزوجة بشيء من الحرقة والألم على ما يراه في مجتمعه من فشو الجهل، وانتشار الخرافات والتعصب لمذهب أو طائفة معينة، وكانت هذه الفتاوى سببًا لتعرضه للسَّجن عدة مرات.

وقد تحدث كثيرًا عن الفرق الضالة والعقائد الفاسدة في مجتمعه، ونقد كتبًا ألفت في هذا الشأن، وناقش، وناهض، وجاهد، ودعا إلى العقيدة السلفية، وبين رأيه ورأي العلماء الآخرين في قضية تكفير أهل الأهواء والبدع، في كتب كثيرة له في العقيدة، وانظر ص: 60 – 61 من هذا الكتاب.

وإذا كانت حربه على البدع والخرافات من باب التثقيف والبيان، وكذلك الإصلاح الاجتماعي، وتعضيد كلامه في هذا الرد بأنواع النصوص والآراء.. فإنه شعر أن القضاء عليها وإزالتها من واقع الناس ليس بالأمر الميسور؛ ولذلك لجأ إلى أسلوب القوة في حربه الكلامية أو التأليفية – إذا صح التعبير – فهو لا يكتفي ببيان الحكم الشرعي في أمر من الأمور، بل كثيرًا ما نجد في أثناء فتاواه هذه يقول: “… يجب استتابته إن أصرّ، فإن تاب وإلا قتل”؛ ص422، “فمن قال ذلك عُرِّف، فإن أصرَّ استتيب، فإن تاب وإلا قتل”؛ ص: 425، وانظر ص: 550.. وغيرها.

ويضع تنفيذ هذا الأمر في يد الحاكم، الذي ينبغي أن ينفذه، ما دام أنه يحكم بالإسلام.. والقصد من وراء ذلك أن الإصلاح لا يتم بمجرد الخطابة والتأليف، بل لا بد أن تعضده قوة منفِّذة، فالعقول المريضة التي عششت فيها الأوهام، والضمائر الفاسدة التي لم يصقلها إيمان أصحابها، والقلوب التي قست حتى لم تعد تشعر بالخوف أو الرحمة – بحاجة إلى ضربة قاسية تفيقها مما هي عليه؛ لتنتبه وتفيء إلى رشدها، وليكون هذا عبرة لأمثاله، ولعل هذا أمثاله أدى إلى أن يقول البعض: إن أسلوبه كان قاسيًا.

ويبدو لنا من فقهه تبحّرُه في العلم، واطلاعه على علوم كثيرة أسندت ثقافته، فبدا عالمًا حاذقًا خبيرًا، يغوص في أعماق القضايا، ويجلّي الأمور على حقيقتها؛ لينبّه بذلك إلى ما غاب عن الأذهان.. فلا تكفي الشكليات التي قد تعطي ألوانًا برّاقة، وتبطن ساحة واسعة من الخداع والفساد!

وأسلوبه في العرض والمناقشة من أسهل ما يكون؛ فهو لا يلجأ إلى كلمات صعبة، ولا تعقيدات بيانية يعسر فهمها على طالب العلم، رغم أنه يبحث في قضايا عميقة، تتطلب التركيز والتدقيق، فهو يقضي على هذه المشكلة بالوضوح في المعنى، والسلاسة في الأسلوب، والتبسيط في الموضوع.. إنه يورد الأدلة، ويبين الآراء، ويشرح رأيه، ويأتي القضية من أبوابها السهلة المفتوحة، للتدليل على المعنى.

الدراسة:

ذكرت في المقدمة أنني سأتناول بالدراسة الحياة الواقعية التي عاشها بعض فئات المجتمع في بيئة ابن تيمية وعصره من خلال نصوص كتابه، سواء منها المصرّح بها أنها في ذلك الوقت، أو ما فيها إشارة إلى ذلك.

ولن أتوسع في الموضوع، كما لن أتقصّى كل ما أشير إليه، أو ما علمت أنه كان موجودًا في ذلك الوقت، فالهدف من هذه الدراسة هو الإشارة، والتنبيه إلى منهج جديد في معرفة تصرفات بعض الأشخاص أو الجماعات من خلال اهتمام العلماء بمشكلات المجتمع المختلفة.

وأشير إلى أن ما ورد في هذه الفقرات يكوِّن معظمه الجانب السلبي من حياة المجتمع.

أولاً: الناحية الدينية:

1 – ينقد ابن تيمية بدعة تعارَف المؤذنون عليها يوم الجمعة، وهي أذان عدة أشخاص معًا في وقت واحد في صحن الجامع.

وأظن أن هذا الأمر معمول به حتى الآن في الجامع الأموي بدمشق، وليس في الجمعة فقط، حيث يعمد مؤذنان أو أكثر إلى النداء بالأذان في وقت واحد.

يقول ابن تيمية (ص: 13):

“هؤلاء الذين يؤذنون مع المؤذن يوم الجمعة في مثل صحن الجامع، ليس أذانهم مشروعًا باتفاق الأئمة، بل هو بدعة منكرة مشتملة على وجوه مذمومة”.

ويبين هذه الوجوه بقوله (ص: 31 – 32):

إنها بدعة.

– ومنها: أنهم يتركون ما أُمروا به، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه “أمر أن يقول السامع مثل قول المؤذن، إلا في الحيعلة فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله”.

الثاني: أنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم.

الثالث: أنه يسأل الله له الوسيلة.

الرابع: أن يدعو بعد ذلك بما شاء.

فيتركون سماع المؤذن وما أُمروا به، ويفعلون ما لم يؤمروا به.

ومنها – أي الوجوه المذمومة -: أنهم يشغلون الناس عن هذه السُّنة ويخلطون عليهم…

إلى أن يقول:

ومنها: أنه يؤذن مؤذنان في وقت واحد، ومتى أذن مؤذنان معًا في وقت واحد مفترقين، كان مكروهًا منهيًّا عنه، بخلاف ما إذا أذن واحد بعد واحد، كما كان المؤذنان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم..

2 – ويظهر أن بضاعة القُصَّاص كانت مزجاة في ذلك العصر، وكانت لهم أماكن وأوقات لسرد قصصهم كما يحبون، وكان لهم جمهور من المستمعين، يقول المؤلف ص32:

وكذلك القُصاص الذين يقومون على رؤوس الناس يوم الجمعة ويشغلونهم عما شرع من الصلاة والدعاء والقراءة – لا سيما إن قصوا وسألوا والإمام يخطب – فإنه من المنكرات الشنيعة، مع ما يكذبون كثيرًا، فيتعين إزالة ذلك باتفاق الأئمة.

3 – وينبه إلى بدعة أخرى في باب صلاة التطوع بقوله (ص: 74):

قراءة سورة الأنعام في ركعة واحدة في رمضان أو غيره بدعة، سواء تحرّوا الليلة بعينها أو لا، كما يفعله بعض الناس، يقرؤونها في آخر ركعة من صلاة الوتر، يطول على الناس، ويهذها هذًّا مكروهًا.

4 – وينقد بدعة أخرى في هذا الباب فيقول (ص: 74):

“وصلاة القدر التي تصلى بعد التراويح ركعتين في آخر الليل، يصلون تمام مائة ركعة، بدعة مكروهة، والاجتماع المعتاد في المساجد على صلاة مقدرة بدعة”.

5 – ويبدو أن إمام البلد كان يرسل جندًا لحماية الحجاج في طريقهم إلى الحج، يقول المؤلف (ص: 297):

“وإذا ندب الإمام من يحج لخفارة الحاج المرتبين في الديوان، وأمر الجماعة الذين لم يخرجوا أن يعطوا الذي يحج ما يحتاجه، فله أجر ذلك، وهو حلال”.

6 – ويتحدث عن تصرفات غريبة لأشخاص يدَّعون التدين (ص: 392):

“ومن كان زنديقًا كالحلولية والإباحية، ومن يفضل متبوعه على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن يعتقد أنه لا يجب عليه في الباطن اتباع شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أنه إذا حصلت له المعرفة والتحقيق سقط عنه الأمر والنهي، أو أن العارف الصوفي المتحقق يجوز له التدين بدين اليهود والنصارى، فلا يجب عليه الاعتصام بالكتاب والسنة، وأمثال هؤلاء، فإن هؤلاء كلَّهم منافقون زنادقة، وإذا ظهرت على أحدهم دلائل ذلك وجب قتلُه باتفاق المسلمين، وهم كثيرون في هذه الأزمنة، لا كثرهم الله”.

7 – ويشير المؤلف إلى مكان (الصخور المشهورة) ظن العامة أنه مكان قدم الرسول صلى الله عليه وسلم أو نعله، فيقول (ص: 588):

“وليس القدم الذي بالصخور المشهورة عند العامة قدم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا قدم أحد من الأنبياء عليهم السلام، ولا يضاف إلى الشريعة جواز تقبيله ولا التمسح به”.

8 – كما يبدو أن من الناس من كان يقصد بعض الأماكن في جبل لبنان، فيتعبد في مغاراتها، أو يتبرك ببعض ثمار أشجارها، يقول ابن تيمية (ص: 600):

“وما يُذكر في بعض الحكايات من الاجتماعات ببعض العبَّاد في جبل لبنان وجبل اللكام ونحوه، وما يُؤْثر عن بعضهم من حميد المقال، فلأن هذه الأمكنة كانت ثغورًا يرابط بها المسلمون في جهاد العدو”.

إلى أن يقول: “وكان الصالحون يأتون الثغور لأجل الجهاد والمرابطة في سبيل الله تعالى”.

وبعد ثلاث صفحات يقول: “والمقصود أن الاعتناء بهذا الجبل هو من الجهالات والضلالات، وكذلك التبرك بما تحمل أشجاره من الثمر هو من البدع والعقائد الجاهلية المضاهئة لجهالات الوثنيين المشركين”.

ثانيًا: الناحية التاريخية:

1 – يذكر معارك نشبت بين قبائل في بادية الشام فيقول (ص: 456):

“هذه الفتن التي تقع بين البادية، ويزعمون أنهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كحرام وسعد وهلال وثعلبة وأمثالهم – من أعظم الفتن والمحرمات، وأكبر المنكرات..”.

2 – ويتحدث عن “النصيرية” في فصل مطوَّل (ص: 460 – ص466) عن عقائدهم وأموالهم، وماضيهم وحاضرهم، وعلاقاتهم بغيرهم.

3 – كما يظهر أن زحف التتار على بلاد الشام كان مستمرًّا حتى وقت متأخر من القرن الثامن الهجري، ولو كان ذلك بأعداد متفاوتة، وأوقات متباينة، ويتحدث ابن تيمية عن هذا الجانب، ويبين فساد حالهم، وآثار تخريبهم، وواجب المسلمين تجاه ذلك، فيقول مما سمعه ورآه (ص: 498 – 499):

“ويجوز، بل يجب قتال هؤلاء التتار الذين يقدمون إلى الشام مرة بعد مرة، وإن تكلموا بالشهادتين، وانتسبوا إلى الإسلام، وجب قتالهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفاق أئمة المسلمين، وهذا مبني على أصلين: أحدهما: المعرفة بحالهم، والثاني: معرفة حكم الله فيهم وفي أمثالهم”.

ثم يبين خروجهم عن شرائع الإسلام ويقول:

“وقد شاهدنا عسكر القوم، فوجدنا جمهورهم لا يصلون، ولم نر في عسكرهم مؤذنًا ولا إمامًا، ولم يكن معهم إلا من كان من شرّ الخلق: إما زنديق منافق لا يعتقد دين الإسلام في الباطن، وإما من هو شرُّ أهل البدع، كالرافضة والجهمية والاتحادية ونحوهم، وإما من أفجر الناس وأفسقهم، وهم لا يحجّون البيت العتيق مع تمكنهم، وإن كان فيهم من يصلي ويصوم فليس الغالب عليهم إقامة الصلاة ولا إيتاء الزكاة، وإن فعلوا فإنما هو للتقيّة، وهم يقاتلون على ملك جنكزخان، فمن دخل في طاعتهم وطاعة شريعة جنكزخان الكفرية التي يسمونها الباسقة – السياسة – جعلوه وليًّا لهم، وإن كان كافرًا، ولا يضعون على أهل الذمة جزية، كما قال أكبر مقدّميهم الذين قدموا الشام وهو يخاطب رسل المسلمين، ويتقرب إليهم بإظهار أنهم مسلمون فقال: هذان اثنان عظيمان جاءا من عند الله – محمد وجنكزخان. فهذا غاية ما يتقرب به أكبر مقدميهم إلى المسلمين، أن يسوّي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو أكرم خلق الله وسيد ولد آدم، وبين ملك كافر وثني خبيث، من أعظم المشركين كفرًا وفسادًا وعدوانًا”.

ويتابع ابن تيمية قراءة الأحداث في عصره، ويعالجها في منهج إسلامي محكم، كما يبين غرائب معتقدات أتباع جنكزخان وضلالهم، في شجاعة العلماء العاملين فيقول (ص: 499 – 500):

“وذلك أن اعتقادهم في جنكزخان كفر عظيم؛ فإنهم يعتقدون أنه ابن الله، من جنس ما يعتقد النصارى في المسيح، سبحان ربنا وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، ويقولون: إن الشمس حبَّلت أُمَّهُ، وإنها كانت في خيمة، فنزلت الشمس من كوّة، فدخلت فيها حتى حبلت، وهذا كذب عند كل ذي دين وعقل، بل هو دليل على أنه ولد زنا، وأن أمه ما ادّعت ذلك إلا لتستر معرّة زناها، ومع ذلك فهو عندهم أعظم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعظمون ما سنّه لهم وشرعه بظلمه وهواه، ويشركون به بذكر اسمه على أكلهم وشربهم وحكمهم، ويستحلّون قتل من ترك سنة هذا الكافر الملعون.

ومعلوم أن مسيلمة الكذّاب كان أقلّ ضررًا من هذا الكافر الذي ادّعوا أنه شريك محمد صلى الله عليه وسلم في الرسالة، فاستحلّ الصحابة رضي الله عنهم قتاله، فكيف بمن كان فيما يظهره من الإسلام هو بجعله محمدًا صلى الله عليه وسلم كجنكزخان؟

وهم يعظمون الكفار الذين يتبعون جنكزخان، على المسلمين المتبعين للقرآن، بل جنكزخان أعظم من فرعون وهامان ضررًا، فإنه علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا وأهلك الحرث والنسل، فردّ الناس عن ملك الأنبياء إلى ما ابتدعه من جاهليته وسياسته الكفرية المفسدة، ولو قلتُ ما رأيته وسمعته لما وسعه هذا المكان”، ثم يقول (ص: 500):

“وبالجملة، فما من نفاق، وزندقة وإلحاد، وفسوق وعصيان، إلا وهي داخلة في أتباع التتار؛ لأنهم من أجهل الخلق وأقلهم معرفة بالدين، وأجرئهم على انتهاك المحرمات واعتداء على الحدود، وأعظم الخلق اتباعًا للظن وما تهوى الأنفس.

وقد قسموا الناس بحسب سياستهم الفاجرة أربعة أقسام: يار، ودوشمن، ودانشمند، وطط؛ أي: صديقهم، وعدوهم، والعالم، والعاصي”.

ويذكر المؤلف أن وزيرهم السفيه الملقب بالرشيد، ألف كتابًا قال فيه: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم رضي بدين اليهود والنصار، وأنه لا ينكر عليهم، واستدل بقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ…} [الكافرون: 1، 2]، وزعم الخبيث أن هذا يقتضي أن الرسول رضي دينَهم، قال: وهذه الآية مكية ليست منسوخة، وهذا من فساد جهله؛ فإن قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] إنما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم تبرأ من دينهم.

وتابع الرد عليه في (ص: 501) وقال: وشرح حالهم يطول.

وفي (ص: 501) أيضًا يقول:

وقد خاطبني بعضهم فقال: ملكنا ملك ابن ملك ابن ملك إلى سبعة أجداد، وملككم ابن مولى! فقلت: آباء ذلك الملك كلهم كفار، ولا فخر بالكافر؛ بل المملوك المسلم خير من الملك الكافر؛ قال الله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة: 221]، فهذه وأمثالها حججهم.

وبالجملة، فقد اتفق المسلمون على أن من ترك شريعة من شرائع الإسلام وجب قتاله، فكيف بمن ترك جميع شرائعه أو أكثرها؟ فما الظن بمن يحاربها؟!

كما ينبه إلى الاعتبار بأحوالهم السابقة، وعدم الاغترار بأقوالهم، فيقول (ص: 498):

“… فقد علم أن هؤلاء القوم جاروا على الشام في المرة الأولى عام تسعة وتسعين وستمائة، وأعطوا الناس الأمان، وقرؤوه على المنبر بدمشق، ومع هذا فقد سبَوْا من ذراريِّ المسلمين ما يقال: إنه مائة ألف، أو يزيد عليه، وفعلوا ببيت القدس، وجبل الصالحية، ونابلس وحمص وداريا وغير ذلك من القتل والسبي ما لا يعلمه إلا الله، وفجَروا بخير نساء المسلمين في المساجد؛ كالمسجد الأقصى والأموي وغيرهما، وجعلوا الجامع الذي بالعقبة دكًّا”.

ثالثًا: الناحية الاجتماعية:

1 – يبدو أن مجتمع الدجالين والمشعوذين لا ينقطع في عصر من العصور، كما أن أساليبهم وخدعهم معروفة مكررة، نقرؤها في القديم، ونسمع بها ونراها حديثًا، ويشير ابن تيمية إلى جانب من هذا المجتمع، فيقول (ص: 309):

“وأما من يأكل الحيات والثعابين ويجعله من باب الكرامات، فهو شرٌّ ممن يأكلها فسقًا، فإن كرامات الأولياء لا تكون بما نُهي عنه من أكل الخبائث، كما لا تكون بترك الواجبات، ولا يجوز إعانة هؤلاء المشعوذين بالصدقة ونحوها على أن يقيموا الصناعات والشعبذات المحرمة، ويفعلون ما لا يرضي الله من إقامة مشيخة تخالف الكتاب والسنة، ولا يُعطى رزقُه على جاهلية تخالف كتاب الله؛ وإنما يُعان بالرزق مَن قام بطاعة الله ورسوله، وعمل ما ينفع المسلمين في دنياهم، ودعا إلى طاعة الله ورسوله”.

2 – وإلى وقت قريب كنا نرى بعض النسّاك يتجولون في أنحاء العالم وعلى ظهورهم مزودتهم، وعليهم ثياب رثة، ينزلون القرى، ويزورون العلماء، وينامون في العراء، أو يلتجئون إلى البيوتات الكبيرة في الصيف الحار، أو الشتاء البارد، ومنهم من يستقرّ في بلد ما، ومنهم من يعود إلى وطنه.. وقد يبقى آخرون يسيحون في الأرض إلى أن يوهنهم الكبر..

ويقول ابن تيمية عن هؤلاء ص309:

“والسياحة في البلاد لغير مقصد مشروع – كما يعانيه بعض النساك – أمر منهي عنه”.

قال الإمام أحمد: ليست السياحة من الإسلام في شيء، ولا من فعل النبيين ولا الصالحين، وقوله تعالى: {السَّائِحُونَ} [التوبة: 112] المراد به: الصائمون.

2 – ويتبين من بعض أجوبة المؤلف المظاهرُ والتقاليد الاجتماعية التي كانت سائدة في بيئته عند بعض فئات المجتمع، ويبدو أن أحد الأشخاص ممن يستهويه طول الشارب وفتله عاب على بعض المسلمين قص الشارب، وسأل ابن تيمية عن ذلك، فأجابه وكأنه ألقمه حجرًا ص20:

“وقصُّ الشارب ليس بعيب، بل فعَله رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدح فاعله، ومن عاب شيئًا فعَله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أقرَّ عليه، عُرِّف ذلك، فإن أصرَّ كفر”.

ونستشف من هذا الجواب أن بعض الناس كان يتباهى بمظاهر معينة، مثل طول الشارب أو جعله في هيئة معينة؛ وربما كان ذلك نتيجة اختلاط شعوب معينة بالمسلمين، مثل التتار والترك في ذلك الوقت، فاستهوى بعضهم تقليدهم، كما هو حال بعض شبابنا في تقليد الأجانب اليوم.

4 – كما يبدو أن (موضة) لبس عمائم خاصة كانت مستشرية بين نساء ذلك المجتمع، يقول المؤلف (ص: 290):

“هذه العمائم التي يلبسها النساء حرام بلا ريب؛ فهي مثل أسنمة البخت…”.

5 – ويحدثنا عن المنجمين وأماكن جلوسهم وإكرام بعض الناس لهم، فيقول (ص: 344 – 345):

“وصناعة التنجيم والاستدلال بها على الحوادث محرّم بإجماع المسلمين، وأخذ الأجرة على ذلك سحت، ويُمنعون من الجلوس في الحوانيت والطرقات، ويمنع الناس أن يكرموهم، والقيام في منعهم عن ذلك من أفضل الجهاد في سبيل الله تعالى”.

ويقول في مناظرة له معهم (ص: 147):

“ولّما ناظرت بدمشق من حضرني من رؤسائهم، وبيَّنتُ له فساد صناعتهم بالأدلة، قال: والله إنا لنكذب مائة كذبة حتى نصدق في واحدة”.

6 – ويتحدث عن الصداقة والأخوة التي كان يعقدها أشخاص بين بعضهم البعض في صورة بشعة وطقوس منكرة، فيقول (ص: 457):

“هذه الأخوة التي تكون بين بعض الناس في هذا الزمان، وقول كل واحد منهم: مالي مالك، ودمي دمك، وولدي ولدك، ويشرب أحدهما دم الآخر… فهذا الفعل على هذا الوجه غير مشروع باتفاق المسلمين”.

وبعد أن يبين الوجه المشروع في الأخوة، يزيدنا إيضاحًا عن أمور أخرى متعسفة، فيقول (ص: 459):

“وأما شرب كل منهما دم الآخر، فهذا لا يجوز بحال، ويشبه هذا بالذين يتآخون متعاونين على الإثم والعدوان بالاكتواء وعلى حبِّ المردان، وهذا مثل مؤاخاة من ينتسب إلى المشيخة والسلوك للنساء، فيؤاخي أحدهم المرأة الأجنبية ويخلو بها، وقد أقرَّ طوائف من هؤلاء بما جرى بينهم من الفواحش، فمثل هذه المؤاخاة مما فيها من تعاون على الإثم والعدوان كائنًا ما كان، حرام بإجماع المسلمين”.

7 – وقد يتناهى إلى سمع بعض الأشخاص أن الرجل ينادي زوجته: يا أختي، فما حكمه؟ يورد ابن تيمية هذا الأمر ويقول (ص: 431):

“… فإن عمر رضي الله عنه سمع رجلاً يقول لامرأته: يا أختي، فأدّبه”.

قال: “وإن كان جاهلاً، لم يؤدب على ذلك”.

قلت: وقد يعني أنه لا يُعَزّر، بل يُعَرَّف.

8 – ويذكر بعض التقاليد التي ابتلي بها المجتمع المسلم في أعياد أهل الذمة، فيقول (ص: 511):

“وأما إذا فعل المسلمون معهم أعيادهم؛ مثل صبغ البيض، وتحمير دوابهم بمَغْرة وبخور، وتوسيع النفقات وعمل طعام، فهذا أظهر من أن يحتاج إلى سؤال، بل قد نص طائفة من العلماء من أصحاب أبي حنيفة ومالك على كفر من يفعل ذلك”.

ثم يذكر أشياء أخرى (ص: 511 – 512).

9 – ويظهر أنه ورد إليه سؤال عن مسابقة (الرمي بالحجارة) فقال (ص: 603):

إن كان فيها منفعة للجهاد، وإلا فهي باطل.

رابعًا: الناحية الاقتصادية:

1 – يورد ابن تيمية في أكثر من مكان مسائل تتعلق بالإقطاع، وقد يعني به أن الدولة كانت تمنح أراضي للجنود لاستغلالها ما داموا في الجندية (تراجع أحكام الإقطاع في الباب السابع عشر من الأحكام السلطانية للماوردي)، يقول ابن تيمية (ص: 242):

“الإقطاع اليوم، إقطاع استغلال ليس له بيعه ولا هبته باتفاق الأئمة، ولا ينتقل إلى ورثته، بخلاف ما كان في العصور الأولى”.

2 – ويلمح إلى العملة المستعملة في ذلك الوقت، والدراهم المغشوشة في زمانه (ص: 302)، تلك المصنوعة من فضة، المخلوطة بالنحاس.

3 – وعن الزراعة يقول في (ص: 343):

“… فهذه الضمانات التي لبساتين دمشق الشتوية فيها أرض وشجر، صحيحة، وإن كان قد كتب في المكتوب إجازة الأرض، والمساقاة على الشجر، فالمقصود الذي اتفقا عليه هو الضمان المذكور..”.

4 – ويتحدث عن أمر مهم يشكو منهم كثير من الناس في هذا الزمان.. وربما في كل زمان، يقول في (ص: 393):

“اختلط في هذه الأموال السلطانية الحق والباطل، فأقوام كثيرون من ذوي الحاجات والدين والعلم لا يُعطى أحدهم كفايته، ويتمزق جوعًا وهو لا يسأل، ومن يعرفه فليس عنده ما يعطيه، وأقوام كثيرة يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدّون عن سبيل الله، وقوم لهم رواتب أضعاف حاجاتهم، وقوم لهم رواتب مع غناهم عنها، وقوم ينالون جهات كمساجد وغيرها فيأخذون معلومًا ويستنيبون من يعطونه شيئًا يسيرًا، وأقوام في الرُّبُط والزوايا يأخذون ما لا يستحقون، ويأخذون فوق حقهم، ويمنعون من هم أحق منهم، وهذا موجود في مواضع كثيرة، لا ينازع في وقوعه أحد…”.

خامسًا: الناحية الإدارية:

1 – (ص: 335):

الأمراء الذين يستدينون ما يحتاجون إليه، ويكتب الأمير خَطَّهُ لصاحبه، أو يقيده وكيله أو نائبه في دفتره، أو يقرض دراهم – وكل ذلك بغير حجج ولا إشهاد ثم يموت – فكل ما وجد بخط الأمير أو أخبر به كاتبه أو وكيله في ذلك مثل أستاذ داره، فإنه يجب العمل بذلك؛ لأن خطه كلفظه.

2 – ويظهر أن بعض المحاكم في ذلك الوقت، كانت تعتمد أحيانًا في تنفيذ بعض الإجراءات على شهود معروفين من قبل القضاة أو الموظفين، وكان بعض هؤلاء الشهود يأخذون راتبًا على ذلك، يقول المؤلف في (ص: 394):

“وإن رأى الإمام أن يقيم بينة، فلا خلاف أنه لا يجب أن تكون البينة من الشهود المعدَّلين، فإن شهادة هؤلاء المعدَّلين تُرَدُّ، وإن لم يُرزقوا على أداء الشهادة، فكيف إذا أخذوا عليها رزقًا؟ لا سيما مع العلم بكثرة من يشهد منهم بالزور؛ ولهذا كانت العادة أن الشهود المرتزقة بالشهادة بالشام لا يشهدون في الاجتهاديات، كالإعسار والرشد والعدالة والأهلية والاستحقاق ونحو ذلك، بل يشهدون بالحسيات كالذي سمعوه أو رأوه، فإن الشهادة بالاجتهاديات يدخلها التأويل والتهم، فالجُعل سهّل عليهم الشهادة فيها بغير تحرٍّ، بخلاف الحسيات، فالزيادة فيها كذب صريح لا يقدم عليه إلا من يقدم على صريح الزور”.

سادسًا: المصطلحات:

1 – قطع مصانعة:

“ولو أعطى الرجل شاعرًا لئلا يكذب عليه بهجوٍ أو غيره لئلا يقول في عرضه ما يحرم عليه، كان بذله لذلك جائزًا، وأما أخذ الشاعر ذلك لئلا يظلمه فحرام؛ لأنه يجب عليه ترك ظلمه، وترك الكذب عليه بلا عوض، فإذا لم يتركه إلا بمال كان حرامًا، تسميه العامة: قطع مصانعة” (ص: 306).

ويتعرض في مكان آخر إلى ما يشبه هذا، وهي قضية فقهية اجتماعية، جدد موضوعها أكثر من مرة بين العلماء، ويظهر أن تجديدها تبع لفساد الحكام والموظفين، وهي قضية الرشوة.

يقول المؤلف في (ص: 444):

“وسئل ابن مسعود رضي الله عنه عن السُّحْت، فقال: “هو أن تشفع لأخيك شفاعة بشفاعة، فيهدي لك هدية فتقبلها، قيل له: أرأيت لو كانت هدية في باطل؟ فقال: ذلك كفر {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة المائدة: 45]”.

ولهذا قال العلماء: إن من أهدى هدية لولي الأمر ليفعل معه ما لا يجوز، كان حرامًا على المُهدي والمُهدى إليه، وهي من الرشوة.

فأما إذا أهدى له هدية ليكفّ ظلمه عنه، أو ليعطيه حقه الواجب، فهذه الهدية تكون حرامًا على الآخذ، وجاز للدافع أن يدفعها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارًا”، قيل: يا رسول الله، فلم تعطيهم؟ قال: “يأبون إلا أن يسألوني، ويأبى الله لي البخل”.

2 – ويشير إلى عدم جواز مناداة النصراني الذي زار بيت المقدس بـ (يا حاج)، وأن قائل ذلك يعاقب عقوبة بليغة (ص507 – 508)؛ لأن فيه تشبيه القاصدين للكنائس بالقاصدين لبيت الله الحرام.

ثم يقول في (ص: 509):

“لكن إذا سمي حجًّا مقيدًا بقيد يخرجه عن شبهة المشروع، مثل أن يقال: حج النصارى، وحج أهل البدع، وحج الضالين، كما يقال: صوم النصارى، وصوم اليهود… فهو جائز؛ ليميز بذلك بين الحق المأمور به، والباطل المنهي عنه”.

3 – الشريف:

هذه الكلمة كان يقصد بها من ينتسب إلى آل البيت، وفي بعض المناطق من بلاد الشام – اليوم – يقال لبعضهم: (سيد).

يقول ابن تيمية (ص: 565):

“… لكن لما كان أهل البيت أحق من أهل البيوت الأخرى بالشرف، صار من كان من أهل البيت يسمى شريفًا، فأهل العراق لا يسمون شريفًا إلا من كان من بني العباس، وكثير من أهل الشام وغيرهم لا يسمون شريفًا إلا من كان علويًّا [أي: من آل علي]”.

كلمات مضيئة:

أثناء مراجعتي لهذا الكتاب النفيس، كنت أمرُّ بموضوعات مهمة، ذات محتوى قيم، وعولجت معالجة ممتازة.. وكثير من موضوعاتها تهمُّ جانبًا كبيرًا من فئات المجتمع، ينبغي الوقوف عليها، وإعطاؤها حقها من التنبيه والبيان؛ لما عضّد لها المؤلف من شواهد قوية، وعالجها بأسلوب علمي سهل…

ولكن ليس هنا محل إيرادها كلها.. بل لم أرد أن أحرم القارئ من بعض كلمات مضيئة، رأيتها تتلألأ – كالجمان – بين صفحات هذا الكتاب، فيها الحكمة، والعبرة، والتذكير، والتنبيه.. وبعضها كلمات موجزة لمعانٍ وأحكام شرعية.. أحببت نقلها للقارئ لتعميم الفائدة:

“وبالجملة، المسجد يصان عن القذاة التي تقع في العين” (ص: 20).

“القراءة في الركوع [أي: قراءة القرآن] تكره؛ تعظيمًا وتشريفًا أن يقرأ بالقرآن في حال الخضوع والذل” (ص: 89).

“وما يحصل عند الذكر المشروع من البكاء ووجل القلب، واقشعرار الجسوم، فمن أفضل الأحوال التي نطق بها الكتاب، أما الاضطراب الشديد والغَشْيُ والصيحان، فإن كان صاحبه لم يعلم ما هو عليه لم يُلَمْ، وسببه قوة الوارد مع ضعف القلب، والقوة والتمكن أفضل، كما هو حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأما السكون قسوة وجفاء، فهذا مذموم” (ص: 93).

“من تعلَّق قلبه بمخلوق، فالمخلوق عاجز إن لم يجعله الله فاعلاً لذلك” (ص: 134).

“والله ينزل بعبده المؤمن من الشدة والضرّ ما يلجئه إلى توحيده، فيدعوه مخلصًا له الدين، ولا يرجو أحدًا سواه، ويتعلق قلبه به وحده، فيحصل له من التوكل والإنابة، وحلاوة الإيمان، وذوق طعمه، والبراءة من الشرك – ما هو أعظم نعمة من زوال ضره” (ص: 134).

“ومن الناس من يزهد طلبًا للراحة من تعب الدنيا، أو من مساءلة أهلها، والسلامة من أذاهم، أو لطلب الرئاسة، إلى أمثال هذه الأنواع التي لم يأمر الله بها ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما ما أمر الله به ورسوله، فهو أن يزهد فيما لا يحبه الله ورسوله، ويرغب فيما يحبه الله ورسوله، فيكون زهده عما لم يأمر الله به أمر إيجاب أو استحباب، سواء كان محرمًا أو مكروهًا أو مباحًا، ويكون مع ذلك مقبلاً على ما أمر الله به، ولا يترك المكروه بدون فعل المحبوب” (ص: 140).

“وإذا تزوجت لم يجب عليها طاعة أبيها ولا أمها في فراق زوجها، ولا في زيارتهم ونحو ذلك، بل الواجب عليها طاعة زوجها إذا لم يأمرها بمعصية، وطاعته أحق من طاعتهما، “وأيما امرأة ماتت وزوجها راضٍ عنها، دخلت الجنة”، وإذا أرادت الأم التفريق بين ابنتها وزوجها، فهي من جنس هاروت وماروت، لا طاعة لها ولو دعت عليها، اللهم إلا أن يكونا مجتمعين على معصية الله” (ص: 322).

“ومن كان رسولاً، فقد اجتمعت فيه ثلاثة أصناف: الرسالة، النبوة، والولاية، ومن كان وليًّا فقط، لم يكن فيه إلا صفة واحدة، ومن كان لكتاب الله أتبع، فهو بولاية الله أحق” (ص: 560).

“من الناس من ينكر بعض الأمور دون بعض، فيكون في قلبه إيمان ونفاق، كما ذكر ذلك من ذكره من السلف، حيث قالوا: “القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف، فهو قلب الكافر، وقلب منكوس، فذلك قلب المنافق، وقلب فيه مادتان: مادة تمده بالإيمان، ومادة تمده بالنفاق، فذلك خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا” (ص: 582).

“ومن كان عالمًا بما أمر الله تعالى به وما نهى عنه، فهو عالم بالشريعة، ومن لم يكن عالمًا بذلك فهو جاهل من أجهل الناس” (ص: 588).

“السُّكر هو الطرب الذي يورث لذة بلا عقل، فلا تقوم منفعة تلك اللذة بما يحصل من غيبة العقل الذي صدته عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، وأورثته العداوة والبغضاء” (ص: 596).

“قال أبو سليمان الداراني: إنه ليمرُّ بقلبي النكت من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدَي عدل: الكتاب والسنة” (ص: 597).

“المرابطة في سبيل الله تعالى أفضل من الإقامة بمكة والمدينة، ما أعلم في ذلك خلافًا” (ص: 600).

“كسب المغني خبيث باتفاق الأئمة، والمغني خارج عن العدالة” (ص: 611).

“الناس أربعة: منهم من ينتصر لنفسه ولربه، وهو الذي فيه دين وغضب لله، ومنهم من لا ينتصر لنفسه ولا لربه، وهو الذي فيه جبن وضعف دين، ومنهم من ينتقم لنفسه لا لربه، وهو شر الأقسام، وأما الكامل، فهو الذي ينتصر لحق الله، ويعفو عن حق نفسه عند المقدرة” (ص: 338).

يقول عن سماع الأصوات المطربة من المغنين والمغنيات: “ولم يأذن الله – تبارك وتعالى – لنا أن نمتع قلوبنا بما يكون سببًا لزوال عقولنا، بخلاف من زال عقله بسبب مشروع، أو بأمر صادفه لا حيلة له فيه” (ص: 571).

“ومن ظن أنه يعرف الأحكام من الكتاب والسنة بدون معرفته بما قال هؤلاء الأئمة وأمثالهم [يقصد الأئمة الأربعة والمجتهدين المشهورين] فهو غالط مخطئ” (ص: 556).

ولا أعرف أن ابن تيمية يعمد إلى نظم الشعر، ولو كان إجابة على بيت فيه سؤال تقليدي في فتوى ونحوها، كما أنه لا يستشهد بالشعر إلا نادرًا، ولكني رأيت له بيتين في هذا الكتاب، أجاب فيه على سؤال ورد إليه من امرأة في كتاب النكاح (ص: 406):

جدتي أمي وأبي جَدُّه = وأنا عمة له وهو خالي

أفتنا يا إمام يرحمك اللـ  =  ـه ويكفيك حادثات الليالي

فأجاب ابن تيمية:

رجلٌ زوج ابنه أم بنت  =  وأتى البنت بالنكاح الحلال

فأتت منه بالتي قالت الشعـ  =  ـر وقالت لابن هاتيك: خالي

ثم شرح قوله في الصفحة التالية.

(المصدر: نشر في مجلة “التوباد” بالرياض ع 2 – 3 رجب 1408 هـ)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى