كتب وبحوث

بنو إسرائيل وميراث الأرض: لمَن العاقبة في الصِّراع العربي-الإسرائيلي؟ – 1 من 6

بنو إسرائيل وميراث الأرض: لمَن العاقبة في الصِّراع العربي-الإسرائيلي؟ – 1 من 6

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

 

“قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ” (سورة الأعراف: آيتان 128-129).

“(الرَّب للنَّبيِّ يشوع) «مُوسَى عَبْدِي قَدْ مَاتَ. فَالآنَ قُمِ اعْبُرْ هذَا الأُرْدُنَّ أَنْتَ وَكُلُّ هذَا الشَّعْبِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَنَا مُعْطِيهَا لَهُمْ أَيْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. كُلَّ مَوْضِعٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ لَكُمْ أَعْطَيْتُهُ، كَمَا كَلَّمْتُ مُوسَى” (سفر يشوع: إصحاح 1، آيتان 2-3).

“(النبيُّ صموئيل لشاؤول الملك): فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلًا وَامْرَأَةً، طِفْلًا وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلًا وَحِمَارًا” (سفر صموئيل 1: إصحاح 15، آية 3).

“(يسوع): أَمَّا أَعْدَائِي، أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي” (إنجيل لوقا: إصحاح 19، آية 27).

من جديد، نعود ونطالع قصَّة الخَلق في القرآن الكريم؛ لنتبيَّن كيف نظَّم الله تعالى حياة عباده من بني آدم، وإلى ما وجَّههم إلى ما يرتضيه لهم؛ فيفوزوا برضاه، وينعموا بجنَّته. منذ البداية، أوضح الله تعالى في بيان الحقِّ، في سورة البقرة، أنَّه سبحانه خَلَق الإنسان ليكون ‘‘خليفة’’ في الأرض “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ” (سورة البقرة: الآية 30)”، وقد بيَّن تحليل هذه الآية الكريمة في أكثر من دراسة سابقة، أنَّ الله تعالى أراد أن يحمِّل الإنسان مسؤوليَّة التصرُّف فيما سُخِّر له في الكون، ليس لمعصية ربِّه والتألَّه والتجبُّر في الأرض، إنَّما لطاعة ربِّه وعبادته حقَّ العبادة؛ ليفوز في الآخرة بنعيم أبدي، يفوق متاع الدُّنيا الزَّائل. ونذكِّر بأنَّ الله تعالى قد حذَّر الإنسان من ركون إلى متاع الدُّنيا في العديد من آيات كتابه الكريم، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى في سورة النساء “قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (سورة النّساء: الآية 77). حمَّل الله تعالى الإنسان مسؤولية الخلافة على الأرض، ليس للتمتُّع بالمُلك والسُّلطان والأبَّهة، ولكن لأداء الفرائض التي ينصُّ عليها دستور السَّماء، وقد عبَّر الله تعالى عن مسؤوليَّة أداء الفرائض في سورة الأحزاب بقوله “إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا“(سورة الأحزاب: الآية 72)”.

ينقل تفسير ابن كثير لقوله الله “الْأَمَانَةَ” في الآية 77 من سورة الأحزاب، روايتين عن الصَّحابي الجليل بن عبَّاس، قال في الأولى أنَّها تعني الطَّاعة الواجبة لله، التي إذا أضاعها المخلوق، حلَّ عليه غضب الله وعقابه، وإذا أدَّاها حقَّ الأداء، فاز برضا الله ونعيمه. أمَّا في الرواية الثَّانية، فيُنسب إلى ابن عبَّاس قوله أنَّ معنى “الْأَمَانَةَ” الفرائض، وفي ذلك ما يعزز المقصود بالرواية الأخرى. ويقول ابن عاشور عن تفسير وصفه تعالى الإنسانَ بأنَّه “كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا“، أنَّ الظُّلم يعني الاعتداء على حقِّ الغير والتفريط في حقِّ الله، وأنَّ الجهل يعني انتفاء العلم بما أمر الله ونهى عنه بالتغافُل عن الأوامر والنواهي، وليس الجهل المُطلق، وإلَّا وُصف الإنسان حينها بأنَّه “جاهل”. ولا يشير هذا الوصف إلى الإنسان لتحمُّله الأمانة، بل لتقصيره في مراعاتها. غير أنَّ الله تعالى ينفي التقصير عن كافَّة البشر من بني آدام في الآية التَّالية في سورة الأحزاب “لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا” (سورة الأحزاب: الآية 73) ، أي أنَّ التقصير والتفريط في مراعاة الأمانة شيمة أهل الأرض، ولكن هذا لا يعني ألَّا سبيل إلى رضا الله ومعالجة التقصير، وهو التَّوبة من الإثم “وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا“.

نذكِّر سريعًا بموقف آدم، أبِّ البشر، من الأمانة التي حُمِّلها، وهو الوقوع في المعصية، باتِّباعه إغواء الشَّيطان، الذي يتبرَّر عداؤه لآدم وذريَّته بأنَّ البشر استُخلفوا في الأرض وفُضِّلوا على سائر مخلوقات الله بذلك. كانت حياة النعيم في الجنَّة، حيث لا حاجة للسعي لكسب العيش، ولا مجال للتعرُّض لنوائب الدَّهر، كانت تدريبًا على الطَّاعة، أي أداء الأمانة، أظهر الإنسان الأوَّل تفريطه في أداء الأمانة، بأن عصا ربَّه لمَّا سعى إلى ما هو ليس مخوَّلًا إليه، الخلود والمُلك الأبدي، مصداقًا لقوله تعالى في سورة طه “فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى“(سورة طه: الآية 120). ويكمل المولى في بيان الحقِّ بقيَّة القصَّة وعاقبة المعصية “فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى” (سورة طه: آيتان 121-122). تاب الله على مخلوقه التُّرابي، ولكنَّه أراد تأديبه لكيلا يعيد المعصية ويركن إلى متاع زائل، كما يشير تعالى في الآية التَّالية “قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ”، آمرًا آدم وزوجه وذرِّيتهما باتِّباع الهُدى المنزَّل من عنده لضمان أداء الأمانة على الوجه الذي يرضيه، ويبعد عنهم شبح الشَّقاء في الدُّنيا والآخرة “فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى” (سورة طه: الآية 123). أكثر ما يسترعي الانتباه أنَّ الآيات آنفة الذِّكر في سورة طه جاءت تعقيبًا على قصَّة بني إسرائيل، قبل أن يرسل رسوليه موسى وهارون (عليهما وعلى سائر أنبياء الله ورُسُله أزكى الصلوات وأتم التسليم) لتخليصهم من بطش فرعون، وبعد خروجهم من مصر ونزول التوراة على نبيِّيه إليهم، موسى وهارون.

ومن الملفت أنَّ الله قد عقَّب على قصَّة الخَلق في سورة البقرة، التي يختمها الله بقوله “قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونوَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ” (سورة البقرة: آيتان 38-39)، بالإشارة إلى بني إسرائيل “يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِوَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ” (سورة البقرة: آيات 40-42). إذا تأمَّلنا أقوال المفسِّرين في المقصود بقوله تعالى “وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ“، لوجدنا أنَّه تذكير بضرورة الخضوع إلى الله بالطَّاعة، أي أداء الأمانة؛ لكي يُنجز الله وعده بأن يُثيبهم بنعيم الجنَّة. كان أوَّل أمر إلهي إلى بني إسرائيل، الذين اختصَّهم الله بالمثل من بين كافَّة الأمم، أن يذكروا نعمته عليه؛ والاعتراف بنعمة الله يستوجب الشُّكر، والشُّكر يتمثَّل في الامتثال إلى أمر الله وطاعته، والطَّاعة تعني أداء الأمانة، سند الخلافة على الأرض. نعود ونذكِّر بأنَّ الله قد قطع على بني آدم عهدًا بالشهود له بالوحدانيَّة والرُّبوبيَّة، تنصَّ عليه الآيتان “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَأَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ” (سورة الأعراف: آيتان 172-173).

أرسل الله تعالى رسوله مُحمَّدًا (ﷺ) بالهدى ودين الحقِّ؛ وعلى ذلك، فهو سبحانه يأمر بني إسرائيل بأن يؤمنوا بالكتاب المنزَّل على النبيِّ (ﷺ)، الذي يتَّفق مع صحيح كتابهم “وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ“. وردًّا على التساؤل الذي قد يتبادر على ذهن من يقرأ الآية، عن سبب كُفر بني إسرائيل بما جاء به نبيُّ العرب برغم تصديقه لما جاء به موسى، يبيِّن لنا الله أنَّ بني إسرائيل أخفوا كتابهم المنزَّل على موسى، و ‘‘اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا’’، أي اتَّبعوا أهواءهم في كتم بيان الوحي لعلَّهم يصيبون منفعة دنيويَّة زائلة. يأمر الله بني إسرائيل بالخوف من عقابه “وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ“، وأداء الأمانة المفروضة عليهم التي تستتبع التَّقوى “وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ“، والتي هي، كما أظهرت الدِّراسة السَّابقة، مفتاح الجنَّة. وقد أوضح الله لنا موقف بني إسرائيل من بيان الحقِّ المنزَّل على نبيِّنا محمَّد (ﷺ) في سورة القصص، برغم تمنِّيهم على الله أن يرسل إليهم من يهديهم سبيل الرَّشاد “وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَفَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى ۚ أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ ۖ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ” (سورة القصص: آيتان 47-48).

توضح الآية 42 من سورة البقرة تأثير اتِّباع الهوى على موقف بني إسرائيل من كتاب الله “وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ”، مما يعني أنَّ ما يحتجُّون به على نبيِّ الله (ﷺ) ويطالبون أن يأتيهم بمثله في المضمون هو نتاج تلبيس الحق بالباطل وكتمان بيان الله الحق. وقد أشار الله تعالى في أكثر من موضع في القرآن الكريم إلى طريقة تلبيس الحقِّ بالباطل لكتمان الحقِّ، ولعل الآية 46 في سورة النساء تعبِّر عن هذه المسألة في أكثر من جانب “مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا” (سورة النّساء: الآية 46). تختصُّ هذه الآية الكريم من بني إسرائيل، الَّذين أوتوا الكتاب، بالاتِّهام بتحريف كتاب الله “الَّذِينَ هَادُوا“، ويرى كثيرٌ من المفسِّرين أنَّ مُسمَّى ‘‘اليهود’’ أصله يرجع إلى التَّائبين من بني إسرائيل عن عبادة العِجل، كما توضح الآية 156 من سورة الأعراف “إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ”، ويعتقد بعض المفسِّرين كذلك أنَّ الله إذا أراد أن يثني على جماعة من بني إسرائيل استقامت واهتدت وهادت، أي تابت، مع نبيِّ الله موسى، ولكن كيف تكون هذه الفئة التَّائبة هي المقصود بـ “الَّذِينَ هَادُوا“، وتكون هي المتَّهمة بتحريف كتاب الله؟ ولعلَّ قوله تعالى في سورة المائدة ما يُضعف من صحَّة هذا الافتراض “يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ” (سورة المائدة: الآية 41).

طالما أنَّ تحريف الوحي مرتبط بـ “الَّذِينَ هَادُوا“، فمن المنطقي أن يكون هذا التهوُّد ذمًّا، وليس ثناءً، على الأقل في سياق تحريف كلام الله. ومن أكثر التأويلات منطقيَّة للمقصود بـ “الَّذِينَ هَادُوا“، جماعة بني إسرائيل العادة إلى الأرض المقدَّسة بعد السَّبي البابلي (587-539 قبل الميلاد)، التي أعادت كتابة التوراة، وعلى رأسها عزرا بن ساراي، كما ذَكَر هو في السفر المسمَّى باسمه. تهوَّد بنو إسرائيل لمَّا حُرِّفت عقيدتهم لتتَّفق مع عقيدة البابليين، وابتُدع مفهوم للألوهيَّة جعل للإله صفات بشريَّة، أبرزها التزاوج والتكاثر، وصار الإله ثنائي من ذكر وأنثى، تولَّدت عن اقترانها عمليَّة الخَلق. وما يثبت أنَّ التوراة لم تختفِ من بين يدي بني إسرائيل، كما ادّعوا وقت إعادة كتابها، قوله تعالى في سورة المائدة “وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ ۚ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ” (سورة المائدة: الآية 43)، أي أنَّ التوراة كانت بين أيديهم وقت نزول القرآن الكريم. وكان موقف هؤلاء لمَّا سمعت كلام الله المنزَّل على نبيِّه محمَّد أن قالوا “سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ“، أي امتنعوا عن أداء الأمانة، أي استحقُّوا الخروج من رحمة ربِّهم، “وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ“.

وتقول باقي الآيات في سورة البقرة، التي تعقُب قصَّة الخَلق “وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)”. نلاحظ في الآية 43 استمرار الأوامر الربَّانيَّة لبني إسرائيل، التي تدور حول أداء الفرائض الأساسيَّة، الصلاة والزَّكاة، وإليهما يُضاف الأمر بالرُّكوع “وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ”، برغم الأمر بالصلاة؛ حيث يعني الرُّكوع هنا الخضوع لله بالطَّاعة، ومن ثمَّ الوفاء بمتطلَّبات أداء الأمانة، كما يشير تفسير الطَّبري للآية. وتدور الآيات الثلاث الباقية حول الأمر بالاستعانة بالصَّبر والصَّلاة في حياة المؤمنين، موضحةً أنَّ تلك الاستعانة تحتاج جهادًا مع النَّفس، لكنَّها سهلة على الخاضعين لطاعة الله، وهم “الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ“، أي الذين يؤمنون بمثولهم يوم الحساب أمام ربِّهم، ويتَّقون يومًا يُرجعون فيه إليه بأداء الأمانة حقَّ أدائها. يعيد الله تعالى في الآية 47 من سورة البقرة توجيه الأمر إلى بني إسرائيل بذكر نعمته عليهم، ولكن مع إقران ذلك بأمر آخر، وهو أن يتذكَّروا ميزة اختصَّهم بها عن سائر الأمم “يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (48)”. من المُلفت للانتباه أنَّ الله تعالى يُكرر نفس الآيتين في نفس السُّورة (الآيتين 122 و123)، ولكن بعد 72 آية، يتلو علينا فيها من نبأهم ما يكشف عن سبب توجيه الأمر بتذكُّر أنعُم الله واتِّقاء يوم العرض عليه. غير أنَّه من الضروري قبل تبيان مضمون تلك الآيات، الوقوف على معنى قوله تعالى “وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ“، المخالف لما جاء في آية أخرى عن لعْن فئة من بني إسرائيل بسبب كفرها “لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ” (سورة النساء: الآية 46)، وهذا ما يوضحه القسم التَّالي.

أصل بني إسرائيل: أسباب التَّفضيل واللعن

قد يكون معروفًا لدى الكثيرين أنَّ المقصود بإسرائيل، هو نبيُّ الله يعقوب، ابن نبيِّه إسحق، ابن أب الأنبياء إبراهيم (عليهم جميعًا أزكى الصلوات وأتم التسليم). سبقت الإشارة في أكثر من دراسة سابقة إلى أنَّ إبراهيم نشأ في قوم يعبدون الأصنام، ويتَّبعون ملَّة تؤمن بالعرافة والتنجيم، جعلت من ملكهم، نمرود بن كوش إلهًا على الأرض. يروي العهد القديم (سفر التَّكوين: لإصحاح 10، آيات 6-12) أنَّ نمرود هو ابن كوش بن حام بن نوح، وكان ملكًا على بابل، لكنَّ تمرَّد على الخضوع لله، أي تخلَّى عن الأمانة التي حملها الإنسان، بل وشنَّ حملة تمرُّد على الإله، كما يقول المؤرِّخ يوسيفوس فلافيوس، ومن هنا جاء اسم نمرود. وكما جاء في كتاب Babylon Mystery Religion-ديانة بابل السريَّة (1966)، لرالف وودرو، كانت سميراميس، زوجة نمرود، وهي المرأة الممسكة بشعلة، التي يجسِّدها تمثال الحريَّة الشَّهير في مدينة نيويورك الأمريكيَّة أوَّل من بنى مسلَّة متَّجهة إلى الشَّمس، في رمز للعضو الذَّكري، بعد أن ادَّعت أنَّه جاءها وحملته منه ابنها، الذي يُعتبر أوَّل مولود إلهي لأمٍّ تحمل من إله، وهي نموذج تكرَّر مع أمِّ الإله بوذا، وقبله أمِّ الإله كريشنا، إلى أن أُلصق الأمر بمريم العذراء وابنها، المسيح عيسى بن مريم.

كما تمرَّد نمرود على أداء الأمانة والخضوع لله تعالى بنشره عقيدة تقوم على الشِّرك وعبادة الأصنام، تمرَّد إبراهيم على تلك العقيدة التي قدَّست النُّور. بدأت رحلة إبراهيم مع الإيمان لمَّا رأى كوكبًا مضيئًا، ثم القمر، ثم الشَّمس، وفطن إلى أنَّ فاطر الكون لا يمكن أن يغيب عن ملكوته أو يغفل عنه بالأفول أو النَّوم. وكان إبراهيم هو صفوة الله من عباده بعد هلاك أهل الأرض من جرَّاء طوفان نوح، حيث اختصَّه الله بالنبوَّة والكتاب، أو الدُّستور السَّماوي، من ذريَّة نوح، مصداقًا لقوله تعالى في سورة الحديد “وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ” (سورة الحديد: الآية 26). المفارقة أنَّ نوحًا كان له ابن حاول أن يحمله معه في السَّفينة، لكنَّه رفض تصديق رسالته، وآثر الموت على كُفره، ولم يقبل الله تعالى دعاءه بأن ينجيه وأهله، بل وبرَّأه الله من هذا الابن، بقوله في سورة هود “وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ. قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ” (سورة هود: آيتان 45-46). حكم الله تعالى بقطع صلة عبده نوح ذلك الابن العاصي، وما كان من نوحٍ إلَّا أن امتثل لُحكم ربِّه، كما يخبرنا باقي القصَّة في سورة هود “قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ. قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ۚ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ” (سورة هود: آيتان 47-48). يستوقفنا قول الله “أُمَم مِّمَّن مَّعَكَ ۚ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ” في نبوءة من علم الغيب أطلعنا الله عليها، بإشارته إلى أنَّ من ذريَّة مَن حَمَل مع نوحٍ مَن سيستحقَّ بركة الله، وهم المهتدون، ومنهم مَن سيركن إلى متاع الدُّنيا، فيحقَّ عليه عذاب الآخرة التي لم يعمل من أجلها “وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ“، وهم أهل الفسق، وفق ما تقوله الآية عن ذُريَّة نوحٍ وإبراهيم “فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ” (سورة الحديد: الآية 26). ونذكِّر بأنَّ المهتدين هم مَن عملوا بما جاءهم به أنبياء الله من هدى يُستمدُّ من كتابه.

وكما جادل نوحٌ ربَّه في ابنه، استغفر إبراهيم لأبيه، بقوله “وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ” (سورة الشُّعراء: 86). وكما برَّأ الله نوحًا من ابنه العاصي، مؤثر الموت على الكُفر، تبرَّأ إبراهيم من أبيه المعاند، صانع الأصنام وعابدها، كما يخبرنا الله “مَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ” (سورة التَّوبة: الآية 114). وفي إثبات على أنَّ النبوَّة التي جعلها الله لهداية النَّاس ليست بالوراثة، وفي نفي لفكرة النَّسب المقدَّس، أن قدَّر الله أن يموت ابن نوحٍ على الكُفر، وأن يموت والد إبراهيم كذلك على الكُفر.

الأب الصَّالح إبراهيم وحقيقة النَّسب المقدَّس

قدَّم الله تعالى لنا في كتابه الكريم خليله إبراهيم في كلمات موجزة في سورة النَّحل، توضح أسباب اجتباء الله له وحصر النبوَّة في ذريَّته “إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَشَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ ۚ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” (سورة النَّحل: آيات 120-123). ورد في تفسير ابن كثير لقوله تعالى عن إبراهيم “كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ” أنَّه الذي يعلِّم الأمم الصواب ويطيع الله بلا مراجعة لأمره، ولو كتب عليه أن يذبح ابنه. ومعنى ذلك أنَّ المَّلة التي اتَّخذها إبراهيم لنفسه، تقوم على هداية النَّاس سبيل الحقِّ، وإطاعة أوامر الله، باجتناب اتِّباع لهوى النَّفس، وتحرِّي سبيل الاستقامة. وقد فصَّل الله في سورة البقرة سبب الانحراف عن ملَّة إبراهيم “وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ” (سورة البقرة: الآية 130)، ويفسِّر ابن كثير المقصود بـ “مَن سَفِهَ نَفْسَهُ” بالذي أضلَّ نفسه وحاد عن طريق الصلاح بإرادته باتِّباع هوى نفسه. استجاب إبراهيم إلى أمر ربِّه طواعيةً؛ فأسلم نفسه لإرادة ربِّه، واتَّخذ من إسلامه لأمر الله ملَّةً تقي النَّاس الضلال والانحراف إلى الهاوية “إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ” (سورة البقرة: الآية 131)، وحرص على أن يحافظ نسله على عهد الله لهم بالصَّلاح والتقوى وهداية النَّاس، موصيًا بنيه بالالتزام بصحيح ملَّته “وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ” (سورة البقرة: الآية 132). من حكمة الله تعالى أن أشار إلى أنَّ وصيَّة إبراهيم لبنيه-إسماعيل وإسحق-هي ذاتها التي نقلها يعقوب، ابن إسحق، إلى بنيه، بني إسرائيل، بالالتزام بملَّة الإسلام لأوامر الله وطاعته دون اتِّباع لهوى النَّفس. وتوضح الآية التالية من سورة البقرة أنَّ بني إسرائيل تعهَّدوا أمام الله، في حياة أبيهم، على الالتزام بالإسلام لله “أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ” (سورة البقرة: الآية 133)، واشتمل هذا التعهُّد على الإقرار بوحدانيَّة الله والتمسُّك بصحيح ملَّة آبائهم “إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ“، ولكن هل التزم بنو إسرائيل بهذا التعهُّد؟ لو التزموا لما نقل الله النبوَّة والكتاب إلى ذريَّة “إِسْمَاعِيلَ“، وجعل القرآن الكريم شاهدًا على انحراف بني إسرائيل عن صحيح ملَّة إبراهيم، وحيادهم عن الإسلام، باتِّخاذ هويَّات دينيَّة تعارِض صحيحه، وترميه هو بالنَّقص، بل وتتهمه بالتحريف.

تذكيرًا بما سبق تفصيله في أكثر من دراسة سابقة، لم يكن عهد الله تعالى لإبراهيم بميراث للأرض أو المُلك أو القوامة على النَّاس، إنَّما بالإمامة والدَّعوة إلى سبيله، مصداقًا لقوله تعالى في سورة البقرة “وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ” (سورة البقرة: الآية 124). غير أنَّ بني إسرائيل اختلف لديهم معنى العهد، وصار ميراثًا للأرض ومُلكًا على النَّاس. يقول سفر التكوين:

“تَكَلَّمَ اللهُ مَعَهُ قَائِلاً. «أَمَّا أَنَا فَهُوَ ذَا عَهْدِي مَعَكَ، وَتَكُونُ أَبًا لِجُمْهُورٍ مِنَ الأُمَمِ. فَلاَ يُدْعَى اسْمُكَ بَعْدُ أَبْرَامَ بَلْ يَكُونُ اسْمُكَ إِبْرَاهِيمَ، لأَنِّي أَجْعَلُكَ أَبًا لِجُمْهُورٍ مِنَ الأُمَمِ. وَأُثْمِرُكَ كَثِيرًا جِدًّا، وَأَجْعَلُكَ أُمَمًا، وَمُلُوكٌ مِنْكَ يَخْرُجُونَ. وَأُقِيمُ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَبَيْنَ نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ فِي أَجْيَالِهِمْ، عَهْدًا أَبَدِيًّا، لأَكُونَ إِلهًا لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَوَأُعْطِي لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أَرْضَ غُرْبَتِكَ، كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ مُلْكًا أَبَدِيًّا. وَأَكُونُ إِلهَهُمْ»” (سفر التكوين: إصحاح 17، آيات 3-8)

لا يكرِّس عهد الربِّ لأبرام متاع الدُّنيا فحسب، إنَّما يحصره كذلك في فرع واحد لذريَّة الأب الصَّالح، دون مبرر، كالَّذي جعله الله في عهده مع إبراهيم “ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ” (سورة البقرة: الآية 124). وقوفًا على إخراج الله “الظَّالِمِينَ” من عهده، نسترجع قوله تعالى عن عهوده بالأمانة، أي أداء الفرائض دون تقصير في حقِّ الله، أي إسلام النفس لإرادة الله دون اتِّباع لهواها، الفرائض في سورة الأحزاب “إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا” (سورة الأحزاب: الآية 72). يكون الظُّلم بالانحراف عن منهج الله طواعيةً بالتغافُل عن صحيح الدِّين، وليس الغفلة عنه. المفارقة أن يكون مقياس الوصيَّة بالعهد هو نقاء السُّلالة:

«لَيْتَ إِسْمَاعِيلَ يَعِيشُ أَمَامَكَ!». فقال الله “بل سَارَةُ امْرَأَتُكَ تَلِدُ لَكَ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ إِسْحَاقَ. وَأُقِيمُ عَهْدِي مَعَهُ عَهْدًا أَبَدِيًّا لِنَسْلِهِ مِنْ بَعْدِهِ. وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ. هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثْمِرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيرًا جِدًّا. اِثْنَيْ عَشَرَ رَئِيسًا يَلِدُ، وَأَجْعَلُهُ أُمَّةً كَبِيرَةً. وَلكِنْ عَهْدِي أُقِيمُهُ مَعَ إِسْحَاقَ الَّذِي تَلِدُهُ لَكَ سَارَةُ فِي هذَا الْوَقْتِ فِي السَّنَةِ الآتِيَّة.» (سفر التكوين: إصحاح 1، آيات 18-21).

اتَّضح مما سبق عدم وجود أصل في القرآن الكريم لفكرة النَّسب المقدَّس، أو أحقيَّة فئة معيَّنة من خلق الله بالولاية على الغير، وأنَّ ذلك مجرَّد ادِّعاء ابتدعه مَن حادوا عن صحيح ملَّة إبراهيم، وطلبوا متاع الدُّنيا ونسوا عمل الآخرة. نفى الله تعالى عن خليله إبراهيم ما نسبه بنو إسرائيل له من ملل تخالف صحيح الإسلام، كما جاء في سورة آل عمران “مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” (سورة آل عمران: الآية 67)؛ وأوضح الله أنَّ الأولى بالانتساب إلى إبراهيم هم الَّذين اتَّبعوا ملَّته، أي أسلموا ووجههم إلى الله وهم محسنون ونهوا النَّفس عن الهوى، بل وقدَّم هؤلاء على نبيِّنا محمَّد(ﷺ)، الذي ينتسب إليه بانحداره من ذريَّة إسماعيل، ويأتي بعد ﷺ المؤمنون، دون أيِّ إشارة إلى تفضيل ذريَّة إبراهيم على سائر الأمم لمجرَّد النَّسب  “إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ” (سورة آل عمران: الآية 68).

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى