كتب وبحوث

تعليل الأحكام بالحكمة.. مفهومه ومسالكه عند الإمام الشَّاطبي

اسم البحث: تعليل الأحكام بالحكمة.. مفهومه ومسالكه عند الإمام الشَّاطبي.

إعداد: د. عبدالعزيز وصفي[1]

مدخل:

إن موضوعَ تعليل الأحكام الشرعية من أهم موضوعات علم الأصول وأدقها، وقد حظِي هذا الموضوع باهتمام علماء هذا الفن منذ البدايات الأولى للتصنيف فيه؛ حيث خصص الإمام الشافعي في كتابه “الرسالة” أبوابًا في القياس والاجتهاد والاستحسان، فصَّل فيها المنهج الذي يجب على المجتهد أن يسلكه في سعيه إلى استنباط الأحكام بهذه المسالك.

ومن أنواع التعليل التي نبَّه عليها علماء الأصول: “التعليل بالحكمة”، وهو مبحث لطيف اختلفت فيه وجهات النظر، وتشعَّبت فيه الآراء.

ونظرًا لأهميته البالغة، فقد وقع اختياري عليه ليكون موضوعَ هذا البحث المتواضع.

أهمية البحث في موضوع التعليل بالحكمة:

شكَّل مفهوم “الحكمة”، هذه الكلمة الصغيرة في حجمها الكبيرة في معانيها، قدرًا مهمًّا من اهتمام أنظار العلماء؛ لِمَا لها من عظيم الأثر عند مدرك معانيها، تلك المعاني التي شكَّلت معضلةً من معضلات علم أصول الفقه، سعى في حلِّ دقائقها أفذاذ علماء الإسلام قديمًا وحديثًا[2].

وقد شكَّل تعليل أحكام الشرع بالحكمة والمعاني المناسبة إجمالًا المحور الأساس والمرتكز الذي دارت حوله أهمُّ وأدقُّ مسائل علم أصول الفقه وقضاياه، بدءًا من مسائل التحسين والتقبيح، ومرورًا بمسائل التعليل والعلة والمناسب والمناسبة وإثبات شرعية أصل القياس، وليس آخرها المصالح المرسلة وقواعد المقاصد[3].

إن مناهجَ التشريع عند علماء الفقه والأصول متعددة، بَيْدَ أن مِن أهم هذه المناهج منهجين:

  • منهج اتباع المعاني والحِكم، أو ما غدا يسمى بالتعليل بالحكمة، وهو منهج متكامل الأركان، له أبعادُه الخاصة به في الفقه والأصول، بل والعقيدة، يمتاز عن مناهج إسلامية أخرى بميزات ومستويات وأحكام ومقومات خاصة.
  • ومنهج التزام النص، وهو منهج تعليلي، بحيث لا يُفهم إلا بفهم المنهجينِ معًا[4].

إن تعليل الأحكام الشرعية بحِكم معتبرة فيها هو أمر ثابت لا يتطرق إليه شك، وهذا ما جعل الإمام ابن عبدالسلام يجعله أمرًا شاملًا إلى جانب مواضع التكليف لسائر مظاهر التدبير والتصرف الإلهي، فقال: “(…) فأحكام الإله كلها مضبوطة بالحِكَم، محالة على الأسباب والشرائط التي شرعها، كما أن تدبيره وتصرُّفَه في خلقِه مشروط بالحِكَم المبينة المخلوقة، مع كونه الفاعلَ للأسباب والمسببات…”[5].

وإن كان حكماء الشريعة قد اعتنوا بالحكمة اعتناءً خاصًّا في مؤلفاتهم، كالعز بن عبدالسلام والقَرافي وابن تيمية وغيرهم، فإن الإمام الشَّاطبي يُعدُّ من أبرز مَن انتبه لهذا الموضوع في كتابه “الموافقات”، حيث تركزت جهوده في سياق منهجه لإصلاح علم الأصول بالبحث عن أسرار التكليف ومقاصده.

والواقع أن هذا المصطلح إذا كان يراد به – عند الشَّاطبي – المعنى المناسب الذي ترتب عنه الحكم من جلب مصلحة أو دفع مفسدة قصد إليه الشارع من أمره أو نهيه، فإن النظر في هذه المسألة – عند الأصوليين – اتخذ ثلاثة اتجاهات، اختصرها الإمام سيف الدين الآمدي بقوله: “ذهب الأكثرون إلى امتناع تعليل الحُكم بالحكمة المجردة من الضابط، وذهب جمعٌ من المالكية والحنابلة إلى جوازه مطلقًا، وذهبت طائفة إلى التفصيل، فقالوا: إذا كانت العِلّة[6] ظاهرة ومنضبطة، وكانت الحكمة غير منضبطة، فالتعليل بالعلة دون الحكمة، وأما إذا لم تكن العلة ظاهرة منضبطة، فالتعليل بالحكمة دون العلة”[7].

وما دام ذهب الأكثرون إلى امتناع تعليل الحُكم بالحكمة المجردة من الضابط، فإن الأقلِّين، مثل: البيضاوي والرازي والغزالي وغيرهم، جوَّزوه، ومنهم مَن فصل بين العلة الظاهرة المنضبطة بنفسها والحكمة الخفية المضطربة، فجوَّز التعليل بالأُولى دون الثانية، وهذا هو اختيار الآمدي وابن الحاجب والصفي الهندي وبعض الحنابلة[8].

والواضح من دلالة النص: أن قضيةَ التعليل بالحكمة راجعة إلى مسألة “الانضباط”، الذي اعتبر عند الأصوليين قاعدة منهجية، اكتسبها العلماء من نصوص الشارع وتصرفاته؛ لِما يترتب عن اعتبارها من محاسن، وإلغائِها مِن مفاسد.

فالأصوليون متفقون – في جمهورهم – على أن الأوامر والنواهي مشروعة لحِكم، وهي الباعث على تشريعها، وأن الأصل في كل حكم أن يدور مع حكمته التي تُعدُّ الهدف المقصود، لكن الاستقراء دلَّهم على أن الحكمة:

  • قد تكون في بعض المواضع أمرًا خفيًّا لا يمكن التحقُّق من وجوده.
  • وقد تكون في مواضع أخرى أمرًا تقديريًّا لا ينضبط بنفسه ولا ينضبط بناء الحكم عليه، فلا يمكن الجزم بتقرير إيقاعه على المحل، أو عدم إيقاعه عليه.

فالعلة باعتبارها الوصف الظاهر المنضبط الذي بُنِيَ الحُكم عليه، كان من شأن ربط الحكم بها أن يحقق حكمة تشريعية، وهاته القيود كما هو ظاهر بأن الحكمة هي التي أضحت تدل على المصلحة[9].

ومن هنا استقرَّت في مجموعة المصطلحات الشرعية المتداولة عند الأصوليين ألفاظ العلة والحكمة على أنها ذات معانٍ متباينة، مما ولَّد اتجاهات التعليل بالأُولى عند أكثرهم، والتعليل بالثانية عند طائفة منهم.

لذلك نجد بعض الأصوليين قد أضاف قيدًا في تعريفه للعلة، حتى تساير مفهوم الحكمة، وهو أن تؤدي، أي: العلة، إلى تحقيق حكمة النص، فقال: “العلة ما أضاف إليه الشرع الحكم وأناط به (…)، وكان الشأن في إناطته أن يحقق حكمة التشريع”[10]، وقال بعض المتأخرين: “العلة هي الوصف الظاهر المنضبط الذي تتحقق فيه الحكمة في أكثر الأحوال، لا في كل الأحوال”[11].

وإذا كان الإمام الشَّاطبي قد حمل لواء التعليل بالحكمة، فقد أيَّد هذا الاتجاه جملةٌ من كبار الأصوليين قبله، الذين عُدَّت آراؤهم ومؤلفاتهم منعطفات بارزة في مسيرة هذا العلم، وفي طليعتهم الإمامان الغزالي والرازي.

فالغزالي قد عرَض لقضية التعليل على نحو مطول، أو رد الاعتراضات المحتملة على هذا النمط من التعليل، ثم أجاب عنها بالتفصيل[12].

وتبعه في ذلك الإمام الرازي الذي عرض للمسألة في كتابه “المحصول”، ورجَّح ميله إلى جواز التعليل بالحكمة بقوله: “والأقرب جوازه”[13].

ورغم ذلك، فإن هذه المسألة كانت – ولا زالت – مجالًا واسعًا لتوارد الأفكار والآراء واختلافها بين مرجح لجانب الانضباط ومرجح لعدمه، بل هناك مَن اعتبر التعليل بالحكمة “هو اللائق بأهل المقاصد؛ لأن البحث في المقاصد هو بحثٌ في العلل الحقيقية (…)، أما الظهور والانضباط فيحتاج إليها عند إجراء الأقيسة الجزئية”[14]، بل نسب إلى أهل المقاصد جمعهم بين التعليل بالعلة والتعليل بالحكمة؛ لأنهم وقفوا الأوَّل على الثاني[15].

فليس التعليلُ إلا إظهارَ ما في الحكم الشرعي مِن علة تؤثر به، بحيث يتكرر الحكم بتجددها، وينتقل معها من محل الأصل إلى الفرع[16].

والظاهر أن “تعليل الأحكام بِحِكَمها لا بد فيه مِن تجديد وتقعيد؛ إذ ما يزال بابُه فقيرًا من حيث التأصيل لضوابطه وشروطه، حتى يُعتمد كما تعتمد العلة المستنبطة”[17].

مفهوم الحكمة عند الأصوليين:

الحكمة لغة: هي العدل، والعلم، ووَضْع الشيء في موضعه، وصواب الأمر وسَداده[18].

واصطلاحًا: أطلق الأصوليون الحكمةَ على أمرين:

  • الأول: أطلَقها الجمهور على: ما يترتب على التشريع مِن جَلْب مصلحة أو تكميلها، أو دَفْع مفسدة أو تقليلها.
  • والثاني: أن بعض الأصوليين يرى أنها: الأمر المناسب نفسه، وعليه فإن المصلحة والمفسدة أنفسهما يطلق عليهما هذا اللفظ نفسه، كذا قال عبدالحكيم السعدي[19].

ومن هنا يمكن القول: إن الحكمةَ هي ما يترتب على التشريع من جلب مصلحة وتكميلها، أو دفع مفسدة وتقليلها[20].

وتُطلَق الحكمة أحيانًا على المقصد الجزئي، كحكمة منعِ بيع المعدوم، وهي نفيُ الجهالة وإبعاد الغرَر والضرر عن المشتري، وحكمة النظر إلى وجه المخطوبة، وهي حصول الأُلفة وإدامة العِشرة وتحقيق الارتياح لضمان النجاح وإدراك الفلاح، كما تُطلَق الحكمة للدلالة على المقصد الكلي أو المصلحة الإجمالية؛ كمصلحة حفظ النفس، وتحقيق التيسير ورفع الحرج، وتقرير عبادة الله والامتثال إليه، فنقول بأن الحكمة من إرسال الرسل وإنزال الشرائع هي: عبادة الله واجتناب الطاغوت، ونعني بتلك الحكمة جملةَ المصالح العامة والمقاصد الكلية.

وبناءً على ما ذُكر، فإن الحكمة والمقاصد يترادفان ويتماثلان في الإطلاق والتعبير في أغلب الأحيان.

مفهوم الحكمة عند الإمام الشَّاطبي ومدى ارتباطها بالمقاصد:

اهتم الإمام الشَّاطبي بموضوع الحكمة – في بنية التشريع الإسلامي – وذلك باعتبارها موضوعًا أساسيًّا في الاجتهاد التشريعي والفقهي؛ لأنها الغاية والهدف من الأحكام، وهذا ما رسم منهجه في كتابه “الموافقات”، فأطال في ذلك النفَس، وفصَّل فأحسن وأجاد، “فطالما أن النص لم يأتِ بما فيه من أحكام إلا لتحقيق حكمة أو حكمة معينة، فقد وجب على الفقيه أن يسلك سبيل الاجتهاد الممكنة التي تعرفه بتلك الحكمة؛ كي يفهم النص، ويحدد نطاق تطبيقه، ومجال إعماله على ضوئها”[21].

وهذا ما يسمى عند كثير من الباحثين المعاصرين بـ: “التفسير المصلحي للنصوص”.

لقد أدى المنحى المقاصدي عند الشَّاطبي إلى إيلاء مبحث الحكمة غايةً من الاهتمام، باعتبارها مقصد الأحكام الشرعية وسرها المراد منها، فكان من ضمن نتائج ذلك الاهتمام أن أعاد إلى مفهوم العلة معناه الحقيقيَّ الأول[22].

ولذا نجده يُعرِّفها بأنها المصلحة نفسها أو المفسدة نفسها، لا مظنتها[23]،ثم يؤكد ذلك بقوله “الحكمة (…) هي العلة”[24]، فهو بهذا يستعمل ألفاظ العلة والحكمة والمصلحة على أنها معانٍ مترادفة[25]؛ ولذا نجده يعرف الحكمة بأنها: العلة، ويعرف العلة بأنها: الحِكَم والمصالح، وهذا مطَّرد عنده في شرحه للمسائل التي عالجها[26].

ثم إنه قد نبَّه إلى أن اسم السبب قد يطلق أحيانًا على العلة نفسها، ولا مشاحة في الاصطلاح[27].

أما في كتابه “الاعتصام”: فقد تعرَّض لمصطلح الحكمة بمعناها الواسع، فيراه أنه يفيد “وضع المبادئ على وَفْق الغايات”[28].

هذا الفهم الحقيقي للعلة – التي هي مناط الحكم – جعل بعض الباحثين المعاصرين يراه نوعًا من الترف العقلي والجهد الضائع الذي لا طائل منه، اعتبره سببًا حقيقيًّا في إهمال كتاب “الموافقات” زمن الشَّاطبي[29].

تقسيمات الإمام الشَّاطبي للحكمة:

بيَّن الشَّاطبي أن الحُكم يكون على ضربينِ:

الأول: ما لا يمكن الوصول إليه إلا بالوحي؛ كالأحكام التي أخبر الشارع فيها أنها أسباب للسعة وقيام ركائز الإسلام، وكذلك التي أخبر في مخالفتها أنها أسباب للعقوبات وسائر أنواع العذاب الدنيوي والأخروي.

الثاني: ما يمكن الوصول إليه بمسالكه المعروفة؛ كالإجماع والنص والإشارة والمناسبة وغيرها.

وقد بنى على هذا التقسيم أن الضربَ الأول لا يصح أن يدخله التفريع، وإن كان من جملة الأحكام العادية، أما الضرب الثاني فهو وحده الذي يمكن أن يتخذ علة لقياس تتم به تعدية حكم إلى محل آخر[30].

وهذا هو المتفق عليه عند الأصوليين، وإن كان سداده – في الصورة التي رسمها – متوقفًا على التنبيه إلى الحكم الشرعية والجمع بينها وبين الأحكام المتعلقة بها؛ لأن كِلا المقدمتين في التعليل النقلية والنظرية[31] لا بد فيهما من اعتبار الحكمة ورعايتها.

وهو وإن كان بنى نظرته إلى الحكمة الشرعية على هذا التقسيم الثنائي، فإنه لا يمانع من وجود الخفاء والاضطراب في القسم الثاني؛ لأن الحِكم وإن كانت هي مناطات الأحكام الحقيقية والمؤثرة في شرعها، فإنه قد يعدل عنها إلى العلل المنضبطة الظاهرة بسبب وجود هذا الخفاء والاضطراب؛ ذلك أن الشارعَ نفسه – تشوفًا منه إلى الضبط والتحديد – أقام بعض الأحوال المظنونة مقام الحكمة[32].

طرق التعرف على الحكمة:

إذا كان الشَّاطبي قد حكم على أن لكل حكم شرعي حكمة يستند عليها لم يوضع أصلًا إلا لأجل تحصيلها، فإنه قد بين مسالك هذه الحكمة وأجملها في عنصرين:

1- المناسبة: وهو لفظ عند الأصوليين يطلق على معنيين:

  • أحدهما: يذكر في سياق الحديث عن شروط العلة[33].
  • وثانيهما: يرِد عند تحديدهم لمسالك الوصول إليها[34].

أما الشَّاطبي فقد نظر إلى المناسبة كمسلك أساسي لتحديد حكمة الحُكم، وذلك عندما قرَّر أن المحل الذي لا يمكن أن تعقل له حكمة – كالتعبُّدات – لا يُعوّل فيه على المناسبات، ولا تجري فيه مسلكها؛ قال – رحمه الله – : “وربما محل تعبُّد لا يجري فيه مسلك المناسبة”[35].

فالمناسبة هي معتبرة عنده؛ لأنها علامة ظنية لوقوع الحكمة من مقصود الشارع.

2- الأسباب: قضى الشَّاطبي أن كل سبب منوط لا بد أن تشمله حكمة؛ حيث قال: “الأسباب المشروعة إنما شُرعت لمصالح العباد، وهي حِكم المشروعية”[36]؛ولذلك عرف السبب بأنه: “ما وُضع شرعًا لحكمة يقتضيها ذلك الحكم”[37].

ومن هنا يتبين لنا أن المنهج الغائي عند الشَّاطبي، سواء تعلَّق بالمصلحة أو بالحكمة، يقوم على خطة علمية، وقواعد أصولية، تسدد خطى المجتهد في البحث عن إرادة الشارع من النص وتحدد هدفه، وهو ما يسمى بالتعليل.

تعليل الأحكام وارتباطه بمقاصد الشريعة:

استقرَأ علماء الشريعة نصوص القرآن والسنَّة فوجدوا أنها جاءت لتحقيق مصالح العباد، ثم ظهر لهم من خلال الاستقراء – أيضًا – أن تلك المصالح على ثلاثة أنواع: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات.

والمصالح الضرورية عرَّفوها بأنها تلك “المصالح التي تتوقف عليها حياة الناس، وقيام المجتمع واستقراره، بحيث إذا فاتت اختلَّ نظام الحياة وساد الناسَ هرجٌ ومرجٌ، وعمت أمورَهم الفوضى والاضطرابُ، ولحقهم الشقاء في الدنيا والعذاب في الآخرة”[38].

فهذه المصالح الضرورية هي المقوِّمات الأساسية لوجود المجتمع المستقر الآمن، ولا بد مِن حمايتها والمحافظة عليها إذا أردنا أن نحفظ على المجتمع أمنه واستقراره وصلاحه، وقد حصرها علماء الشريعة في خمسة مقاصد ضرورية، فقالوا: إن مقاصدَ الشريعة الضرورية هي: حفظ الدِّين، وحفظ النفس، وحفظ المال، وحفظ العِرض والنسل، وحفظ العقل[39].

وهذه هي الضرورات الخمس التي راعاها الشارع الحكيم أتمَّ مراعاة، ويأتي بعدها في المرتبةِ الحاجياتُ، وهي الأمور التي يُفتقر إليها لرفع الضيق والمشقة عن الناس؛ كالرُّخَص الشرعية ونحوها.

ثم مرتبة التحسينيات: من محاسن العادات ومكارم الأخلاق ونحو ذلك.

والشارع الحكيم راعى الضروريات الخمس أولًا؛ لأن بها قوام الحياة، ولم يراعِ الحاجيات والكماليات إلا حيث لا تعود على أصل الضروريات بالانتقاص أو الإبطال.

ورعاية المقاصد في تعليل الأحكام الشرعية هي ما يعبِّرُ عنه علماء الأصول بـ: (الإخالة) و(المناسبة) و(المصلحة)[40].

ومَن رام تعليل الأحكام الشرعية ينبغي أن يكون مُلمًّا بمقاصد الشريعة، ومستحضرًا لتلك المقاصد والغايات عند التعليل؛ “ليكون تعليلُه للأحكام موجهًا نحو هذا الغرَض بعد أن يَسبُرَ ما اعتبره الشارع مِن العلل الموصلة إلى هذه الغايات”[41].

خاتمة:

لا يسَعُني وأنا في نهاية هذا البحث إلا أن أعترف أنني ما زلت بحاجة إلى مزيد من التأمُّل والنظر في كثير من الأمور التي أثارها الإمام الشَّاطبي في هذه المسألة، ومن خلال ما سبق الحديث عنه، أقدِّم في خاتمة البحث بعض الإشارات المقتضبة من خلال النتائج الآتية:

أولًا: الحكمة هي المعنى المناسب الذي قصده الشارع من الحُكم، وقد يعبر بها بعض الأصوليين عن المصلحة ذاتها، وقد يجعلها آخرون مرادفة للعلة.

ثانيًا: المراد بالتعليل بالحكمة: جعلها المعنى المؤثر في الحكم بغرض القياس وتعدية الحكم بواسطتها من الأصل إلى الفرع الذي وجد فيه هذا المعنى.

ثالثًا: عند تعليل الأحكام الشرعية ينبغي التفطُّن للفرق بين (العلة) و(الحكمة)، وفهم المراد من إطلاق لفظ (العلة) بحسب السياق.

وربطُ الأحكام بالعلل يؤدي إلى استقامة التكليف، وضبط الأحكام واطِّرادها، واستقرار أوامر التشريع العامة ووضوحها.

رابعًا: أن فكرة التعليل عند الشَّاطبي تقوم على القاعدة المقررة عنده، وهي أن “وضع الشرائع إنما جيء به لمصالح العباد”، وقد اقتضى منهجه هذا في تناول هذه المسألة أن يجعلَ مِن المصالح مادة مبلورة لأهداف الشارع العامة.

خامسًا: إن المعاني المصلحية عند الشَّاطبي تعتبر أمرًا جوهريًّا؛ لأن العلة عنده هي المصلحة أو الحكمة، سواء كانت ظاهرة أو غير ظاهرة، منضبطة أو غير منضبطة.

سادسًا: علاقة التعليل بالمقاصد عند الشَّاطبي يحكمها ترابطٌ مطَّرد؛ لأنك إذا تأملت إحداهما تصورت الأخرى؛ باعتبار أن المقاصدَ كلياتٌ تنتهي إليها العلل؛ لذلك كانت دلالتها على الأحكام دلالة مقترنة، وقد ترتب عن هذه الفكرة عنده اشتراطه موافقة المصالح عمومًا للمقاصد الشرعية، فهو يرى أنه لا بد من اعتبار الموافقة لقصد الشارع؛ لأن المصالح إنما اعتبرت مصالح من حيث وضعها الشارع كذلك.

هذه بعضُ النتائج العامة التي استطعتُ أن أستقرِئَها – على عجَل – من خلال صياغة الإمام الشَّاطبي لمنهجه في تناول مسألة التعليل بالحكمة وما يتفرع عنها من جزئيات مهمة؛ إذ استطاع أن يبني مادته بناءً أبان فيه عن مدى تضلُّعه في العلوم الشرعية الدقيقة، وهذا لا يعني أنني وفيت هذا الجانب حقه، ولا بلغت به مقصده، ولكني حاولت إثارة هذه القضية التي تحتاج إلى البحث والنظر الفاحص المعمَّق.

واللهَ نسألُ التوفيق والسداد والرشاد.

المصادر والمراجع:

القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم بترقيم مصحف المدينة المنورة.

1- إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشَّاطبي الغرناطي أبو إسحاق:

الموافقات في أصول الشريعة، شرح وتعليق: عبدالله دراز، ط. الأولى 1425هـ/ 2004م، دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان.

الاعتصام، تحقيق: مصطفى أبو سليمان النووي، ط. الأولى 1416هـ/1995م، دار الخاني للنشر والتوزيع – الرياض – المملكة العربية السعودية.

2- أبو حامد محمد الغزالي (ت. 505 هـ):

شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل، تحقيق: د. حمد الكبيسي، ط. الأولى 1390هـ/ 1971م، مطبعة الإرشاد – بغداد – العراق.

3- أبو زهرة:

أصول الفقه، بدون تاريخ، دار الفكر العربي – القاهرة – مصر.

4- أحمد الريسوني:

نظرية المقاصد عند الشَّاطبي، ط. الأولى 1416هـ/1995م، المعهد العالمي للفكر الإسلامي – هيرندن – الولايات المتحدة.

5- رائد نصري جميل أبو مؤنس:

منهج التعليل بالحكمة وأثره في التشريع الإسلامي: دراسة أصولية تحليلية، ط. الأولى 1428هـ/ 2007م، المعهد العالمي للفكر الإسلامي – هرندن – فرجينيا – الولايات المتحدة.

6- عبدالحكيم عبدالرحمن السعدي:

مباحث العلة في القياس عند الأصوليين، ط. الثانية 1421هـ/ 2000م، دار البشائر الإسلامية – بيروت – لبنان.

7- طه جابر العلواني:

أصول الفقه منهج بحث ومعرفة، ط. الثانية 1416هـ/1995م، المعهد العالمي للفكر الإسلامي – هيرندن، الولايات المتحدة الأمريكية، نشر وتوزيع: الدار العالمية للكتاب الإسلامي – الرياض – المملكة العربية السعودية.

8- طه عبدالرحمن:

تجديد المنهج في تقويم التراث، ط. الأولى 1414هـ، المركز الثقافي العربي – بيروت – لبنان – الدار البيضاء – المغرب.

9- عبدالوهاب خلَّاف:

علم أصول الفقه، ط. الرابعة عشرة – 1401هـ، دار القلم – الكويت.

10- عز الدين بن عبدالسلام (ت. 660 هـ):

القواعد الكبرى الموسوم بقواعد الأحكام في إصلاح الأنام، تحقيق: د. نزيه كمال حمَّاد ود. عثمان جمعة ضميرية، ط. الأولى 1421 هـ / 2000م، دار القلم – دمشق – سورية، والدار الشامية – بيروت – لبنان.

11- علي بن محمد الآمدي سيف الدين، أبو الحسن (ت. 631 هـ):

الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق: عبدالرزاق عفيفي، بدون تاريخ، المكتب الإسلامي، بيروت – دمشق – لبنان.

12- عبدالقادر بدران القدومي الدمشقي الحنبلي:

نزهة الخاطر العاطر شرح كتاب روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة، ط. الأولى 1991م، دار الحديث – بيروت – لبنان، ومكتبة الهدى – رأس الخيمة – الإمارات العربية المتحدة.

13- عبدالكريم زيدان:

الوجيز في أصول الفقه، ط. السابعة 1420 هـ، مؤسسة الرسالة – بيروت – لبنان.

14- كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الرباط:

الاجتهاد الفقهي، أي دور؟ وأي جديد؟ سلسلة ندوات ومناظرات رقم (53)، تنسيق: د. محمد الروكي، ط. الأولى 1416هـ/1996م، مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء – المغرب.

15- محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري، جمال الدين أبو الفضل (ت. 711 هـ):

لسان العرب، (بدون تاريخ)، دار صادر – بيروت – لبنان.

16- محمد الخضري بك:

أصول الفقه، ط. الأولى 1407هـ، دار القلم – بيروت – لبنان.

17- محمد بن علي الشوكاني:

إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، ط. 1412 هـ، دار الفكر – بيروت – لبنان.

18- الموافقات: مجلة علمية أكاديمية محكَّمة تُعنى بالبحوث والدراسات الإسلامية، تصدر دوريًّا عن المعهد الوطني العالي لأصول الدين بالجزائر، العدد الأول، ذو الحجة 1412هـ – يونيو 1992م.

تم بحمد الله، نفع اللهُ به كاتبه وقارئه!

———————————-

[1] دكتوراه في العلوم الشرعية، باحث في العلوم الإسلامية والاجتماعية – جامعة الحسن الثاني المحمدية – الدار البيضاء – المغرب.

[2] ينظر: منهج التعليل بالحكمة وأثره في التشريع الإسلامي لرائد نصري جميل أبو مؤنس، ص 28 بتصرُّف.

[3] المرجع السابق، ونفس المكان.

[4] نفسه، ص 27 – 29 بتصرف.

[5] قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، ج 2 ص 260.

[6] تطلق العلة في اللغة على عدة معانٍ، ليس هنا مجال تتبعها وحصرها.

فالعلَّة في اللغة: مشتقة من العلل، يقال: عَلَّ يَعُلُّ ويَعِلُّ – بالكسر والضم – علًّا وعللًا، والعللُ: الشَّربةُ الثانية أو الشرب بعد الشرب تِباعًا.

والعلة: ما يتغير حالُ الشيء بحصوله فيه، وسُمِّي المرض علة؛ لتغيُّر حال الجسم بحصوله فيه، ويقال: هذا علة لهذا؛ أي: سبب.

ومِن أشهر معانيها: أنها تطلق على المرض، فيقال: اعتل؛ أي: مرِض، فهو عليل، ولا أعلَّك الله؛ أي: لا أصابك بعلة؛ ينظر: الصحاح، مادة: علل، ج 5، ص 1773.

والعلة اصطلاحًا: تعدَّدت تعاريف العلماء للعلة، وللحديث المعلول، إلا أن أكثر هذه التعاريف تكاد تتفق على أن العلة عبارة عن سبب غامض خفي، يقدح في صحة الحديث، وعند الأصوليين عرَّفوها بعدة تعريفات، منها:

قيل: هي الوصف المؤثِّر بجعل الشارع لا لذاته.

وقيل: هي الوصف المعرِّف للحُكم.

وقيل: هي الوصف المشتمل على الحكمة الباعثة على تشريع الحكم، وقيل غير ذلك.

ينظر في تعريف العلة لغة واصطلاحًا: القاموس المحيط، ص 1338، ولسان العرب، ج 11 ص 467، 471، والعدة، ج 14 ص 170، والحدود للباجي، ص 72، وأصول السرخسي، ج 2 ص 174، والمحصول، ج 2 ص 305، والإحكام للآمدي، ج 3 ص 186، والتحصيل، ج 2 ص 158، والإبهاج، ج 3 ص 39 – 40، وتيسير التحرير، ج 3 ص 302، وشرح الكوكب المنير، ج 4 ص 39، ومذكرة الشيخ الشنقيطي، ص 275، والوصف المناسب لشرع الحكم، ص 43، والمعدول به عن القياس، ص 13، هامش 3.

[7] ينظر: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3 ص 224، تحقيق: عبدالرزاق عفيفي.

[8] ينظر: المحصول، ج 2 ص 388، والإحكام للآمدي، ج 3 ص 186، والتحصيل، ج 2 ص 224، والبحر المحيط، ج 5 ص 133، وحاشية العضد، ج 2 ص 213، وبيان المختصر، ج 3 ص 27، ونهاية السول، ج 4 ص 260، وشرح المنهاج، ج 2 ص 731، وتيسير التحرير، ج 4 ص 2، والمختصر في أصول الفقه لابن اللَّحَّام، ص 144، وشرح تنقيح الفصول، ص 406، ومفتاح الوصول، ص 140 – 141، وشرح الكوكب المنير، ج 4 ص 238، وفواتح الرحموت، ج 2 ص 274، وإرشاد الفحول، ص 182، وحاشية البناني، ج 2 ص 238، ومباحث العلة في القياس، ص 106 – 201.

 [9] أصول الفقه، عبدالوهاب خلاف، ص 64 وما بعدها.

[10] نزهة الخاطر العاطر لعبدالقادر بدران شرح كتاب روضة الناظر وجُنَّة المناظر لابن قدامة، ج 2 ص 229.

[11] أصول الفقه لأبي زهرة، ص237 – 238.

[12] شفاء الغليل، ص 612 وما بعدها.

[13] ج 5 ص287.

[14] نظرية المقاصد عند الشاطبي لأحمد الريسوني، ص 12.

[15] تجديد المنهج في تقويم التراث لطه عبدالرحمن، ص 102.

[16] منهج التعليل بالحكمة وأثره في التشريع الإسلامي لرائد نصري، ص 33.

[17] التجديد في التعليل الفقهي، الحسن آيت سعيد، بحث ضمن أعمال ندوة مشتركة بعنوان: الاجتهاد الفقهي أي دور؟ وأي جديد؟ ص 121.

[18] ينظر: لسان العرب، ج 12 ص 143، والكليات، ج 2 ص 222، ومعجم لغة الفقهاء، ص 184.

[19] ينظر: مباحث العلة في القياس عند الأصوليين، ص 104 – 105، وغاية الوصول إلى لبِّ الأصول، ص 114، وحاشية الجلال المحلي على جمع الجوامع وكذا حاشية البناني عليه، ج 2 ص 236، ونشر البنود، ج 2 ص 124، والوجيز، ص 201 – 203.

[20] مباحث العلة في القياس، ص 105.

[21] أسس المصلحة في نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي لعبدالسلام الشريف، مجلة الموافقات، العدد الأول، ذو الحجة 1412هـ – يونيو 1992م، ص217 – 218.

[22] نظرية المقاصد عند الشاطبي للريسوني، ص 10.

[23] الموافقات ج 1 ص 196.

[24] نفس المرجع، ج 1 ص 251.

[25] نفسه، ج 2 ص 4.

[26] نفسه، ج 1 ص187، وج 2 ص 299.

[27] نفسه، ج 1 ص 196.

[28] الاعتصام، ج 2 ص 836.

[29] أصول الفقه منهج بحث ومعرفة لطه جابر العلواني، ص 72.

[30] الموافقات، ج 2 ص 238.

[31] المقدمة النظرية: راجعة إلى تحقيق المناط الذي نعيِّن مِن خلاله محل الحكم الثابت بمدركه الشرعي لتنزيل الحكم عليه.

والمقدمة النقلية: ترجع إلى الحكم نفسه، ينظر: الموافقات، ج 3 ص 31.

[32] الموافقات، ج 1 ص 187 – 188.

[33] علم أصول الفقه لعبدالوهاب خلاف، ص 109.

[34] أصول التشريع الإسلامي لعلي حسب الله، ص 153.

[35] الموافقات، ج 4 ص 24.

[36] نفس المرجع، ج1 ص187.

[37] نفسه، ج 1 ص 196.

[38] الوجيز في أصول الفقه لعبدالكريم زيدان، ص 379.

[39] ينظر: الموافقات، ج 2 ص 7 – 8، تحقيق: محمد عبدالقادر الفاضلي.

[40] إرشاد الفحول للشوكاني، ج 1 ص 319.

[41] أصول الفقه للخضري بك، ص 304.

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى