لا تحزن ولا تعارض السلطان.. عائض القرني من داعية الإسلام إلى داعية “ولي الأمر”

لا تحزن ولا تعارض السلطان.. عائض القرني من داعية الإسلام إلى داعية “ولي الأمر”

إعداد إسماعيل عرفة

“أنا الآن أعلن: أنا سيف من سيوف الدولة السعودية”

(عائض القرني، مايو/أيار 2019م)

في الخامس من مايو/أيار 2019م، خرج الداعية السعودي عائض القرني على شاشة قناة “روتانا خليجية” مع المذيع عبد الله المديفر الذي سبق وأن استضاف القرني عام 2010م. تبدو المفارقة هنا أن المديفر الذي حاوره قبل تسعة أعوام كان يحاوره كما التلميذ لأستاذه[1]، أما اللقاء الأخير، فقد بدا المديفر كمحقق مباحث يُجالس مُتّهما، ليخرج اللقاء في صورة استجواب أمني أكثر منه حوار جماهيري. هذه المفارقة ليست جوهرية في سياق التقرير، لكنها تسعة أعوام تشي بتغيرات طالت الفكر الديني ورموزه في الداخل السعودي، حتى بات رجل الدين في المملكة التي صدّرت رموزا دينية للعالم الإسلامي أجمع شبهة تحتاج إلى التطهر المستمر على ترمومتر السياسة.

خلال الحلقة ذاتها، وكجزء من رزمة اعتذارات قدّمها القرني، فقد حرص صاحب كتاب “لا تحزن” على تقديم اعتذار للشعب السعودي، وذلك نيابة عن حركة الصحوة السعودية برمتها، قائلا إن الخطأ الجوهري للصحوة هو أنها عارضت الدولة وواجهتها، وليتراجع القرني عن توجهاته السياسية السابقة كافة، بل وتبرأ منها بالكلية. فتحت هذه التصريحات النار على القرني، للحد الذي دفع حقوقيين سعوديين إلى اعتبارها نهاية لمسيرة عائض. وبحسب الكاتبة إحسان الفقيه، فقد “بدا واضحا منذ بداية اللقاء أن القرني يريد أن يجد لنفسه مكانا خارج القضبان التي وارت خلفها كل من كان يُمثّل فكرة معارضة للنظام، سابقا وحاليا، وكل أصحاب التأثير الذين لا يداهنون النظام، ولو التزموا الصمت”[2].

زمن الصحوة

عديدةٌ هي التحليلات التي تفسّر ظهور ما عُرف لاحقا بتيار الصحوة، إلا أن حقبة الستينيات كانت المحطة الزمنية الأولى التي شهدت ولادة هذا التيار، تزامنا مع اكتظاظ الساحة السعودية بمن يمكن وصفهم بالمشايخ التقليديين، والذين تقلصت قدرتهم بمرور الوقت على اجتذاب شرائح جديدة من الجماهير. وأمام هذا “الجمود” في الحالة الدعوية، برزت شريحة شبابية جديدة عُرفوا لاحقا بالصحويين، كمدّ شبابي مليء بالدعاة والمشايخ صغار السن الذين تأثروا بقادة الإخوان المسلمين الذين لجؤوا للمملكة من بطش الأنظمة العربية حينها، ليستند جيل الصحوة هذا إلى مزيج من الفكر السلفي الوهابي والنهج الحركي للإخوان المسلمين، مُستخدمين الوسائل الحديثة في الدعوة ليُنتجوا خطابا أكثر احتكاكا بواقع الشباب وحياتهم اليومية، ولتنتعش بذلك تدريجيا حالة التدين السعودي والتي انتقلت بالتبعية لعموم البلدان العربية والإسلامية وفق شيوع الوسائل الإعلامية بمراحل تطورها المختلفة، “وليتحول هؤلاء المشايخ إلى مراجع فقهية مقبولة عند الشارع”[3] وليُطلق على تيارهم اسم “الصحوة”.

ومع بواكير حراك تيار الصحوة، ومنذ مطلع الثمانينيات تحديدا، بدأت رقعة نشاط عائض القرني بالاتساع، ولتتسع معه شريحة القبول الجماهيري له ولبقية رفاقه من التيار ذاته. ولم تكن حادثة اعتقال القرني عام 1987 عقب اتهامه بالشذوذ الجنسي ومن ثم سجنه سوى تعبير عن الشعبية التي نالها القرني وأقرانه، ففي الحين الذي أراد أمير عسير خالد الفيصل عبره اعتقال وتشويه أبرز دعاة الصحوة للحد من تأثيرهم الشعبي في مقابل مؤسسات الدين الرسمية، وبسبب نقد القرني لسياسات الدولة دخل في مواجهة مع الفيصل فرفع عليه دعوى قضائية لم يلبث القضاء أن برّأه من تهمها، ليخرج القرني، ولتخرج معه جُموع شعبية غفيرة اتجهت لزيارته في موطنه بأبها للتعبير عن تأييدهم للشيخ وتنديدهم بما حيك ضده من اتهامات، لدرجة أن الذين كانوا يحجزون للسفر إلى أبها في تلك الأيام كان يعجزهم الحصول على حجز قبل أسبوع من تاريخ السفر بسبب شدة الازدحام[4].

أحد كتيبات حركة الصحوة في الثمانينيات والتسعينيات، بتقديم عائض القرني (مواقع التواصل)

بعد ذلك، جاب عائض القرني أرجاء المملكة في جولة دعوية امتدت للرياض وجدة والقصيم وغيرها، وقد توافد الناس بالآلاف راغبين بملاقاة شيخهم وإعلان تأييدهم له، وقد جهر القرني في دروسه بآراء معارضة في القضاء والإعلام والتعليم، وكانت أبرز هذه المحاضرات تلك التي ألقاها في جامع الملك خالد في منطقة أم الحمام في الرياض حيث قُدّر الحضور بعشرين ألف شخص[5]. ولم يقتصر القرني على خُطبه ومحاضراته، بل عمد إلى تأسيس والمشاركة في تأسيس العديد من الهيئات والجمعيات التي تبنّت النهج الصحوي ذاته الذي جمع بين الفكر السلفي والمنهجية الحركية.

في البدء كانت حرب الخليج 1990م

عقب غزو العراق للكويت عام 1990م واندلاع حرب الخليج، أصدرت هيئة كبار العلماء (برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز) فتوى بجواز دخول القوات الأميركية للسعودية واستقرارهم فيها، الأمر الذي مثّل حدثا جللا استدعى تدخل تيار الصحوة. فقد أعطت الفتوى -بحسب التيار- غطاء شرعيا لتوغل القوات الأميركية وسيطرتها على المنطقة بدعوى مواجهة المدّ الإيراني، وهي الفتوى التي جاءت كمظلّة دينية أنقذت السُّلطة السعودية من الحرج الشرعي أمام عموم الشعب السعودي[6]. ومنذ تلك اللحظة، بدأت ملامح المعارضة تتبدّى في خطاب تيار الصحوة، فيما مثّل انعطافة مفصلية في تاريخ العلاقة بين رجال الدين والسلطة في تاريخ المملكة السعودية.

الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، في زيارة للجنود الأميركيين في السعودية، عام 1990م (مواقع التواصل)

ومثلما كان سفر الحوالي أول وأبرز من فنّد وهاجم بضراوة الوجود الأميركي في كتابه “وعد كيسنجر والأهداف الأميركية”، فإن عائض القرني كان أول وأشهر من رد على مقالات المؤيدين للوجود الأميركي في السعودية، بل وهدد بشكل صريح في محاضرة علنية له بعنوان “سهام في عين العاصفة” بالانتقام ممن وصفهم بالعلمانيين، قائلا: “كيف إذا أُخذت رؤوسهم وصُلبوا بعد صلاة الجمعة وقُطفت رؤوسهم؟”[7].

وبعيدا عن السجالات التي دارت حينها مع من وُصفوا بالعلمانيين، فقد بدأ رجالات حركة الصحوة منذ نشوب حرب الخليج يفقدون ثقتهم في هيئة كبار العلماء، الأمر الذي دفع القرني عام 1991م إلى تأسيس “المنتدى الشهري” أو “مجلس الدعاة” مع عدد من رفاقه، كما ذكر ستيفان لاكروا في كتابه التأريخي “زمن الصحوة”[8]، فأصدروا عبره خطابات وفتاوى جماعية تحذر الدولة السعودية من التطبيع مع إسرائيل، كما أصدروا استنكارا “للدعم الباهت” الذي قدمته السعودية للقضية البوسنية، وهاجموا تهاون الدولة السعودية مع قضية جنوب اليمن. ونتيجة لتصاعد لهجة الاحتجاج، استدعى نائب وزير الداخلية حينذاك عائض القرني، وطالبه بالكف عن الحديث في السياسة، لكن القرني لم يتوقف[9]، فمنعته الأنظمة الأمنية من السفر، ثم منعته من الخطابة أيام الجُمُعة عام 1992م[10].

كتاب زمن الصحوة لـ “ستيفان لاكروا” (مواقع التواصل)

إلا أن الحادثة الرئيسية التي مثّلت ذروة الخلاف، أو الصراع إن صحّ الوصف، بين القرني ورفاقه وبين السُّلطة السعودية تمثّلت في نشر ما يُعرف بـ “مذكرة النصيحة”، وهي المذكرة التي تعود قصتها إلى العام 1992م عندما رفع القرني مع 24 داعية آخرين من دعاة الصحوة، بالإضافة إلى عشرات الرموز الدينية، مذكرة إلى الملك فهد بن عبد العزيز حملت على رأس أولوياتها مطالبَ بإصلاحاتٍ سياسية هيكلية.

لم يكتفِ الموقّعون بتقديم “مذكرة النصيحة” إلى الملك، بل صاروا يصدحون بها في منابرهم وعبر الندوات، ويوزعون مضامينها على مختلف وسائل الإعلام المحلية والأجنبية، ليرد عليهم الملك بإجراءات فورية أعفَت كل من وقّع على المذكرة من منصبه أيًّا كان، كما أصدرت هيئة كبار العلماء برئاسة الشيخ ابن باز بيانا تُدين فيه هذه المذكرة وترفضها جُملة وتفصيلا[11]، ويزعم الناشط السياسي السعودي محسن العواجي، أحد مؤسسي لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية وأحد رموز حركة الصحوة قديما والمنفي حاليا في لندن، أن ابن باز كان موافقا على مضمون المذكرة، إلا أنه تعرض لضغوط هائلة من الدولة جعلته يغيّر موقفه من الموافقة إلى الرفض[12].

معارضة لا تتوقف

مُنع القرني من العمل في المجال العام بعد نشر المذكرة مباشرة، إلا أن لهجة الاحتجاج الهجومية بدأت في التصاعد شيئا فشيئا، ككرة الثلج، إلى أن بلغ خلافه مع الدولة السعودية معارضة الشيخ ابن باز نفسه، وهو الذي عُدّ حينها أكبر رمز ديني في العالم الإسلامي برمّته، لا في السعودية فحسب. فقد أصدر القرني عام 1994م رسالة مع سلمان العودة وآخرين إلى ابن باز يصرّحون فيها ببطلان فتواه بالصلح مع اليهود ويفنّدون أخطاءه التي حملتها فتاويه في هذا الموضوع[13]، وهي المرّة الأولى التي يصل فيها الخلاف بين القرني ورفاقه الصحويين وبين الشيخ ابن باز وهيئة كبار العلماء إلى هذا الحد.

مثّل العقد الأخير من تسعينيات القرن الماضي فصلا من فصول حياة القرني، حيث تحوّل القرني ليُصبح وجها مألوفا في وسائل الإعلام

نتيجة لهذا الصدام، والذي أنبأ عن تشكّل نواة مُعارضة للمسار الديني المقبول على المستوى الرسمي في المملكة، لم يتحمل آل سعود حدّة هذا النمط المُعارض، وتصاعد قاعدته الشعبية، لتلجأ السُّلُطات إلى حملة قمع واسعة طالت جميع رموز ومشايخ الحركة الصحوية، ليُعتقل حينها سلمان العودة وسفر الحوالي عام 1994م، واعتُقل بعدهما القرني عام 1995م. وبينما خرج القرني في العام نفسه من تاريخ اعتقاله، فإن رفاقه، العودة والحوالي، بقيا في السجن حتى عام 1999م. حينها، لم تقتصر حملة القمع على السجن فقط، بل امتدت لتشمل تكميم الأفواه بما في ذلك المنع من اعتلاء المنابر أو إعطاء الدروس، وحظر السفر الخارجي، وحظر التنقل داخل البلد الواحد، ليخفت -وفق هذه الإجراءات- تأثير تيار الصحوة في هذه الحقبة إلى حدٍّ بعيد، وليدخل معه هذا النمط الدعوي نفقا مظلما لم يجد أحدٌ سبيلا إلى الخروج منه لسنوات قادمة.

مثّل العقد الأخير من تسعينيات القرن الماضي إذن فصلا من فصول حياة القرني، وبعد سنوات من المنع عقب خروجه من السجن من إلقاء المحاضرات أو الاحتكاك بالجماهير، تحوّل القرني ليُصبح وجها مألوفا في وسائل الإعلام، وليُسطّر فصلا جديدا في حياته، فصلا لم يعرفه الجماهير فيه واستنكروا وجوده في حياته أصلا. إلا أنه وكعادة التحولات، فإنها وليدة تراكم مجموعة من الأحداث التي انتقلت معها الشخصية من حال إلى حال.

نقطة التحول: أحداث سبتمبر/أيلول 2001م

“المتتبع لتاريخ عائض القرني لا يتعجب مما قاله”

(وصفي عاشور أبو زيد، أستاذ مقاصد الشريعة الإسلامية، معلقا على اعتذار عائض القرني الأخير)[14]

مع انتصاف عقد التسعينيات، لم يسمح النظام السعودي لأي رمز صحوي بمخاطبة الجماهير، أيًّا كانت الوسيلة والغاية، وليدخل رموز الصحوة في حالة من الإخفاء المتعمّد والمُمنهج، إما بزجّهم داخل السجون وإما عبر وضعهم تحت الإقامة الجبرية. بعدها ببضعة أعوام، جاءت هجمات سبتمبر/أيلول 2001م لتعلن فصلا جديدا في علاقة السلطة السعودية بتيار الصحوة. وعلى إثر الاتهامات التي طالت المملكة باعتبارها القاعدة التي صدّرت “التطرف” للعالم والتي تسببت بحادثة البُرجين، فقد وجدت الطبقة السياسية الحاكمة نفسها مُدانة أمام العالم، ووجد آل سعود أنفسهم في مأزق يبحثون عن الخروج منه بأي وسيلة كانت.

أحداث الحادي عشر من سبتمبر (رويترز)

ووفق هذه الحال، اشتدت حملة النظام السعودي على كل من يعارض التوجه الديني الرسمي للدولة، فحوصرت الصحوة بإجراءات أشد، وزادت حدّة القمع، “وحفلت الصحف والفضائيات والمنتديات الإلكترونية -قبل ظهور مواقع التواصل- بموجة “اعترافات” يعلن أصحابها “التوبة” من إرث الصحوة، على اعتبار أنها باتت رديفا للإرهاب نفسه”[15].

ثم كانت المفاجأة بأول ظهور علني لرمز صحوي قديم وهو عائض القرني، لا ليعارض سياسات الدولة هذه المرة، ولكن باعتباره مناصرا وداعما لإجراءاتها التي طالت رفاقه “المتشددين”، بمن فيهم رفاقه الصحويون القُدامى. ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2001م، وعقب أحداث سبتمبر/أيلول، ظهر القرني على شاشة قناة الجزيرة في برنامج “الشريعة والحياة” ليبرئ ساحة السعوديين من تهمتَيْ الإرهاب ودعم المتطرفين، وداعيا لتوحيد الجهود من أجل مواجهة “التطرف والإرهاب”[16].

تظهر المفارقة هنا في أنه وبالرغم من أن القرني أدان تفجير البرجين بالفعل، وهو الأمر الذي لا جدال حوله، فإن القرني، وعلى غير عادته، لم يتكلم عن انتهاكات النظام السعودي بحق المواطنين وبحق رفاقه. اختفت هذه الأبعاد تماما، في سياسةٍ بدت وكأنها ترسم ملامح عائض جديد، تختفي عنده مفردات المعارضة والاحتجاج، في مقابل بروز مصطلحات أكثر توافقا مع النظام، مثل التعايش والانفتاح وطاعة ولي الأمر.

ووفق هذه الصورة الجديدة، وبعد يوم واحد فقط من مقابلة الجزيرة، تواصل أمير الرياض حينذاك -وملك السعودية الحالي- سلمان بن عبد العزيز مع القرني، وأخبره بأنه سيشفع له عند الملك فهد ويطالبه برفع الحظر عنه. وبالفعل، سُرعان ما رُفع الحظر عن القرني في 2002م ليعود مرة أخرى إلى إلقاء الدروس والمحاضرات واللقاءات العامة بعد عشر سنوات من المنع[17].

التأييد مقابل الدعوة

تلخّص الاتفاق بين القرني والنظام على دعم النظام السعودي باستمرار، في مقابل فتح النظام السعودي مساحات الدعوة للقرني مرة أخرى ومنحه بعض الامتيازات دونا عن أقرانه، وهي سياسة كان النظام السعودي يتبعها مع المعارضين السياسيين بشكل مستمر[18]. وهو ما حكاه القرني على لسانه قائلا: “لمّا جاءت ضربة الأبراج في أميركا، ذهبت إلى قناة الجزيرة وألقيت خطابا معتدلا متسامحا، فجاءت الدولة وقالت لي الآن خلاص، توكل على الله، وألقِ ما عندك، فرُب ضارة نافعة”[19].

تتقاطع تصريحات عدد من المحللين والمراقبين التي تؤكد تسلُّم القرني لمكافآت مالية مقابل تفاهماته مع النظام السعودي، الأمر الذي أكده الناشط السعودي سلطان العبدلي، والذي حضر موقفا بنفسه بداية الألفينيات، وهو يتحدث عن الامتيازات التي حصل عليها القرني مقابل مناصرته للنظام السعودي، حيث سمع العبدلي صُراخ أحد الشباب في وجه عائض القرني في أحد المجالس الخاصة: “بعت دينك يا عائض مقابل 10 ملايين ريال أعطاهم إياك عبد العزيز بن فهد!”، فقال عائض القرني بالنصّ: “على الأقل أنا عندي ذمةٌ تباع، إنما أنت ليس عندك ذمة تباع”[20].

وهي التفاهمات التي تُقرأ نتائجها من خلال تصريح القرني الذي أدلى به عام 2010م بأنه يعيش في قصر ثمنه أكثر من 4 ملايين ريال[21]. على أي حال، فقد أشار العبدلي إلى حديث القرني لجلسائه بعقده صفقة مع النظام السعودي، والتي يصفها بقوله: “أنا رضيت بالأرض مقابل السلام مع الدولة”. وهو الأمر الذي صرح القرني به بالفعل بعد رفع الحظر عنه عام 2002م قائلا: “فيما يتعلق بموضوع عودتي والظهور الإعلامي من جديد في بعض القنوات، فقد حصل تفاهم مع ولاة الأمر من أجل جمع الكلمة وتوجيه الصف”[22].

عاود القرني نشاطه الدعوي، وألقى في يناير/كانون الثاني 2002م أولى محاضراته الجماهيرية منذ منعه عام 1992م وكان عنوانها “أما بعد”، وليتزايد نشاط القرني تدريجيا حتى وصوله ليحل على الندوات الجماهيرية، وليصبح مبعوثا للدولة السعودية بالخارج، يلقي المواعظ في المنطقة العربية بأسرها، وداعيا إلى الوسطية والاعتدال والتقارب مع النظام السعودي الإسلامي.

ثوب جديد

“أنا أقول كلمة الحق، لكن كلمة الحق التي أقولها الآن هي بالحكمة التي طالبنا بها الله عز وجل، كنا [قبل الألفينيات] نعرض العرض على المنابر يوم الجمعة، وكنا ننقد الدولة في خطب الجمعة، لكني لما قرأت كلام العلماء علمت أن هذا ليس صحيحا، فهذا تشهير وتجريح”[23]

بعكس ما هو متوقع من معارض صحوي قديم، مِثْل القرني الذي هاجم قديما مَن يبرّرون الوجود الأميركي في الجزيرة العربية، فإن القرني لم يعارض في ثوبه الجديد وجود القوات الأميركية في السعودية، بل اتجه لتقديم دعم غير مشروط لهذه القوات، كما صرّح في لقائه مع شبكة “MBC” عام 2010م: “سوف أفاجئك أنني لست من الرافضين لوجود القوات الأجنبية، وقد تدربت ولبست البدلة مع المتطوعين هناك، وصورتي محفوظة في جريدة الرياض وجريدة الجزيرة، وألقيت خطب تأييد للدولة، وزرت الجيش، سواء في البحرين أو في الشرقية”[24]. وكان عائض القرني من القلائل الذين زاروا قوات الجيش بجانب سعيد بن مسفر[25].

لعب القرني دورا تمحور في استجواب “الشخص المتطرف” بهدف تسجيل إجاباته وتقديمها إلى الجمهور في هيئة اعتذار وتراجع عن الفِكْر التكفيري

أُزيلت العقبات السياسية إذن من أمام عائض القرني، وطاف البلاد والأقاليم لينشر دين الوسطية ورسالة الاعتدال وقيمة التسامح، حتى صار نجما لامعا في الفضائيات، وملاصقا للأمراء والوزراء في حفلاتهم ومؤتمراتهم. ثم كانت إحدى أكثر المحطات اللافتة في مسيرة التعاون بين القرني والنظام السعودي عبر اختيار القرني من قِبَل السُّلطات السعودية، دونا عن جميع مشايخ الدولة، لإجراء حوارات مراجعة مع من يُسمّون بمشايخ التطرف.

داعية النظام أم داعية الإسلام؟

شهدت هذه اللقاءات تحولات القرني الجديدة بصورة جلية، ولعلها أهم تجلٍّ لشخصية القرني الجديدة وتفاهماته مع النظام. ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2003م ظهر القرني على شاشة التلفزيون الوطني السعودي مع الشيوخ المسجونين، علي الخضير وناصر الفهد وأحمد الخالدي، كلٌّ على حدة، مصرحا بأن “ولاة الأمر هم مَن كلّفوني بالحوار”[26]. حيث تولى القرني في هذه اللقاءات دورا رسميا في حث الشيوخ على التراجع عن آرائهم المتشددة التي كانت تحث المواطنين السعوديين على عدم مساعدة السلطات في القبض على جماعات الميليشيات المطاردة، إضافة إلى سحب اتهامهم للحكومة بالردة عن الإسلام.

لعب القرني دورا تمحور في استجواب “الشخص المتطرف” بهدف تسجيل إجاباته وتقديمها إلى الجمهور في هيئة اعتذار وتراجع عن الفِكْر التكفيري. ومن المفارقات، أن أحدا من المشايخ لم يخرج من السجن بعد اعتذاره، بل كتب الشيخ ناصر الفهد بعد الحلقة رسالة من داخل سجنه سمّاها “تراجع عن التراجع المزعوم” أعلن فيها عن “ندمه الشديد على خطئه الفادح وزلته الشنيعة في استجابته للدولة وخروجه في التلفزيون”[27].

كما وصف الفهد ما حدث معه في اللقاء بـ”التحقيق”، وهو ما يمكن ملاحظته بيُسر عبر تحليل العبارات التي وجّهها القرني للفهد: “الذي يحمل السلاح في بلاد الحرمين بحجة الجهاد، ماذا تقول فيهم؟”، وقوله أيضا: “هل ترى أن الرفق واللين والحوار هي الطريقة الأسلم والأحسن والأنجح؟ أم هو المركب الآخر، مركب العنف ومركب التكفير ومركب التفجير، قُل بصراحة؟”.

داوم القرني على تمثيل وجه آل سعود الديني “المعتدل” في مواجهة “تطرف وتشدد الإرهابيين” حتى صار ضيفا دائما على قنوات السعودية الرسمية والخاصة، وعلى صفحات الصحف الحكومية، وفي واجهة الندوات والمؤتمرات الجماهيرية. وصار ظهور القرني لإسكات معارضي سياسات النظام السعودي أمرا معتادا، كما كان يكرر نداءاته لتسليم المطلوبين لأنفسهم، حيث خرج في إحدى الصحف عام 2005م داعيا “الإرهابيين السعوديين” إلى تسليم أنفسهم “والرجوع إلى جادة الصواب”[28].

التأييد

“الفرصة مواتية أمام كل مارق بالعودة إلى أحضان الوطن والقيادة الرشيدة”

(عائض القرني، 2004م) [29]

يمكن النظر إلى اللقاء الذي جرى عام 2004م، والذي ظهر فيه القرني مع الإعلامي أحمد منصور في برنامج “بلا حدود” كنموذج آخر على صراحة توجّهات القرني. استمر اللقاء ساعة كاملة طرح فيها منصور بعض أوجه النقد لسياسات النظام السعودي في العديد من الملفات، في حين لم يعمل القرني إلا على تبرير السياسات السعودية كافة، حتى تلك التي دعا لها هو شخصيا في وقت سابق.

وهي المقابلة التي دفعت أحد مُحبّي الشيخ للاتصال بالبرنامج والتحدث بلهجة غاضبة: “يعلم الله أننا نحب الشيخ عايض في الله، ولكن، أنا صُدمت حين أسمع منك هذا الكلام الذي أسمعه الآن، أنا أولا سمعت منك من قبل أنك أثنيت على مؤسسة الحرمين والآن لم تنطق ببنت شفة حتى تدافع عنها.. ولكن سبحان ربي العظيم أجد الشيخ عايض، الذي نحبه في الله سبحانه وتعالى، يدافع دفاعا مستميتا عن حكام ظلمة طغاة تجبّروا وتكبروا وأفسدوا في الأرض”. واستمرت المُداخلة: “نحن نبغضهم في الله يا شيخ، قول إحنا ما نحبهم، يا شيخ حتى الإخوة الذين قاموا عليهم كان أولا فكر مقابل فكر فلما وُضعوا جميعا في السجون أصبح سلاح أمام سلاح، طغيان يا أخي، الناس هؤلاء ظلموا يا أخي”.

ومن المفارقات الحديثة، أنه في مايو/أيار 2019م، وبعدما قدّم القرني اعتذاره الأخير نيابة عن الصحوة، فقد أعاد الإعلامي أحمد منصور نشر الحلقة القديمة على حسابه بتويتر مغردا: “حقيقة عائض القرني قديمة، وقد فضحته وفضح نفسه في تخبّطه فى حوار أجريته معه في برنامجي بلا حدود في العام 2004م قبل 15 عاما”[31].

منذ بدأ ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في مشروعه التحديثي في المملكة السعودية، لم يتأخر القرني لحظة واحدة عن دعمه ومناصرته بالوسائل المتاحة كافة، بدءا من الدعاء في دروسه، والثناء عليه في محاضراته، والتقاط الصور معه وزيارته والاتصال به بشكل دائم، بالإضافة إلى زيارة القرني للجيش السعودي عقب عمليات عاصفة الحزم، وتأليفه لعشرات الأبيات من الشعر والقصائد التي تتغزل في محمد بن سلمان.

القرني لا يتوقف عن تجاهل كل ما يحدث للشعوب العربية، مع إصراره على المباركة بقيادة المرأة للسيارة في المملكة!

جاءت حقبة ابن سلمان لتُمثّل ذروة تماهي القرني مع السلطات السعودية، ورفضه لماضيه، وتجلّى ذلك في علاقته بالشيخ سلمان العودة، أحد أقرب رفقاء القرني، وكان يقول عنه: “الشيخ سلمان العودة عرفته قريبا وحبيبا، وعِرضه عِرضي، ودمه دمي، ومبدؤه مبدئي”[30]. لكن حينما اعتُقل العودة عام 2017م، لم يُشِر له القرني بكلمة واحدة، بل استمر في ترديد نفي تهمة الظلم عن ولاة الأمر، فهم يُحاكمون من يستحق المحاكمة فقط. وفوق ذلك، فقد أعلن طلاقه ‏السياسة ثلاثا لا رجعة فيها، ومحددا مهمته باعتبارها متلخصّة في تبليغ الدين من خلال الآية والحديث، وقال: “لست محللا سياسيا، وقد تبت من السياسة، والحمد لله أدركت بعد سنوات طويلة أن مهمتي تبليغ الدين”[32].

وكثيرة هي الأحداث التي تشهد على تقلّبات القرني وتناقضاته، وفي ظل ما يتعرض له العالم العربي والإسلامي من تمزيق أشد مما كان عليه الحال في التسعينيات، فإن القرني لا يتوقف عن تجاهل كل ما يحدث للشعوب العربية، مع إصراره على المباركة بقيادة المرأة للسيارة في المملكة![33].

تُمثّل حالة القرني، وفق ما بيّنّاه، صورة لنجاح النظام السعودي في ترويض عدد من الرموز الدينية المعارضة بشكل كامل، فمن داعية ينادي بالجهاد ويناصر الإخوان ويعارض سياسات الدولة، إلى شيخ يتبرأ من ماضيه ويُبغض الإخوان وينقلب على رفاق الصحوة. وليقرر القرني أن يسطّر آخر فصول مسيرته الدعوية وهو قريب من السُّلطات السعودية. لكن محاولاته الحثيثة في إعلان براءته من ماضيه، لم تُزل الشكوك حول نجاته من مصير رفاقه الدعاة الذين نالهم القمع والاعتقال، والذين تُثار الأحاديث حول قرب إعدام الكثير منهم، وعلى رأسهم، رفيق القرني القديم، سلمان العودة.

(المصدر: ميدان الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى