كتاباتكتابات مختارة

ماذا ابقت العلمانية للدين؟

ماذا ابقت العلمانية للدين؟

هذا هو السؤال الذي يراودنا الآن بعد تلك الرحلة الطويلة مع العلمانية في مجتمعاتنا! لقد رأينا كيف استؤصلت جذور الدين من كل مجال من مجالات الحياة: في السياسة والاقتصاد، وفي الاجتماع والأخلاق، وفي العلم والفن، فماذا بقي للدين بعد ذلك؟ هل بقي له شيء يذكر سواء على الصعيد النظري أو في واقع الحياة؟ أما على المستوى العلمي والفكري فإن أوروبا – شرقها وغربها- قد استبعدت بصفة مطلقة أن تكلف نفسها البحث في أية قضية من القضايا منطلقة من الدين أو متأثرة به، وأن تستفتي الدين في أي شأن من الشئون. فالعداوة التقليدية المريرة بين الكنيسة والعلم قضت على كل احتمال من ذلك، والمبدأ الأساسي الذي قامت عليه الحياة الأوروبية المعاصرة هو عبادة الهوى وتحكيمه من دون الله، فالإنسان المعاصر الذي شب عن الطوق واستغنى عن الإله لم يعد بحاجة إلى الرجوع إليه.. ليكتب أي باحث ما شاء: نظرية، نقداً، خرافة، لغواً ساقطاً، مجوناً، وفحشاً… إلخ أي شيء، وليبد رأيه بكل حرية ما دام لا ينبع من المنطقة المحرمة: منطقة الدين، منطقة الحلال والحرام. ومن هنا جاءت كلمة: جورج سانتياتا وهو يلخص المزاج الثقافي للعصر: “إن حياتنا بكاملها وعقلنا قد تشبعا بالتسرب البطيء الصاعد لروح جديدة هي روح ديمقراطية دولية متحررة وغير مؤمنة بالله”. وهكذا نجد الباحثين العلميين -حتى من كان منهم يذهب إلى الكنيسة يوم الأحد- يكتبون في كل التخصصات من منطلق العداوة العمياء للدين: فالذي يتحدث في علم النفس يقول: إن الدين كبت ينبغي أن يحطم لكي لا يؤذي الكيان النفسي للفرد! والذي يتحدث في الاقتصاد يقول: إن الاقتصاد الصناعي يحتاج إلى مجتمع متحرر من القيود الموروثة من المجتمع الزراعي ومن بينها كذلك احتجاز المرأة لمهمة الأمومة (إذ ينبغي – في المجتمع الصناعي- أن تخرج المرأة لتعمل! والذي يتحدث في الاجتماع ينظر بعين السخرية إلى تلك السذاجة التي كانت تخيل للناس أن الدين فطري وأنه شيء منزل من السماء، ألا يعلم الناس أن البشر هم الذين ابتدعوا الدين أيام جهالتهم وسذاجتهم؟! انظروا إلى المجتمعات المتأخرة التي ما تزال تعيش في الأحراش في أفريقيا وأستراليا… وستجدون بذرة الدين هناك في الجهل والسذاجة والخرافة والأسطورة… ثم انظروا إلى التقدم الحضاري في القرن العشرين! أما تستحون من أن يكون في ضمائركم ووجداناتكم بقية مما ورثتموه عن سكان الغابات والأحراش؟! والذي يتحدث عن العلوم… العلوم البحتة، لا ينسى الدين كذلك! إنه يذكر الناس بيوم كان الناس متدينين، فكانوا لجهالتهم الشديدة ينسبون ما يحدث في الكون كله إلى الله! يا لجهالتهم! لم يكونوا يعرفون القوانين الطبيعية التي تحكم الكون… أما نحن العلماء في القرن العشرين. والذي يتحدث في الفن… يزري بتلك الأيام التي كان التحدث عن الجنس فيها يعتبر عيباً تأباه الأخلاق! تباً لكم أيها المتأخرون! كم كنتم تحجبون من ألوان الجمال الممتع البهيج الأخاذ! انظروا إلينا نحن المتحررين! اليوم نحن نجعل الجنس فناً قائماً بذاته.. لحظة الجنس كون كامل… تعالوا نتتبعه من جميع أقطاره… تعالوا نصفه داخل النفوس وفي واقع الحياة… تعالوا نكشف متعه ومباهجه… تعالوا نُعري الناس ذكوراً وإناثاً، ونطلقهم ينشطون نشاط الجنس… ونمسك الكاميرا للتسجيل. والذي يتحدث في السياسة يرثى لحال الإنسان أيام القرون الأولى حين كان يحتكم ويخضع لقوانين غيبية لا يد له في وضعها، وكان محروماً باسم الطاعة الإلهية من كل حقوقه وحرياته!! إلى آخر من يكتبون ويبحثون. هذا على صعيد الفكر والبحث، فماذا على صعيد الحياة العملية؟ إن الشرق الشيوعي يعترف صراحة بأنه قد قضى أو في سبيل القضاء على كل شكل من أشكال العبادة والمظاهر الدينية حتى الشخصي منها، ولذا فلا حاجة للحديث حوله، أما الغرب الرأسمالي الذي يقول: “إن علمانيته من الطراز اللاديني (Non-Religious) وليست من الطراز المضاد للدين (Anti -Religious) فإن الأمر في ظاهره يبدو مختلفاً بعض الشيء” إن دعاة اللادينية من المخادعين والمخدوعين هناك يقولون: إنه لا ضرر على الدين من قيام الحياة على اللادين!! فالكنائس ستظل مفتوحة، بل إن عددها ليزداد، وهناك يوم الأحد حيث تقفل الدوائر الرسمية وغير الرسمية أبوابها في حين يكون وعاظ الكنائس ومنشدوها في ذروة نشاطهم، وهناك الحرية الشخصية التي لا تضع على حرية العقيدة أي قيد، وتتيح لأي متحمس للدين أن ينضم إلى سلك الرهبانية أو يشترك في جمعية خيرية أو يسافر ضمن بعثة تبشيرية إلى الخارج، وله الحق أن يوصي عند احتضاره بكل تركته وقفاً على الكنيسة. كما أن من حق الكنيسة أن تقيم طقوسها ومراسمها وحفلاتها بلا اعتراض من الدولة، بل إن رجال الحكومة أحياناً يتشرفون بحضورها. أما الزواج فلا تزال غالبية الجماهير ترى ولو نظرياً أن إقامة طقسه في الكنيسة أفضل من العقود المدنية أو الزواج بلا عقد. وكل هذه الأمور – في نظرهم- تجعل الدين يحتفظ بمكانته ونفوذه -ضمن دائرته الخاصة بطبيعة الحال- وتتيح له أن يوجه أتباعه -في نطاق هذه الدائرة- كما يشاء، ومعنى ذلك أن المخاوف التي يبديها بعض الناس على الدين من جراء تعميم الإجراءات التطبيقية اللادينية على مستويات الحياة عامة لا مبرر لها إطلاقاً! ومن نافلة القول أن نقول: إن الدين كما أنزله الله لا يصح بحال أن ينعزل في زاوية من زوايا الحياة أياً كانت، لكننا نقول بالنسبة لأوروبا: إنه حتى هذه الزاوية التي يوهم دعاة اللادينية الناس بأنهم تركوها للدين لم تظل دينية خالصة، بل طغت عليها موجة التحلل من الدين حتى أفقدتها معناها، وتركتها مظاهر صورية جوفاء لا أثر لها في مشاعر الناس ولا في سلوكهم.

(المصدر: إسلام أونلاين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى