كتب وبحوث

تعريف العقد المطبوع مسبقا وفوائده وسلبياته

بقلم د. علي أبو البصل

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسَّلام على رسوله الكريم، المعلِّم والهادي إلى صراطٍ مستقيم.

أمَّا بعد:

فإنَّ إسلامنا العظيم قد حدَّد لنا طريقة التفكير المنتِجة، التي تقوم على التحليل والتدقيق، والتقييم من أهل الخبرة والاختِصاص؛ وُصولاً إلى رأيٍ علمي يَسنُده الدليل من منطق الشرع والعقل والواقع، بعيدًا عن الهوى والتشهِّي والرأي المجرَّد.

والفقه الإسلاميُّ يتَّسم بالمرونة العلميَّة، القائمة على المصلحة والعدل، ومن هنا وُجد ما يسمَّى بالفقه المقارن، الذي يتَّسع للرأي والرأي الآخر، وصولاً إلى رأي راجح في المسألة مَدارِ البحث، يحقِّق مصالح المكلَّفين في الدنيا والآخرة.

والوقائع الجديدة التي تَحتاج إلى حكم شرعيٍّ لا حصرَ لها؛ لأنها تتولَّد مع الزمن شيئًا فشيئًا، وتعقَد بعضها وتشابك، والمَجامع الفقهية تقوم بدَورها في ذلك، ولكن البحث الفقهيَّ يبقى مادة ذلك وأساسَه.

وقضية استثمار الأموال وما يتعلَّق بها من عقود مطبوعة مسبقًا – من القضايا التي عُني بها الفقه الإسلامي، ولم يقف أمامها عاجزًا، بل أعطى لكلِّ نازلة حكمَها، وبيَّن ما لها وما عليها، وفق قواعدَ محددة، ومقاصِدَ ثابتة.

إن مبدأ سلطان الإرادة لم يَعُد المرتكَزَ الوحيد الذي يقوم عليه التعاقد في عصرنا الحاضر؛ بسبب ظهور أنماطٍ جديدة من العقود ترتبط بالنشاط الاقتصادي، وتنوُّع السلع والخدمات، وما تقتَضيه من سرعةٍ في إتمام المعاملات والصفقات، ولم تعد إرادة جميع أطراف العقد حرَّةً في مناقشة شروط العقد، وتحديد مضمونه، وأصبح المتعاقد الذي يحتلُّ مركزًا اقتصاديًّا هو الذي ينفرد بتحديد مضمون العقد، ويقتصر دور المتعاقِد الآخر بالتوقيع على عقدٍ مطبوع ومُعدٍّ مسبقًا؛ الأمر الذي أخلَّ بمبدأ التكافؤ في اقتصاديات العقد، وعدم التكافؤ ليس قاصرًا على المستهلك، بل يوجد بين التُّجار أنفسهم.

والأسواق في هذا الزَّمان تعدَّدت وتنوَّعَت، وأصبح التَّاجر يطَّلع على الأسواق العالميَّة، وهو في بيتِه ومكتبه وفي الطائرة، وكلِّ مكان على هذا الكوكب، ويَستطيع أن يبيع ويَشتريَ من تلك الأسواق بلا عناء أو مشقَّة، ويكون التاجر ملمًّا بأمور تجارته ومصالحه، وإلا لما كان تاجرًا.

والطرَف الضعيف هو المستهلك والتاجر الصغير، الذي قد يُستغَلُّ بالتوقيع على عقود مطبوعة مسبقًا؛ لعدم معرفته بحقوقه المقرَّرة شرعًا ونظامًا، والعدالة تَقتضي التَّساويَ أو مُقاربة التساوي بين المتعاقدَين في الحقوق والواجبات.

أهميَّة الموضوع، وسبب اختياره:

تَكتسب الدراسة أهميتها من الأمور الآتية:

1 – ارتباط الدراسة بالمصالح الحاجيَّة للمكلَّفين.

2 – ارتباط الدراسة بواقع حياة الناس؛ لأنهم يتَهافتون إلى الأسواق لقَضاء حاجاتهم اليوميَّة من السِّلع والخدمات ويوقِّعون العقود المنظِّمة لذلك دون معرفةٍ لحقوقهم المقرَّرة شرعًا ونظامًا؛ مما يَستلزم بيانَ الحقوق الشرعية للمتعاقدين؛ ليَدخل الإنسان السوق عن علم ودراية، وهو مطمئنٌّ على دينه ونفسِه وماله.

3 – الغَبن الفاحـش، والتضخُّم المتولِّد عنه؛ لتَأتي هذه الدراسة سعيًا لتحقيق العدالة التي قامت عليها شريعتُنا الغرَّاء في أوسع مدًى.

مشكلة الدراسة:

حقوق المستهلِكين وصغار التجَّار المقررة شرعًا وعقلاً وواقعًا؛ تحقيقًا للعدالة التي تَعني التساويَ أو مقاربةَ التساوي في اقتصاديات عُقود المعاوضات المالية، بما يحفظ استقرار الأسواق، ومنعَ الاستغلال والأزماتِ المالية، التي تعود بالضَّرر المحض على الفردِ والجماعة والدولة، والمجتمع الإنسانيِّ بأسره، والدقة العلميَّة تَقتضي التعريف بحقوق المستهلكيـن وصغارِ التجَّار، فيما يتعلق بالعقود المطبوعة مسبقًا؛ لأنهم الأضعفُ والأكثرُ في المعادلة الاقتصادية.

مناهج البحث الفقهي المتَّبَعة في الدراسة:

أ – الوصفي.

ب – التوثيـقي.

ج – التحليلي.

د – الحواري والمقـارن، والترجيح القائم على الدَّليل الذي يقتضي المصلحةَ والعدل.

وستكون الدراسة بإذن الله تعالى وتوفيقه وفقَ الخطَّة التالية:

المطلب الأول: تعريف العقد المطبوع مسبقًا.

المطلب الثاني: تكييف العَقد المطبوع مسبقًا.

المطلب الثالث: تأصيـل العقد المطبوع مسبقًا.

المطلب الرابع: صُور العقد المطبوع مسبقًا، وأحكامُها.

المطلب الخامس: القواعد والضوابط الفقهية المنظِّمة للعقود المطبوعة.

المطلب السادس: الزيادة أو النقص على مطلق العَقد المطبوع.

وأخيرًا: النتائج والتوصيات.

المطلب الأول

تعريف العقد المطبوع مسبقًا

الفرع الأول – العقد المطبوع مسبقًا في اللغة:

تُفيد قواميس اللغة العربية أنَّ العقد – بفَتح العين -: الربطُ بين أطراف الشيء حسيًّا، يُقال: عقَدْت الحبل؛ أي: ربطَت بين طرَفَيه.

ويُطلق أيضًا على الإحكام – بكسر الهمزة – أي: التقوية المعنويَّة، أو الربط المعنوي، فضلاً عن التقوية المادية؛ يقال: تعاقد القوم؛ أي: تعاهَدوا [1].

والمطبوع: طبَع الشيءَ طبعًا وطباعة: صاغه وصوَّره في صورةٍ ما، وطبَع الكتاب: نقَل كلماتِه المؤلَّفةَ المجموعة إلى الورَق بوساطة آلات الطَّبع، وانطبع: صار مطبوعًا، والطابع: ما يُطبَع به، أو يُختم.

ومسبقًا: سبَقه إلى الشيء سبقًا: تقدَّمه، وسبق إلى الأمر: غلَب، وأسبق القومُ إلى الأمر: بادَروا، وسابق إلى الشيء مُسابقة وسِباقًا: أسرع إليه، وسبَّق: أخذ السَّبَق، والسابق: المتقدِّم [2].

الفرع الثاني – العقد المطبوع مسبقًا اصطلاحًا.

نموذجٌ مكتوب؛ ليتمَّ التعاقد بموجِبه في الظروف الموحَّدة، يحتوي على التِزامات بين أطرافه، وما يكون لهم من حقوق، ويَقتصر دور القابل في الغالب على مَلء الفراغات التي فيه؛ لمعرفة بياناته الخاصَّة؛ أي: اقتران الإيجاب بالقَبول في مجلس العقد، يكون لاحقًا لعَقدٍ مُعدٍّ ومَصوغٍ بطريقة نظاميَّة مدروسة في الغالب؛ لحفظ مصالح الطَّرَف الأقوى، وما على الطرف الضعيف إلا التوقيع.

وعلى هذا لا يَخرج المعنى الاصطلاحيُّ عن المعنى اللغوي [3].

والخلاصة: أنَّ العقود المطبوعة مسبقًا عبارةٌ عن صيغ معدَّة من قِبَل أحد طرَفَي العلاقة التعاقديَّة، تتضمن أحكامَ وشروطَ المعاقدة، ليعرضها على الطرف الآخَر في حال الرغبة في الدخول في العقد دون أن يكون للأخير إلاَّ الحدُّ الأدنى من الاختيار.

الفرع الثالث – فوائد العقد المطبوع مسبقًا، وسلبياته:

يوجد للعقود المطبوعة مسبقًا عدَّة فوائد، نُجمِلها فيما يأتي [4]:

1 – الكفاءة في أداء الأعمال والضَّغط على تكاليف الإنتاج، والنفقات الإداريَّة، بما في ذلك عمليات التعاقد في البيع والشراء والإجارة، وغير ذلك.

2 – اختصار الوقت، وتقليل الإجراءات الإداريَّة؛ إذ إن وجود صيغةٍ جاهزة جَرى الموافقة المسبقةُ عليها من الجهة المعنيَّة في المؤسسة يؤدِّي إلى زيادة كفاءة العمل.

3 – تلبية حاجة المجتمَع من العقود التي يكون محلُّها السِّلع الإلكترونية والميكانيكيَّة، والخدمات الطبِّية، وعمليات الصيانة والتشغيل والمقاولات، ومثل هذه العقود تتضمَّن تفاصيلَ كثيرةً يصعب أن تكون محلَّ مساومةٍ في كل مرة.

4 – مُلاءمة حاجات استخدام برامج الحاسوب من قِبَل بائعي السِّلع والخدمات في إتمام المعاملات في كافَّة القطاعات الصناعية والخدمية، ولا يُتصَوَّر ذلك إلا من خلال العقود المطبوعة مسبقًا؛ حتى يَسهُل على الآلة التعاملُ معها.

5 – جعل العلاقة بين المؤسسة وعملائها ذاتَ طبيعة موحدة، وعندئذٍ يمكن معاملة جميع العملاء أو الموظَّفين بصورة جماعيَّة، بدلاً من نشوء علاقة مختلفة مع كلِّ واحد منهم، ومِن ثَم تفادي التفريق بين الناس وفقَ قوتهم التفاوضية.

6 – العقود المطبوعة مسبقًا؛ لما تَلقاه من عناية المعدِّين المتخصِّصين؛ تكون أوضحَ في الصياغة، وأدقَّ في العبارة، ومن ثم أيسَرَ في الفَهم.

وكل ذلك يسهِّل عمل المحاكم، وجِهات فضِّ المنازعات المتولِّدة عن هذه العقود؛ لأنَّ هذه الأحكام المتشابهة، واللغة الموحَّدة، والمعاييرَ المعتمَدة تسدُّ الذرائع إلى النِّزاع، كما أنها تسهِّل فضَّه إن وقَع.

كما يوجد للعقد المطبوع مسبقًا سلبيَّات، منها أنَّها:

أ – عقودٌ جامدة لا تُراعي الفروقَ الفرديَّة بين المتعاقدين.

ب – تحفظ حقوقَ مَن أعدَّها ونظمَها، ويكون ذلك في الغالب على حساب المتعاقِد الآخر.
————————————————————–

[1] انظر: لسان العرب، ج 3، ص 296، وتاج العروس، ج 8، ص 403، وأساس البلاغة، ج 1، ص 429، ومختار الصحاح، ج 1، ص 186.

[2] انظر: لسان العرب، ج 10، ص 151، ومعجم مقاييس اللغة، ج 3، ص 129.

[3] انظر: الوسيط شرح القانون المدني المصري، ج 1، ص 236، والنظرية العامة للالتزام، ص 326.

[4] انظر: الوسيط شرح القانون المدني، ج 1، ص 236، والنظرية العامة للالتزام، ص 326.

المصدر: الألوكة نت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى