كتاباتكتابات مختارة

المسؤولية في الإسلام

المسؤولية في الإسلام

بقلم الشيخ د. مجد مكي

هذه خطبة قديمة القيتها سنة 1397منذ أكثر من أربعين عاما وأنا في العشرين من عمري في جامع السلام بحلب ، وكنت أحضّر الخطبة وأعدها إعدادا جيدا وأكتبها من عدة مصادر، وألقيها ارتجالا، وقد احتفظت بهذه الأوراق بخطي الناعم الجميل، وقام الأخ الحبيب طارق قباوة بصفها ،ويذكرني بتصحيحها ويحثني على نشرها، وقد راجعت اليوم هذه الخطبة وأعيد نشرها في موقع الرابطة، وأرجو أن تكون من العلم الذي ينتفع به.

إن هذه الحياة سفينة ماخرة في العباب ، تتقاذفها الأمواج من كل جانب ، ولن يكتب لها السلامة والاستواء فوق الموج المضطرب ، حتى يكون كل شخص فيها مسؤولاً حذراً متيقظاً .

والمجتمع كهذه السفينة يركبُ على ظهرها البر والفاجر والمتيقظ والغفلان ، ومن جميع طبقات الناس .

روى البخاري والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها : فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء، مروا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ، فلم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً …).

ولكي ننقذ السفينة من أن تتحطم ، والمجتمع من الهلاك علينا أن نشعر بالمسؤولية ونقوم بالواجب. والرسول صلى الله عليه وسلم عمَّم المسؤولية ، لتشمل الناس جميعاً فقال صلى الله عليه وسلم : (كلُّ رجلٍ من أمتي على ثَغْر من ثُغر الإسلام… اللهَ اللهَ لا يؤتي الإسلام من قبله) (رواه محمد بن نصر المروزي في كتاب” السنة”  ص 8 ،عن الوضين بن عطاء عن يزيد بن مرثد مرفوعا).

فكل رجلٍ من أمةِ محمد صلى الله عليه وسلم على ثَغر من ثغور الإسلام ، قائم على حراسة زاوية من زواياه ، فيجب أن يكون حارساً أميناً واعياً يقظاً نابهاً يقوم بمسؤوليته على أكمل الوجوه .

فمسؤوليتنا تجاه الإسلام أن نعطي صورةً صحيحةً صادقة ناصعة لهذا الدين ، فإذا كان المسلم مقصراً في حقّ مسؤولية الإسلام فإنه يسيء لنفسه لأنه لم يقم بمسؤوليته ، ويسيء للإسلام الذي يتلبس بشعاره وينتسب إليه ، فتتشوه سمعة الإسلام أمام كثير من الناس .

ومعنى كوننا على ثَغرة من ثُغَر الإسلام تقتصينا أن نأخذ الإسلام بقدر استطاعتنا من جميع وجوهه، بعقائده ، وعباداته، وآدابه ومستحباته وكمالياته ، وحينما نهدم لبنة صغيرة في أدب من آدابه نتجرأ إلى هدم لبنةٍ أكبر منها . فيضعف إحكام اللبنات المتجاورة . وكذلك الإسلام محكم متماسك لا يجوز أن نتساهل بشيءٍ منهن ونفرط فيه.

السؤال يوم القيامة:

ولا شك أن الإنسان سيسأل عن قيامه بمسؤوليته حفظ أم ضيَّع ، قال الله تعالى :[فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ] {الحجر:92} .

ومن أعظم هذه المسؤوليات: السؤال عن كلمة التوحيد من حيث الاعتقادُ بها، ومن حيث القولُ، ومن حيث العمل.

روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : تسألون عن لا إله إلا الله .

ويسأل الله تعالى الأمم عن مواقفها مع رسلِها ، وهل استجابوا لدعوتهم أم لا ؟ وهل أطاعوا ما جاءت به الرسل من عند الله أم لا ؟ [فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ] {الأعراف:7} .

وهكذا تسأل العباد عن مواقفها مع رسلهم صلوات الله تعالى عليهم أجمعين ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (وليلقينَّ الله أحدكم يوم يلقاه ليس بينه وبينه حجابٌ ، ولا ترجمان يترجم له فليقولنَّ سبحانه: ألم أبعث إليكَ رسولاً فبلَّغكَ ؟ فيقولَ العبدُ : بلى) .

[فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ] {الأعراف:6} . ولاشكّ أن الرسل قد بلغوا رسالاتِ ربِّهم ، وأدوا واجبهم على أكملِ الوجوه ، ونصحوا الأمة أسعدَ نصحٍ ، ومن ثمَّ لما خطب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يوم حجَّة الوداع في ذلك الجمعِ العظيم والحفل الكبير نبَّه الناسَ فقال : أيها الناس إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ فقالوا : نشهد يا رسول الله أنك قد بلَّغت وأدّيت ونصحت.

فقال صلى الله عليه وسلم ورفع إصبعَهُ إلى السماء : اللهم اشهد . ونحن نشهدُ يا رسول الله أنك قد بلَّغت وأديت ونصحت … اللهم اشهد … اللهم اشهد.

أيها المسلمون : إن هذه المسؤولية ليست عن قضايا الإيمان وحسب، بل إننا نسأل يوم القيامة عما كُلفنا من الأعمال …وعلى رأس هذه الأعمال التي سنُسأل عنها: الصلاة ، فقد روى الترمذي والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إنَّ أولَ ما يسال عنه العبد يوم القيامة من عمله الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح ، وإن فسدت فقد خاب وخسر ، وإن انتقص من فريضته شيئاً قال الرب تبارك وتعالى للملائكة : انظروا هل لعبدي من تطوّعٍ فيكمل ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك).

وعندما يسأل الكفار عن السبب الذي أدخلهم النار [كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(38) إِلَّا أَصْحَابَ اليَمِينِ(39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ(40) عَنِ المُجْرِمِينَ(41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ(43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ(44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِينَ(45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ(46) حَتَّى أَتَانَا اليَقِينُ(47) ]. {المدَّثر}.

أيها المسلمون: من أعظم المسؤوليات التي تسألون عنها : ما استرعاكم الله تعالى عليه ، ففي الصحيحين عن ابن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول :(كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته ، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته ، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته ، والمرأة راعيةً في بيت زوجها ، ومسؤولة عن رعيتها ، والخادم راعٍ في مال سيده ، وهو مسؤول عن رعيته ، وكلكم راعٍ وهو مسؤول عن رعيته).

فقد عمَّمَ النبي صلى الله عليه وسلم المسؤولية فما استثنى أحداً وشمل بقوله كبير الناس وصغيرهم. وجعل المسؤولية الأولى مسؤولية الحاكم والسلطان ، فالإمام راعٍ … فهو مسؤول عن الشعب يقوم بمسؤوليته نحوهم من نصح ورعايةٍ وصيانةٍ.

والرجل راعٍ والمرأة راعيةٌ ، فأنتم مسؤولون عن تربيةِ أولادكم وعن صيانة أزواجكم من النار كما قال سبحانه في سورة التحريم :[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] {التَّحريم:6} .

وروى ابن حبان في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم : (إنَّ الله سائلٌ كل راعٍ عمَّا استرعاه : حفظَ أم ضيَّع؟ حتى يسأل الرجل عن أهلِ بيته).

وستسأل أيها الإنسان عن سمعك وبصرِك وفؤادك .

قال الله تعالى :[وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا] {الإسراء:36} . فما يجوز لك أن تتبعَ ما ليس لك به علم… فلا تقل: رأيتُ وما رأيت! ولا تقل: سمعتُ والحال أنك ما سمعتَ ولا تقل علمتُ والحالُ أنك لم تعلم !! تبني ذلك على الأوهامِ والظنون… فالتثبت من كل خبرٍ ومن كل ظاهرةٍ ومن كل حركةٍ هو منهج الإسلام ، ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجالٌ للوهم والخرافة في عالم العقيدة ، ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء، ولم يبقَ مجال للأحكام السطحية والقروض بالوهم في عالم البحوث والتجارب والعلوم.

إنها الأمانة التي تجعل الإنسان مسؤولاً عن سمعه وبصره وفؤاده أمام واهب السمع والبصر والفؤاد.

فيا أيها الناس: اتقوا ربَّكم في سمعكم ولا تسمعوا إلى ما لا يحلُّ لكم سماعه ، واتقوا ربكم في بصركم فلا تنظروا إلى ما لا يحل لكم النظر إليه، واتقوا الله في قلوبكم فلا تحبوا بقلوبكم ما كرِهَهُ الله . ولا تبغضوا ما يرضاه الله… وأعلموا أنكم مسؤولون عن سمعكم وأبصاركم وأفئدتكم فإن كان في الخير أُجرتم ، وإن كان في الشر خسرتم.

روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول الله تعالى : ألم أجعل لك سمعاً وبصراً ، ومالاً وولداً ، وسخَّرت لك الأنعام والحرثَ ، وتركتك ترتع، فكنت تظنُ أنك ملاقيَّ يومك هذا؟ قال : فيقول العبد ـ أي : الكافر ـ لا . فيقول الله تعالى :اليوم أنساك كما نسيتني).

أيها المسلمون : وكما يسأل الإنسان عن أمورِ الإيمانِ، وعمَّا كلِّفَ به من الأعمال وعن أهلِه وما استرعاه الله إياه، وعن سمعه وبصره وفؤاده ، فإنه يسأل كذلك عن العُمر والعلمِ والمالِ والشباب.

روى الإمام الترمذي والبيهقي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن عمله ماذا عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ ).

فلا تزول قدما العبد يوم القيامة عن أرض المحشر ولا يبرح مكانه حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ أفي طاعة الله ورسولهِ أم في المعصية؟ أفي الخير والتقى والبِّر؟ أم في الفساد والبغي والشر؟

ويسأل الإنسان عن شبابه فيم أبلاه؟ وإنما خصَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه المرحلة من العمر لأهميتها، ففترة الشباب داخلةٌ في العمر.

فهناك سؤال خاص عن عمره فيم أفناه؟ ثم خصَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مرحلة الشباب بسؤال خاصٍ لأهميةِ هذه المرحلة في عمر الإنسان فإنها فترة المدِّ والجزر ، والأخذِ والردِ ، والاستقامة والانحراف .. أما ما يقومُ في أذهان بعض المسلمين هذا شابٌ يقضي فترة جهالته فهذا كلامٌ ما يجوز أن يتفوَّه به مسلم فكلُّ لحظةٍ من لحظاتِ الحياة مسؤولين عنها وخاصةً هذه المرحلة من الشباب.

ويُسأل الإنسان عن علمه ماذا عملَ به ، والناس في العلم على مراتب ، فكلٌّ يسأل عن حسب ما يعلم فالعلم مسؤولية في أعناق العلماء ، إن وطَّؤوا للناس سبله ، واستعملوه في رفاهية الإنسانية وخيرها وسلامها قاموا بحق المسؤولية ، وإن استعلموه فيما يشيع الذعر ويشقي الأمم ، ويشجّع الطغاة كانوا خونة آثمين مجرمين.

ويُسأل الإنسان عن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وهنا نلاحظ أنَّ كل واحدٍ من هذه الأمور سيسأل الله عزَّ وجل عنها سؤالاً واحدً عن العمر فيم أفنيته؟ والشباب فيم أبليته؟ والعلمِ ماذا عملت به ؟ ولكن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم نبهنا إلى أننا مسؤولون عن شيء واحدٍ سؤالين: (عن مالهِ من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟) فإنَّ مسؤولية المالِ مسؤولية خطيرة فأنتم مسؤولون عنه سؤالان: من أين اكتسبتموه وحصلتم عليه؟ أمن طريق شرعي وبيع وشراءٍ وعقودٍ صحيحة أم من طريق غير شرعي؟ وأين أنفقتموه وصرفتموه؟ هل كان ذلك في مصرفٍ شرعه الله تعالى أم غير مشروعٍ ؟ هل كان ما أنفقتموه إعطاءً للفقراء ومساعدة للمساكين وفي سبيل الخيراتِ والمبرات أم في سبيل الشهوات والمحرمات؟

روى الترمذي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “يجاء بإبن آدم يوم القيامة كأنه بذج ـ أي : كأنه ولد الضأن الصغير ـ فيوقف بين يدي الله تعالى فيقول الله تعالى : أعطيتك وخوَّلتك وأنعمت عليك؛ ماذا صنعت؟ فيقول : يا رب جمعته وثمرته وتركته أكثر ما كان فأرجعني آتك به . فيقول الله تعالى: أرني ما قدمت؟ فيقول : يا رب جمعته وثمرته وتركته أكثر ما كان فأرجعني آتك به . فإذا عبد لم يقدم خيراً فيمضي به على النار”.

فيا أيها الناس : المالُ في أيديكم مسؤولية فقوموا بحقها، ومن أهم حقوق المال أن تؤدوا الزكاة التي هي من أهمِ أركان الإسلام ، ومن ترك الزكاة يعذب حين الموتِ ، وفي القبر، وفي مواقف الآخرة فقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من صاحب ذهب ولا فضةٍ لا يؤدي منها حقهما إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نارٍ فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبيه وجنبه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنةٍ ، حتى يقضى بين العباد ، فيرى سبيله إما إلى الجنة أو إلى النار) [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] {التوبة:34} .

وروى ابن ماجه والنسائي وابن خزيمة والنسائي وابن خزيمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما من أحدٍ لا يؤدي زكاة ماله إلا مُثل له يوم القيامة شجاع أقرع حتى يطوق به عنقه، ثم قرأ علينا النبي صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله :[وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ] {آل عمران:180} .

فالزكاة حقٌ للفقراء في مالِ الأغنياء. قال تعالى :[وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ] {المعارج:25} . وقد روى الطبراني عن أنسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ويلٌ للأغنياء من الفقراء يومَ القيامة يقولون : ربنا ظلمونا حقوقنا التي فرضت لنا عليهم! فيقول الله عزَّ وجل : وعزتي وجلالي لأدنينكم ـ أي : لأقربنَّكم ـ ولأباعدنَّهم . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى :[وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ] {المعارج:24} .

أيها المسلمون : وكما يُسأل الإنسان عن عمره وشبابه وعلمه وماله : من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ فإنه يسأل أيضاً عن النعيم في الدنيا من صحة البدن ، ولذة الشراب ، ولذة الطعام ، وشبع البطون ، ولذة الظلال ، ولذة النوم ، ومتعة النظر إلى النضار والخضار … كما قال الله تعالى: [ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ] {التَّكاثر:8} فيسأل الكفار عن ذلك سؤال تعنيفٍ وتوبيخٍ وتحقيرٍ ، لأنهم كفروا بتلك النعم ، ويسأل المؤمنون عند ذلك سؤال تذكيرٍ وتلطيفٍ وتشريفٍ؛ لأنهم شكروا هذه النعم لله[وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ] {آل عمران:144} .

روى الترمذي عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أنه قال لما نزلت : [ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ] {التَّكاثر:8} . قال الزبير: وأيُّ نعيم نسأل عنه وإنما هو الأسودان التمر والماء ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : أما إنه سيكون أي : سيكون السؤال عن التمر والماء وغيرهما من ألوان الأطعمة والأشربة.

وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجَ هو وأبو بكرٍ وعمر رضي الله عنهم ، أخرجهم الجوع، فأتوا رجلاً من الأنصار ، فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب ، وذبح شاة فأكلوا من الشاةِ ومن ذلك العذق، وشربوا فلما شبعوا وارتووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر : والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة ، أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم .

فيا أيها الناس: إنكم مسؤولون عن نعمِ الله تعالى فاصرفوها فيما يرضي الله ولا تصرفونها في الشهوات المحرمة والمعاصي التي نهى الله عنها فإن ذلك يعرضها إلى الهلاكِ والزوال.

إذا كنت في نعمة فارعها= فإنَّ المعاصي تزيل النعم

وحُطها بطاعة رب العباد =فربُّ العبادِ سريع النقم.

أيها المسلمون : إن المسؤولية تنتظم شؤون الحياة من عقيدةٍ ومعاملةٍ وعبادةٍ وسياسيةٍ وخلقٍ وأدب. . والمسؤولية بهذا المعنى هي سبب سعادةِ الأمم ، ويومَ كانت أمتنا من أصدق الشعوب في حمل هذه المسؤولية ، كانت أمتنا خير أمة أخرجت للناس… وما وصلنا إلى ما نحن عليه إلا عندما تخلينا عن المسؤولية … عندما تخلى العالم عن مسؤولية العلم ، وتخلى الحاكم عن مسؤولية الحكم ، وتخلى الشعب عن مسؤولية المراقبة للحكام ، فتملقوا إلى كل طاغيةٍ مستبدٍ، وزينوا لهم حبَّ الشعبِ لهم وولاءهم فاستمر الفساد واستمر الطغاة . . وتخلى الأغنياء عن مسؤولية المال فاكتنزوه واحتبسوه ، وتقلبوا في النعيم ، ومن حولهم يشقى في البؤس والجحيم ، وتخلى الرجل عن مسؤولية الأسرة فلم يبال بتربية ولده ، وبما تلبس زوجه ، وما يفعل أخوه ، حتى اجتمع في البيت الواحد التقي والفاجر ، والمتزمت والمتحرر ، والجنة والسعير ، واليمين واليسار …

ولعل البعض يقول : نفسي نفسي .وما لي وللمجتمع وما انتشر فيه من فساد ،وربما يستدل بهذه الآية في سورة المائدة : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] {المائدة:105} .وقد يحتار بعض الناس إزاء الآية الكريمة، وهي حيرة وقع فيها المسلمون الأوائل.

وهذا أبو بكر ينبهنا إلى فهم الآية ويبين لنا منهج المسلم في تحمل المسؤولية.

روى أبو داود والترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده .. نعم عليكم أنفسكم، وعليكم بأسرتكم التي تحت رعايتكم ، وعليكم بالمجتمع الذي تعيشون فيه ، عليكم أن تشعروا بالمسؤولية شعورا لا يقول فيه إنسان : ما شأني أنا بفلان فليصنع ما يشاء، ولا يقول فيه إنسان لآخر: ما علاقتك فيَّ ؟!! وهل ستدخل في قبري ؟؟!!.

كلا . إن أمور المجتمع لا يمكن أن تستقيم إلا إذا تحملتم المسؤولية وكنتم للحق أنصاراً ، وللمخطئين والمنحرفين ناصحين وللظالمين والمستبدين مقاومين، فعند ذلك تعيشون في كرامة ومكانة وعزة وسيادة… أما إذا تخليتم عن مسؤوليتكم، واخترتم لأنفسكم طريق اللامبالاة وعدم الاكتراث ، فإن عدالة الله تأبى أن تمنحكم الخير والكرامة الذي اختصكم الله بها إذا حققتم ما طلبه الله منكم وميزكم به دون سائر الأمم : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [ آل عمران: 110].

علة العلل في طروء الخلل

قال العلامة الإمام المحدث الفقيه النظار محمدزاهد الكوثري رحمه الله:

بعث السلطان أحمد الأول -باني ذلك الجامع البديع ذي المآذن الستة قرب آياصوفيا- كبير حجابه إلى شيخ الإسلام محمد سعد الدين( توفي سنة ???? هجرية) بخط سلطاني يسأله فيه:

?ما هو سبب الخلل الطارئ على كيان الدولة وشؤون الرعية مع النصر الموعود لهذه الأمة؟?.

أخذ الشيخ الخط السلطاني من يد كبير الحجاب، وكتب تحته بعد مد باء الجواب على الوجه المعتاد في الإفتاءات:

{مالي ولهذا الأمر؟ كتبه محمد سعد الدين.}

وأعاد الورق إلى السدة الملكية، فاحتد السلطان غضبا ، واغتاظ جد الغيظ ، حيث اعتبر أن شيخ الإسلام لم يلتفت إلى سؤاله ، فطلبه للمثول بين يديه في الحال ،فحضر وأخذ السلطان يعاتبه مر العتاب، على خلاف ما هو المعتاد من التسامح مع مشايخ الإسلام، وقال: كيف تقول: (أنا مالي) في أمر يهمني جداً وتهمل الجواب؟

فقال شيخ الإسلام:كلا بل جاوبت على سؤال مولانا أدق جواب، فمتى كانت عناية رجال الدولة وأفراد الأمة بما يخصهم أنفسهم دون التفات إلى ما يعم ضرره للجميع أو يشمل نفعه الجميع قائلين : مالي ولهذا الأمر ؟! فقد طمَّت البلية ،وعمت المصيبة؛ لانصرافهم إلى منافعهم الشخصية دون النفع العام.

ولما شرح شيخ الإسلام كلامه هذا الشرح أعجب به السلطان جداً وخجل من عتابه وسعى في إرضائه سعيا بالغا، وأنعم عليه بثلاث خلع فاخرة، كما أنبانا بذلك التاريخ.

وتلك الكلمة ( أنا ما لي) على وجازتها هي علة العلل في طروء الخلل في كل زمن.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المراجع:

1 ـ الإيمان بعوالم الآخرة، للشيخ عبد الله سراج الدين.

2- مقالات الكوثري ص 448 ط التوفيقية.

3ـ خطبة عن المسؤولية ، للشيخ محمد عوامة.

4ـ في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب.

5 ـ أخلاقنا الاجتماعية، للدكتور مصطفى السباعي.

(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى