انتفاضة لاستيلاد الفلسطيني الجديد

انتفاضة لاستيلاد الفلسطيني الجديد

بقلم حسين الرواشدة

ما يحدث في عالمنا العربي الآن هو إشهار لـ»نكبة ثالثة» بامتياز، وما لم نواجهها بانتفاضة ثالثة فإن العدوان سيمر من تحت أقدامنا، وسنورث آثاره ومآسيه لأبنائنا وأحفادنا، كما فعلنا على امتداد العقود الماضية.

لا أتحدث هنا فقط عن صفقة القرن التي أصبحت واقعا يمشي على الأرض، ولا عن «حمّى» التطبيع التي انتشرت في بلداننا مثل النار في الهشيم، وإنما عما جرى لنا منذ ثماني سنوات على الأقل (وهو نتيجة لمسيرتنا في قرن كامل مزدحم بالهزائم والخيبات)، صحيح أن الشعوب العربية آنذاك نهضت لاستعادة حريتها و كرامتها، وصحيح أنها أحست في لحظة أن مخاضاتها ربما كانت (حملا كاذبا) أو حلما يتربص به الكثيرون لإجهاضه، لكن الصحيح أيضا أن الذين أسدلوا الستارة في نهاية (الفيلم) قرروا أن يكون العنوان هو (النكبة)، ليس – فقط – لأن (النكبات) ماركات عربية مسجلة وإنما لأنها الوصف الدقيق و التشخيص المناسب لهذه الدراما التاريخية التي كنا نتصور أن بطلها الوحيد هو الشعب، لنكتشف أنه لم يكن أكثر من (كومبرس) أدى ما عليه من دور ثم استقال وتحول إلى مجرد (ضحية).

الآن بوسعنا أن نصارح بعضنا إذا كنا صادقين مع أنفسنا، نحن أمام نكبة جديدة أسوأ مما أصابنا من نكبات، نحن صنعناها بأيدينا، ولا يمكن أن نتجاوزها إلا إذا خرجنا من “خزانات” الوهم والكذب والتدليس التي أورثتنا هذا الواقع المشؤوم، ليس فقط من خلال تجارب الاستبداد السياسي التي حولتنا إلى عبيد، وإنما أيضا من خلال منظومات التعليم والتوجيه وأنماط التدين المغشوش وأصوات النخب الكاذبة وضجيج الشوارع الفارغة وهتافات الأحزاب الصاعدة على جثث المهمشين، هذه التي انتزعت منا “أخلاقنا” وأفسدت ضمائرنا واغتالت أرواحنا، هي المسؤولة عما أصابنا من أمراض، وما تولد داخلنا من تشوهات وإحساس بالهزيمة وعزوف عن التضحية واستعداد غريب لتبادل الضغائن والجهر بالكراهية ورد التحية بالدم بمثلها أو بما هو أسوأ منها.

إذا، نحن جميعا في ورطة: الأنظمة والحكومات والمجتمعات أيضا، وكأننا ندفع ضريبة العجز والفشل والخوف التي ترتبت علينا على مدى عقود استقلنا فيها تماما من مهماتنا الوطنية والدينية والإنسانية، ونكاد اليوم نبدوا مكشوفي الظهر أمام عالم متوحش، يريد أن يضربنا على أدبارنا، وينتزع منا أدنى مقومات حياتنا، ويعيدنا إلى القرون الحجرية. وحده الفلسطيني لم يشهر انتفاضته بعد، فهل نحتاج اليوم إلى انتقاضة ثالثة، تقلب كل المعادلات القائمة، نعم، الشعب الفلسطيني -وحده- هو القادر على قلب «الأوراق» وصنع الخيارات، ربما نحتاج إلى التدقيق فيما يترتب على هذا الخيار، بالنسبة لنا من أخطار، ربما يكون الوضع الفلسطيني الآن أصعب من أي وقت مضى، ربما تكون إسرائيل نجحت في تأميم الفضاء الفلسطيني بواسطة السلطة التي أنتجتها أوسلو، لكن على الرغم من ذلك كله لم يبق أمام الفلسطينيين الذين يواجهون نذر نكبة جديد تستهدف تصفية قضيتهم إلا انتفاضة جديدة، توحّدهم هذه المرّة بقوة الإرادة والحجارة، وتحرج «المتفرجين» والمفاوضين أو تكشفهم أكثر مما فعلته حروب غزة وحصارها المستمر.

انتفاضة ثالثة، ولم لا، إنها أهم من المصالحة، وأفضل وصفة للرد على صفقة القرن، ومروجي التطبيع المجاني مع المحتل، وأهم من التفاوض العبثي ومن كل هذا الاستنفار الخطابي للدفاع عن الأقصى، فالإسرائيليون لا يفهمون إلا هذه اللغة، والعالم لا يتعامل إلا مع الحدث الصارخ، والأشقاء المتصارعون لن يكون بمقدورهم أن يتوحدوا على طاولة «التفاوض» من أجل التصفية، وانما في ميدان الانتفاضة وساحات المواجهة التي يصنعها الأطفال والنساء والشيوخ الفلسطينيون، الراغبون في الشهادة، والعازفون عن السياسة ومواويلها المخجلة.

انتفاضة ثالثة؟ حتى لو اعتقد الكثيرون بان الفلسطيني قد تعب، وبأن وهم «السكون» سيستمر حتى تصفى القضية وينجح «ترامب» في استيلاد «الفلسطيني» الجديد.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى