إصدارات دينية وشرعية

تعظيم النَّصِّ أم تَعظِيمُ فِقهِ النَّصِّ؟! (2- 2)

ذكرنا في الجزءِ الأولِ مِن الموضوع ( http://www.msf-online.com/?p=13088 )، كيف أنَّ عِبارَةَ “تَعظِيمِ النَّصِ” استحوذت على اهتمَامٍ بَالِغٍ، وكيف أنَّ هذا الاهتمامَ نحَا بها نحو مَفهُومٍ خَاطِئٍ، يَرفعُ مِن قِيمةِ الأَخذِ الظَّاهري الحرفي على الفَهمِ والفِقهِ؛ وأنَّ المرادَ الصَّحيحَ “تَعظِيمُ فِقهِ النَّص” ودلالته المستنبطة بحسب قواعد الاستدلال المعروفة في أصول الفقه. وجَرى الحَديثُ عن الآثارِ السَّلبيةِ المترتبةِ على الحديث عن “تعظيم النص” دُون “تعظيم فقه النص”، ونستكمل في هذا الجزء ما كنا ابتدأناه هناك.

ثانيا: إهمال أصول الفقه وقواعد الاستنباط:

وهذا الإشكال امتداد للإشكال الأول، ولولا أهميته لما أفرده الباحث بالذكر. فأصول الفقه هو ذلك العلم الذي نستنبط بواسطته الأحكام الشرعية الفرعية مِن نصوص القرآن والسنة[1]. ولا يختلف اثنان من المسلمين على أهمية أصول الفقه. قال العلامة ابن خلدون -وهو من علماء الاجتماع والتأريخ: “اعلم أن علم أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية، وأجلِّها قدرا وأكثرها فائدة”[2].

وكلام الأصوليين -وهم أهله- في فضله كثير. قال الغزالي: “وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع. وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل؛ فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد العقل له بالتأييد والتسديد…”[3]. ولو لم يكن لأصول الفقه حاجة لما تتابعت الأمة على التصنيف فيه ابتداء أواخر القرن الثاني الهجري. بل قد تناغم التصنيف في كل من علم أصول الفقه والحديث منذ القرن الثاني الهجري. وقد اشتهر عند علماء الحديث تقسيم علم الحديث إلى علم رواية وعلم دراية.

كل هذا يجتمع ليكون أقوى برهان على أنَّ الأُمَّة أدركت أنَّ فقه النَّص لا يَقِلُّ أهمية عن حِفظِ النَّص، وأنَّ الشرع كطائر يطير بجناحين، أولهما النَّص الشرعي وثانيهما فقه النص. قال ابن المديني: “التَّفقه في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم”[4]؛ وقال أبو عاصم النبيل: “الرئاسة في الحديث بلا دراية رئاسة نذالة”[5]؛ وهذا ابن عبد البر يقول، بعد أن ذكر بابًا في ذكر مَن ذَمَّ الإكثار مِن الحديث دون التفهم والتفقه: “وأمَّا طلبُ الحديث على ما يطلبه كثير من أهل عصرنا اليوم، دون تفقه فيه، ولا تدبر لمعانيه، فمكروه عند جماعة من أهل العلم”[6].

فشريعة رب العالمين، هي مجموع الأمرين، لا انفصام لأحدهما عن الآخر، وتعظيم شرع الله، هو “تعظيم النص”، وتعظيم لدلالته، بل إن تعظيم النص لا يتحقق إلا بتعظيم دلالته، وفقهه، وأن تعظيم النَّص قد يقتضي العدول عن ظاهره.

ولولا أن طبيعة المقالة لا تسمح بالإطالة لاستفاض الباحث في ذكر أصول فقه النَّص غير المتعلقة بمجرد الأخذ بظاهره، ليثبت أنَّ تعظيم النَّص بتعظيم دلالته، وأنَّ دلالته قد تثبت بسبب أمر خَارِجٍ عن ذاتِ النَّص، الأمر الذي قد يفهم أنَّه معارضةٌ لظاهرِ النَّص، بل قد حمل على أنه منافاة لتعظيم النَّص.

بعض أصول فقه النص غير المتعلقة بظاهر لفظه:

المتأمل في أصول الفقه، وما قبلها من قواعد اللغة العربية، يظهر له بجلاء أن ثمة عوامل عديدة تؤثر في “معنى اللفظ أو الكلام”، بعيدا عن معاني آحاد الكلمات التي يتكون منها هذا الكلام. ونورد هنا نقلا مفيدا للعلامة الطاهر بن عاشور، تحت فصل بعنوان (أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية)[7]، يقول فيه -رحمه الله: “وبذلك لم يستغنِ المتكلمون والسامعون عن أن تحف بالكلام ملامحُ من سياق الكلام، ومقام الخطاب، ومبيّناتٌ مِن البساط، لتتظافر تلك الأشياءُ الحافة بالكلام على إزالة احتمالاتٍ كانت تعرض للسامعِ في مُرادِ المتكلم مِن كلامه. ولذلك تجدُ الكلامَ الذي شافه به المتكلم سامعيه أوضح دلالة على مراده من الكلام الذي بَلَّغَه عنه مبلَّغ، وتجد الكلامَ المكتوب أكثرَ احتمالاتٍ مِن الكلام المبلّغ بلفظه المشافه به؛ مِن أجل فقده دلالة السياق وملامح المتكلّم والمبلّغ، وإن كان هو أضبط من جهة انتفاء التحريف والسهو والتصرف في التعبير عن المعنى عند سوء الفهم.

ومن هنا يقصر بعض العلماء ويتوحّل في خَضخاض من الأغلاط حين يقتصر في استنباط أحكام الشريعة على اعتصار الألفاظ، ويوجّه رأيه إلى اللفظ مقتنعاً به، فلا يزال يقلَّبه ويحلّله ويأمل أن يستخرج لُبَّه. ويهمل ما قدمناه من الاستعانة بما يحفَ بالكلام من حافات القرائن والاصطلاحات والسياق. وإنّ أدق مقام في الدلالة وأحوجه إلى الاستعانة عليها مقام التشريع.

وفي هذا العمل تتفاوت مراتب الفقهاء، وترى جميعهم لم يستغنوا عن استقصاء تصرّفات الرسول -صلى الله عليه وسلم، ولا على استنباط العلل، وكانوا في عصر التابعين وتابعيهم يشدّون الرحال إلى المدينة ليتبصّروا من آثار الرسول -صلى الله عليه وسلم، وأعماله، وعمل الصحابة ومن صحبهم من التابعين. هنالك يتبيّن لهم ما يدفع عنهم احتمالات كثيرة في دلالات الألفاظ، وليتضح لهم ما يستنبط من العلل تبعاً لمعرفة الحكم والمقاصد. وفي هذا المقام ظهر تقصير الظاهرية وبعض المحدّثين المقتصرين في التَفَقُّه على الأخبار”[8].

وأهم هذه العوامل الخارجة عن ذات اللفظ، والتي تؤثر في معنى الكلام: دلالة السياق،والاستقراء، والقياس.

ثالثا: احتكار الصواب والتشنيع على المخالف:

إن من أكبر الإشكالات التي وقع فيها بعض المعاصرين الذين اعتمدوا هذه العبارة أصلا مِن أصول السنة والجماعة، احتكارهم للخلاف، ورميُ كُلِّ مَن خالفهم بأنَّه خالَفَ السُّنةَ، وربما كفروه بحجة رده للسُّنة، حتى لو كان مِن كبار علماء الأمة.

وما أقبح جهل هؤلاء وخطر ضررهم على الأمة. أَلَم يعلموا أنَّ علماء الأمة ليسوا بهذه السذاجة، ولا السطحية، فضلا عن قلة الدِّين ليردوا حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟! قال ابن عبد البر: “ليس لأحد من علماء الأمة يثبت حديثا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يرُدُّه دون ادعاء نسخ عليه بأثر مثله، أو بإجماع، أو بعمل يجب على أصله الانقياد إليه، أو طعن في سنده، ولو فعل ذلك أحد سقطت عدالته فضلا عن أن يتخذ إماما ولزمه إثم الفسق”[9]؛ وقد قال قبل ذلك: “أفرط أصحاب الحديث في ذم أبي حنيفة، وتجاوزوا الحدَّ في ذلك. والسبب والموجب لذلك عندهم إدخاله الرأي والقياس على الآثار واعتبارهما، وأكثر أهل العلم يقولون: إذا صح الأثر بطل القياس والنظر، وكان رده لما رد من أخبار الآحاد بتأويل محتمل، وكثير منه قد تقدمه إليه غيره، وتابعه عليه مثله ممن قال بالرأي. وجُلُّ ما يوجد له من ذلك ما كان منه اتباعا لأهل بلده، كإبراهيم النخعي، وأصحاب ابن مسعود؛ إلا أنه أغرق وأفرط في تنزيل النوازل هو وأصحابه، والجواب فيها برأيهم واستحسانهم، فأتى منه من ذلك خلاف كبير للسلف وشنع، وهي عند مخالفيهم بدع، وما أعلم أحدا من أهل العلم إلا وله تأويل في آية أو مذهب في سنة، ردَّ مِن أجل ذلك المذهب سُنة أخرى بتأويل سائغ أو ادعاء نسخٍ، إلا أنَّ لأبي حنيفة مِن ذلك كثيرا، وهو يوجد لغيره قليل. وقد ذكر يحيى بن سلام، قال: سمعت عبدالله بن غانم، في مجلس إبراهيم بن الأغلب يحدث عن الليث بن سعد، أنه قال: أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة كلها مخالفة لسُّنة النَّبي -صلى الله عليه وسلم- مما قال مالك فيها برأيه، قال: ولقد كتبت إليه في ذلك”[10].

ثمَّت فرق كبير بين من يتبنى رأيا فقهيا، لكنه يعتقد -كما يروى عن الشافعي- أن رأيه صواب، لكنه يحتمل الخطأ، وبين من يعتقد أنه رأيه هو الحق المطلق. واعتقاد المستدل بأنه يستند إلى النَّصِ يزيد من قناعته بصوابيته المطلقة، وهذا يوفِّر له حصانة مطلقة، مصحوبة بنظرة فوقية “للآخر”، وقد يتطور الأمر كما هو عند متعصبة المذاهب، أو جماعات الغلو، إلى إخراج المخالف إلى دائرة البدعة، أو ربما دائرة الكفر.

رابعا: التضييق على الاجتهاد

من المتقرر أن الله أنزل هذا الدين لكل زمان ومكان، وأن الوحي -وهو مصدر الشريعة الأول- قد انقطع بموت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبه اكتملت شريعة الإسلام: ((اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي ورَضِيتُ لَكُم الإِسلَامَ دِينًا فمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخمَصَةٍ غَيرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ))، المائدة: 3.

وقد أودع الله فيما نزل مِنه خصائصَ تُمكِّنَه مِن هدايةِ البشرِ في كُلِّ ما يحتاجونه في كُلِّ زمَانٍ ومكانٍ، إذ مهمة البشر أن يستنبطوا مِن رسالةِ السماءِ ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم، وهذا هو الاجتهاد. تقول الدكتورة نادية العمري في كتابها الاجتهاد: “إن النصوص العامة في الكتاب الكريم والسنة المطهرة فتحت المجال للاجتهاد، بسبب اتصافها بصفتين بارزتين، السمة الأولى العموم…، والسمة الثانية التعليل”[11].

إن التضييق على الاجتهاد بحجة الحذر مِن مخالفة النَّص يفضي إلى الدفع إلى الخروج عن الشريعة، وكما أنَّ الجمود المذهبي عائق لمواكبة الشريعة لمستجدات الحياة، فإنَّ الالتزام الحرفي بنصوص الوحي قد يكون عائقا لمواكبة الحياة، فإنَّه في حقيقته التزام بفهم القارئ للنص، وليس التزاما بمراد الله مِن النَّص، فإنَّ معرفة مراد الله مِن النَّص لا تتم إلا بإعمال أصول الفقه الشاملة الجامعة التي استقر عليها فقهاء الإسلام.

خامسًا: إهمال قواعد الشريعة الكلية، ومقاصدها العظام:

وذلك لأنَّ حُجَّة هؤلاء تعظيم النَّص، والأخذُ به، بصرف النَّظر عن مخالفةِ هذا النَّص لقواعِدِ الشَّريعةِ الكُليَّةِ. وهنا ننبه أنَّ النُّصوص الصَّحيحة لا تعارض قواعدَ الشَّريعةِ الكُليَّةِ؛ فمبنى هذه القواعد هو هذه النُّصوص، والشَّريعةُ كُلٌ واحِدٌ، مُتنَاسِقٌ، مُتنَاغِمٌ، لا تَضاربُ بين آحادِها، ولا بين آحادِها وقواعِدِها، ولكنَّ التَّضَارُب يحصلُ بين ما يظنُّه البعضُ ظاهِرًا للنَّص وبين أُصولٍ وقواعِدَ شَرعيةٍ مُتفقٍ عليها.

فمَن سَلطَ النظر على آحاد الأدلةِ الآمِرةِ بالطَّهارةِ مِن النَّجاسةِ، والتَّحذيرِ مِن عَدمِ الاستبراءِ مِن البولِ، وأهمل النَّظرَ في القاعدةِ الكُليةِ للشَّريعةِ.. بأنَّ الدِّين مَبنيٌّ على رَفعِ الحرجِ والتِيسيرِ، أَصابَه الوسواسُ، والتَّنطُّعُ، وأصَابَته المشقَةُ والحَرجُ. ومَن سلَّطَ النَّظرَ على آحادِ الأدِلةِ الآمرة بهجر المبتدع، وأهمل اعتبار أَمرِ الشَّريعةِ بالوحدةِ بين المسلمين، وحِفظِ بيضَتِهم، ولُزُومِ جماعَتِهم، مِن قواعدِها الكُليَّةِ ومبَانيها العِظامِ، هَجرَ كَثيرًا مِن النَّاس، وفَرَّقَ اجتماعَهم، ومَزَّقَ كلِمتَهم، وأَوقعَ بينهم العداوة والبغضاء.

فإذا تمَّ إهمال قواعدِ الشَّريعةِ الكُليَّةِ اضطَربَ الفِقه، فاضطَربَت حياةُ النَّاس، وبحثَ النَّاسُ عن قانونٍ يضبِطُ أُمورَهم ويُرجعُها إلى نصَابها، فيَضطرُّون إلى غَير الشَّريعةِ، فيعمَدُون إلى قَانونِ البَشر، فيرجعون إليه، ويأخذون به. وهكذا تتنحى الشريعة، ولكن بفِعلِ مَن؟ بفعل طائفتين مِن الفقهاء: مُتعصِّبةُ المذاهب، والجامدون على فقههم الظاهريِّ للنُّصوص.

سادسا: عدم تعظيم الشرع الذي لا يظهر لبادئ الرأي أنه مأخوذ من النص:

هناك أحكام كثيرة لم ترد النصوص بها بدلالة منطوقة أو واضحة، وإنما دلَّت عليها النُّصوصُ مجتمعٌةٌ، بنوع مِن أنواع الدلالات الكثيرة التي تقدَّم ذكرها. ومِن هذه الأحكام ما هو واجبٌ، ومنها ما هو شَرطٌ لا تصِحُّ العبادةُ إلا به، بل إنَّ منها ما يعكس الأخذُ به حقيقةَ تَعظِيمِ الشَّريعةِ، والأمر والنهي، وتعظيم شعَائِرِ الله. وثمَّتَ أمثِلةٌ كثيرةٌ على ذلك. لكن نقتصر على هذه القِصةِ كشَاهِدٍ على وُجودِ عَددٍ مِن الأحكام الشرعية المستَنبَطةِ بصُورةٍ بعيدَةٍ مِن عُمومِ النُّصوصِ، وليس مِن نَصٍّ واحِدٍ.

أخرج الخطيب البغدادي، في كتابه (نصيحة أهل الحديث)، أنّ امرأة وقَفَت على مجلسٍ فيه يحيى بن معين وأبو خيثمة وخلف بن سالم، في جماعة يتذاكرون الحديث، فسمعتهم يقولون: قال رسولُ الله، قد رواه فلان، وما حدَّث به غُيرُ فلان. فسألتهم عن الحائض تَغسِلُ الموتى وكانت غَاسِلة؟ فلم يجبها أحدٌ مِنهم، وجَعلَ بَعضُهم يَنظُر إلى بعضٍ، فأَقبَل أبو ثُورٍ، فقالوا لها: عليك بالمقبل. فالتفتت إليه وقد دَنَا مِنها؛ فسألته. فقال: “نعم، تَغسِلُ الميِّتَ، لحديثِ القاسم عن عائشة أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها: (أما إنَّ حَيضَتك ليسَت في يَدِك)، ولقولها: كنت أفرُقُ رأسَ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بالماء، وأنا حَائِضٌ. قال أبو ثور: فإذا فَرقَت رأسَ الحيِّ فالميِّتُ أَولى به. فقالوا: نعم، رواه فلان، وحدثناه فلان، ويعرفونه مِن طريق كذا، وخاضوا في الطرق. فقالت المرأة: فأين كنتم إلى الآن؟![12]

ومِن أَمثِلةِ الأحكامِ الشَّرعيةِ التي دلَّت عليها قَواعِدُ الشَّريعةِ الكُليَّةِ دُون آحادِ أَدِلَتِها، أحكامُ الحياةِ الاجتماعيةِ بين النَّاس؛ وكَثيرٌ مِن أحكامِ المعاملات المالية. فإن آحادَ الأَدِلةِ لم تَدُلَّ عليها، ولا جَاءَت الشَّريعةُ بمثل ذلك، وإنَّما وَضعَ الشَّارعُ قَواعِدَ عامَّةً، لتُبيِّنَ ما هو محرَّمٌ مِن المعاملات المالية: كالغِشِّ والرِّبا والغَرَرِ وبَيعِ ما هو مُحرَّمُ المنفعَةِ، وما عدا ذلك فهي معاملاتٌ الأَصلُ فيها الإباحَةُ، وقُل مِثل ذلك في أكثر أبواب الفقه.

فما موقف الظاهرية الجُدد مِن هذه الأحكام؟ هل يعظِّمونها كما يعظِّمون ما دلَّت عليه أفهَامُهم مِن ظواهرِ النُّصوص؟!

لقد وَقعَ كثيرٌ مِن الشَّباب في هذا الشَرَك حينما ظنُّوا أنَّ تعظيمَ النُّصوصِ، أو تَعظِيمَ الشَّرعِ، مَقصُورٌ على تَعظيمِ بعضِ الأحكامِ التي دلَّت عليها نُصوصٌ فَهمُوها فَهمًا ظَاهِريًّا أو سَطحيًّا، ومِن ثمَّ فقد مَنحوا مَن وافقَهم نيشانًا في تعظيمِ هذه الأمورِ، وسَلبوه عن كُلِّ مَن عظَّم جوانِبَ الشَّرعِ الأخرى على كثرتها، ثم انزلق عددٌ مِنهم في اتهام الآخرين، ثمَّ تدرَّجَ الأَمرُ لتبدِيعهم وتَفسِيقِهم وربَّما تكفيرهم.

سابعا: تقديم الدعم اللا مباشر للفكر الحداثي، من خلال إبراز الفقه الإسلامي بصورة سلبية:

كثيرًا ما نَجِدُ عند عددٍ مِن الإعلاميين البَارزين، أو أصحابِ ما يُسمَّى بالفكرِ الحداثيِّ، عبارات تلمِزُ ما يُطلِقون عليه بالتَّيار الدِّيني بأنَّه “لم يَفهَم رُوحَ الإسلام، ولم يَفهَم معنى التَّطورِ الإنساني، لذا وَجبَ على التَّيارِ الحداثيِّ أن يُقدِّم الفَهمَ الصَّحِيحَ للدِّين”[13]، ولذلك نجد أنَّ أحدَ دعائِمَ هذا الفِكرِ المنحَرِفِ هو “حُريَّةُ فَهمِ النَّص”، وعَدمُ قُبولِ “قُيودِ فَهمِ النَّص” التي وَضعَها السابقون، سواء غلَّفوا هذا باسم الاجتهاد، أم بأيِّ اسمٍ آخر، فمِن حقِّ “كُلِّ مُسلمٍ أن يَفهَم عن الله مِن كِتابِ الله، وعن رَسولِ اللهِ مِن رَسولِه.. بدون تَوسيطِ أَحَدٍ مِن سَلَفٍ ولا خَلَفٍ”[14].

ولذلك فتراهم دوما ينادون بأنَّ أوَّل ما يجب القيام به مِن أجل المراجعة المعمَّقة للقرآن الكريم والفَهمِ له “هو إعادَةُ قراءَةٍ للكتاب العزيز، واستكشَافٍ لأحكامه ولمحتواها التشريعي، حتى نتبين بالتَّدقيقِ ما جاءَ به القرآنُ الكريم، ونميزه مما نَسبَه إليه المفسرون والفقهاء عبر العُصور”[15].

إن جناية تيارات الغلو على الإسلام كثيرة جدا، فذلك الفهم المنغلق الذي قدَّموه للبشرية على أنَّه هو الفَهمُ الصَّحيحُ للإسلامِ مَنحَ أصحَابَ الفَكرِ الحداثي حُجَّةً قَويَّةً لضُرورةِ التَّحرُّرِ مِن سُلطةِ الشَّريعةِ، بحُجَّةِ الانفكاك مِن سُلطَةِ النَّص، أو سُلطَةِ الفَهمِ الحرفي للنُّصوص. انظر إلى عبدالمجيد الشرفي الذي يعتبر من أساطين ما يسمى بالفكر الحداثي إذ يقول: “في نَظري الأهم مِن ظاهِرِ الإسلامِ جَوهرُه. [ثمَّ يُوجِّه كلامَه لمـَن أَجرى معه المقابلة] أنت تَطرحُ هنا كُلَّ ما كان الإصلاحيون يَطرَحونه، ويَرغَبون في التَّخلُّص مِنه: إسلام القشور. بدءا بالشيخ محمد عبده، ومثله في ذلك الطاهر الحداد، وغيرهم من الإصلاحيين المسلمين كثير، الذين نشدوا الرغبة في الابتعاد عن الحرفيَّةِ في تأويله والاتّصال بجوهره. هذا الوضع الجديد الذي أوجدوه سيُبقي على خصوصية إسلامية، لأنَّ الإسلامَ هو الدِّينُ الوحيدُ، مِن بين الديانات الكبرى، الذي أَبطَل الوسَائِطَ بين اللهِ والإنسان. وعندما نقارِنه بالوَضعِ في المسيحية أو في اليهودية فإنَّ لرجال الدين عندهما سُلطَةٌ مُعترفٌ بها وفاعلة، بينما رِجالُ الدِّين عندنا يَرغبون في أداءِ هذه الوظيفة ويُنكرونها نظريًا، ولذلك يقولون ليس هناك رِجالُ دِينٍ في الإسلام، بل هناك علماءُ دِينٍ، ثمَّ يفرضون على المسلم إتّباع ما يفتون به، أو ما يؤَوِّلون به، أُسوةً بأيِّ مُؤسَّسةٍ دِينيةٍ مُهيكَلةٍ. وربما كان غيابُ المؤسسةِ الدينيةِ بالمراتبية المعهودةِ في المسيحيةِ يحمّل المسؤولية كاملة للمسلم، وهو غَيرُ مؤهل، وغير مستعدّ، دائما لتحملها، فالمسؤولية مرتبطة بمستوى الوعي، ومرتبطة بمستوى الثقافة، وبالوضع الاجتماعي والاقتصادي. ولا نستغرب إذن أن يحاول المسلم العادي أن يلقي المسؤولية على غيره، بينما الخطاب القرآني يتوجّه إليه بصفته فردا، وبصفته حرّا، لا بصفته رقما في مجموعة، أو بيدقا تحرّكه السياسة أو تحرّكه اختيارات من نوع آخر”[16].

[1] انظر: جملة من تعريفات الأقدمين لأصول الفقه في كتاب الدكتور يعقوب الباحسين (أصول الفقه: الحد والموضوع والغاية)، ص88- 120، والتعريفات متقاربة.

[2] مقدمة ابن خلدون: ص379.

[3] المستصفى: ج1/3.

[4] الجامع لأخلاق الراوي والسامع، للخطيب البغدادي: ج2/211.

[5] المصدر السابق: ج2/181.

[6] جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر: ج2/1020.

[7] مع أن الباحث قد لا يوافق على نظرية مقاصد الشريعة التي تبناها الشيخ -رحمه الله.

[8] مقاصد الشريعة الإسلامية، للطاهر بن عاشور: ج3/81.

[9] جامع بيان العلم: ج2/289.

[10] جامع بيان العلم: ج2/289.

[11] الاجتهاد في الإسلام، لنادية العمري: ص267.

[12] نصيحة أهل الحديث: ص38.

[13] الحداثيون العرب في العقود الثلاثة الأخيرة والقرآن الكريم، لمفتاح الجيلاني: ص67.

[14] النص القرآني أمام إشكاليات البنية والقراءة، الطيب تيزيني: ص281. عن “الفهم الحداثي للنص الديني بين دعاوى الاجتهاد المنضبط والتَّجديد المتفِّلت”، إعداد أ. د. محمد بن زين العابدين رستم، بحث مقدم إلى  الملتقى الدولي “فهم القرآن والسنة على ضوء علوم العصر ومعارفه”، جامعة الأمير عبدالقادر، قسنطينة- الجزائر، في 1433هـ الموافق 2011م:

http://vb.tafsir.net/tafsir29384/#.VdbVOPlViko

[15] القرآن والتشريع.. قراءة جديدة في آيات الأحكام، الصادق بلعيد: ص28. عن: الفهم الحداثي للنص الديني بين دعاوى الاجتهاد المنضبط والتَّجديد المتفِّلت.

[16] مقابلة له في مجلة الأوان الإلكترونية، بتاريخ 22 نيسان 2007م:

http://www.alawan.org/article221.html

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى