ثورة مسلمي الأندلس 1568م ودعم الدولة العثمانية لها

ثورة مسلمي الأندلس 1568م ودعم الدولة العثمانية لها

بقلم د. علي الصلابي

كانت حركة الجهاد في الشَّمال الأفريقي قد شجَّعت مسلمي الأندلس، وفجَّرت طاقاتهم الكامنة، وجعلتهم يتغلَّبون على الحواجز النَّفسيَّة الَّتي بنيت في نفوسهم على مرِّ السِّنين، وسادت الأقاليم الإِسبانيَّة موجةٌ من الظُّلم، والإِرهاب، والفظائع، فهذه الحالة المربكة، وما صاحبها من مظالم، وويلاتٍ، جعلت بقيَّة مسلمي إِسبانيا في الجنوب ـ سواءٌ من الَّذين ظلُّوا محافظين على دينهم، أو المتنصِّرين ظاهريَّاً ـ يتأهَّبون للانقضاض على الحكم الإِسباني.

سادت إِسبانيا إِرهاصاتُ ثورة المسلمين في غرناطة، فشكَّل الملك الإِسباني فيليب الثاني نوعاً جديداً من الميلشيات تقيم في كلِّ مدينةٍ من مدن إِسبانيا لمواجهة الثَّورة بين الَّذين استقبلوا مبعوثين من ملك فاس لجمع الخراج على تبعيَّتهم في الولاء لسيادة الأمير السَّعدي، كما تلقَّى مسلمو الأندلس مساعداتٍ عثمانيَّة ، وأصبح الموقف صعباً بالنِّسبة لإِسبانيا خاصَّةً غرناطة، وممَّا زاد الحالة خطورةً: أنَّ بحرية فيليب الثَّاني كانت متفرِّقةً في أنحاء بعيدةٍ، وحصونه غير معزَّزةٍ، والسَّواحل مكشوفةٌ، خاصَّةً الشواطئ الجنوبيَّة موقع المجاهدين.

وبعد أن أعيت النَّصارى كلُّ الوسائل للقضاء على الرُّوح الدِّينيَّة لمسلمي الأندلس، وتحويلهم للمسيحيَّة لجؤوا إِلى العنف، فحرَّموا على المسلمين التحدُّث بالعربيَّة، والاتِّصال بالمسلمين في الشَّمال الأفريقي، وفي بعض أقاليم إِسبانيا، كما حرَّموا على النِّساء الخروج إِلى الشَّوارع متحجِّباتٍ، وقفل أبواب دورهم، وتحطيم الحمَّامات، وإقامة الحفلات حسب تقاليدهم، كلُّ ذلك فجَّر الثَّورة، وقاد مسلمي الأندلس إِلى حرب البورشارات الَّتي هي أهمُّ حربٍ، أو ثورةٍ مسلَّحةٍ قام بها المسلمون بعد سقوط غرناطة، كانت هذه الحرب في 1568م، وتزعَّمها محمَّد بن أميَّة.

خيانة السُّلطان السَّعدي الغالب بالله لمسلمي الأندلس:

بذل السُّلطان السَّعدي الغالب بالله الوعود المعسولة لرسل الثُّوار البورشارات، ووعدهم بالنَّصر، وتقديم كلِّ ما يحتاجونـه من عتـادٍ، وسلاحٍ، ورجالٍ… لكن استمر الغالب بالله محافظاً على روابطه الودِّية مع فيليب الثَّاني، وعمل على خذلان أهل الأندلس: (وأمَّا أهل الأندلس وغشُّه لهم، وتوريطهم للهلكة في دينهم، وأموالهم، وأولادهم، وفي نـفوسهم فأمرٌ مستعظمٌ عند جميع من في قلبـه ذرةٌ من الإِيمان، وأدنى ملكةٍ من الإِسلام، وذلك أنَّه لمَّا احتوى عليهم النَّصرانيُّ، وأخذ جميع أراضيهم، وشملها سلطانه؛ بقي المسلمون بضع سنين تحت الذِّمَّة والذِّلَّة، فقهروهم بكثرة المكس، فصاروا يكتبون إِلى ملوك المسلمين شرقاً وغرباً، وهم يناشدوهم الله في الإغاثة، وأكثر كتبهم إِلى مولاي عبد الله؛ لأنَّه هو القريب إِلى أراضيهم، وكان قد قوي سلطانه، وصحَّت أركانه، وجُنِّدت أجناده، وكثرت أعداده، بأن يقوموا على النَّصارى ؛ ليثق بهم في قولهم، ويظهروا فعلهم، فلمَّا قاموا على النَّصارى؛ تراخى عمَّا وعدهم به من الإغاثة، وكذب عليهم، وغشَّاً منه لهم، ولدين الله عزَّ وجلَّ، ومصلحةً لملكه الزَّائل، وكانت بينه وبين النَّصارى مكاتباتٌ في ذلك، ومراسلاتٌ، وأنَّه استشار معهم، وأشار عليهم أن يخرجوا أهل الأندلس إِلى ناحية المغرب، وقصده بذلك تعمير سواحله، ويكون لهم بمدينتي: فاس، ومراكش جيشٌ عظيم ينتفع به في صالح ملكه).

تسارعت الأحداث في إِسبانيا، وبلغ عدد المجاهدين في أوائل سنة 976هـ/1569م أكثر من مئة وخمسين ألفاً، وصادف تلك الثَّورة صعوباتٌ كبيرةٌ بالنِّسبة للحكومة الإِسبانيَّة؛ إِذ كانت غالبية الجيش متقدِّمةً مع دوق البابا في الأراضي المنخفضة، وأثبتت الدَّوريات البحريَّة: أنَّها غير قادرةٍ على حرمان الثُّوار المسلمين من الاتصال بالعثمانيِّين في الجزائر.

قلج علي يقف موقف الأبطال مع مسلمي الأندلس:

كان قلج علي على اتِّصال مباشرةً بقيادة مسلمي الأندلس عبر قنواتٍ خاصَّةٍ، أشرف عليها جهاز الاستخبارات العثمانيَّة، واستطاع هذا القائد أن يمدَّ الثُّوار في إِسبانيا بالرِّجال، والأسلحة، والعتاد، وتمَّ الاتفاق مع مسلمي الأندلس على القيام بثورةٍ عارمةٍ في الوقت الَّذي تصل فيه القوَّات الإِسلاميَّة من الجزائر إِلى مناطق معينة على السَّاحل الإِسباني.

جمع قلج علي جيشاً عظيماً قوامه أربعة عشر ألف رجلٍ من رماة البنادق، وستون ألفاً من المجاهدين العثمانيِّين من مختلف أرجاء البلاد، وأرسلهم إِلى مدينتي: مستغانم، ومازغران استعداداً للهجوم على وهران، ثمَّ النُّزول في بلاد الأندلس، وكان يرافق ذلك الجيش عددٌ كبيرٌ من المدافع، وألف وأربعمئة بعيرٍ محمَّلةٌ بالبارود الخاصِّ بالمدافع، والبنادق.

وفي اليوم المتَّفق عليه وصلت أربعون سفينةً من الأسطول العثماني أمام مرسى المرية الإِسباني، لشدِّ أزر الثَّورة ساعة نشوبها، لكن أخفق ذلك المخطَّط، وذلك بسبب سوء تصرُّف أحد رجال الثورة الأندلسيِّين ؛ إِذ انكشف أمره، فداهمه الإِسبان، وضبطوا ما كان يخفيه من سلاح، بعد أن نجح قلج علي في إِنزال الأسلحة، والعتاد، والمتطوِّعين على السَّاحل الإِسباني، لم تقع الثَّورة في الموعد المحدَّد لها، وضاعت بذلك فرصة مفاجأة الإِسبان.

لقد قام قلج علي في شعبان سنة 976هـ/ يناير سنة 1569م ببعث أسطول الجزائر لتأييد الثائرين في محاولتهم الأولى، وحاول إِنزال الجند العثمانيِّ في الأماكن المتَّفق عليها، لكنَّ الإِسبان كانوا قد عرفوا ذلك بعد اكتشاف المخطَّط، فصدُّوا قلج علي عن النُّزول، وكانت الثَّورة في عنفوانها، وزوابع الشِّتاء قويَّةٌ في البحر، فالأسطول الجزائري صار يقاوم الأعاصير من أجل الوصول إِلى أماكن أخرى من السَّاحل ينزل بها المدد المطلوب، إِلا أنَّ قوَّة الزَّوابع أغرقت 32 سفينة جزائريَّة تحمل الرِّجال والسِّلاح، وتمكَّنت ستُّ سفنٍ من إنزال شحنتها فوق سواحل الأندلس، وكان فيها المدافع، والبارود، والمجاهدون.

استمرَّ قلج علي في إِمداد مسلمي الأندلس رغم الكارثة الَّتي حلَّت بقوَّاته، وتمكن ذلك المجاهد الفذُّ من إِنزال أربعة آلاف مجاهدٍ من رماة البنادق مع كمِّيَّةٍ كبيرةٍ من الذَّخائر، وبعضٍ من قادة المجاهدين العثمانيِّين للعمل في مراكز قيادة جهاد مسلمي الأندلس.

وعاد العثمانيُّون، فأرسلوا دعماً جديداً من الرِّجال، والسِّلاح، وإِعانةً للثَّورة الأندلسيَّة، فصدرت الأوامر إِلى قلج علي بذلك في 23 شوال 977هـ/31 مارس 1570م (… عليك بالتنفيذ بما جاء في هذا الحكم حال وصوله، وأن تعاون أهل الإِسلام المذكورين بكلِّ ما يتيسَّر تقديمه لهم، وأنَّ الغفلة عن المسلمين الذين أصابهم الدَّمار غير جائزة…) وكان القائد المجاهد قلج علي قد عزم على الذَّهاب بنفسه ليتولَّى قيادة الجهاد هناك، لكن ما شاع عن تجمُّع الأسطول الصَّليبي للقيام بمعركةٍ حاسمةٍ مع المسلمين، وأمر السُّلطان العثماني له بالاستعداد للمشاركة في هذه المعركة جعله مضطراً للبقاء في الجزائر منتظراً لأوامر إستانبول.

وفي غمرة الثَّورة الأندلسيَّة اتُّهم زعيم الثَّورة ابن أميَّة بالتَّقاعس عن الجهاد، وهاجمه المتآمرون، وقتل في منزله، واختير مولاي عبد الله بن محمَّد بن عبو بدلاً منه، وبعث قلج علي تعزيزاتٍ له، ونجح الزَّعيم الجديد في حملاته الأولى ضد النَّصارى الإسبان، وطوَّق جيشه مدينة «أرجيه».

انزعجت الحكومة الإسبانيَّة لهذه التَّطوُّرات، وعيَّنت «دون جوان» النِّمساوي على قيادة الأسطول الإسباني (وهو ابن غير شرعي للإمبراطور شارل) فباشر قمع الثَّورة في سنواتها 977 -987هـ/1569 – 1579م، وأتى من الفظائع ما بخلت بأمثاله كتب الوقائع، فذبح النِّساء، والأطفال أمام عينيه، وأحرق المساكن، ودمَّر البلاد، وكان شعاره: لا هوادة! وانتهى الأمر بإذعان مسلمي الأندلس، لكنَّه إِذعانٌ مؤقَّت؛ إِذ لم يلبث مولاي عبد الله أن أعاد الكرَّة، فاحتال الإسبان عليه، حتّى قتلوه غيلةً، ونصبوا رأسه منصوباً فوق أحد أبواب غرناطة زمناً طويلاً.


مراجع:

– علي محمّد الصلابي. الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط، الطبعة الأولى 2003م، ص (205: 208).
– إبراهيم شحاتة، أطوار العلاقات المغربيّة العثمانيّة، منشأة المعارف، الإِسكندريَّة، الطَّبعة الأولى، 1980م، ص.ص 179 – 204.
– أحمد توفيق مدني، حرب الثلاثمئة سنة بين الجزائر وإسبانيا، الطَّبعة الثَّانية، 1984م ، ص (392- 393 – 394 – 395).
– عبد العزيز الشِّنَّاوي، الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها، مكتبة الأنجلو المصريَّة، مطابع جامعة القاهرة، عام 1980م. (2/926).
– محمَّد قشتيلو، محنة المورسيكوس في إسبانيا، مطبعة الشُّويخ، تطوان، الجزائر، 1980م ، ص (33 – 34 – 35).
– نبيل عبد الحي رضوان، جهود العثمانيِّين لإِنقاذ الأندلس في مطلع العصر الحديث، مكتبة الطَّالب الجامعي، الطَّبعة الأولى 1408ه، 1988م، ص (398 -400).

(المصدر: ترك برس)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى