كتاباتكتابات مختارة

النظرة القرآنية إلى التاريخ

النظرة القرآنية إلى التاريخ

بقلم حامد أحمد الطاهر

يمثل التاريخ الإسلامي جزءاً من العقيدة الإسلامية التي ظهرت بنزول القرآن الكريم، ولم يكن القرآن ليغفل الأحداث التاريخية، بل ملأت سور القرآن تلك الأحداث، والتاريخ الإسلامي لا يبدأ من بعثة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ولا من تاريخ العرب قبل نزول الوحي؛ وإنما بدأ تاريخ هذه الأمة منذ بدء الخلق ومروراً بخلق آدم وهبوطه إلى الأرض، وقصص الغابرين، ولا يزال هذا التاريخ يمتد منذ البعثة وإلى وقتنا هذا، فكل حدث تاريخي موثق مرت به الأمم قبلنا هو لبنة في تاريخ هذه الأمة وبنيانها.

ولم يكن القرآن يذكر قصص السابقين بكل تفاصيله، بل يصطفي الله تعالى ما ينفع الأمة من الأحداث التي تحقق ما يعرف باسم فلسفة التاريخ، وهدفها ربط الواقع بالتاريخ والاستفادة منه عقدياً وسلوكياً واجتماعياً مع ربط هذا كله بالحنيفية التي رفع شعارها إبراهيم عليه السلام وورث لواءها المسلمون كما قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُكَذِّبِينَ} [الأنعام: ١١]، وقال: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُجْرِمِينَ} [النمل: 69]. وقال: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: ٩].

وفي حديث أصحاب الأخدود الذي رواه مسلم (رقم 3005/73) عَنْ صُهَيْبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَانَ مَلِكٌ فِي مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ…» فيبدأ بقوله: «في من  كان قبلكم» ليربط الحاضر بالماضي والأجيال المؤمنة ببعضها وليعرف أهل الحق أن هناك من سبقهم على الدرب ذاته فيرمقونهم بنظرة إلى الخلف ليروا فيهم قادة وعظماء ملهمين يدفعونهم في طريق الحق.

لقد أنتج هذا القصص التاريخي في القرآن والسنة أجيالاً من المؤرخين بلغت على حد قول حاجي خليفة في كتابه «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون» ألف مؤرخ ومئتين، وهو ما يعضد القول بأن للقرآن نظرته المتميزة والخاصة إلى التاريخ، وهي نظرة لا تشبه نظرات الآخرين للتاريخ، فمن سبق المسلمين جعل من الأحداث التاريخية خدماً لعنصريته وتكريساً لعقيدته، ومولجاً لمدح بني جنسه فحسب، كما فعل اليهود بالتوراة والتلمود وغيرهما من كتبهم التي امتلأت عنصرية وتحريفاً.

فما هي مزية النظرة القرآنية للتاريخ على غيرها؟

أولاً: أنها نظرة مستمدة من العقيدة والوحي:

عقيدة الإسلام تقوم في الأصل على أن للإنسان دوراً في الحياة، لا يقتصر على بناء الأرض وعمرانها وتكوين الممالك والحضارات التي لا تلبث بدورها أن تسقط وأن تنهار، فهذه وظيفة تتشارك حشرتا النحل والنمل فيهما مع الإنسان، لكن الدور المنوط بالإنسان هو إقامة ملكوت الله في الأرض وتحقيق ألوهيته سبحانه، وبهذا ترى القرآن قد سالت أوديته بقصص السابقين، بل إلى ما هو أبعد بذكر خلق الكون ليحقق للبشر معرفة العلاقة بين الكون وخالقه، وهي نظرة واسعة توصف بالنظرة الكونية يعبر عنها الأستاذ محمد إقبال بعبارته الشهيرة: «الهدف الرئيسي للقرآن هو أن يوقظ في نفس الإنسان شعوراً أسمى في ما بينه وبين الخالق وبين الكون من علاقات متعددة»[1]. والعلاقة المرجوة هنا هي علاقة العبودية التي أدتها الكائنات كلها ويجب على الإنسان تأديتها كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41].

ثانياً: أنها نظرة واقعية لا تهمل المثالية:

وقد صور الله تعالى مشهد خلق الإنسان ومراحله كما قال: {وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ 28 فَإذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 28، 29]، فالإنسان روح وجسد لا هو بالحيوان الصرف، كما ترى الداروينية، ولا يمكن أن يكون ملاكاً كما تسعى إلى ذلك الهندوكية والبوذية بالرهبانية، ولم يهتم بالحياة الروحية وحدها كما فعلت النصرانية، ولا طغت المادية على هذه النظرة كما فعلت العقيدة اليهودية المحرفة، فالإنسان يأكل ويشرب ويتزوج كالحيوان، لكنه يختلف عنه بالفارق النفسي الشعوري وطريقة السلوك، وكم تخطئ المذاهب والفلسفات التي تجرد الإنسان من الإحساس والمشاعر والحياة الانفعالية، حين تلغي واقع النفس كله لتثبت فقط واقع «المادة»، متأثرة بالنظرة المادية الحيوانية للإنسان، كما أن للإنسان أشواقاً ملائكية روحية وطبيعة الملائكة أنهم مخلوقات من نور خالص، ليس لهم ثقل الجسم ولا عتامة الطين واتجاهها هو الطاعة المطلقة الدائمة الكاملة {لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: ٦]، فتتجلى عبقرية الإنسان في أنه يسير بجسمه على الأرض وهو متطلع بروحه إلى السماء، ولا يتحقق له ذلك إلا حين يكون إنساناً حقيقياً لا حيواناً ولا ملاكاً، وبمعنى آخر حين يقضي ضروراته الأرضية الحيوانية على طريقة الإنسان لا على طريقة الحيوان، ويحقق أشواقه الروحية الملائكية على طريقة الإنسان لا على طريقة الملاك. وبذلك يحقق رسالته في الأرض ويحقق أفضل ما يستطيعه، ويحقق كثيراً من الخير[2]. هذه هي نظرة الإسلام للإنسان وهو المحور الأساسي في التاريخ، لقد صوَّر القرآن لحظة وقوع آدم في الخطيئة كما صور لحظة توبته، وصور لحظة تآمر إخوة يوسف عليه ثم لحظة توبتهم وعفوه عنهم، فخلط بين واقعية ومثالية تتيح لمن يقرأ القصة والتاريخ أن يعتبر وأن يتعظ وأن يعي أن الإنسان فيه خير وشر، وأنه مخير في أمور ومسير في أخرى، وأن عليه العمل حتى ولو أخطأ لأن باب التوبة مفتوح وهنا يتحقق الغرض الأسمى لذكر ما فات وهو عمارة الأرض بتحقيق الألوهية والعبودية.

ثالثاً: نظرة الإسلام للتاريخ نظرة عالمية ليست محلية:

وهذا خلاف التوراة المحرفة التي أعطت كل فضيلة للجنس اليهودي ونزعتها عن كل جنس آخر، وهو ذاته ما فعله أفلاطون في جمهوريته الفاضلة التي جعلت أثينا حرة وما حولها عبيداً، وهي نظرة عنصرية تفشت داخل التواريخ القديمة قبل الإسلام، لكن الإسلام الذي اكتمل به رشد البشرية نظر للتاريخ نظرة أخرى أشمل وأعم فالجنس البشري واحد أبوه آدم، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: ١]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، ثم قرر وحدة الأنبياء في مصدر التلقي وهو الوحي الرباني، مع وحدة الرسالة عقدياً وهي تحقيق الألوهية، واختلاف الشرائع التي كانت مناسبة لوقتها، وقد تم الإعلان عن هذا في قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، لقد وُجِد الإنسان على الأرض بعدما بين الله تعالى مراحل خلقه في القرآن، ثم بين المقصد من وجوده: {وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]. وهذه وظيفة الإنسان كما يراها القرآن وبهذا يصبح بنو البشر مسئولين في هذا الوجود عن نفوسهم وعن تحقيق الوظيفة التي من أجلها قد خلقوا وبهذا تصنع البشرية التاريخ مشاركة فيما بينها على اختلاف أجناسها ولن يوحدها إلا الدين الحق واتباع الرسالات التي ختمها الله تعالى بالإسلام، ولا مجال هنا للقول بأن الأرض مسرح عقوبة كما ذكرت التوراة والإنجيل كيف وقد ارتكبت الخطيئة في الجنة لا على الأرض، فلا لعنة أبدية، ولا فداء يقعدان البشر عن العمل، بل سعي دؤوب وصناعة للتاريخ في الأرض التي خلقت من أجل العمارة والخلافة.

رابعاً: نظرة الإسلام إلى التاريخ مرتبطة بالآخرة:

فالتاريخ يبدأ من حيث بدأ الله تعالى الخلق وينتهي بيوم القيامة وهو يوم الحساب، وهذا ما يعطي انطباعاً بأن الإنسان خلق للحياة لا للموت وعليه أن يتحرك دائماً وألا تقعد به عقيدته، فالإنسان في الإسلام مسئول عن عمله في الدنيا، ثم مفتون في قبره، ثم يحاسب في أخراه على ما قدمه في الدنيا من ظلم أو عدل أو بناء أو هدم أو حق نصره أو باطل عاش في خدمته، {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]، ولم يجبر الإسلام أحداً على اتباع نهجه بل دعاهم ورغبهم في اتباعه ووعدهم بالجنة، وتحدث عن التنوع فقال تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} [الإسراء: 84]، وقال: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران: 152]، ولكن وضَّح أن الغلبة في النهاية والعاقبة لمن أراد الآخرة وعمل لها، {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، ومعلوم أن ربط العمل بالجزاء يمنح صاحبه دفعة إلى العمل والاجتهاد وهو ما فهمه الأوائل في دول الإسلام التي ما خرج جندها يجوبون العالم إلا لتحقيق العبودية وهدم حصون الشرك ومعاقله فكانوا والآخرة نصب أعينهم يعملون لا تغيب عن نواظرهم أبداً.

إن القرآن الكريم ليس كتاب تاريخ لكنه قدَّم وقائع تاريخية ثابتة لا ريب في صحتها، ولم يعرض هذه الأحداث إلا لتتلمس البشرية فيها الرشد والهدى والصلاح، وهو المقصد الأسمى والهدف الأعلى من عرض القرآن لبعض الوقائع، وتبقى الكلمة الأخيرة التي ألقاها القرآن من خلال عرضه لبعض الوقائع أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للتقوى، والتمكين للمؤمنين لا لغيرهم، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: ٥٥].

 

[1] الإسلام في رأي الشرق والغرب، د. نعمات فؤاد، ص148.

[2] منهج الفن الإسلامي، محمد قطب، ص4، ط الشروق.

(المصدر: مجلة البيان)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى