كتاباتكتابات مختارة

”الميثاق” في القرآن الكريم… أساس للبناء الاجتماعي والسياسي السليم

”الميثاق” في القرآن الكريم… أساس للبناء الاجتماعي والسياسي السليم

بقلم أحمد التلاوي

من بين أهم المفاهيم والمصطلحات القرآنية، مصطلح #الميثاق؛ حيث استعمله رب العزة سبحانه وتعالى في التعبير والإشارة إلى أهم الأمور وأعظمها، مما يحكم تصورات وحركة الإنسان في الحياة الدنيا إزاء ربه عز وجل، وإزاء نفسه والآخرين، والقضايا الكبرى المطروحة عليه.

وفي حقيقة الأمر، فإن هذا المصطلح المهم، وفق المعاني والاتجاهات المختلفة للاستعمال القرآني له، يتضمن الكثير من المجالات التي تكشف كيف أن الإسلام دينٌ شامل، ينظِّم مختلف أركان الحياة، الفكرية والنفسية، والسياسية والاجتماعية، وغير ذلك من دوائر يحيا فيها الإنسان في الحياة الدنيا، ويستعد بها للآخرة.

ومما ذُكِرَ في معاجم اللغة العربية المختلفة، فإن “الميثاق” لغةً يعني “العهد”، وبالتالي فإنه في الاصطلاح يعني ما يتعاهد عليه طرفان أو أكثر، من أجل القيام على أمر ما.

وبالتالي فإن الميثاق يتضمن ثلاثة جوانب: الأول- هو العهد والاتفاق، والثاني- الأمر الذي تم الاتفاق على القيام به، ومجاله، والثالث- ترتيبات القيام بهذا الأمر وإجراءات ذلك .

ولقد وردت كلمة “الميثاق” باشتقاقاتها المختلفة فيما يتصل بهذا 34 مرَّة، في 29 آية قرآنية كريمة، ولكن “الميثاق” كمعنىً مجرَّد -غير متصل بأمر آخر، كما يتضح من مراجعة هذه الآيات- هو العهد مع الله تعالى، والقائم على الإيمان والتسليم بعقيدة التوحيد.
وبالتالي فإن أول ملاحظة على هذا المفهوم في القرآن الكريم، أنه حتى مع الطريقة التي نوَّع بها الخالق عز وجل في كتابه العزيز في استخدام كلمة “الميثاق” ومعانيها المختلفة، فإن مرَّات استخدام المفهوم ومشتقاته المختلفة، تشترك كلها في معنىً واحد، وهو المتانة والقوة، وعلى معنى قداسة الرابطة التي يضعها الميثاق بين أطراف الأمر التي تعاهدت عليه.

ويبدو ذلك في أكثر من مظهر، مثل اشتقاقات مُعيَّنة استخدمها القرآن الكريم ضمن المرَّات الـ34 التي ذكر فيها القرآن الكريم الكلمة ومشتقاتها المختلفة، أو في المعاني التي دارت حولها الكلمات التي تضمنتها الفقرات والعبارات التي احتوت مفهوم “الميثاق”، والتعبيرات والصياغات المستخدمة في هذا الإطار.

فالقداسة والمتانة تبدو مثلاً في اشتقاق “الوثقى” من كلمة “ميثاق”، فيقول تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سُورة البقرة–الآية: 256]، ويقول سبحانه أيضًا: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [سُورة لقمان–الآية: 22].

ويُلاحَظ هنا أن كلا الآيتَيْن يضع النَّص القرآني “الميثاق” في معناه الأساسي الذي ذكرناه صنو الإسلام وصنو الإيمان، ويؤكد الخالق بما استعمله من عبارات وألفاظ في كلا الآيتَيْن على أن الميثاق الأوثق والأقدس في حياة الإنسان، هو الإيمان بالله عز وجل وحده لا شريك، وما يرتبه ذلك عليه من أمور عقدية.

وفي ذات السياق، ولكن بعكس المعنى، وهو أسلوب بلاغي نجده في القرآن الكريم، التأكيد على الأمر بالمعنى وعكسه، فإن الله تعالى لكي يفسِّر لنا غضبه على بني إسرائيل، وعقابه الشديد لهم على كفرهم بعد إيمانهم، بأنهم قد نقضوا ميثاقهم مع الله تعالى.

ففي آيتَيْ “البقرة” و”لقمان”، كان التأكيد على أن النجاة، في التمسُّك بـ”الميثاق” بين العبد وخالقه، والقائم بالأساس على عقيدة التوحيد، ولذلك استحق بنو إسرائيل شديد العقاب لنقضهم هذا الميثاق… يقول تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ(83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ(84) ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(85)} [سُورة “البقرة”].

ويقول عز من قائل: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [سُورة “المائدة”– الآية: 13].
وفي سُوَر “البقرة” و”آل عمران” و”النساء” و”الأعراف” و”المائدة”، الكثير من الآيات التي تبرز سوء عاقبة بني إسرائيل، والنصارى، ممَّن نقضوا الميثاق مع الله تعالى.

ومما يؤكِّد هذه المعاني جميعها، قَوْل الله عز وجل في سُورة “الأحزاب”: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا (7)}، وقوله سبحانه في سُورة “الحديد”: {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (8)}.

هنا تبدو القداسة والمتانة التي يؤشِّر عليها مصطلح “الميثاق”، وأنه في المعنى القرآني يقف على أهم ما خُلِقْنَا لأجله، وهو توحيد الخالق عز وجل وإفراده بالعبادة، والدعوة إليه وإلى شريعته.

“الميثاق” في حياتنا… الإسلام وشريعته كعقد اجتماعي:

وفي الأمور الأخرى التي تبرز تنظيم الإسلام لمختلف الأمور، نجد أن الله عز وجل قد استخدم كلمة “الميثاق” على أهميتها في التأكيد على أنها العهد بيننا وبينه سبحانه، في التأكيد على قداسة الروابط التي تنشأ بين الناس طالما أنها نشأت على أسس شريعته، وعلى كلمة الله عز وجل.

استخدم الله عز وجل كلمة “الميثاق” للتدليل على أهميتها في التأكيد على أنها العهد بيننا وبينه سبحانه، وفي التأكيد على قداسة الروابط التي تنشأ بين الناس طالما أنها نشأت على أسس شريعته، وعلى كلمة الله عز وجل

ففي سُورة “النساء”، نجد الله تعالى قد قدَّس علاقة الزواج بأن جعلها ميثاقًا غليظًا بين الرجل والمرأة، فيقول عز وجل: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا(21) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا(22)}.

وفي سُورتَيْ “النساء” و”الأنفال” نجد أنفسنا أمام معنىً تهتز له مشاعر الإنسان، مما يبرز قوة الله تعالى وعزته وجلاله في ذاته؛ حيث بدا ذلك في استغنائه عن العالمين، عندما فضَّل وشدَّد على ضرورة وفاء البشر وبمواثيقهم وعهودهم بين بعضهم البعض على الوفاء بالتزامات رابطة الإيمان والدين المشترك؛ لأن حفظ حقوق البشر الضعفاء أوْلى، حيث إننا آمنَّا أو لم نؤمن، شكرنا أو لم نشكر، فإننا لن نضرَّ اللهَ تعالى أو ننقصه شيئًا، أي شيء.

فيقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [سُورة “النساء”– الآية: 92].
ويقول سبحانه أيضًا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سُورة “الأنفال”– الآية: 72].

وقريبًا من ذلك المعنى في القرآن الكريم، كانت بداية سُورة “المائدة”: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ(1)}.

فهذه الآيات أسست لأعظم قاعدة تستقر بها المجتمعات وتحافظ على علاقات السلم بينها وبين بعضها البعض، وهي احترام المواثيق والعقود التي يتعاهد بها الناس بين بعضهم البعض، وجعل ذلك -أولاً- مبدَّىً على رابطة الدين نفسه، وثانيًا أنه جعل ذلك حكمًا شرعيًّا نافذًا وباقيًا ما دام القرآن الكريم فينا.

هذه الآيات أسست لأعظم قاعدة تستقر بها المجتمعات وتحافظ على علاقات السلم بينها وبين بعضها البعض، وهي احترام المواثيق والعقود التي يتعاهد بها الناس بين بعضهم البعض، وجعل ذلك -أولاً- مبدَّىً على رابطة الدين نفسه، وثانيًا أنه جعل ذلك حكمًا شرعيًّا نافذًا وباقيًا ما دام القرآن الكريم فينا

وينطبق هذا المبدأ على كل المجالات، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأكدته السُّنَّة النبوية، حيث ورد عن الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم” في الصحيح أنه قال: (لا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له).
والميثاق هنا هو الاتفاق أو العهد الذي تم بين البائع وبين المشتري الأول، أو بين ولي أمر الفتاة أو المرأة التي طلبت للخِطْبَة وبين الخاطِب الأول، حيث نص الحديث واضح وصريح في قداسته، ما لم يأذن صاحب الشأن في كلا الحالتَيْن، المشتري الأول، أو الخاطب الأول.

وفي الختام، فإن هذا هو ديننا، دين النظام والاستقرار من خلال تحديد الأمور، والوفاء بالعهود والالتزام بها ، ونجد أن قواعد العقد الاجتماعي التي وردت في أصلَيْه، الكتاب والسُّنَّة، قد سبقت بمئات الأعوام كل العهود والشرائع التي تناولت هذه الأمور في العالم، مثل “الماجنا كارتا” في إنجلترا، وأفكار جان بول سارتر في فرنسا.

ولئن كانت هناك دروس أخرى مستفادة من هذا الموضع من النقاش، فهو أن الفهم والتعمُّق في علوم اللغة العربية، سواء فيما يخص النحو والصرف، أو معاني الكلام، وحتى البلاغة، هو أساس الوصول إلى فهمٍ حقيقيٍّ وسويٍّ للقرآن الكريم، حيث إنه من دون هذه المعرفة الوطيدة باللغة العربية، لن يمكننا بحال الوصول إلى الفهم الضروري للقرآن الكريم، حيث فهم القرآن يعني تطبيق الإنسان.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى