كتاباتكتابات مختارة

دولة الصّدِيق.. البرنامج السياسي والتأسيس الدستوري

دولة الصّدِيق.. البرنامج السياسي والتأسيس الدستوري

بقلم د. علي الصلابي

كانت بيعة الخلفاء الراشدين على كتاب الله وسنة رسوله متضمنة أهم أسس العدالة والحرية والكرامة والمساواة ومبادئ الحكم الرشيد، ولم يكن الصحابة ليعترضوا ببيعة الخلفاء الراشدين لو لم تكن وفق أصول النظام الإسلامي كما هي مقررة في الشريعة الإسلامية، وتضع لسلطة الحاكم قيوداً وحدوداً شرعية وقد تعرض عدد كبير من الباحثين المعاصرين لأسس العدالة في النظام الإسلامي ومنهم من سماها ضمانات الحكم الإسلامي، مثل محمد أحمد مفتي في كتابه “أركان وضمانات الحكم الإسلامي”، ومنهم عبد الغني بسيوني في كتابه “نظرية الدولة في الإسلام” وقد جعلها في ست ضمانات وهي وجود دستور إلهي. وتقرير المبادئ الدستورية الإلهية والحقوق والحريات العامة، وتقرير مسؤولية الحاكم، والفصل بين السلطات، وخضوع السلطة الحاكمة لرقابة القضاء. وقد جاء في خطبة الصّدِّيق حينما وُلّي الخلافة ما يوضح الحدود والقيود على سلطة الحكام التي تضمن سير العدالة. فقد نص برنامج أبو بكر الصّدِيق رضي الله عنه على النقاط الآتية:

  

أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم؛ فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة والكذب خيانة. والضعيف فيكم قوي عندي حتى أُرجع عليه حقه إن شاء الله. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل. ولا يشيع في قوم قط الفاحشة إلا عمهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. فنص الخطاب التاريخي يتضمن أهم شروط قيام الدولة الصالحة التي يلتزم بها إمام المسلمين. وفي خطاب أبي بكر لنا وقفات منها:

  

قال أبو بكر رضي الله عنه: فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني. وبالتالي فإن أبو بكر الصّدِّيق يقرّ بحق الأمة وأفرادها في الرقابة على أعماله ومحاسبته عليها

1. أول حاكم بعد الرسول: إن أبا بكر رضي الله عنه هو أول حاكم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، بشر لا يوحى إليه، فبهذه الصفة مؤهل لأن يكون نموذجاً للحكم الرشيد الذي فيه الدروس والعبر والقيم من خلال المجهود البشري الذي يخطئ ويصيب ومسترشد بالقرآن والسنة.

2. التواضع الكبير: إن نص هذه الخطبة يعتبر بمصطلحات وأقوال عصرنا هو البيان الوزاري للسلطة التنفيذية التي تمّت عليه البيعة العامة، وإعطاء الثقة في المسجد بعد البيعة الخاصة في السقيفة في ضوئه.

3. البيان الوزاري للسلطة: إن قول أبي بكر رضي الله عنه: “وُلّيت عليكم ولست بخيركم” فكل حاكم يجب أن يعلم أنه معرّض للخطأ والمحاسبة وأنه لا يستمد سلطته من أي امتياز شخصي، وهذه العبارة تكفي للرد على جميع من يدّعون أن الحكومة الإسلامية يمكن أن تكون لها صفة دينية أو ثيوقراطية.

4. حق الأمة في مراقبة الحاكم ومحاسبته في خطبة أبو بكر الصديق: قال أبو بكر رضي الله عنه: فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني. وبالتالي فإن أبو بكر الصّدِّيق يقرّ بحق الأمة وأفرادها في الرقابة على أعماله ومحاسبته عليها، بل وفي مقاومته لمنع كل منكر يرتكبه، وإلزامه بما يتبرونه الطريق الصحيح والسلوك الشرعي، وقد أقر الصّدِّيق في بداية خطابه للأمة أن كل حاكم معرض للخطأ والمحاسبة، وأنه لا يستمد سلطته من أي امتياز شخصي يجعل له أفضلية على غيره، لأن عهد الرسالات والرسل المعصومين قد انتهى، وأن آخر رسول كان يتلقى الوحي انتقل إلى جوار ربه، وقد كانت له سلطة دينية مستمدة من عصمته كنبيٍّ، ومن صفته باعتباره رسولاً يتلقى التوجيه من السماء، ولكن هذه العصمة قد انتهت بوفاته صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم أصبح الحكم والسلطة مُستمدَّين من عقد البيعة وتفويض الأمة للحاكم.

إن الأمة في فقه أبي بكر لها إرادة حية واعية لها القدرة على المناصرة والمناصحة والمتابعة، والتقويم، فالواجب على الرعية نصرة الإمام الحاكم بما أنزل الله ومعاضدته ومناصرته في أمور الدين والجهاد، ومن نصرة الإمام ألا يهان، ومن معاضدته أن يحترم. ولقد استقر في مفهوم الصحابة أن بقاء الأمة على الاستقامة رهن باستقامة ولاتها، ولذلك، كان من واجبات الرعية تجاه حكامهم نصحهم وتقويمهم، ولقد أخذت الدولة الحديثة تلك السياسة الرائدة للصّدِّيق رضي الله عنه وترجمت ذلك إلى لجان متخصصة ومجالس شورية تمد الحاكم بالخطط وتزوده بالمعلومات. ولعل مع ثورات الشعوب المتطلعة إلى الحرية، والكرامة والعدالة، تنجح هذه الشعوب الثائرة بالقيام بدورها في اختيار الأصلح ومراقبة الحكام ومناصحتهم وتستفيد من تجربة الصّدِّيق الرشيدة في إدارة الحكم.

   

5. الصدق أساس التعامل بين الحاكم والمحكوم: قال أبو بكر رضي الله عنه: «الصدق أمانة والكذب خيانة». أعلن الصّدِّيق رضي الله عنه مبداً أساسياً تقوم عليه خطته في قيادة الأمة وهو: أن الصدق بين الحاكم والأمة هو أساس التعامل، وهذا المبدأ السياسي الحكيم له الأثر الهام في قوة الأمة حيث ترسيخ جسور الثقة بينها وبين حاكمها، إنه خُلق سياسي منطلق من دعوة الإسلام إلى الصدق. إن شعوب العالم اليوم تحتاج إلى هذا النهج الرباني في التعامل بين الحاكم والمحكوم لكي تقاوم أساليب تزوير الانتخابات وتلفيق التهم، واستخدام الإعلام وسيلة لترويج اتهامات باطلة لمن يعارضون الحكام أو ينتقدونهم، ولابد من إشراف الأمة على التزام الحكام بالصدق والأمانة من خلال مؤسساتها التي تساعدها على تقويم ومحاسبة الحكام إذا انحرفوا، فتمنعهم من سرقة إرادتها وشرفها، وحريتها وأموالها.

  

6. إعلان التمسك بالجهاد وإعداد الأمة لذلك: قال أبو بكر رضي الله عنه: “وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذل”. لقد تلقى أبو بكر تربيته الجهادية مباشرة من نبيه وقائده العظيم صلى الله عليه وسلم، تلقاها تربية حية في ميادين الصراع بين الشرك والإيمان، والضلال والهوى، والشر والخير، وأن الأمة تصاب بالذل إذا تركت الجهاد، فلذلك جعل الصّدِّيق الجهاد إحدى حقائق الحكم في دولته. ولذلك حشد طاقات الأمة من أجل الجهاد لكي يرفع الظلم عن المظلومين، ويزيل الغشاوة عن أعين المقهورين، ويعيد الحرية للمحرومين، وينطلق بدعوة الله في آفاق الأرض يزيل كل عائق ضدها.

7. العدل والمساواة بين الناس في خطبة أبو بكر الصديق: قال أبو بكر الصّدِّيق رضي الله عنه: «الضعيف فيكم قوي عندي حتى أُرجع عليه حقه إن شاء الله والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله». فإن من أهداف دولة الصّدِّيق الحرص على إقامة مقاصد القرآن الكريم التي تساهم في إقامة المجتمع الإسلامي والحكم الإسلامي، فلا وجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ولا يعرف العدل. وإن إقامة العدل بين الناس أفراداً وجماعات ودولاً، ليست من الأمور التطوعية التي تترك لمزاج الحاكم أو الأمير وهواه، بل إن إقامة العدل بين الناس في الدين الإسلامي تعد من أقدس الواجبات وأهمها، وقد أجمعت الأمة على وجوب العدل. يقول الفخر الرازي: أجمعوا على أن من كان حاكماً وجب عليه أن يحكم بالعدل، وهذا الحكم تؤيده النصوص القرآنية والسنة.

  

أما مبدأ المساواة الذي أقره الصّدِّيق في بيانه الذي ألقاه على الأمة، فيُعدُّ أحد المبادئ العامة التي أقرها الإسلام، وهي من المبادئ التي تساهم في بناء المجتمع المسلم وسبق به تشريعات وقوانين العصر الحاضر. وممّا ورد في القرآن الكريم تأكيداً لمبدأ المساواة قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات، آية: 13). وإن الناس جميعاً في نظر الإسلام سواسية، الحاكم والمحكوم، والرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام الفوارق بين الناس بسبب الجنس، أو اللون أو النسب، أو الطبقة، والحكام والمحكومون كلهم في نظر الشرع سواء. كما جاءت ممارسة الصّدِّيق لهذا المبدأ خير شاهد على ذلك، وكان رضي الله عنه ينفق من بيت مال المسلمين فيُعطي كل ما فيه سواسية بين الناس، فقد كان توزيع العطاء في عهده على التسوية بين الناس.

يرفع العدل لواءه بين الناس، فالضعيف آمن على حقه، وكله يقين أن ضعفه يزول حينما يحكم العدل

لقد قام الصّدِّيق رضي الله عنه، منذ أول لحظة بتطبيق هذه المبادئ السامية، فقد كان يدرك أن العدل عز للحاكم والمحكوم، ولهذا وضع الصّدِّيق رضي الله عنه سياسته تلك موضع التنفيذ وهو يردِّد قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل، آية: 90). وكان أبو بكر يريد أن يطمئن المسلمون إلى دينهم، وحرية الدعوة إليه، وإنما تتم الطمأنينة للمسلمين ما قام الحاكم فيها على أساس من العدل المجرد عن الهوى. والحُكم على هذا الأساس يقتضي من الحاكم أن يسمو فوق كل اعتبار شخصي، وأن يكون العدل والرحمة مجتمعين في حكمه، وقد كانت نظرية أبي بكر في تولي أمور الدولة قائمة على إنكار الذات والتجرد لله تجرداً مطلقاً جعله يشعر بضعف الضعيف وحاجة المجتمع ويسمو بعدله على كل هوى، وينسى في سبيل ذلك نفسه وأبناءه، وأهله، ثم يتتبع أمور الدولة جليلها ودقيقها، بكل ما أتاه الله من يقظة وحذر.

وبناء على ما سبق يرفع العدل لواءه بين الناس، فالضعيف آمن على حقه، وكله يقين أن ضعفه يزول حينما يحكم العدل، فهو به قوي لا يمنع حقه ولا يضيع، والقوي حين يظلم يردعه الحق، وينتصف منه للمظلوم، فلا يحتمي بجاه أو سلطان أو قرابة ذي سطوة أو مكانة. وذلك هو العز الشامخ، والتمكين الكامل في الأرض. ومن أجمل ما قاله ابن تيمية رحمه الله: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة.. بالعدل تستصلح الرجال، وتستغزر الأموال.

8. إعلان الحرب على الفواحش: قال أبو بكر رضي الله عنه: ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمَّهم الله بالبلاء، والصّدِّيق هنا يذكر الأمة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا». إن الفاحشة هي داء المجتمع العضال الذي لا دواء له، وهي سبيل تحلله وضعفه حيث لا قداسة لشيء، فالمجتمع الفاحش لا يغار ويقر الدنية ويرضاها، إنه مجتمع الضعف والعار والأوجاع والأسقام وحال الناس أدل شاهد. لقد وقف أبو بكر يحفظ قيم الأمة وأخلاقها.

_____________________________________________________________________________________________________________

المراجع:

1.   أبو بكر الصّدِّيق للصَّلاَّبي، ص 127.

2.   أبو بكر رجل الدولة، ص 73.

3.   الاجتهاد الفقهي المعاصر، ص 150.

4.   الأحكام السلطانية للماوردي، ص 201.

5.   البداية والنهاية، 6/ 305 ـ 306، إسناده الصحيح.

6.   تفسير الرازي، 10/ 141.

7.   صحيح الألباني، في ابن ماجه، رقم: 4019.

8.   فقه التمكين في القرآن الكريم، ص 455.

9.   فقه الشورى والاستشارة، ص 441.

10. نظرية الدولة في الإسلام، ص. ص 176 ـ 187.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى