كتب وبحوث

الولاء الديني أم الوطني: ومسألة التعامل مع المجتمعات الإنسانيّة

إعداد : أ.خباب الحمد

الدولة العصريَّة في التفكير العلماني لا ينبغي أن تكون مؤطَّرة بحدود الدين، فهي قضيَّة لا داعي لوجودها في العصر الحاضر، وإن كان لها وجود تاريخي أمْلَتْه الظروف المحيطة بالمجتمعات عموماً، وما دمنا في عصور تتطور وتزدهر يوماً بعد يوم، فإنّ حدود الولاء لا ينبغي أن تكون محصورة في الإطار الديني… هكذا يقولون!

 والملاحظُ أنّ الدول العربية المتماشية مع الفكرة العلمانية صارت تزرع في الوعي المجتمعي روح الولاء الوطني/ القُطْرِي وتقديمه على الولاء العقائدي/ الإسلامي، فالمبدأ في الآية الكريمة: {إنَّما المؤمنون إخوة} ومبادئ الأحاديث الشريفة الصحيحة: (المسلم أخو المسلم) و (المسلم للمسلم كالبنيان) لم تعد لها قيمة في الفكرة العلمانية التي تأخذ على عاتقها إذابة الفوارق الدينية، وتمييع عقيدة (الولاء والبراء) و (الحب والبغض) فالكل داخل الوطن سواء، ولا معيار لأن تكون الكرامة الإنسانية لديهم: (التقوى) بل عابد الوثن والبقر والحجر والهوى مُكرَّمون في الدولة الوطنية، وتتقدّم درجاتهم على حسب خدمة المجتمع فحسب، بعيداً عن التقويم الديني.

 والدعوة إلى (الوحدة الإسلامية) و (الأمَّة الإسلامية) دعاوى طائفيّة، فليُركِّز على توحيد إطار للقوميَّة العربية بل القوميّة لكل فكرة غير دينية يُمكن قبولها، لكن أن تجتمع على كونها قومية إسلاميَّة، فهنا عنده المحز للمقص، فالخيط الناظم هو المحاولة بالدفع لانزواء الولاء الديني، مع التشجيع لمبدأ الوطن القومي القائم على المواطنة مع اختلاف العقائد والمِلَل.

 لقد تجلَّت النزعة القوميَّة والوطنيَّة والعصبيَّة حينما تفلَّتت أوروبا من الوحدة النصرانية التي جمعتها، بعد وجود رجال الحركة الإصلاحيَّة، وصار الشحن النفسي والاستعداد للدفاع عن هذه العصبيَّات يزداد حيناً بعد حين إلى أن تعمَّق أواصر الوطنيَّة والقوميَّة والتعصُّب المنشود لهما، وصارتا رُمَّانة الميزان بل بين كفَّتيه، وصار الدين والوطنية كلما رجحت كِفَّة إحداهما طاشت الأخرى. وبحكم النفخ والحشد النفسي للتعصُّب للوطنيَّة والقوميَّة وإضعاف النسيج الديني لدى الأوربيين، ظلت العصبية الوطنية – كما يقول (إدوارد لوتين) – “تقوى وفي المقابل تخف كفة الدين كل يوم”[1].

 وبسبب تعظيم العصبيّة الوطنيّة من نُظَّار الفكرة العلمانية وأنصارها، والتنفير الحاصل من الدين وأهله، وشدَّة الضغط على وتر “الدين يُقسِّم والوطن يجمع”، و “الدين لا علاقة له بالدولة”، ودعوى أنّ الدين قائم على التفريق والفرز والطائفيَّة وذلك بعيد عن طبيعة الفكر العلماني؛ إذ يزعمون أنَّ المجتمعات المدنيَّة العلمانيَّة مجتمعات متساوية في الحقوق والواجبات، وأنَّ العصبية الدينيَّة لا طائل من خلفها سوى القلاقل والفتن الطائفيّة!

 أجد من الطبيعي أن العاقل يُدرك سخافة هذه الأقوال، وانكشاف حقيقتها في هذا الزمن، حيث الاحتلال العسكري، وكثرة الفتن والقلاقل، والحروب الدموية، التي كانت أكثر الدول نشراً للعلمانية هي القائمة بها، بل لقد أنتجت حروباً طاحنة أودت بحياة أكثر من مائة مليون ضحية خلال القرن العشرين، وأنَّ أغلب الدول العلمانية شاركت في الاحتلال العسكري وما تلاه من دماء أريقت بالملايين، وقد حدث هذا بعد أن أسهمت الدول العلمانية بالاحتلال العسكري للدول الإسلامية، وأسقطوا الدولة العثمانية، ودمَّروا مبدأ الدولة الإسلامية، وحاولوا قتل الروح الإسلامية الممتدة من طنجة إلى جاكرتا، فقسَّموا الدول العربيَّة إلى 23 دولة عربيَّة، ثمَّ إلى 56 دولة إسلاميَّة، وأعادوا نظام الإقطاع في بلاد المسلمين، باسم: الحرية، والكرامة، وحقوق الإنسان، والمساواة!

 إنَّ “كليَّة التشويه” القائمة على إثارة فزَّاعة الخطاب الديني تجاه الأمَّة، تجعل مؤدَّى الخطاب العلماني تجاه المجتمع مُحصَّله أنَّ الولاءات الدينيَّة = التفرقة والعنصرية، وفي المقابل فأي ولاء داخل المجتمع العلماني، فيُمكن تعقُّلها شرط ألاَّ تكون دينيّة، ونلحظ من ذلك مدى ردَّة الفعل الجائرة على الاستبداد الديني الكنسي الذي خالف شريعة عيسى عليه السلام، وهو ما حدا بهم إلى معادته واعتبار دين الإسلام مثله، مع العلم أنَّ شيئاً من الحنين يجذبهم إلى الدفاع عن الديانة النصرانية، وتعظيم قساوستها، غير أنّ العداء الأشد في دماغ العلماني ينصبُّ على الإسلام وأهله!

 وقد تضخّم الفكر السياسي لدى العلمانية، فلئن كان الدين الباطل النصراني يتدخل في مُجريات الأمور، بطريقة باطلة، وتوهُّقٍ إصلاحي أنبتَ بذور الإفساد وتقاطع رجاله مع رجال الإقطاع والثراء، فإنَّ الفكر السياسي العلماني الذي تُعاني منه الأمَّة اليوم قد تضخّمت بنوده ونُجومه، وبات يتدخَّل في صغير الأمور وكبارها، مما آلت إليه وراثة الفكر السياسي للدين، وقد أشار لذلك المفكر الفرنسي “ريجيس دوبريه” إذ بيّن أنَّ الدين كان في مبتدأ الأمر هو من يوفِّر اللحمة للجماعة البشريَّة، أمَّا في الوقت الحاضر فإنَّ السياسة ومتعلَّقاتها الأيديولوجيَّة والابستمولوجيَّة هي التي تمنح التماسك للجماعة، فآلت إلى وراثتها الوظيفيَّة للدين.

 وكثير من الدول العلمانية تسعى لتعميق التربية الوطنية والإعجاب بالوطن، لا إعجاب الفطرة والمحبة لما نشأ عليه الناس، بل لإظهار قيمة الوطن وإعلاء مكانته على مبادئ الدين والعقيدة، وتجاوز بعضُهم ذلك حتّى صار ينفي صفة العروبة عن الأقطار العربية، حتّى قال بعض العلمانيين: مصر ليست دولة عربية ولا إسلامية، بل مصريَّة فقط!

 مع جدليَّة: ( الدين لله، والوطن للجميع):

 أيَّاً ما كان قائل كلمة: (الدين لله، والوطن للجميع) فسواء أكان “بطرس البستاني” الذي ترجم الإنجيل إلى اللغة العربية، ودعا إلى الفصل بين الدين والدولة، أو كان المتفرنج المصري “سعد زغلول”، بحجَّة عدم بث الفرقة بين المختلفين دينياً، فلستُ في صدد مناقشة مُخترعِ هذه الكلمة لتسير بها الركبان العلمانيَّة!

 الذي يهمُّنا في هذا المحور أنّ المسلمين يعتقدون أنَّ الدين لله حقاً فهو – سبحانه – الذي شَرَعه وفرضه على عباده فقد قال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصَّى به نوحاً} وقال: {وقضى ربَّك ألاَّ تعبدوا إلاَّ إياه} وذلك عند العلماني المُلحد أمرٌ لا يُسلّم به، وهو لا غُبار عليه مع التيار العلماني “المؤمن”؛ أي: الذي يؤمن بوجود الله وأنَّه خالق هذا الكون والمهيمن عليه، بغضِّ النظر عن صدق إيمانه!

 فتبقى كلمة (الوطن للجميع) وهنا يُقال إن كان للجميع بمعنى أن يعيشوا فيه ويكون لهم حقوق وعليهم واجبات، فليس من وراء ذلك مع الفهم الإسلامي مُشكلة، إلاَّ في مناطق لا يصحُّ للكافر أن يُقيم فيها إقامة كالجزيرة العربيَّة التي صحّت فيها الأحاديث عن رسول الله ومنها قوله صلّى الله عليه وسلّم: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب) وقال: (لأخرجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب)، وعند النصارى مثل ذلك فمنطقة الفاتيكان منطقة يُحظر فيها على غير أتباع الدين النصراني الإقامة فيها.

 لكن تبقى المشكلة العقائديَّة الكُبرى أن يُقصى الدين كاملاً عن إصلاح الوطن، بحجَّة حمايته وأنَّه لله وأنَّه لا يحقُّ لأحد أن يتكلَّم باسم الله، فذلك خبط من القول، فما من مسلم يقول عن نفسه أنَّه الناطق باسم الله (حاشاه سبحانه)، بَيْدَ أنَّ إصلاح الوطن لا يتمُّ إلاَّ بقطعيات هذا الدين وحقائقه ويقينياته الواضحة، أو يجتهد في إصلاح الوطن من خلال استنباط أهل الحل والعقد من نصوص الشريعة، بناء على ما أتاحته الشريعة الإسلاميَّة من قواعد عامة تكفل للمسلم المؤهَّل أن يجتهد في ما يصحُّ فيه الاجتهاد.

 إنَّ القول بأنَّ الدين لله والوطن للجميع، نعتقد أنَّ فيها دلالة على معنى الفصل بين الأرض والسماء، وكأنَّ من أنشأ الأرض هو الإنسان وعليه أن يتمرَّد على أوامر من خلقه، أو كأنَّ هنالك انفصالاً بين منهج السماء ومنهج الأرض!

 ومع أنَّ كثيراً من العلمانيين يُدركون أنَّهم مخلوقون إلاَ أنَّنا إذا ما استعرضنا كلماتهم، يتبدَّى لنا من خلالها روح العداء لحكم الله تعالى، وأوامره ونواهيه، مع أنَّه سبحانه الذي خلق عباده وهو أدرى بمصلحتهم فهو القائل: {ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين} وقال عزَّ وجل: {قل إنَّ الأمر كلَّه لله}، وقال: {ألا له الخلق والأمر} وحين قرأ أحد سلفنا الصالح هذه الآية، قال: من بقي له شيء فليأخذه!

 فمن يعترف أنَّ الله هو الخالق، لكنَّه ليس الحاكم فهو قاصر في طريقة تفكيره، لأنَّ من خلق الشيء وأبدعه وصنعه وأتقنه هو من يستحق أن يكون الآمر الناهي، لأنَّه الأعلم بمصالح عباده ، وما كان يمكن لأحد – ولله المثل الأعلى – أن يخترع جهازاً إلكترونياً حسّاساً ويُعترف له أنَّه الذي اخترعه واكتشفه، ثمَّ يُدَّعى أنّ غيره أعلم به منه، فبقياس الأولى ما كان لمخلوق أن يعترف أنَّ الله خالقه، ثمَّ يجعل تصوراته لإصلاح نفسه محضة له، بل لابدَّ من مرجعيَّة يحتكم إليها.

 أمَّا أن يُقال أنّ منهج الأرض مُختلف عن منهج السماء، فباطل؛ فما كانت الأرض أبداً ملكاً لبشر، بل هي ملك لله تعالى كما قال عزَّ وجل: {إنَّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} وفي حالة قتال المسلمين لمن صدَّ عن دين الله وأراد أن يُوقع في الأرض فتنة كفره بصدوده ومنعه دين الله أن تقوم به الحياة، فذلك لأنَّه – تعالى – يريد أن يُهيمن هذا الدين على كافة مناحي الحياة، فهو القائل:{وقاتلوهم حتَّى لا تكون فتنة ويكون الدين كلُّه لله}، وحيث يُمَكَّن لأهل الإيمان في الأرض، فذلك بتمكين الله تعالى لهم، حيث قال:{الذين إن مكَّناهم في الأرض أقاموا الصلاة آتوا الزكاة}، ولذلك وعد الله أهل الإيمان لاستخلافهم في الأرض، فقال:{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم} ثمَّ وعد الله تعالى أهل الإيمان بأن تكون لهم الدار الآخرة في الجنة، حيث لم يريدوا في الأرض العلو ولا الفساد، فقال تعالى:{تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين}.

 إنَّ ذلك كُلّه يظهر معنى ارتباط الأرض بالسماء، وارتباط الدنيا بالآخرة، وارتباط الدنيا بالدين، وما أتى دين الإسلام إلاَّ لنسج العُرى بل توثيقها وتوصيل شرعة السماء إلى الأرض، وإنَّ من يقوم بالفصل بين ما يريده الله في هذه الحياة، وبين ما يختاره المرء وما يهواه، لم يفهم معنى وجوده في الحياة، وحسب المرء أن يتأمَّل سورة التوحيد: (الأنعام) ليلحظ كميَّة الآيات التي حثَّت على معنى ربط: (الإنسان = المخلوق) بـ: (الله = الخالق)، وعلاقة الدنيا بالآخرة، والدين بالدنيا؛ فالله تعالى يقول: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ}.

 إنَّ في هذه الآية معنى أنَّ الحياة والممات لله ربِّ العالمين، وأنَّ العباد قد أُمروا بذلك وعليهم الإقرار بإسلامهم لله ربِّ العالمين، وأعاد الكرَّة من جديد تأكيداً بعد تأسيس على أنَّ من لم يفعل ذلك، فقد اتَّخذ رباً غير الله فقال تعالى: {قل أغير الله أبغي رباً}، وفي السورة نفسها ذكر لأصول التوحيد؛ ففيها استنكارٌ للتحاكم لغير الله، حيث يقول تعالى: {أفغير الله أبتغي حَكَماً}، وإزراءٌ واستخفافٌ بمن اتخذ غير الله ولياً، فالله القائل: {قل أغير الله أتخذ ولياً}، ولا يتأتَّى ذلك لمن وحدَّ الله تعالى وخصَّه بالدعاء فالدعاء هو العبادة؛ فقد قال تعالى: {أغير الله تدعون}.

 أُخُوّة الدين أسمى من وشائج الطين وأواصر الأقربين:

 ولاء الإنسان المسلم وجنسيته مُستمدَّة من عقيدته، لأنَّ ربَّ العزّة يقول: {إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم} وكُلَّ من كان كذلك يدخل في أخوّة الإسلام، فقد قال تعالى: {إنَّما المؤمنون إخوة}.

 ولو كان ولاء المسلم لعشيرته أو قبيلته لما قاتل رسول الله قريشاً، ولما دعا اللهُ تعالى إلى عدم مودَّة ومحبَّة من حادَّ الله ورسوله حيث يقول: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم…}.

 ولو كان ولاء المسلم لأرضه فقط، لما هاجر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من مكَّة إلى المدينة، وأقام فيها دولة الإسلام، ولما قال تعالى: {قالوا كنا مستضعفين في الأرض قال ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها}.

 ولو كان ولاء المسلم لعائلته لما تبرأ إبراهيم عليه السلام من والده، ولما تبرأ نوح من ابنه، ولما تبرأ لوط ونوح من زوجهما، ولما تبرأ رسول الله محمد عليه السلام من أقاربه غير المسلمين، لأنّ العقيدة أغلى من التراب والدم.

 والآية الكريمة واضحة، لا تحتاج لمزيد من الكلام، مع أدنى تأمّل، فالله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ( 23 ) قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ( 24 )}.

 لعلّ من أوجه الجوانب التي تُعالج الخلل الواقع في مجتمعات الناس اليوم، وتأثُّر بعضهم بالفكرة العلمانية أن يُقدّموا الوطنيّة على الاعتبارات الأخرى، مع أنّ كثيراً من الناس يعلمون أنّ تقسيم الأوطان لم يكن خَيارنا، بل كانت أمّة الإسلام وطناً واحداً، لكن الاتفاقيات المشؤومة على الأمَّة الإسلامية، كان لها دورٌ واضح في التحكم بمنطقة العقل لتحديد التفكير الحدودي المناطقي بهذه الحدود الوهمية التي قسمت الأمة بمجرد شريط من الأسلاك الشائكة، لتكون موضع المفاصلة والحب والكره، ولعلّ من أبرز هذه الاتفاقيات المعروفة اتفاقية سايكس بيكو، عام 1916م التي كانت إثر تفاهم سري بين فرنسا وبريطانيا على اقتسام (الهلال الخصيب) بمصادقة روسيّة، لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا بعد سقوط الدولة العثمانية، في الحرب العالمية الأولى.

 إنّ تحديد مستوى الولاء بين المسلمين على هذه المحدّدات المناطقيّة السايكسبوكيّة فيها: (1) قصور في النظر التاريخي و (2) خلل بنيوي في المعرفة بكيد الأعداء، و (3) دلالة على ضعف الارتباط بأسس الإيمان، لأنَّ الإيمان يزرع في وعي المسلم أنّ الولاء الحق لله ولرسوله، ومن عمق الولاء لله ورسوله موالاة المؤمنين ومحبّتهم ومناصرتهم والدعوة بدعوتهم، والبراء من غير المسلمين وعدم محبّتهم لعدم حُبّهم لله، فالاختلاف معهم ليس على جانب شخصي، بل اختلاف ديني جوهري، لهذا فمن جوانب افتراق المنافقين عن المسلمين حالة الكرب والحرب، المناداة بأسماء لا اعتبار لها بين المسلمين، والدعوى بدعوى أهل الجاهليّة، فحين احتشد الأحزاب لمحاصرة المدينة تنادى المنافقون باسم جاهلي يجري في عروقهم فقالوا: {يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا}، فخابوا وخسروا، ونصر الله المؤمنين، لكنّ المؤمن يُدرك أنّ المصطلحات ذات التجميع الوطني، لن يؤتى من قِبَلِها النصر، إنّما النصرُ لمن نصرَ الله، وكان صادق الإيمان.

 قبالة ذلك حين ادلهمّ الخطب في غزوة حنين برسول الله محمد صلّى الله عليه وسلّم وانهزم كثيرٌ ممّن قاتل معه، مع أنّهم كانوا كثرة، عَلِمَ رسول الله من سيقف معه قِبالة العدو الغاشم، فليس من أسلم عن قريب، ولا من لا زالت فيهم بقايا من جاهليّة، فكان النداء الإيماني الرّسالي: يا أًصحاب سورة البقرة! يا أصحاب الشجرة! يا معشر المهاجرين! يا معشر الأنصار، يُنشّطُهم بذلك، فجعلوا يقبِلون من كل وجه، وانعطفوا على رسول الله، عَطْفَة البقر على أولادهم، وقالوا: يا لبّيْكَ! يا لبّيْك! وقاتلوا حتّى نصرهم الله نصراً مؤزّراً.

 لقد خاطب الله – عزّ وجلّ – المؤمنين في القرآن ثمانية وثمانين مرَّة، جاء أولها في سورة البقرة؛ إذ نهاهم عن التلفظ بمصطلحات اليهود التي تعارفوا عليها، فقال:{يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا}، فدلَّ ذلك على ضرورة انتقاء الألفاظ ذات المصطلحات التي يحدث الكثير من اللَّبس في معانيها وشروحاتها، خاصّة إن اعتُمدت من غير المسلمين، ولأغراض تتنافى مع شريعة الإسلام.

 الأسس الشرعيّة في التعامل مع المجتمعات الإنسانيّة:

 قد يقول قائل: هل عموم المسلمين لا يمكنهم التعايش مع غيرهم في الوطن، أو هل في دين الإسلام أسس شرعيّة وُضِعَت لتعامل الإنسان المسلم مع غير المسلم؟

 وإجابة عن ذلك، فإنّ الإسلام = تشريع رب العالمين الذي خلق الإنسان، وهو أعلم بما يصلحه، فلا فاصل بينه والإنسان، فهو متسق مع الطبيعة الإنسية التي خلقها الله كما قال تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}.

 فالإسلام أتى لإنقاذ البشر وبعث لهم الرسول وأنزل عليهم الكتب لتكوين شخصيتهم الإنسانية السويَّة فلا شخصيَّة سويَّة إنسانية إلا إن كانت مسلمة، فدين الإسلام أساساً هو دين الإنسان خلافاً للمعتقدات الطوطميَّة التي يزعمها كثير من المفكرين الغربيين والعرب العلمانيين.

 غير أنّه من نافلة القول أن لدى المسلمين مبادئ شاملة تحكم علاقة الإنسان بالإنسان، ولعلّ تجليتها في نقاط مستنبطة من نصوص الوحي أدعى لضبطها، ومن أبرزها:

 1) الإنسان مخلوق مُكرّم، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} وقد أحسن الله خلقه وقوّمه فقال:  {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}، وهو بُنيان الله في الأرض التي نبت منها، والاعتداء عليه دون مُسوّغ شرعي، مُخالف لحكمه تعالى، ومتعرّض لوعيد الله تعالى.

 2) القول الطيب مع عموم الناس سواء في الحديث العام أو في الجدال فالله تعالى يقول: {وقولوا للناس حُسناً} وقال تعالى: {وهُدوا إلى الطيب من القول}، وأثناء جدال الآخرين من أهل الكتاب فالأصل أن يكون بالقول الحسن فالله تعالى يقول: {ولا تُجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} فالأصل مخاطبتهم بالحسنى، إلا من ظلم منهم.

 3) التأسيس للأخلاق الإسلامية الحسنة واستثمار الأخلاق الإنسانية الطيبة وعدم طمسها بل تشجيعها لقوله عليه الصلاة والسلام: {إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق} وفي رواية: {صالح الأخلاق}، فدين الإسلام يدعو للمُخالقة الحسنة مع عموم الناس، لقوله عليه الصلام والسلام في ما صحّ عنه: (وخالق الناس بخلق حسن) وهو خطاب عام في مخالقة جميع البشر بالأخلاق الطيبة والفاضلة.

 4) التعاون على البر والتقوى مع عموم الناس، فالله تعالى يقول:{… وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ومن يتأمّل سياق الآية الكريمة وسباقها، يعلم أنّ الله تعالى يُخاطب أهل الإيمان عموماً بالتعاون مع عموم الناس ومنهم غير المسلمين على البر والتقوى حتّى لو كان بيننا وبينهم كُره، ولهذا قال الأخفش: “هو مقطوع من أول الكلام وهو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى أي ليُعِن بعضكم بعضاً وتحاثوا على ما أمر الله تعالى واعملوا به، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه”.

 5) التحالف في كُلّ ما من شأنه إصلاح البشرية، ودفع الشر عنهم، وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (أيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلاّ شدّة) فالإسلام حين أُرسل به رسولنا محمد، وجد عادات وتقاليد وأعرافاً صحيحة، فلم يُلغِها بل أقرّها وأثنى عليها، ومن ذلك ما جاء في مسند الإمام أحمد عنه عليه الصلاة والسلام: (شهدت غلاماً مع عمومتي حلف المطيبين فما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه)، وفي رواية: (لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت).

 6) الدعوة إلى التعارف الإنساني العام لقوله تعالى: {إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} فالتعارف الإنساني بين الشعوب والقبائل يحث عليه الإسلام، مع ضرورة معرفة معيار الكرامة الإنسانية أنَّها لأهل التقوى فلهم مزيَّة وميزة على غيرهم ممن لم يدخل دين الإسلام.

 7) التعامل مع الناس بالأحسن لا بالأسوأ فمن خانَ المسلم فالمسلم فلا يخونه، ومن غشَّه فلا يغشّه، ومن كذب عليه فلا يكذب عليه، ومن غدر بنا فلا نغدره، ولنلحظ رسول الله الذي أخرجه كفار قريش من مكة وكانوا مع ذلك يثقون به ويسمونه الصادق الأمين، ويضعون عنده أماناتهم وحوائجهم ، ومع أنهم أخرجوه من بلده وصادروا أموال كثير من صحابته، إلا أنه أبقى علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – لتسليم الناس أماناتهم، وأن يعدل معهم ولو ظلموه والله تعالى يقول:  {إن الله يأمركم أن تؤدُّوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}.

 8) العدل مع الإنسان ولو كان مكروهاً عندك، وحتَّى لو ظلمَنا فلا يحق أن نتعامل معه إلا بالعدل، فقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}.

 9) مبدأ الحق والعدل في دين الإسلام قامة سامقة، فحين يتعرّض غير المسلم لظلم من المسلم، فالحق والقسط لا يُجيزان الانتصار للظالم المسلم على المظلوم غير المسلم، بل يُمنع عن الظلم، وبهذا نطق الحديث الشريف في صحيح البخاري الذي رواه أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ).

 10) البر والقسط مع غير المسلمين ما دام مُسالماً لهم ، والقتال والشدَّة مع من عادى المسلمين؛ فالله تعالى يقول: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} سورة الممتحنة.

 11) من كان في الأصل غير مسلماً فلا يُكره على الدخول في الإسلام لأنَّ الله تعالى قال: {لا إكراه في الدين} وقال تعالى: {أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} والدين العظيم، لا يستحقُّ أن يُدعى الناس له بالإكراه، فمن دخل فيه كان من أهل الرُّشد ومن أعرض عنه كان من أهل الغي.

 12) حث الإسلام المسلمين على الحوار الإنساني مع الآخرين لإدخالهم في الدين:{قلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.

 13) البراءة من غير المسلمين براءة من أديانهم التي نعتقد أنها باطلة، وهي كذلك براءة من موالاتهم عليها وإعانتهم فيها، واتخاذ أبعد المواقف عن التقارب الديني، إذ مبادئ العقائد لا مساومة فيها، لأنها أعلى من أن نتدخل بها، فهي محددات الدخول للإسلام، فلا يكن حظ المسلم أن يدخل الإسلام من باب ويخرج من باب آخر!

 فيبقى التقارب الدنيوي والتعاون الإنساني في مصلحة البشر، والله يجمع قلوب الناس على الخير ويهديهم جميعاً للهدى ودين الحق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 [1] للمزيد: يُنظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، لأبي الحسن الندوي، ص: 174.

*المصدر : مركز البيان للبحوث والدراسات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى