تقارير وإضاءات

تقرير: المسلمون في الهند .. عقبة مانعة أم قوة دافعة

المسلمون في الهند .. عقبة مانعة أم قوة دافعة

بقلم عاطف معتمد عبد الحميد – الجزيرة

حين تتقدم أية أمة في التاريخ لتنازع على احتلال مرتبة الدولة العظمى فإن هذا يعني أنها قد حسمت بالفعل أمرها حيال مجموعتين من العوامل. الأولى تجسدها عوامل القوة الخارجية من اقتصاد معافى، وقوة عسكرية قاهرة، ورسالة أيديولوجية قادرة على غسل القلوب والأدمغة وشحنها بحزمة من الآمال والتطلعات. ولا تصبح لهذه العوامل فاعلية إلا بعد أن تكون الدولة قد أمسكت بزمام المجموعة الثانية من العوامل والتي تمثلها مصادر القوة الداخلية، وفي مقدمتها رقعة جغرافية واسعة تضم تنوعا من الثروات والمواد الخام، وقوة ديموغرافية متجددة تتألف من جماعات بشرية طموحة ومتجانسة.

ليست هناك أمة في العالم كاملة التجانس العرقي والديني واللغوي، فالأمم “النقية” وهم كبير في خريطة العالم السياسية، ولم تنشأ مثل هذه الأمم حتى بجهود مجرمي الحرب ممن اخترعوا المحارق والمقابر الجماعية والتطهيرالعرقي والإبادة.

وفي كثير من الأمم ثمة جماعات بشرية يشار إليها دوما باسم “الأقليات”. وتعاني هذه الأقليات، عبر قارات العالم الست، من تاريخ مضطرب، وحاضر قلق، ومستقبل غامض. وليست حالة الأقلية المسلمة في الهند استثناء.

مصطلح الأقلية شائك للغاية، وهو مرفوض من لدن أية جماعة توصف به، والمسلمون في الهند قد يكونون أقلية من حيث العدد (14 % من إجمالي السكان) لكن التاريخ يشهد بأنهم قد وصلوا مبكرا إلى الهند من ناحية إقليم السند (باكستان اليوم) في أواخر القرن الأول الهجري (مطلع القرن الثامن الميلادي) أي تقريبا في ذات الوقت  الذي بدأ فيه فتح الأندلس.

كان الإسلام قد وصل قبل ذلك بطرق تجارية ودعوية منذ سنوات الإسلام الأولى عبر مدخل كيرلا في جنوب غرب الهند، التي كانت مقصدا للتجارة العربية قبل الإسلام والتي تحملا اسما محورا عن الأصل العربي (خير الله) في دلالة بالغة على تباين البيئة الصحراوية المعدمة والأرض الموسمية المليئة بالخيرات.

لمحة من التاريخ

الهند مثلها مثل إسبانيا، تحتفظ بتراث إسلامي لغوي وسياسي وسياحي يمثل جزءا من هويتها الثقافية على المستوى العالمي. لم يأت المسلمون إلى الهند ليعيشوا على أطراف البلاد أو ليعبروا مع العابرين. ففي القرن العاشر الميلادي تمكن محمود غزنوي من الانطلاق من أفغانستان ليضم إقليم البنجاب لدولته الكبرى، وكانت فتوحاته المهيبة في غرب الهند تمهيدا لسيطرة الحكم الإسلامي في القرن الثاني عشر الميلادي.

خلال تلك القرون الطويلة سميت الهند في كتب الرحلات والأسفار بـ “قرص عسل النحل” المتشابك في حلقاته الثقافية ؛ موطن للتعدد الديني والعرقي واللغوي، ومثال حي للتنوع داخل الوحدة. كانت الهند دولة “عش ودع غيرك يعش” ووطنا رفع شعار “تقبل الآخر كي يتقبلك”، كما تم تصويرها كأرض أنتجت حكما وتجارب في التعايش، وفي مقدمتها تلك الحكمة القائلة “إذا كنت تعيش في سكينة وأمن فصل لربك كي ينعم جارك بما تنعم به”.ستة قرون تلت ذلك التاريخ خضعت فيها الهند لحكم إسلامي في معظم فترات تلك الحقبة (من نهاية القرن الحادي عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر) وتشكلت صورة الهند عالميا عبر حكامها المسلمين من الغوريين والخلجيين وآل تغلق والمغول، الذين لم يتركوا الساحة للاحتلال البريطاني إلا في منتصف القرن التاسع عشر.

في كتابه “اكتشاف الهند” يعكس جواهر لال نهرو موقف الهندي المعتدل من الحكام المسلمين حين يقول “في التاريخ الهندي أبطال سعوا إلى توحيد الهند وحمايتها، وفي مقدمتهم “أشوكا، كبير، جورو ناناك، الأمير خسرو، جلال الدين أكبر، وغاندي”.  جلال الدين أكبر مثله مثل غاندي لدى نهرو، فكلاهما بطل قومي أحدهما مسلم والآخر هندوسي. أما أورانكزيب، فقد رآه نهرو “حاكما متعصبا أدت سياساته إلى إدارة عقارب الساعة إلى الخلف”.

هناك عدة أماكن في الهند بوسعها اختزال تاريخ طويل من التطور الثقافي والسياسي الذي تركه الإسلام في الهند. هل يمكنك فهم بانوراما الاستعمار البريطاني دون أن تمر على مومباي؟ هل بوسعك إدراك قوة السلطة المركزية لدى أمراء الهند دون التنقل بين قصور وقلاع راجستان وجايبور؟ وبالمثل، هل تفهم الهند سياسيا وثقافيا و”دمويا” إذا لم تزر معبد السيخ الذهبي في أمريتسار؟ وحتى إن فاتك كل ما مضى، هل يمكنك الولوج إلى قصة الإسلام في الهند دون أن تشرع من نقطة البداية في تاج محل؟

يقع تاج محل على نهر صغير ينساب وينعطف بهدوء ويعرف باسم يامونا، على ضفتي يامونا تخليد لذكرى شخصيتين بارزتين في تاريخ الهند، فالتاج يخلد حاكم الهند الأشهر شاهجهان وعلى الضفة المقابلة تترامى قلعة حمراء تضم سجنا صغيرا آل إليه مصير شاهجهان بعد أن انقلب عليه ابنه أورانكزيب وانتزع الحكم منه ثم أودعه السجن قبل أن يصفى إخوته المتنازعين معه على سلطنة دلهي.
بين ضفتي نهر يامونا يتوزع حب الهندوس وكراهيتهم للحكام المسلمين، ضريح جلال الدين أكبر، وتاج شاهجهان يحظيان بتقدير الهندوس كرمزين للتسامح والتقارب بين المسلمين والهندوس، بينما لا يستحضر الهندوس اسم أورانكزيب -الذي يراه المؤرخون السلفيون ورعا تقيا نصر الدين وذب عنه الهرطقات الهندوسية- إلا مرفقا باللعن والهجاء.

التركة التاريخية التي تركها المسلمون في الهند تعرضت لمحنة بالغة حين بدأ تقسيم الهند في عام 1947. في ذلك العام  شب صراع دموي على “الجغرافية المقدسة” للبلاد، وذلك بعد ان أفضى الاستقلال إلى تكوين دولة إسلامية في فضاء جغرافي يسميه القوميون في الهند بـ”التراب الهندوسي المقدس”، حيث قامت باكستان (الغربية آنذاك) في ذات الأرض التي جاءت منها واستقرت فيها قبائل الفيدا الهندوسية التي استعمرت السبتا سند (Saptasindhus) أو أرض الأنهار السبعة.

لم يكن التقسيم طلاقا سعيدا بلا مناوشات على نحو ما شهدته سلوفاكيا وتشيكيا، بل كان انفصالا قائما على “تدنيس” المقدس الهندوسي. ومنذ ذلك العام تبلور خطاب تحريضي في المدارس الدينية الهندوسية والتجمعات القومية وعدد كبير من المؤسسات السياسية والإعلامية الهندية محذرا من المخاطر التي تهدد الأمن القومي الهندي بعد زرع تلك الخلية “السرطانية” التي تمثلها دولة إسلامية متطرفة اسمها “باكستان” والتي اقامها أحفاد المستعمرين من سلاطين الهند الذين لا يختلفون -بحسب هذا الخطاب- في سلبهم ونهبهم واستعبادهم عن لاحقيهم من البريطانيين.

بل إن هذه الدولة الاستعمارية المسماة باكستان -يمضي الطرح الهندوسي- لم تكتف باقتطاع جزء غالٍ من جسد الهند فحسب، بل وتسعى ليل نهار لتأليب المسلمين الذي بقوا في الهند، بعد التقسيم، ضد دولتهم؛ وتعمل على استغلالهم كطابور خامس لتفكيك وحدة الأراضي الهندية.

هكذا تحولت الهند من فضاء شهد ميلاد ثقافة  الأهيمسا (اللاعنف) إلى ساحة حرب طائفية بين الهندوس والمسلمين، وتمت المبالغة في الوزن الديموغرافي والجغرافي للمسلمين حتى بدوا وكأنهم يهددون ثاني أكبر دول العالم سكانا. ووجد المسلمون أنفسهم تحت رحمة التيارين السياسيين الرئيسيين في البلاد: العلماني والقومي. 

حين تتدين القومية

نقطة البدء في تتبع التحول الذي شهدته العلاقات الهندوسية الإسلامية يكمن في ظهور حركة عالمية اسمها القوميات المتدينة (Nationalism Religious).

ظهرت القومية المتدينة في الهند، كغيرها من بقية دول العالم، نتيجة لعوامل متعددة أهمها مقاومة الاستعمار، وأزمة الهوية، والصراع مع الدولة العلمانية، ومقارنة أوضاع الأغلبية بالامتيازات التي قد تحصل عليها الأقليات، والغزو الفكري الخارجي، وطموحات مناطق الأطراف في صراعها مع المركز، والمشروعات الانفصالية ضد وحدة الدولة.لقد عرفت الهند قبل التقسيم الأنواع الناعمة من القومية، كالقومية المدنية التي لا تتعاطف مع التوجهات العرقية أو الدينية، والتي تنظر بمساواة إلى مختلف شرائح المواطنين في ظل حقوق المواطنة. لكن بعد الانفصال والتقسيم شقت القومية العضوية لنفسها طريقا ساعية إلى ربط مصير الدولة بالانتماء العضوي الهندوسي وزاوجت بين التعصب القومي والاستعلاء الديني.

جاءت حركة القومية المتدينة في خضم تكون عدد كبير من المنظمات ذات الصبغة الطائفية ( بما فيها الهندوسية والاسلامية والسيخية ) والتي يزيد عددها اليوم عن 500 منظمة، بعد أن كان عددها لا يتجاوز عشر منظمات في عام 1951 . وبينما كانت المناطق المصنفة كبؤر توتر طائفي لا تزيد عن 60 منطقة ارتفع هذا الرقم منذ مطلع الثمانينيات إلى 250 منطقة من أصل 350 منطقة في الهند. وجاء ذلك بشكل أساسي نتيجة استغلال الأحزاب السياسية لعواطف الأغلبية الهندوسية وتنافسها فيما بينها للمزايدة على المسلمات لكسب أصوات الناخبين.

نشأت القومية الهندوسية مبكرا في بداية القرن العشرين، كشكل من أشكال المقاومة الثقافية للتغريب والاستعمار البريطاني، وجاء أعضاء هذه القومية في تلك الفترة من البراهمة وهي الطبقة المسيطرة سياسيا وثقافيا، ولم تكن حركة القومية الهندوسية في تلك الفترة تطمح سوى إلى تحرير الهند من الاستعمار ولم تكن ذات توجهات معادية للمسلمين.

تصنف القومية الهندوسية سكان الهند إلى ثلاث فئات: الأولى تضم الهندوس عرقا وثقافة ودينا وهم أبناء الهند الأصليون. والثانية تشمل المنشقين عن الديانة الهندوسية ويمثلهم السيخ والبوذيون.
أما الثالثة فتجمع أبناء “المحتلين الغزاة” الذين تخلفوا حينما رحل المستعمرون أو سقطوا، ويمثلهم المسلمون والمسيحيون ومن اعتنق ديانتهم من الهندوس ، وهؤلاء هم الأعداء الحقيقيون للأمة الهندوسية بوصفهم أذناب الاستعمار.

وتتبنى القومية الهندوسية أيديولوجية “الهندوتفا” (Hindutva)، التي يعود عمرها لنحو قرن من الزمان. يقصد بالهندوتفا مركبا متكاملا من القواسم الدينية والثقافية والانتماء لأرض واحدة وملامح اجتماعية متشابهة ومستقبل تسود فيه قيم الديانة الهندوسية على غيرها من الديانات، وتسترد مجدها القديم الذي “دنسه” المسلمون والمسيحيون والسيخ.

أما الأهداف التي تسعى إليها الهندوتفا فتتمثل في غايتين: كسب الأتباع يوما بعد يوم، وبصفة خاصة على مستوى القرية والمجتمع الريفي البعيد عن “ملوثات” الفكر العلماني الناقد للتعصب القومي المتدين. والثاني استهداف الأقليات الدينية من المسلمين والمسيحيين وحملهم على هجرة البلاد وإرهاب من يفكر في اعتناق دينهم من الهندوس.

الشعار الذي ترفعه الهندوتفا في وجه المسلمين هو “باكستان يا قبرستان” أي على المسلمين – الذين يقترب عددهم في الهند من 170 مليون نسمة- أن يرحلوا غير مأسوف عليهم إلى باكستان و إن بقوا فعليهم تحمل مسؤولية المصير الذي سيلقونه حين يحفرون قبورهم بأيديهم في الهند. هي إذن سياسة إقصاء وتطهير كاملة الملامح.

ولكي تتمكن حركة القومية الهندوسية من لم شمل الطوائف والفئات المختلفة فقد سعت إلى توحيد منزلة الآلهة بعدما كان هناك ترتيب هرمي يجعل إلها أعلى منزلة من آخر. هكذا تم تمجيد الإله شيفا كبير آلهة الطوائف الشيفية ورفعت مكانته إلى مكانة الإله كريشنا أكثر الإلهة شهرة وأعلاها منزلة لدى طوائف الفيشنافاس (Vaishnavas).وفي مجتمع هندوسي يتخذ من القرود والأفيال والأبقار آلهة، ويُصنف الناس فيه إلى فئات عليا ووسطى وطبقات منبوذة بقدر إلاهي، يفتخر المسلمون بديانة التوحيد وعبادة “إله واحد لا شركاء له” جعلتهم جميعا سواسية كأسنان المشط. في المقابل تفتقر الديانة الهندوسية،التي يعود عمرها إلى5.000 سنة، إلى بناء سلطوي مركزي علي غرار بابوية الكنيسة أو لإله واحد تلتف حوله جماهير الهندوس. فهوية الهندوسية مشتتة ومتفرقة بين طوائف ومعتقدات مختلفة تمت شخصنتها حول عدد بعينه من الآلهة ومن القديسين ذوي المكانة في التاريخ الهندوسي القديم والحديث.

وسعت القومية الهندوسية عن طريق ذلك إلى توسيع نفوذها بضم كافة أتباع الديانات الأخرى التي ولدت علي الأراضي الهندية كالجانية والسيخية والبوذية. كما تم تمجيد زعماء كل الديانات المنبثقة من الهندوسية مثل المها فيرا Mahavira (بطل الديانة الجانية) وبوذا، وجورو جوبند سينغ، آخر زعيم للسيخ وقائدهم العسكري والذي تميز مثله في ذلك مثل الزعيم السيخي  باندا بايراجي Banda Bairagi بقضاء حياته في صراع ضد الحكام المغول المسلمين.

أما الطبقات المتدنية من الهريجان Harijans أو الطبقات المجدولة (المعروفة سابقا باسم المنبوذين) فقد لقيت الاعتراف من خلال تمجيد “فالميكي” الكاتب الأسطوري لملحمة الراميانا والذي تمت ترقيته مؤخرا إلى مصاف القديس الراعي للهريجان.

استمر تلاعب السياسة بالدين حتى النهاية، ففي عام 1998 حين تمكنت الهند من اجراء  خمس اختبارات نووية (تجارب بوخران 2) وصار مؤكدا ان هناك قنبلة “هندوسية” تمتلكها “هندوستان” في مقابل القنبلة “الإسلامية” التي تمتلكها “باكستان”، اقترحت منظمة المجلس الهندوسي العالمي VHP حمل بعض تراب بوخران كتربة مقدسة ووضعه في وعاء مقدس والسير به في حملة شعبية عبر أرجاء البلاد ليتبرك به الجميع. كما اقترحت نفس المنظمة بناء معبد للقنبلة في ذات المكان الذي تم فيه إجراء التجارب الخمس.

كانت كلمة الختم الفاصلة اعتبار أرض الهند الإلهة الأم Mother India  لكافة الطوائف، وقد أنجبت هذه الأم إلها حيا Living God  هو الأمة الهندوسية. كما تم اعتبار كل آلهة وأبطال الماضي والحاضر أبناء لهذه الأم الإلهة. بهذه الطريقة وجدت القومية الهندوسية في “الهند الأم” إلاها واحدا إزاء إله المسلمين الواحد.

ومن البعد الميتافيزيقي إلى الممارسة على أرض الواقع ترجمت الهندوتفا مشروعها بتدمير المسجد البابري في 1992بدعوى إقامته على أنقاض معبد الإله رام.

استمدت الهندوتفا مبرراتها من مصادر “تراثية”، بعض منها عربي على غرار رحلة بن بطوطة التي تشير في غيرما مرة إلى المساجد التي كانت سابقا معابد. في مخطوطة الرحلة يقول بن بطوطة واصفا جامع دهلي الكبير: “…وعند الباب الشرقي من أبواب المسجد صنمان كبيران جدا من النحاس، مطروحان بالأرض قد ألصقا بحجارة (المسجد). ويطؤهما كل داخل الى المسجد أو خارج منه. وكان موضع هذا المسجد بدُخَانة، وهو بيت الأصنام. فلما افتتحت جعل مسجدا”.

لم يكن الأمر ليقف عند تدمير المساجد تحت دعوى أنها كانت معابد سابقة بل تحول منهج الهندوتفا إلى حملة دموية كان أبرزها ما وقع في السابع والعشرين من فبراير/شباط 2002 حين قام المتطرفون الهندوس باستهداف المسلمين في ولاية غوجرات فتمكنوا من قتل وحرق 2000 مسلم وطرد وتشريد 200.000 آخرين.

المشاهد التفصيلية لعملية المحرقة من تمثيل بالجثث وإرهاب للسكان بكافة الأسلحة البدائية والحديثة (من سيوف واسطوانات غاز ومحارق جماعية واغتصاب علني) لا تضاهيها أية أشكال أخرى، وتبدو أساليب التطهير التي قام بها صرب البلقان ضد المسلمين بالمقارنة معها متواضعة جدا.

خلال شهر فبراير/شباط الأسود في غوجرات لم تنج المساجد والأضرحة من الإحراق والهدم، لقد كانت الكاسحات الضخمة تهدم المساجد وكأنها تنفذ أمرا حكوميا ضد مبان مخالفة للقانون، كثير من المساجد اقتحم ونصبت “الأصنام” الهندوسية في محاريبه، أو علقت عليها صور للآلهة الهندوسية في الداخل والخارج.

وعلى محور آخر تمكنت تيستا سيتالفاد إحدى الناشطات في منظمة محلية للمرأة من زيارة مسجد بابان شاه في قرية سوامي ناريانا شاوال أثناء أعمال العنف في غوجرات وكتبت في تقريرها تقول “لم يتعرض القرآن لتمزيق صفحاته والدوس عليه فحسب، بل كان لدى البرابرة الوقت الكافي للتغوط عليه! “.وقد سجلت أحداث غوجرات منعطفا هاما لدور الشرطة في المجتمع الهندي، فقد بات معروفا أن جهاز الشرطة في الولاية شارك مع المتطرفين سواء بإطلاق النار على المسلمين أو بمنعهم من الخروج من القرى المحترقة أو بحبس بعضهم وضربه حتى الموت. كما تعمد المتطرفون الهندوس ممن شاركوا في المذبحة رفع شعار “يه أندار كي بات هاي ، بوليس هماري ساث هاي” ويعني ” سنفشي لكم سرا ، الشرطة في صفوفنا ” وهو ما كان تفاخرا متبجحا أظهر كيف تغلغل “التدين الدموي” بين صفوف الشرطة.

المنظمة الراعية لهذا النهج هي فيلق المتطوعين القوميين( راشتريا سويامسيفاك سانغ  Rahtriya Swamsevak Sangh) وتشتهر اختصارا بمنظمة  أر.إس.إس RSS وقد تمخض عنها حزب سياسي هو حزب الشعب الهندوسي الذي يعد إبنا شب عن طوق أمه الراعية. وقد قدمت المنظمة والحزب الدعم لأجنحة عسكرية يمينية في كافة المناطق الإدارية، حيث يتم تدريب الشباب الهندوسي علي رياضة الجودو والكاراتيه والمهارات القتالية ومختلف أنواع الأسلحة المستخدمة في عمليات التطهير العرقي وذلك من أجل تحضيرهم للرد بفاعلية علي كل من “عملاء” المخابرات الباكستانية والمسيحيين وعملاء الغزو الثقافي، فعلى أيديهم ستتمكن البلاد من استعادة “المملكة الهندوسية The Hindu Raj. وأعلنت منظمة  RSS عن وجود 30.000 فرع لها في كافة الأراضى الهندية.

وفي مجتمع هندوسي فقير لا يطلع على الصحف أو الإنترنت ويتابع بشكل متقطع التغطيات السياسية والإخبارية، لعب شريط الكاسيت الشعبي دورا بالغ الأهمية في شحن الجماهير الغفيرة بسبب ثمنه البخس وسهولة نقله من مكان لآخر وخاصة إلى الأماكن البعيدة التي لا يصلها البث الإذاعي أو التلفزيوني، فضلا عن عمره الطويل وسهولة تداوله بين الأيدي ومن بيت لآخر وإعادة تشغيله عشرات المرات.

تحتوي أغلب شرائط الكاسيت التي وزعها حزب الشعب الهندوسي على مواد دعائية تبث الكراهية ضد المسلمين. ففى العديد من المدن التي وقعت فيها عمليات الهجوم على المسلمين كان الناس يسمعون صيحات مرعبة تنبعث من مكبرات الصوت من أسطح المنازل.

وكانت هذه الأصوات تصدر بشكل متكرر من شرائط كاسيت مسجل عليها مواد أغلبها يبدأ بصيحة “الله أكبر” بكيفية تمثل وكأن مسلما يستغيث من هجوم الهندوس ثم يتبع ذلك بنداء للإله رام يحث أتباعه “اقتلوهم اقتلوهم!” ويعقب ذلك مجموعة من أصوات نساء وأطفال الهندوس يستغيثون من هجوم المسلمين عليهم ويستنصرون الهندوس لنجدتهم. ويتم تكرار هذه الاصوات المرعبة مرات لا حصر لها في الأحياء التي تقطنها الأقلية الإسلامية قبل أن تتأجج ضدهم الهجمات الهندوسية.

وإلى ما سبق يضاف تورط منظمة “مجلس الهندوس العالمي “VHP” ومنظمة بجرانج دال في التوتر والاضطرابات التي تشهدها الولايات الحدودية وعديد من البلدان والقرى في ولاية غوجرات، وبدرجة ما في ولاية راجستان. وقد اشتكى المسيحيون والمسلمون في هذه المناطق من تعرضهم لاعتداءات جسدية وتمييز اجتماعي وثقافي.

وتتضمن عمليات الاضهاد الديني التي تقوم بها تلك الجماعات الهندوسية اتهام الشباب المسلم بخطف فتيات هندوسيات وإجبارهن علي اعتناق الإسلام، كما تتضمن شن حملات علي مستوى الولاية ضد الزواج المختلط بين الطوائف وضد اعتناق الهندوس للإسلام، وشن حملات مماثلة لمقاطعة اقتصادية للمنتجات والخدمات الإسلامية وتوزيع ملصقات ناصعة اللون تحمل علامة OM ( والتي ترمز إلى آلهة الهند الكبرى براهاما وفيشنا وشيفا) علي سيارات الريكشا (سيارات النقل الشعبي الصغيرة الحجم) لتميز الهندوس عن المسلمين، كنوع من الحرب النفسية.

الحرب النفسية ليست الوسيلة الوحيدة، فهناك الحرب الاقتصادية وسلاح المقاطعة. يقول منشور، وزعته حركات اليمين الهندوسي المتطرف فى مدينة أحمد أباد، إن الهندوسي المؤمن هو:

  • من لا يبيع مسلما شيئا ولا يشترى منه
  • من لا يوفر للمسلم فرصة عمل ولا يعمل معه فى مكان واحد
  • من لا يشارك مسلما فى مشروع تجاري ولا يسانده في إقامة أي عمل يتكسب منه
  • من لا يقيم فى فندق أو يستأجر منزلا أو متجرا من مسلم
  • من لا يبيت سيارته فى مرآب سيارات يمتلكه مسلم
  • من لا يشاهد فيلما يشارك فيه ممثل مسلم أو قامت بانتاجه شركة يمتلكها أو يشارك فيها مسلمون
  • من لا يذهب للدراسة فى أي مكان به مُعلم مسلم
  • من يقطع أية علاقة بين شاب وفتاة هندوسية ويحول دون زواجهما

لائحة الاتهام

ترى ما السر الكامن وراء هذا النهج الفاشي؟ تسوق الهندوتفا حزمة من الاتهامات و في مقدمتها:

1- أن مسلمي الهند لا يتطلعون إلى الهند كوطن لهم بل إلى باكستان، الدولة المتأصلة في العداء للهند،ذات الفكر السياسي المتحجر، والتي تعاني من أزمة هوية، وتتشكل من مجتمع سكاني يحكمه متطرفون لا هم لهم سوى “محو الهند ” من الوجود، والذين لا يتورعون عن التهديد بإشعال حرب جديدة (حتى لو كانت حربا نووية) من أجل السيطرة على جامو وكشمير، وذلك لإكمال مهمة التقسيم التي لم تنته منذ عام 1947.

2- يعتبر تحول قرية بأسرها هي قرية ميناكشيبورام ـ وعددها 1000 نسمة ـ في ولاية تاميل نادو من الهندوسية إلى الاسلام في 19 فبراير/شباط 1981 نموذجا على ما يقوم به المسلمون في الهند مستغلين الدولارات النفطية (التبشير الديني البترودلاري) لتحويل الطبقات الهندوسية الفقيرة عن دينها، وذلك من خلال علاقة مسلمي الهند بالدول العربية البترولية ذات النهج السلفي، وهي نفس الدول التي قدمت الدعم المالي لشراء التقنيات الأجنبية لبناء القنبلة النووية “الإسلامية” في باكستان.

3- أن التحيز الذي اتبعته الدول العربية السلفية في استقدام العمالة المسلمة (غير الهندوسية) قد أدى إلى تهديد السلم الاجتماعي في البلاد. فالانتعاشة التي شهدها المسلمون نسبيا في الثمانينات، بعدما جنوا ثمار عملهم في دول الخليج، بدت آثارها الاقتصادية في ولايات أوتار براديش ومهراشترا وأندرا براديش وكيرلا. حيث ازدهرت أحوال بعض المسلمين في هذه الولايات فبنيت المنازل والمدارس والمتاجر والمصانع وقد تم اعتبار ذلك من قبل الهندوتفا ثمنا في مقابل أنشطة غير قانونية يتحتم على مسلمي الهند القيام بها من قبيل دعم باكستان ونشر الإسلام في ربوع الهند وتمويل الحركات الأصولية والميليشيات الجهادية.

4- يتعاون المسلمون مع المخابرات الباكستانية لتنفيذ أعمال إرهابية على الأراضي الهندية سواء في المدن الكبرى أو من خلال التعاون مع التنظيمات الكشميرية المسلحة التي  تقدرها السلطات الهندية بالعشرات، وفي مقدمتها حركة المجاهدين، وجبهة تحرير كشمير، وحركة الأنصار، وعسكر طيبة، وجيش محمد، والأخيرتان مدرجتان على لائحة الإرهاب الأميركية. وإذا كانت باكستان قد صنعت سبع قنابل نووية، فإن هناك قنبلة ثامنة قوامها، على الأقل، عشرة ملايين من المسلمين المواليين لباكستان في الهند على استعداد لإشعال التمرد في صالح باكستان.

5- أن المسلمين طائفة منشقة تستحق نفس السحق الذي لقيته حركة الانشقاق السيخية في عام 1984. ولتأكيد ذلك يمكن استحضار موقف وزير الدفاع الهندي جورج فيرناندز –في معرض دفاعه عن حكومته اليمينية التي سكتت عن مذابح غوجرات 2002- أمام انتقاد حزب المؤتمر بقوله ” لماذا ينتقدنا حزب المؤتمر على موقفنا من تلك الأحداث، وكأن هذه هي المرة الأولى التي تقتل فيها أم، أو ينتزع جنين من بطن أمه، أو تغتصب إبنة أمام أبيها، أو يقتل أحدهم حرقا..ألم يتعرض السيخ لكل ذلك في دلهي على يد الهندوس تحت حكم حزب المؤتمر في عام 1984؟.

6- أن المسلمين في الهند تمتعوا بسياسة “استرضائية” من قبل حزب المؤتمر الذي كان يغازلهم وينافقهم طمعا في أصواتهم. وقد أدى ذلك إلى أنه في الوقت الذي كان فيه المسلمون يتمردون ويضربون الهندوس ويدمرون معابدهم كانت حكومة حزب المؤتمر تسترضيهم وتستميل الخونة منهم. وحافظت الحكومات العلمانية على ممارسة المسلمين لقوانين الأحوال الشخصية دون الالتزام بقانون البلاد العلماني كما منحتهم بعض الامتيازات في كشمير، وقدمت لهم منحا مالية لتسيير رحلات الحج وصيانة الأوقاف الإسلامية.

7- حين تجد نفسك أمام أطلال في الهند، وحين تصل إلى آثار هندوسية مهدمة فتلك بصمات الإسلام، أما حين تجد نفسك أمام الإبداع فأنت،لامحالة، أمام الهندوسية ؛ الهندوس شعب مبدع ، حنون، ثاقب الرؤية، متسامح دينيا، بينما المسلمون شياطين ذوو نزعة تدميرية موروثة. وإذا لم يندمج المسلمون في المجتمع الهندوسي وظلوا “كالسكر في اللبن” رافضين الذوبان فان عليهم أن يواجهوا مصير حبة من الليمون قطعت ثم عصرت فجفت ثم ألقي بها فوق كومة من القمامة. ومهما أبدى المسلمون من سلوك مسالم ظاهريا فإن هذا لا يخفي حقيقة أنهم ” ياوان ساناب Yawan Saanp ” أي “ثعابين وافدة من خارج البلاد”.

8- إذا كان المسلمون يرفضون التهم السابقة ويرغبون حقا في أن يصبحوا جزءا من الأمة الهندية فيجب عليهم الكف عن الإصرار على تمييز أنفسهم، والإذعان لتحقيق الشروط الأساسية لإكمال عملية الاندماج وهي:

  • القبول اللامشروط بالهندوسية مركزا للحضارة الهندية.
  • إغلاق المدارس الدينية التي تعمل بشكل مواز للتعليم الهندي و”ترضع” أبناء المسلمين الافكار الانعزالية وتمثل “مفارخ للإرهابيين”.
  • تبجيل واحترام الرموز الهندوسية الأساسية وفي مقدمتهم الإله “رام” وتبجيلهم كأبطال لحضارة البلد الذي يعيشون فيه، وليس مجرد النظر إليهم كشخصيات دينية هندوسية.
  • الإقرار بأن حكام المسلمين (الغزاة) قاموا خلال الفترة من 1000إلى 1875 بتدمير أعمدة الحضارة الهندية وخاصة المعابد الهندوسية في مختلف أرجاء البلاد.
  • سحب كافة الادعاءات حول الأحقية في خصوصيات دينية مثل الخضوع لقوانين إسلامية خاصة بمجال الأحوال الشخصية أو مطالبة الدولة بمنح مالية لدعم مؤسساتهم التعليمية فضلا عن حظر ذبح الأبقار.

العقبة المانعة

الاتهامات السابقة تصور المسلمين باعتبارهم عقبة مانعة في وجه تقدم الهند إلى مصاف الدول الكبرى، لكن البحث والمراجعة النقدية تظهر أن هذه الاتهامات صُكت بشكل غوغائي في مجتمع فقير، أمي ليس هناك من شعار يمكنه أن يلعب بعقله وقلبه أكثر من الدين.
وقد فند عدد من الباحثين مسلمين وهنودا أبرز هذه الاتهامات خاصة في ظل تناقض تلك التهم مع واقع حال المسلمين الاقتصادي والتعليمي المتخلف، الأمر الذي يجعلهم يصنفون في فئة المهمشين “الداليت” ويعيشون أوضاعا أسوأ من تلك التي كانوا عليها قبل الاستقلال.

فبعد أن كان نهرو يضمن نوعا ما من التمييز الإيجابي لصالح المسلمين في الهند -الذين رفضوا الهجرة إلى باكستان برغبتهم وفضلوا البقاء في وطنهم الهند- مارست الحكومات المتعاقبة في العقود الثلاثة الأخيرة سياسة الحفاظ على قدر من التمييز الايجابي لكن لصالح المهمشين من الهندوس وغيرهم من الطبقات المتأخرة بمن فيهم سكان القبائل وذلك لتحقيق أغراض سياسية بغاية ضمان بقائهما تحت جناح الهندوسية وللمتاجرة بالشعور بالذنب تجاه هذه الفئات التي عاشت مهمشة لآلاف السنين تحت مبرررات القدر الإلهي الذي خلقهم من نسل متدن.

كما تراجعت كل المزايا التي كانت لفقراء المسلمين مقارنة بما يحصل عليه فقراء الهندوس من عائدات الضرائب التي يكفلها لهم قانون توزيع الضرائب بتخصيصه بلايين الروبيات سنويا للهندوس دون غيرهم من القوميات.

أما القول بان المسلمين يستفيدون من قوانين الأحوال الشخصية فهم في ذلك سواء مع الأقليات والتجمعات القبلية الأخرى وعلى نحو ما تمتع به الهندوس من مثل هذه القوانين في عهد الهند البريطانية.

أما بالنسبة لكشمير فقد أعطيت لها هذه الوضعية الخاصة لا تمييزا لمسلميها عن بقية الشعب الهندي بل من أجل أن تضمن دلهي بقاءها تابعة ،ولا تختار الانضمام إلى باكستان المجاورة. بل إن هذه الوضعية الخاصة قد سلب أغلبها وأصبحت عرضة للتدخل من قبل الهند بدرجة تفوق ما هو واقع في باقي الولايات خاصة مع التدخلات الأمنية الكثيفة التي تمارسها القوات الهندية في الشطر الخاضع لها من جامو وكشمير.

أما قضية الإعانات المالية للحج فقد أقرت في عام 1974 حينما تعرضت رحلات الحج بالسفن إلى التوقف في أعقاب أزمة النفط. وقد أخذت الحكومة على عاتقها دفع فرق ثمن السفر جوا في تلك الفترة. هذا الامتياز تعرض بدوره، في السنوات الأخيرة، للتراجع حين هددت الحكومة المسلمين أكثر من مرة بأن هذه الإعانة عرضة للإلغاء. وهذه لم تكن بقضية رفعها أو طالب بها المسلمون وإنماكانت مبادرة حكومية.

ويعترف أحدث تقرير حكومي عن واقع المسلمين في الهند قُدم الى مجلس الوزراء في 2007 إلى أنهم الأقل تعلما والأكثر فقرا والأكثر بطالة مقارنة ببقية الهندوس. بل أن حالة المسلمين الاجتماعية والاقتصادية أدنى من الطبقات الهندوسية الفقيرة في الهند بشكل عام. وحذر هذا التقرير من أن الأوضاع المأساوية لمسلمي الهند تهدد الأمن القومي نظرا لوجود أغلب هؤلاء المهمشين في أوساط  المسلمين إما في مناطق حدودية (مع باكستان وبنجلاديش) أو على البوابات الساحلية للبلاد.

وتكشف الزيارات الميدانية التي يمكن أن يقوم بها أي باحث لمناطق انتشار المسملين في الهند عن كونهم لا يختلفون من حيث الملامح الأنثروبولوجية عن بقية الهنود، إذ لا يمكنك التفرقة بين المسلم والهندوسي في شوارع بومباي أو دلهي أو غيرهما إلا حين يؤذن للصلاة فيهب عدد من الناس إلى المسجد. كما لا يتمتع المسلمون بأية ميزة اقتصادية تجعلهم محط حسد وغيرة من الأغلبية الفقيرة على عكس ما تروج له الدعاية الهندوسية المتطرفة، فالمسلمون مشتركون مع الهندوس في حالة الفقر وتدنى مستوى الدخل بشكل عام، وهم بالتأكيد أقل حظا من الهندوس في التعليم، ويترتب على ذلك أن فرصهم في العمل أقل وهو ما يفسره بعض المسلمين بأنه اضطهاد وتمييز.

ويجب ألا يفهم من كون بعض كبار نجوم بولييود (السينما الهندية) هم من المسلمين، أو من كون بعض كبار رجال الاقتصاد والصناعة أيضا من المسلمين بان هناك ارتفاعًا في مستواهم المعيشي، إذ أن حظهم في ذلك كحظ نجوم الفن والمال والصناعة من أبناء الطبقات الأخرى كالسيخ والهندوس وغيرهم.

صحيح أن عدد المسلمين في الهند يتراوح بين 160 -170 مليون وهو رقم يجعلهم  يمثلون من حيث الأعداد المطلقة حجما يعادل تقريبا نصف إجمالي سكان العالم العربي، ويجعل منهم ثالث أكبر كتلة ديموغرافية إسلامية في العالم (بعد إندونيسيا التي تبلغ 240 مليون نسمة وباكستان التي تبلغ 176 مليون نسمة)، إلا انهم مع ذلك لا يمثلون أكثر من 14% من إجمالي سكان الهند البالغ عددهم 1.17 مليار نسمة وهي نسبة لا تخولهم تجاوز وضعية الأقلية العددية خاصة إذا عرفنا أن هذه الأقلية لم تلعب منذ التقسيم أي دور من أدوار جماعات الضغط والمصلحة، وليست لها تنظيمات حزبية أو سياسية فاعلة، فهي منشغلة في المقام الأول بأزمة الهوية والمواطنة والدفاع عن نفسها ضد الاتهامات السابقة.

ولعل انشغالها بتفنيد الاتهامات يشغلها عن لعب دورها الحقيقي، وهو ما يجعل البعض يذهب إلى اعتبار التهم الموجهة لها هي من باب الهجوم الساعي إلى الحصار والتطويق حتى لا تتاح لهم فرصة التحرك كمجموعة سكانية فاعلة.

ومن زاوية أخرى لا يتركز المسلمون في ولايات بعينها فيمثلون مصادر خطر انفصالية على نحو ما نجده في حالة تايلاند أو الفلبين أو روسيا أو أوكرانيا على سبيل المثال، بل هم منتشرون في كافة أرجاء الولايات الهندية. وهم لا يشكلون الأغلبية سوى في ولاية جامو وكشمير وجزر لاكشدويب. وتتباين نسبتهم المئوية بين 1-2 % في ولايات مثل ناجالاند وأرونشتال براديش، و20-22 % في ولايات مثل غوجرات وكيرلا، بينما يشكلون في المتوسط نحو  10% في أغلب ولايات الهند. ومن ثم فإن المسلمين -على خلاف السيخ المستحوذين على أغلبية ولاية البنجاب- لا يمكن أن يتسببوا في بلقنة الهند أو تفكيكها على أسس دينية على نحو ما تزعم الحركة الهندوسية المتطرفة.

ويضاف إلى ما سبق أنه ليست لدى المسلمين مطامع سياسية في حكم الهند أو في التنظيمات السياسية داخل المعترك الحزبي المعاصر، بل هم أقرب إلى الانضواء في حزب المؤتمر صاحب منهج القومية العلمانية كبديل لا مفر منه في ظل تهديدات الأحزاب اليمينية الشوفينية وغيرها من الأحزاب المتأرجحة بين اليمين واليسار.

ومن التضليلات التي تذهب إليها الاتهامات السابقة تصوير مسلمي الهند كنسيج سلفي متجانس يسعى إلى نشر الفكر الطالباني في الهند وما حولها، بينما حقيقة الأمر أن مسلمي الهند موزعون على كافة الأطياف الفكرية التي يعرفها العالم الإسلامي، حيث نجد السلفية الأصولية، والفرق الشيعية باطيافها المختلفة، فضلا عن الفرق الصوفية وما يندرج فيها من أطياف الإسلام الشعبي المتأثر بـ”رواسب المعتقدات السالفة”، فضلا عن عدد من الفرق المارقة مثل البهائية والأحمدية والقاديانية والقرآنية.

القوة الدافعة

هل تتبقى مساحة من التأمل للتحول إلى الوجه الآخر للعملة ؟ هل يمكن للهند أن تستفيد من المسلمين كقوة دافعة على طريق سعيها إلى مصاف الدول العظمى؟ يبدو أن الرد على هذا السؤال سيكون بالإيجاب شريطة تحقق العناصر التالية:

1- أن ينتقل مسلمو الهند من خندق الدفاع عن أنفسهم والتعامل بمنطق الأقلية المضطهدة إلى تنظيم النفس حزبيا وسياسيا واقتصاديا وتعليميا. ولعل قضية التعليم هي التحدي الأول لمسلمي الهند في بلد مشهود لأبنائه بإقبال كبير على التعليم الفني والتقني والهندسي. ولعل أفضل الأمثلة على ذلك الخطاب الذي دافع به رئيس الوزراء الهندي الأسبق إيتار بيهاري فاجباي في معرض رفضه لأن توصف القنبلة النووية الهندية بأنها قنبلة هندوسية حين قال في 31 مايو/أيار 1998 “إن مثل هذه الشائعات تهدف إلى إحداث شرخ وانقسام في البلاد، لقد شارك في اختراع القنبلة علماء وفنيون ينتمون إلى مختلف الطوائف الدينية، كما أن كبير علماء الذرة في الهند ، الدكتور أبو بكر عبد الكلام آزاد، رجل مسلم”.

2- على مسلمي الهند الحفاظ على أكبر قدر من التواصل وتعميق التعاون مع حزب المؤتمر باعتباره الضمانة الرئيسية بوجه تشدد وعنصرية الأحزاب اليمينية المنافسة. وذلك بالمنافسة على الوصول إلى مناصب قيادية في حزب المؤتمر تمكن من وصول رئيس وزراء مسلم على نحو ما هو حاصل الآن مع مانموهان سينغ السيخي الأصل في رئاسته لوزراء الهند.

3- أن تقوم المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان ومراقبة أشكال التطهير العرقي وجرائم الحرب، بواجبها في متابعة ما يجري في الهند ؛ وألا توقفها العلاقات الحسنة بين الهند والولايات المتحدة وأغلب الدول الاوربية وإسرائيل عن ممارسة دورها الحيادي.

4- أن تُراجع باكستان مواقفها وتراقب الحركات التي تعمل باسمها والتي تنقل ميدان الصراع مع الهند من خط الحدود الكشميري إلى العمق الهندي وهو ما يتسبب في وقوع خسائر فادحة للمسلمين في الداخل. ومع هذا لا يمكن استبعاد ألاعيب السياسية القذرة التي قد تشهد وقوع أعمال إرهابية من خلال طرف ثالث لحسابات سياسية انتهازية.

5- أن تتحمل الدول العربية والمنظمات الإسلامية الدولية مسؤولياتها الأدبية والمادية وتمد جسور تواصل متينة مع مسلمي الهند. ومن المؤسف أن مسلمي الهند الذين لم يتأخروا يوما عن الخروج متعاطفين ومتظاهرين في كل حدث يشهده العالم العربي سواء في فلسطين أو العراق أو غيرهما، لايجدون أحدا في المشرق العربي أو مغربه يتظاهر أو يتابع قضايا المسلمين في الهند على المستوى الدبلوماسي او الإعلامي أو الديني.

وبينما يشدو المسلمون في الهند بأشعار محمد إقبال عن فلسطين والمسجد الأقصى لا نعرف شاعرا عربيا كتب قصيدة عن محرقة غوجرات أو هدم المسجد البابري. وفي الوقت الذي تتوجه فيه أموال طائلة من العالم العربي للمساعدات الإنسانية والشراكة الاقتصادية إلى كافة قارات العالم تبدو الهند بعيدة للغاية عن هذه الخريطة.

وحين ترفض الهند اليوم دخول أية مساعدات مالية أو هيئات إغاثية -حتى لا يستخدم المال العربي النفطي في “دعم الإرهاب”- لا يتم التنسيق حول أية جهود بديلة لطمأنة الجانب الهندي وتوفير دعم لمسلمي الهند في ذات الوقت. وقد تكون نقطة البدء في دعم العلاقة بين مسملي الهند والعرب هو تصحيح العلاقة التي تشوبها بعض الآلام (كالاستعلاء والازدراء والاستغلال ) التي يمارسها بعض أثرياء وكفلاء دول الخليج والشام تجاه العمالة الهندية الوافدة.

6- أن تخرج المراكز الإعلامية الكبرى ذات الرسالة الواعية  من مأزق الإنكفاء  على متابعة القضايا المركزية التي شغلت الإنسان العربي وأغرقته في دوامة لا تنتهي، عسى أن يفتح ذلك أفقا أكثر رحابة نتعلم منه ونفيد، ونمد عينًا ونبسط يدًا للتواصل والبناء مع أكبر جالية إسلامية في العالم وثالث أكبر تجمع إسلامي على سطح الأرض.

______________

عاطف معتمد عبد الحميد، أستاذ الجغرافيا في كلية الآداب بجامعة القاهرة.

المصادر:

1. استطلاع ميداني قام به الباحث في مناطق انتشار المسلمين في الولايات الشمالية من الهند، أغسطس/غشت 2004.
2. أحمد الساداتي (2001) تاريخ المسلمين في شبه القارة الهندوباكستانية وحضارتهم. دار نهضة الشرق. القاهرة.
3. خادم حسين إلهي بخش (1988) أثر الفكر الغربي في انحراف المجتمع المسلم بشبه القارة الهندية رسالة دكتوراه منشورة. مكة المكرمة. دار حراء للنشر والتوزيع
4. عاطف معتمد عبد الحميد (2005) العنف في الهند..النوبات الهندوسية والكشميرية. مقال بصفحة قضايا وتحليلات، المعرفة. الجزيرة نت .
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/646CA046-9BEB-4816-AF03-2971B398E818.htm
5. مقابلة خاصة أجراها الباحث في نيودلهي مع الكاتب الإسلامي ظفر الإسلام خان رئيس تحرير مجلة ميللي جازيت (أغسطس 2004).
6. مهذب رحلة بن بطوطة. المطبعة الأميرية ببولاق، القاهرة. 1923.
7. Akbar. M.J (2003) India, the siege within. Challenges to a nation’s unity. Roli Books. New Delhi
8. Basu. A (1996) Mass movement or elite conspiracy? The puzzle of Hindu nationalism. In Ludden. D (ed.) Contesting the nation: religion, community, and the politics of democracy in India. Univ. of Pennsylvania press. Philadelphia.
9. Brass. P ( 2003) The Production of Hindu Muslim Violence in Contemporary India. Oxford University Press. New York.
10. Farmer. V (1996) Mass media: images, mobilization, and communalism. In Ludden. D (ed.) Contesting the nation. Op cit.
11. Fox. R (1990) Hindu Nationalism in the making, or the rise of the Hindian In Fox.R (ed.) Nationalist Ideologies and the production of national cultures. American Ethnological Society Monograph Series, no 2. James L. Watson, series editor.
12. Hardgrave. R (1994) India: the dilemmas of diversity. In Diamond .L and Plattner .M (eds.) Nationalism, Ethnic conflict, and democracy. The Johns Hopkins University press. Baltimore and London.
13. Jalal. A (2001) Self and Sovereignty: individual and community in south Asian Islam since 1850.  Oxford University Press. New York
14. Metcalf. B (2004) Islamic Contestations: essays on Muslims in India and Pakistan. Oxford University Press. New York
15. Nomani. A (2008)  Muslims — India’s new ‘untouchables’. Los Angles Times. http://www.latimes.com/news/opinion/commentary/la-oe-nomani1-2008dec01,0,4752.story
16. Noorani A.G (2003) The Muslims of India, a documentary record. Oxford University Press. New York.
17. Sanjay Chaturvedi (2000) Representing post-colonial India: inclusive/exclusive geopolitical imaginations. In Klaus Dodds and David Atkinson (eds.) Geopolitical Traditions, a century of geopolitical thought. Routledge London
18. Syed Najiullah (2006) The Status of Muslims in India. www.indianmuslims.info
19. Varadarajan.S (ed.) (2002) Gujarat : the making of a tragedy. Penguin Books. New Delhi.
20. Zafarul-Islam Khan (2004) Muslims in post-Independence India, with special reference to anti-minority policies of the Sangh Parivar. Muslim India. Vol.22 No.2

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى