كيف تستجيب الجيوش للثورات ولماذا؟

كيف تستجيب الجيوش للثورات ولماذا؟

بقلم محمد صلاح حسين

يقول الأكاديمي زولتان باراني إن الثورات تحتاج دائماً للمؤسسة العسكرية في تلك الدولة أيما كانت بل يرى أنه من أهم العناصر لنجاح الثورات إن لم يكن العنصر الأهم معللاً أنه قلما نجحت ثورة وقفت ضدها مؤسستها العسكرية ولذلك فإن إنضمام الجيش بمؤسسته العسكرية هو مكسب كبير ووثبة ضخمة في نجاح وإسقاط أي نظام حكم وإن لم يستطع الشعب أو الحراك جر وكسب الجيش إلى صالحه فعلى أقل تقدير أن يبقى الجيش في حالة من الحياد بين الثوار المتعطشين للحرية وبين النظام الديكتاتوري الذي غالباً ما يلجأ للجيش كخيار أخير بعد الفشل الذي غالبا ما تلاقيه القوات الأمنية والشرطية فيهرع لها الديكتاتور المتشبث بالسلطة بعدما يضيق عليه الخناق كأمل ومتنفس أخير.

وسواء اختلفت أو اتفقت مع زولتان في إطروحته التي ترى بأن الجيش هو العنصر الأهم في الثورات إلا أنك ستجد فيما خط زولتان حججا مقنعة وادلة وبراهين وخلافا لكثير من الأكاديميين الذين تطرقوا لموضوع حيوي كالثورات فغالبا ما اقتصرت دراستهم على الجانب المدني الثوري الشعبي منها أما دور المنظمة العسكرية فقلما ما وجد طريقه لدراسة متأنية وموضوعية وهو الذي كثيراً ما تناسته جموع الجماهير العربية في حراكها الشعبي أو ما عرف بالربيع العربي وهو ما قاد لنهايات مختلفة لكل ثورة باختلاف تصرف قياداتها العسكرية ومنظمتها العسكرية.

السؤال بسيط كما هو بلا زيادة ولا نقصان يحاول زولتان الإجابة على هذين السؤالين لا أكثر متتبعاً عدداً من الثورات التي اجتاحت العالم في العصر الحديث والتي بدأها بعد الحرب العالمية الثانية لقربها وبداية تشكل الأنظمة الدولية الحديثة فتطرق للثورة الإسلامية الإيرانية التي أطاحت بالشاه، الثورتين البورميتين عامي 1988 و2007، والثورة الصينية الشعبية في أواخر التسعينيات، ومجموعة الثورات التي أطاحت بالدول الشيوعية الواحدة تلو الأخرى وهي بولندا ورمانيا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية والمجر وبلغاريا والتي حدثت تتابعا في خلال 6 أشهر فقط بداية نهاية عام 1988.

أما ما يهمنا هنا فهو ما تناوله أخيرا لثورات الربيع العربي التي اشتعلت بتونس مع جسد البوعزيزي ليسرد مواقف الجيش في كل من تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا إضافة للبحرين والمغرب وعمان ومبيناً هذا الاختلاف الشائع الذي أدى لاختلاف النتائج في دول الربيع العربي حتى اليوم، يتبع زولتان أسلوبا واضحا في محاولة تحديد رد فعل الجيش من كل ثورة شعبية مقسما تلك المتغيرات إلى أربع نقاط أساسية تندرج تحتها العديد من الإحداثيات وهي:

المؤسسة العسكرية، وتشمل إحداثيات كتماسك الجيش وترقياته والطبيعة القبلية والدينية بداخله والتفريق بين القوات المختلفة كالنخبة مثلا والتجنيد الإجباري أم الطوعي. ثانيها هي تعامل النظام مع الجيش، يداية بالترقيات وإتاحة الفرصة له للكسب والإستثمار وحفظ هيبته وكرامته والإهتمام به وتجهيزه أم تهميشه مقابل القوات النظامية الأخرى. ثالثها هي العامل المدني، وهو الجانب الاجتماعي الذي يتعلق بحجم المظاهرات والمشاركة الشعبية وسلميتها من عدمها وكسب الشعب للجيش ومدى احترامه له من عدمه ومواقف الجيش السابقة من الاضطرابات الداخلية والخارجية كالحروب. أما أخر تلك المتغيرات فهي التدخلات الخارجية، وتضم الخطر المحدق بالبلاد من محيطها وتدرب ودراسة الجنود خارج البلاد والضغوطات والتدخلات والمصالح الخارجية للدول الطامعة أو الصديقة وعلاقات الدولة مع جيرانها وحلفائها وخصوصا علاقة الجيش بجيش أو قادة تلك الدول.

يحاول زولتان تتبع هذه الإحداثيات لتحديد رد فعل الجيش فرد فعل الجيش لن يخرج عن ثلاث احتمالات لا رابع لهما، البقاء على الحياد وعدم التدخل – الانضمام للثوار وعزل الرئيس – قمع الحراك مهما كلفه هذا الأمر مع خيار قد ينبثق منه يتمثل في انقسام الجيش بين الطرفين. حاول زولتان توقع رد فعل الجيوش العربية الواحدة تلو الأخرى كما حدث في دول الربيع العربي حتى إصدار تلك الدراسة في كتاب عام 2015 فقد كانت خطوات كل جيش من الجيوش العربية لتلك الدول سهل التنبء والتوقع نسيبا.

جيوش وقفت مع رغبة الشعوب

يعد المثال الأوضح والأمثل لهذه الحالة هو الجيش التونسي الذي قرر الانحياز للجماهير الذين عجت بهم الشوارع التونسية بعد إحراق البوعزيزي لنفسه بعد إهانته من أحد شرطة الدرك التونسي وهو ما أشعل الشوارع كذلك القرار في الحالة التونسية يمكن وصفه بالأسهل فالجيش التونسي الصغير نسبيا والمهمش من قبل زين العابدين لصالح جهاز الداخلية الأكثر قربا للنظام والذي أغدق عليه الحوافز والإمتيازات متجاهلا الجيش كليا إضافة لحجم الحراك الشعبي الذي فاجئ زين العابدين نفسه وبعد فشل قواته الأمنية والشرطية لجأ كالكثير من الطغات للجيش وقواته العسكرية كحل أخير وكانت النتيجة كما رأيتم ما جعل خيار انحياز الجيش قراراً سهلاً لمؤسسته العسكرية فالطاغية لم يكن له صليح من الشعب ولا حتى الجيش لتعتبر أنجح ثورات الربيع نسبياً وأقلها تكلفة دموية.

أما مصر والتي انحاز جيشها أيضا للشعب فقد كان مدفوعا بالحراك الشعبي الكبير إضافة لذات الخطأ الذي وقع به زين العابدين من تهميش مبارك للجيش مقابل وزارة الداخلية وقواته الأمنية والشرطية زائداً لتململ داخل الجيش من توريث مبارك الحكم لإبنه الذي كان يسيطر على السوق الاقتصادي المصري مع مجموعة من رجالات الأعمال ما جعل الجيش المصري المتماسك نسبيا والذي يملك بعضاً من الاستقلال في اتخاذ القرار ليخطوا تلك الخطوة باختلاف مخرجات ونتائج ذاك القرار في التجربيتين المصرية والتونسية

دول بقي فيها الجيش على الحياد

وهي سلطنة عمان والمغرب حيث سارعت السلطة المتمثلة في السلطان قابوس والملك المغربي محمد السادس إلى أن يوكل أمر المظاهرات إلى قوات الأمن والشرطة مع الإسراع في فرض إصلاحات اقتصادية تستهدف أسباب الإحتجاجات مع الذكر أن الاحتجاجات في الحالتين لم تستهدفا النظام الحاكم في البلاد بحد ذاته بل بمطالبات اقتصادية وسياسية لا تمس النظام بحد ذاته وهو ما سهل عملية اسكات تلك الاحتجاجات بزوال مسبباتها ودعواتها نسبيا وربما لو تصاعدت تلك المطالب ودعت إلى أكثر من ذلك لاختلف الأمر كليا ولقادت لنموذجنا الثالث.

دول تمسك فيها الجيش بقيادة الدولة

ويعد المثال الأهم لذلك هو ممكلة البحرين والتي شهدت اعتصاما في ساحة اللؤلؤة ولعب فيه الجيش دورا مختلفا لتطلعات الشعب البحريني بخمد التظاهرات ولو بالقوة وهو ما حدث بعد فشل قوات الأمن والشرطة باختلاف مسمياتهم في المملكة البحرينية استعان الملك بالجيش البحريني أو قواتها المسلحة أما دفعها لخمد تلك التظاهرات واتخاذ ذلك القرار فكان نتاجاً لعدة حيثيات فطبيعة البلد الدينية المتمثلة في السنة القليلة الحاكمة والأكثرية شيعية المرجع جعلت الجيش ينظر للمظاهرات بمنظور مختلف خصوصا إذا أدركنا أن الجيش يمنع تجنيد الأكثرية الشيعية وإن حدث فلا يتم بأي شكل من الإشكال وضعهم في مواضع قيادية وحساسة بل الاعتماد على قوات وجنسيات أجنبية أخرى وهما سببان كافيان لإيضاح فكرة اختيار الجيش لقراره فأقلية حاكمة وعدد كبير من الجنود المجنسين ستفضي لمثل هذا الصنيع إضافة للعنصر الرابع وهو التدخلات الخارجية المتمثلة في قوات درع الجزيرة والتي دخلت البحرين عن طريق جسر الملك فهد الشهير وإن لم تكن تتدخل في فض المظاهرات بل تأمين المناطق الحيوية ولكن وسط البحرين وعلاقاتها الخارجية بين وسطها السني من جهة المتمثل في الخليج وشعبها الشيعي القريب من إيران التي تعتبر نفسها ضامنا لحقوق الشيعة في المنطقة جعل قرار الجيش يختلف كليا في الحالة البحرينية.

ثلاث نماذج لما حدث في ثورات الربيع العربي تبقى أهمها والمتمثلة في النموذج الأخير والأكثر دموية حتى الآن وهو نموذج الإنقسام المؤلم والذي حدث وما زال يحدث في دول عربية مهمة ما زال لظى الحرب يستعر فيها وهي اليمن وليبيا ودرة الشام السورية فلماذا اتخذت جيوش تلك الدول وقواتها المسلحة ذلك القرار ولماذا انقسمت وتشرذمت لتتحول تلك الثورات الشعبية السلمية إلى أحد أكثر الثورات دموية حتى اليوم. وهو ما سنفرد له مقالاً مستقلا لحاجتنا لدراسة أعمق لتلك الحالات والكثير من التداخلات الدولية والعسكرية والشعبوية إضافة لمحاولتنا إنزال التجربة على حراكين عربيين آخرين متمثلين في الثورة السودانية وجارتها الجزائرية والتي يدور رحاها اليوم بينما تسيطر المؤسستان العسكريتان على مقاليد الحكم في البلاد وكيف سيتصرف الجيشان في مواجهة الحراك الشعبوي وهو ما سنتطرق له في الجزء الآخر من دراستنا ان شاء الله تعالى.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى