تقارير وإضاءات

حقيقة علمية أم ادعاء ديني.. هل يولد الإنسان على الفطرة؟

حقيقة علمية أم ادعاء ديني.. هل يولد الإنسان على الفطرة؟

إعداد سامح عودة

“من الممكن أن نجد مدنا بلا أسوار أو ملوك أو ثروة أو آداب أو مسارح، ولكن لم يرَ الإنسان قط مدينة بلا معبد”

(بلوتارخ)

 

في دراسة لعالم النفس، والمتخصص في علم الإدراك الديني بجامعة أكسفورد، “جستون باريت”، قامت مساعدته “إيما بوردت” بإجراء مقابلة مع أم إنجليزية وولدها ذي خمسة الأعوام، لتذكر أنه، في الحين الذي صرّحت فيه الأم بإلحادها، كان الصغير يجيب عن أسئلة الدراسة بصورة ملأت والدته بالدهشة وهي تسمع ولدها ينفي عن الله احتمالية الموت، بعدما أقر بحتمية وجوده كخالق للأشياء، ومن ثم قدرته على معرفة ما تحتوي عليه علبة البسكويت المغلقة -حسب أسئلة التجربة-، إلى آخر الإجابات التي أبرزت اعتقاد الطفل الجازم بوجود الله، حتى إنه نطق صراحة بعد سؤال أمه “هل تؤمن بوجود إله؟” قائلا: “حسنا.. بالطبع يا أمي”.

اقترحت “بوردت” على الأم أن تشارك ولدها الاختبار نفسه، لتجيب من خلال الأسئلة -بعد اعتراض مبدئي على المشاركة- بأنها لا تؤمن بوجود الله ولا تعتقد في صحة ما قاله ولدها، ليفاجئها الصغير، متدحرجا على الأرض نحوها، وساخرا من إجاباتها: “يا أمي! لماذا تجيبين بـ “لا”؟! يجب أن يكون الجواب نعم”[1]. من هذه النتيجة، وغيرها من النتائج الكثيفة، توصّل “باريت” من خلال كتابه “فطرية الإيمان” إلى حقيقة مفادها أن المرء يكون، أول ما يولد، قادرا على استيعاب الإيمان الإلهي من خلال مستقبلات في الإدراك العقلي، بالإضافة إلى مجموعة من المقدمات الاستدلالية التي تؤهّله للاعتقاد بحتمية وجود صانع لهذا الكون.

في هذا السياق، يناقش الباحث “سعود العريفي” دلالة ما أسماع بـ “الفطرة” في هذا الشأن، فيرى “أن دليل الفطرة، وإن لم يكن عقليا، يأخذ صورة من صور الاستدلال العقلي المتنوعة، كالسبر والتقسيم وقياس الأولى[أ]… إلا أن المعرفة الفطرية هي الأصل والأساس للأدلة العقلية”؛ وذلك لأنها بحسب وصفه “تتناول العلوم البدهية المغروزة في كل نفس، والتي لا تفتقر إلى استدلال، بل يعود إليها كل استدلال، وهي محل اتفاق بين جميع العقلاء”، مثل عدم اجتماع النقيضين، واحتواء الكل للجزء، وأن الحادث لا بد له من محدث، إلخ.

وكذلك لكونها -أي المعرفة الفطرية- تمتلك “تلك القوة الكامنة في النفس، التي تقتضي الحق وإرادته وطلبه وإيثاره على الباطل، وهي معلومة لكل إنسان سوي الفطرة”[2]. من هنا كان الشعور الديني، كما يضيف “رضا زيدان”[3]، حاضرا في نفوس أغلب البشر. وهو ما يوافقه قول السيكولوجي الشهير “إيريك فروم” بأنه “لا وجود لإنسان بغير حاجة دينية، حاجة إلى أن يكون له إطار للتوجيه وموضوع للعبادة”[4].

فأن تصبح إنسانا، كما يستنتج “ميرتشا إلياده”[5]، يعني أن تكون ديّنًا. فالإنسانية والدين يُظهران متلازمة تناولها العديد من المفكرين والفلاسفة، كـ “سلفان بيرسيه” الذي رأى أن الدين هو الجانب المثالي للحياة الإنسانية[6]، و”عبد الوهاب المسيري” الذي صرّح بأنه بدلا من الاهتداء إلى الإنسان عن طريق الإيمان، اهتدى إلى الله عن طريق فهم الإنسان[7]. وهو ما يوافقه “سامي عامري” إذ يقول إن “الإيمان بالإنسان، بما هو كائن، قرين الإيمان بالله بما هو باذل، فبين الإيمانين تلازم لا يتحقق أحدهما على أتم صورة دون الآخر”[8].

لذا، ومن المقدمات السابقة، ونتاجا للعديد من التجارب القياسية والاستقراءات الفكرية، يمكننا أن نتناول قضية الإيمان من زاوية يعتبرها عدد من الباحثين أصلا متجذّرا في النفس البشرية، في محاولة لفهم دعائمها وجدليّاتها الدائرة، ومن ثم تناول الاعتراضات القائمة عليها والرد المقابل المتمسك بدلالة الفطرة على الإيمان بالله كحقيقة راسخة.

ما هذا؟ من صنعه؟

على جزيرة الواق واق، وضع الفيلسوف الأندلسي “ابن طفيل” أحداث قصته الشهيرة “حي بن يقظان”، والتي تدور حول رضيع بشري نما في الغابة تحت أعين ظبية كانت قد احتضنته برعايتها وأرضعته. وبمرور الأعوام يكبر الرضيع ليكتشف قدراته والعالم وتمايز الكائنات، الأمر الذي ينبهه إلى خصوصية جسده ورغبته في تغطيته بأوراق الشجر وتطوير وسائل الحماية والتواصل داخل هذا العالم بشكل ذاتي. ثم تمضي الأحداث حتى تموت الظبية في عامه السابع، الأمر الذي دفعه للسؤال حول الموت، ومن ثم محاولة تشريح جثتها لاكتشاف سره.

ثم تتوالى السردية بمجموعة من التأملات، التي يكتشف معها ذاته، ثم ينطلق من حسّه إلى عقله مستكشفا، مما دفعه لتأمل الكون والموجودات حوله، حتى أيقن أنه لا بد لهذا الكون من صانع، فعَلِمَ بالضرورة أن كل حادث لا بد له من مُحدِث، لينتهي به الحال إلى معرفة الله[9]. ثم، وبالنمط نفسه، يأخذنا “جستون باريت”[1] -بعيدا عن الأدب الفلسفي- في جولة استكشافية لرصد رفقاء “حي بن يقظان” من الصغار في واقعهم الحقيقي، باحثا في عوامل الإيمان الكامنة في فطرتهم، ومحللا النتائج التي أفضت إليها تجاربه، أو تجارب من نقل عنهم.

عالم النفس، والمتخصص في علم الإدراك الديني بجامعة أكسفورد، “جستون باريت” (مواقع التواصل)

وينقل “باريت” في بداية طرحه عن الفيلسوف “روبرت ماكويلي” تفريقه بين نوعين من المعرفة الفطرية لدى الطفل، كان قد أطلق على الأولى اسم الفطرية النضجية، بينما اصطلح على الثانية اسم الفطرية التدريبية، أو الخبيرة، والتي تعبر عن مجموع المعارف والمهارات التي يكتسبها الطفل بالتدرب عليها أو تعلمها من غيره، إلا أنها تقع موقع الفطرة لسهولة ممارستها دون أي تعقيدات، كالقراءة بيسر تلقائي -مثلا- بعد تعلم الحروف.

في حين أنه عرّف الفطرية النضجية على أنها المعارف والمهارات التي يكتسبها الطفل بمجرد النمو، مما يعني أن بذورها كامنة فيه ولا تحتاج ثمارها إلى أكثر من الأيام، والحفاظ على تربتها الفطرية بعيدا عن الملوثات، لتنتهي إلى النتيجة المطلوبة. تماما كالمشي وإدراك الأشياء ومعرفة ما يمكن حمله منها، وهكذا.

وقد عبّر “ماكويلي” عن المعرفتين بالفطرية “لأن كلا منهما سهل وتلقائي وسلس”[1]. من هذا الباب، رأى “باريت” أن كثيرا من الأفكار والممارسات الدينية الأساسية تقع في نطاق الفطرة الطبيعية، في حين أنها عند البالغين تُصنّف ضمن الفطرة ذات الخبرات، وعليه يمكننا القول إن الإيمان بالإله أمر فطري؛ لاحتواء النفس على استعدادات فطرية تمضي، في الظروف الطبيعية للعالم دون أي معوقات، لتتبلور بعد خبرة معرفية إلى إيمان يكسو أساسا متينا من الفطرة.

ولنقاش فرضيته، يدرج استشهادا بتجربة عالمة النفس “رينيه بيلارجيون” وزملائها[10]، حيث وُضِع مجموعة من الأطفال، في عمر شهرين ونصف، أمام مشهد لأسطوانة تتدحرج على منحدر حتى تصطدم بأجسام صغيرة فتُسقطها. تكررت التجربة حتى ملّ الأطفال، فانصرفوا بأعينهم عنها، ليفاجئهم الباحثون بوضع دمية إلى جوار الأجسام الصغيرة، إلا أنها لا تقع عند اصطدام الأسطوانة بها، وهنا حدّق الأطفال كثيرا حتى يستوعبوا هذا التغيّر، ليستنتج الباحثون أن الأطفال في عامهم الأول قادرون على فهم البدهيات الفيزيائية والاندهاش من خرقها، ومن ثم إدراك أن ثمة عوامل فاعلة (صانعة ومؤثرة) وعوامل أخرى منفعلة (متأثرة).

ولتمييز أكثر دقة، تقودنا دراسة القبعة والجرس لدى علماء النفس التطوريين[11] لرصد إدراك الأطفال، بداية من عمر ستة أشهر، لقدرة العوامل الفاعلة على تحريك/صنع الأشياء دون تماس فيزيائي مع العوامل المنفعلة. بمعنى أنك لو وضعت قبعة ذات جرس على رأسك، فإن الطفل سيختار إحدى طريقتين لتفعيل عمل الجرس: إما أن يطلب منك تحريك رأسك، وإما أنه سيهزّ كتفيك للحصول على النتيجة ذاتها. في حين أننا لو وضعنا القبعة على كرة، فإن الطفل سيختار طريقة واحدة لسماع صوت الجرس: تحريك الكرة، واعيا إلى أن مطالبتها بالاهتزاز ستكون ضربا من العبث. أي إنه سيميز بين (من) هذا و(ما) هذا.

من هنا، يدرك الأطفال أن العوامل الفاعلة قادرة على تحريك نفسها وتحريك غيرها، إضافة إلى اعتقادهم في غائية أفعالها، أي إنها تفعل الأشياء لهدف مقصود. وهو ما تُثبته تجربة “جورجي جيرجلي”[12]، إذ أجلس الأطفال أمام عرض كرتوني لحلقة صغيرة تتدحرج في طريقها لتلامس حلقة أكبر، وما أن يواجهها عائق في الطريق حتى تقفز لتتفاداه، وبتكرار الأمر انصرف الأطفال عن المشاهدة، حتى اختفت العقبة ووجدوا أن الحلقة الصغيرة لا تزال تقفز فوق موضعها السابق، فأعادوا التحديق في المشهد باندهاش يفسره “جيرجلي” بأن الأطفال يتوقعون دائما أن الأفعال تحمل غاية لحدوثها، ما يفسر لِمَ كانت قفزة الحلقة -غير المبررة- شيئا مُدهشا.

يستنتج “باريت” أن الأطفال، في سن مبكرة، يعتبرون العلامات الملموسة دليلا على وجود شيء يستدعي الاهتمام

في السياق أيضا، تبدو تجربة كرة الزغب ذات دلالة تميزية أخرى[13]، إذ وُجِد أن الأطفال، حين تم اختبار ردود أفعالهم تجاه ثلاثة أنماط للكرة، كانوا يتفاعلون مع نمطين ويتجاهلون الثالث، فكانت الكرة في نمطها الأول تُصدر أصواتا وأضواء عند حركة/همهة الطفل، بينما كانت في النمط الثاني تفعل الشيء ذاته بالإضافة إلى احتوائها على ملامح بشرية، في حين أبدى الأطفال تجاهلا تاما للكرة ذات النمط الأخير، فاقدة الملامح، والتي كانت تُصدر الأصوات والضوء بصورة عشوائية دون تناغم مع أفعال الأطفال.

بهذه التجربة يستنتج “باريت” أن الأطفال، في سن مبكرة، لا يكونون قادرين فقط على تمييز العوامل الفاعلة وغائيتها، بل إنهم يعتبرون العلامات الملموسة -الصوت والضوء المتزامنين للكرة- دليلا على وجود شيء يستدعي الاهتمام، مما يعني أن العامل الفاعل لا ينحصر في البشر المرئيين فقط، وأن ثمة دلالات تنبّهنا لوجود فاعل غير مرئي قادر على صنع الأحداث. قد تبدو هذه الخاصية الفطرية كافية للتفكير في الإله، من خلال التأمل في الخلق، غير أن ميزة أخرى تجعل من الإيمان أكثر قربا من فطرتنا، وهي إصرارنا -منذ الطفولة- على اكتشاف الغاية والتصميم في العالم المحيط.

بعيدا عن العبث.. قريبا من الحكمة

في كتابه “ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث”، يؤصّل الباحث “سلطان العميري” للإيمان بوصفه ضرورة فطرية عقلية، ومن هذا أنه يقود -بالحدس المباشر والاستدلال- إلى الاعتقاد بغائية الكون ودقة نظامه وعدم عشوائيته، ومن ثم تكون الصدفة عاملا غير معتبر في النظر إلى نظامه الدقيق. من هنا يبرز البحث حول منبع حدسنا هذا وملازمته للفطرة، وما السبب الذي يدفع أطفالنا للفرح عند معرفة السبب الحقيقي لخرطوم الفيل أو الهدف من إحاطة الوردة بالأشواك.

ولتفسير الأمر، تخبرنا عالمة نفس النمو “ديبوراه كيليمين”، من خلال تجاربها، أن الأطفال يمتلكون نوعا من الشغف المُسمّى بشغف الغائية غير المميزة، وتعني بهذا أن الأطفال يجدون الغاية من وجود الأشياء بأقل قدر ممكن من الدليل، في الوقت الذي يجادل فيه الكبار بصورة أكثر عِنادا. ففي إحدى تجاربها[14]، وُضِع الأطفال أمام خلاف بين شخصين مُتخَيّلين، رأى أحدهما أن وجود النمور والجبال والبحار موجودة لهدف محدد، تماما كما يُصنع الجينز لهدف معروف، بينما جادل الثاني بأن وجودهم لا غاية منه.

بسؤال الأطفال، تبيّن أن ثلاثة أرباعهم قد أيّدوا الشخص الأول، على الرغم من أن آباءهم -الأميركيين- لم يهتموا بتعليمهم غايات الموجودات الطبيعية كما اهتموا بتلقينهم غايات الأشياء المصنوعة، بل إن الأطفال -عينة الدراسة- قد أظهروا ميلا كبيرا لتفسير الأشياء تفسيرا وظيفيا (الصخرة مدببة لكي لا تجلس عليها الحيوانات وتحطمها) على حساب التفسيرات الفيزيائية (هي مدببة لأن أجزاء من المواد تكدّست فوق بعضها لفترة من الزمن)، وهو ما يعني أن إيمانهم بغائية الأشياء فطري ومستقل عن تلقين البالغين.

وفي تجربة أخرى لعالم نفس النمو “جورج نيومان”[15]، تم اكتشاف نوع آخر من الإدراك الطفولي، ففي عرض كرتوني -أمام الأطفال- تم قذف إحدى الكرات بمضرب نحو عدد من اللبنات مما أدى إلى تساقطهم، غير أن الكرة عادت مرة أخرى لتعيد ترتيب اللبنات مما أظهر ملامح التعجب على ملامح الأطفال، وهي الملامح التي تبددت عند تكرار التجربة مع رسم ملامح بشرية على الكرة، الأمر الذي يشير إلى اعتقاد الأطفال بأن العوامل الطبيعية/الصامتة يمكنها تدمير الأشياء، بينما إعادة الترتيب -أو الصنع المرتب- لا تتأتّى إلا بفعل عاقلين ذوي أهداف من أفعالهم.

من كل هذا يمكننا القول إن الأطفال يبدون ما يمكن تسميته بـ “استجابة فطرية” تجاه المحدثات المنظمة، بإرجاعها إلى فاعل حكيم، بالإضافة إلى ما أثبتته دراسة “أوليفيرا بيتروفيتش”[16] على مجموعة من الأطفال البريطانيين، حين عرضت عليهم صورا لحيوانات ونباتات ومصنوعات خشبية وألعاب على شكل حيوانات، سائلة إياهم عن أي من هذه الأشياء يمكن أن يصنعه البشر، وكانت إجابات الأطفال مثالية في نسبة الجمادات -فقط- لصناعة البشر، الأمر الذي يعلّق عليه “باريت” قائلا “إن الأطفال، إذ يعون بقدرات البشر المحدودة على الصنع، يبدون أكثر استعدادا للإيمان بالله كصانع للعالم”.

غير أن “بيتروفيتش” لا تتركنا للتخمين والاحتمالات، فتعيد التجربة مع اختيارات ثلاثة تغلق دائرة الإجابات: (صنعها الله؟ صنعها البشر؟ لا أحد يعرف؟) لتأتينا النتيجة بأن سبعة من كل ثمانية أطفال يرون أن الله هو من أوجد المخلوقات الحية. وبالمثل طرح “كيليمين” و”دي ياني” أسئلة شبيهة على الأطفال من عمر 6-7 سنوات، فسألوهم في البداية بشكل مفتوح عن أصل ظاهرة طبيعية ما -إعصار مثلا- أو شيء طبيعي كالجبال، أو حيوان حي، فكانت إجابات الأطفال بأن الله أحدث شيئا طبيعيا ضعفي إجابتهم بأنها من صنع البشر، في حين بلغت النسبة ضعفين ونصف في حال إحداث الظاهرة الطبيعية، وخمسة وعشرين ضعفا عندما تعلق السؤال بخلق الحيوان.

وجدير بالذكر أن “أوليفيرا بيتروفيتش” تذكر أن مساعديها اليابانيين قد خالفوها رأيها في أصالة الإيمان عند الأطفال بدعوى أن اليابانيين يختلفون عن غيرهم في هذا الشأن، فعلّقت في لقاء صحفي أنها أجرت تجاربها ذاتها على أطفال يابانيين وبريطانيين، وكانت النتيجة واحدة، وأضافت أنه على الرغم من سيطرة الديانة الشنتوية في اليابان، والتي لا تعترف بإله، فإن الأطفال حينما واجهوا الخيارات الثلاثة المذكورة اختاروا “صنعها الله”، وهو ما اعتبرته أعظم اكتشاف في بحثها؛ لأنه يثبت أن البيئة لا تؤثّر على هذا الاعتقاد الفطري[8]، وهو ما ينفي الاعتراض بأن إجابات الأطفال نتيجة تلقين مجتمعهم.

 بمفارقة بسيطة للسياق، وتوسيعا لدائرة السؤال، يمكننا أن نسأل: هل يحمل الإنسان -في جميع مراحله- ذلك النزوع الفطري -القوي- للإيمان بالله؟

أما عن “قدرات الإله”، فإن الأطفال في تجربة للبروفيسور “بارت”[1] كانوا يرون شيئا مثيرا للانتباه، فعندما وُضِعت علبة مغلقة من البسكويت، تحتوي على حجارة بدلا من الحلوى، على طاولة لأطفال من عمر 3-4 سنوات، أجابوا -بسؤالهم عن محتواها- بأنها تحتوي على البسكويت، ثم أُعيدت صياغة السؤال، بعدما كُشِف عن محتواها: هل تعتقد أن الإله يعرف ما تحتويه العلبة من الحجارة؟ لتكون الإجابة بنعم، تماما كما أجابوا عن السؤال ذاته بتبديل الأم/الأب بدلا من الإله، ويُرجع “بياجيه”[1] تفسير الأمر هنا إلى أن الأطفال في هذا العمر لا يدركون الفارق بين معارفهم ومعارف غيرهم، إذ يرون أن كل حقيقة يكتشفونها هي بالضرورة معروفة لدى الآخرين.

في حين أن الأطفال من عمر 5 سنوات فيما فوق، أي في سن التمييز بين ما يعرفونه وما يعرفه غيرهم، قد أعلنوا أن الإله سيعرف محتوى العلبة بينما سيتفاجأ أي بشري آخر بمحتواها كما حدث لهم. وقد أُجريت التجربة ذاتها على يد “نيكولا نايت”[17] مع أطفال إحدى قبائل المايا، لكونها تدين بعقيدة مختلطة بين عقائد المايا وعقائد الكاثوليك، ليجد أن الأطفال ينسبون معرفة الشيء الخفي للإله القريب من إله الكاثوليك السماوي، دون آلهتهم الأخرى، الأمر الذي يرى “باريت” من خلاله أن إيمان الأطفال بالله الحكيم العليم، فطريا، ليس بالشيء العسير، متوافقا في ذلك مع نتيجة البحث المنشور بصحيفة “تليجراف” البريطانية “الأطفال يولدون مؤمنين بالله”[18].

الأمر بهذه القوة؟

“وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ”

[الأعراف: 172]

بمفارقة بسيطة للسياق، وتوسيعا لدائرة السؤال، يمكننا أن نسأل: هل يحمل الإنسان -في جميع مراحله- ذلك النزوع الفطري -القوي- للإيمان بالله؟ وفي معرض الإجابة، يعرّف “سامي عامري” الفطرة على أنها “ما ينعدم أو يعتل مفهوم الإنسان بانعدامه”[8]. ويرى “مرتضى فرج” أن البحث حول فطرية الإيمان يتبعه البحث في ظواهر ثلاث: البحث عن الله في الجنس البشري في كل زمان ومكان، ووجودية الإدراك الدائم بحضور الله في النفس، بالإضافة إلى توجه النفس -مدفوعة- نحو الخالق بإحساس الحاجة والافتقار[19].

وفقا لهذه الثلاثية، يقول اللاهوتي “أوغيسط ساباتييه”: “لماذا أنا متدين؟ إني لم أحرك شفتيّ بهذا السؤال مرة إلا وأراني مسوقا للإجابة عنه بهذا الجواب، وهو: أنا متدين لأني لا أستطيع خلاف ذلك؛ لأن التدين لازم معنوي من لوازم ذاتي. يقولون لي: ذلك أثر من آثار الوراثة أو التربية أو المزاج، فأقول لهم: قد اعترضت على نفسي كثيرا بهذا الاعتراض نفسه، ولكنّي وجدته يعقّد المسألة ولا يحلها”[20]. ومن هنا أتى قول “فولتير” الشهير: “لو لم يوجد الإله لكان من الضروري اختراعه”[21].

في السياق نفسه، تأتينا دراسة لمجموعة من الباحثين بجامعة “بريتش كولومبيا” لتؤكّد أن تفكير المتطوعين في الموت كان يجعلهم أكثر قبولا للقول بأن هذا الوجود قد خُلِق بحكمة، ولحكمة[22]. وهو ما تدور حوله، بصورة ما، “إليزابيث كينج” بمقالها في “واشنطون بوست” “أنا ملحدة، فلِمَ لا أستطيع أن أصرف الله عني؟”، فتقول: “من المحبط أن تشعر بوجود شيء لا تؤمن به… ومع أني لا أزال ثابتة على عدم الإيمان، إلا أني أشعر أيضا أنه لا خيار لي سوى قبول أنني ملحدة مع ميل إلى الله”[23].

هل بدا الأمر غريبا؟ طفل في الخامسة يرى أن تصور الكون دون الله أمرا مضحكا، ولاهوتي يكتشف أن إنكار الفطرة الإيمانية محض هراء، وصحفية ملحدة لا تتخيل تخلصها كليا من الميل إلى الله. لِمَ يحدث كل هذا؟ إليك إجابة السيد “جون كالفن”، الذي يعلل ذلك قائلا إن ثمة إحساسا، يسميه الإحساس الإلهي، يمنح الإنسان معرفة بالله وانجذابا إلى معنى الربوبية، بما يجعل وجود ملحد صِرف مجرد وهم، إذ إن شغف القلب بالحقيقة المتسامية عن المادة شغف أصيل بالنفس، والأمر يحتاج -فقط- كما يرى الفيلسوف “بلانتنجا” إلى حدوث التماس بين طبيعة الإيمان بالله (الكامنة في النفس) والعالم الخارجي، لتحدث استثارة هذا الإيمان للخروج من عالم القوة إلى عالم الفعل[8].

يقول “سامي عامري” إن الصياغة القرآنية أقرب إلى الخطاب التجريبي منها إلى الخطاب التجريدي

وهنا، كثيرا ما يفضَل باحثون باستدعاء الحديث النبوي الذي يرويه “البخاري”: “ما من مولود إلا يُولد على الفطرة وأهله إما يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”، وفي هذا يورد “أبو حجر العسقلاني”، في شرحه للبخاري، قول “الطّيبي” الذي يفسّر الفطرة هنا بـ “تمكّن الناس من الهدى في أصل الجبلّة والتهيؤ لقبول الدين، فلو تُرِك المرء عليها لاستمرّ على لزومها، ولم يفارقها إلى غيرها؛ لأن حس هذا الدين ثابت في النفوس، وإنما يُعدَل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد”. فالإيمان بالله “ليس مجرد معلومة أو فكرة، وإنما حاجة واتجاه”[24].

وعلى هذا النسق، يقول “عامري” إن الصياغة القرآنية أقرب إلى الخطاب التجريبي منها إلى الخطاب التجريدي، إذ تأمر الإنسان أن يعود إلى نفسه ليكتشف فيها جوهرة الإيمان العالقة بسويداء القلب، وهو قريب من قول “بيغوفيتش” في “الإسلام بين الشرق والغرب” عن الخطاب القرآني بأنه يدعو للطبيعة، عن طريق التأمل فيها، ومن ثم الاهتداء لخالقها، وهي التحليلات القائمة على الآية القرآنية: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].

كما يرى الباحث “عبد الله العجيري” في كتابه “شموع النهار” أن المرء لا يستطيع أن يكون ملحدا بالكلية لأن هذا سيقتضي -بالتبعية- إنكار كل الأمور المتجاوزة -كالأخلاق- وإنكار البدهيات الفطرية -كعدم اجتماع النقيضين-، لأن الإلحاد يقوم بالأصل على نقد المفهومين: الميتافيزيقيا المتجاوزة، والاستدلالات البدهية على وجود الله. وهو ما دفع الباحث “نوري فيتاشي” لكتابة مقال بعنوان: “اكتشف العلماء أنه ربما لا يوجد ملاحدة، وهذه ليست طرفة”[25]، والذي ينقل فيه عن أحد الكتّاب الملحدين قوله: “الإلحاد أمر مستحيل نفسيا بسبب الطريقة التي يفكر بها البشر”.

وفي بحث نشرته مجلة “Cognition” تحت عنوان “لماذا يحدث هذا لي؟” أبدى “الملاحدة” إجابات مشابهة لإجابات المؤمنين حول الصدمات أو الأحداث المهمة التي مرّوا بها، إذ ذهبت الأغلبية من الفريق الأول للتلاقي مع المؤمنين، إذ رأى الجانبان أن ما حدث لهم كان لحكمة ناتجة عن تصميم لا عشوائية عمياء[26]. غير أن التناقض الإلحادي الأبرز، كما يوضّح “عامري”، يظهر في ثورة الإنسان الملحد على الإله، خاصة عند المصائب الكبرى؛ لأنه يتعارض مع أصل إلحاده، الذي يرى أن الكون عشوائي، وأنه “لا معنى للمعنى في غيبة المعنى”[8]، فالإلحاد في أقصى مظاهر ثورته ورفضه للإله تعبير عن تنازع الإيمان بالله مع الواقع المرفوض؛ ذلك لأن امرءا عاقلا لا يمكنه أن يثور على العدم.

كذلك، كما يرى الباحث في شؤون الإلحاد “عبد الله الشهري”[24]، فإن الكثيرين لا يدركون أن افتراض الملحد لمفاهيم كالخبرة الذاتية والفطرة هو افتراض مبني على فهم مغلوط للعقل نفسه؛ إذ يزعم أن خبراتنا الذاتية تنتمي إلى شيء خارجه، بينما التصور الصحيح لهذا يقضي بأن مطالب العاطفة واتجاهات الوجدان مُضمّنة في عمل العقل وعملية اتخاذ القرار، ومعنى هذا أن الملحد عندما يتخذ قرار إلحاده فإنه يكون قد استجاب لتفكير يقوده مطلب عاطفي ما، وليس لمنطق خالص أو فكر محض.

وهو ما أكّده عالم الأعصاب “أنطونيو داماسيو”[24] حين قال إنه لا وجود لشيء اسمه فكر من غير أساس عاطفي، وهو ما يتلاقى -وفقا “للشهري”- مع التصور القرآني النبوي للعقل، إذ يراه أكبر من احتجازه في الدماغ، وأنه حصيلة لاتصال المرء مع مطالبه كلها، لذا يكمل “الشهري” قائلا: “أزعم أن سؤال الفطرة يعود مجددا مع التصور الكامل للعقل، وأزعم أن الملحد عندما يتخذ قرار إلحاده فإنه يقوم بذلك بعد تحييد إملاءات المكون الوجداني في عقله ليفسح لما يتصور أنه الفكر المحض”.

وأكبر دليل على ذلك -كما يضيف- هو عودة كثير من الملاحدة إلى الإيمان، متقاربا في ذلك مع “جستون باريت” في دفاعه ضد من يرون الإيمان في الصغر امتدادا للخرافات التي يصدقها الأطفال، كوجود الوحوش أو بابا نويل إلخ، إذ يقول “باريت” أنه لو كان ذلك صحيحا، فلماذا تختفي الخرافات كلها من أذهاننا بتقدم العمر ولا يختفي الإيمان؟ الأمر الذي يدفعنا لاستحضار سؤال “الشهري” حول العائدين من الإلحاد إلى الإيمان، فنقول على قوله: هل يُتصوّر يا تُرى أن العائدين كانوا قد استأصلوا داعي الفطرة بقرار إلحادهم الأول؟ أم أنهم عادوا للإيمان نتيجة لرفعهم حظر التحييد عنه واتصلوا بالفطرة من جديد؟

————————————————–

الهوامش:

أ – السبر والتقسيم: هي طرق في استنباط العلة من النص الشرعي من أجل استعمالها في القياس الفقهي.

والسبر: هو اختبار الوصف في صلاحيته للتعليل من عدمها، بينما التقسيم: هو حصر الأوصاف المحتملة للتعليل لاختيار العلة من بينها.

ب- تم الاستفادة في التقرير من الدراسات الواردة في كتاب “فطرية الإيمان لـ”جستون باريت”، ومن بعض مصادر ودراسات كتابي “براهين وجود الله” لـ “سامي عامري”، و”الإجماع الإنساني” لـ “رضا زيدان”.

(المصدر: ميدان الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى