كتاباتكتابات مختارة

الليبراليون والغرام بالغرب!

في وعي الليبراليين العرب يمثل الغرب النموذج والمثال الذي ينبغي لنا الاقتداء به، على مستوى الأفكار والقيم والسلوكيات ودون تمييز بين سيء وحسن، وشر وخير. وهذا الموقف من النموذج الغربي يأتي تحت تأثير الإعجاب والانبهار الذي يبديه هؤلاء الكُتاب لفكر الغرب وقيمه ومناهجه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، وحالة الهزيمة واليأس والإحباط والتنكر للهوية الإسلامية.

وأرقى مسار حضاري في نظر الليبراليين هو مسار الحضارة الغربية “لأنها بلغت الجودة”، ولأنهم “يعتبرون أصحاب العلامة الفارقة في الأداء حتى اللحظة”![1] ومن الجهل بالذات “أن يقارن العرب أنفسهم بأوروبا وأمريكا”![2]

ولا يجوز أن نبيح لأنفسنا أن نتعاطى مع الجانب المادي من الحضارة الغربية دون الجانب الفكري برأي الكتاب الليبراليين. يقول محمد العثيم: “من العيب أن نبيح لأنفسنا المعطى المادي الاستهلاكي ونفصله عن المعطى الفكري، ونحرمه وكأننا في عصر الظلام..”![3]

وليس لنا خيار إلا أن نأخذ بالكل. يقول علي الخشيبان: “منحنا أنفسنا والمجتمع معاملة جاهزة تقول يمكننا أن نأخذ من الحضارة الغربية ما نريد ونترك ما لا نريد، والذين قالوا بذلك أعطونا حلولاً جاهزة ومغرية للتعامل مع الحضارة الغربية، أثبت الزمن أننا لم نفهمها بشكل صحيح، فلقد فهمنا الحضارة كمنتجات صناعية وليست كمنتجات ثقافية مكتملة الكيان يستحيل تجزئتها”. وينقد الكاتب صنفين من علماء المسلمين: صنف “مطالب بحضارة إسلامية مستقلة”، دفعه لذلك انتماؤه إلى “المؤسسات الدينية”، ودعم “المجموعات الدينية الحركية”، التي قالت بأن “كل شيء موجود لدينا في تراثنا”؛ وصنف “قال إن العالم الإسلامي يمكن أن يأخذ من الغرب ما يريد ويترك ما لا يريد، ونسي هؤلاء أن الحضارة لا يمكن أن تبيع ثقافتها فهي كل متكامل”. وفي نظر الكاتب فإنَّ الادعاء الدائم بأنَّ المسلمين لديهم منهج مكتمل يستطيع بناء حضارة مستقلة “غير صحيح، فالمسلمون لديهم دينهم المكتمل، ولكن الحضارة من صنع الإنسان، وأما الأفكار الداعية إلى الاختيار من الحضارة الغربية فهذا مستحيل، فلن تسمح الثقافة الغربية بتجزئتها، والثقافة كل مكتمل”. ويختم بالقول: “إن موقفنا من الحضارة الغربية لم يبتعد عن كونه موقفاً دينياً لا موقفاً حضارياً”![4]

ولا يرى الليبراليون العرب –في المقابل- في تاريخهم أي قيمة وأي بؤرة ضوء، فما ثمَّ إلا الظلام والبؤس. فـ”نحن أمة هزمت في الماضي والحاضر، ولم تستطع التشكل بأسلوب العصر لأنها إلى الآن تعمل بعقل مشوش”، ومن الضروري: “أن نعترف أن النموذج المناسب غير موجود سلفاً، وإذا فكرنا في النموذج القديم فهو لا يستوعب الحاضر، أما إذا فكرنا في الحاضر فيجب أن نأخذه بجيده وما لا نعتقد أنه جيد، إلى أن نصل إلى ما نناسبه نحن وليس ما يناسبنا منه، لأنه من المستحيل تقييس واقعنا الحالي بمقاييسنا الناقصة حضارياً”![5]

بهذا المنطق الفكري –اللا واعي واللا عقلاني- يتعامل دعاة الليبرالية مع الغرب، كفكر ومنهج وقيم. فهم لا يرون في تاريخهم أي نموذج حضاري؛ وإذا وجد فهو لا يستوعب الحاضر، ولا خيار لنا –في نظرهم- إلا أن نختار من النماذج المعاصرة ما نناسبه نحن، لأن مقاييسنا بالأساس ناقصة حضاريا! ومن ثمَّ فإنَّ الحديث عن (الغزو الفكري) لدى هؤلاء الكتاب “أكبر كذبة تاريخية اختلقتها أفكارنا”![6]

ويحاول بعضهم دغدغة عواطفنا بأنَّ الأمر لا يعدوا أن يكون بضاعتنا ردت إلينا، فأوروبا “عندما أخذت منَّا لم يَصِح مفكروها ولم تَصِح نخبتها صيحاتنا، ذلك أن الثقافة الأوروبية كانت واثقة من نفسها، وتحضر نفسها لكي تصبح سيدة الثقافة العالمية”![7]. ولا نعلم كيف أخذت أوروبا منا ما لا يستوعب الحاضر؟! ومن حضارة مفلسة؟!

وأقرب مثال يتخذه الليبراليون للانفتاح الفكري عصر المأمون وقيامه بترجمة علوم الآخرين. ورغم أن هذه الحقبة التاريخية من أسوأ الحقب التي فتحت على الأمة باب شر وخلاف، إلا أن الاستشهاد بذلك العصر في وعيهم يقتصر على هذه الجزئية المراد تمريرها دون ما اكتنفها من مظاهر إسلامية أخرى![8]

وتجد شخصية كطه حسين ثناء وإطراء بالغا لكونها تأثرت بالغرب، ودعت إلى مفاهيمه وقيمه ومناهجه دون تحفظ. يقول محمد الدوسري مشيداً بدور شخصية طه حسين، التي صبغ عليه صفات المديح، وأنه ” كان شخصية مؤثرة من أجل ارتقاء الإنسان”.. وأنه كان “يحرص أن يعرف المصريون الشرقيون من أمر الثقافة الأمريكية كلها ما أتيح له أن يعرف”.. “وكان يطلب من الأمريكان أن يعرفهم الناس بقوتهم المعنوية التي تأتي من حياتهم العقلية الفكرية والثقافية..”![9]

ومفهوم العقلانية والليبرالية والعلمانية والديمقراطية والحرية لدى الليبراليين “لا يمكن فهمها إلا في سياقها التاريخي والفلسفي، لكنها في الوعي التقليدي بمثابة مؤامرة فكرية وثقافية من الغرب”.[10]

إنَّ النظرة الدونية للدين الإسلامي والحضارة الإسلامية عبر تاريخها الممتد لأكثر من ألف عام مغروس في نفسية هؤلاء الليبراليين. وما يميز الخطابات النهضوية –في نظرهم- هو أنها خطابات مدنية حضارية في الأصل: “وضعت الفكر الغربي مقابل الفكر الإسلامي”، ومن ثمَّ فإنَّه: “لا يضير الخطاب المدني أنه يعتمد على الفكر الغربي لكونه الخطاب الإنساني الأعمق، ما دمنا لم نستطع صياغة خطاب إنساني تراثي حسب ما يحاوله أصحاب الحل الإسلامي”.. “ثم إن الفكر الفلسفي الذي أنتجه الغرب هو الذي استطاع قيادة زمام الحضارة للأمام..”![11]

وعلى هذا فإنَّ المخرج لدى الليبراليين –أمثال شاكر النابلسي- للتغيير هو الابتعاث للغرب! فالمعاهد العلمية في الغرب “ليست معاهد لحشو رؤوس الطلبة بالعلم والمعرفة فقط؛ بل أصبحت إلى جانب ذلك معاهد لبناء شخصية الطالب علمياً معرفياً وحضارياً معاصراً”.[12]ولا مانع من “دعم الغرب للتيار الإصلاحي، بالشكل الذي يحد من سطوة ردود الأفعال الدينية المتشددة المناهضة له”![13] ولا مانع من الاستنصار بالأجنبي، ولو على سبيل السخرية![14]

وبعد هذا كله يحاول البعض أن يوجد لليبرالية مفهوما محليا، ويطالب العلماء برؤية مغايرة للحكم الشرعي السائد حول المفهوم الأصيل لليبرالية! ويرى “أنَّ سوء تطبيق الليبراليين العرب لليبرالية أساء إليها، حيث جعلوها مرادفا لمفهوم (محاربة الدِّين)”. معتقدا أنَّ من الطبيعي أن تصب الفتاوى في تكفير الليبرالية بـ”هذا المفهوم”![15]

____________________________________________________________________________

[1] حسبنا الله ونعم الوكيل، فاطمة الفقيه، الوطن، عدد 2378، في 16/3/1428هـ.

[2] ما قبل الخلف، فاطمة الفقيه، الوطن، عدد 2343، في 10/2/1428هـ.

[3] القفز للعصر على متأرجحات التكنولوجيا النووية، الوطن، عدد 2395، في 4/3/1428هـ.

[4] هل تمنحنا الحضارة فرصة الاختيار منها، الوطن، عدد 2499، في 20/7/1428هـ.

[5] تداعيات من حزن تخلف العرب المعاصر، محمد العثيم، الوطن، عدد 2472، في 22/6/1428هـ.

[6] النكهة الأمريكية، محمد الخليف، الوطن، عدد 2387، في 25/3/1428هـ.

[7] فوبيا الغزو الثقافي الغربي، شاكر النابلسي، الوطن، عدد 2365، 3/3/1428هـ.

[8] ولنا الخيار، محمود صباغ، الوطن، عدد 3263، في 1/3/1428هـ.

[9] نقد الكاريزما وتوظيفها النقدي: طه حسين.. بن لادن، الوطن، عدد 2361، في 28/2/1428هـ.

[10] عسكرة المفاهيم، شتيوي الغيثي، الوطن، عدد 2380، في 18/3/1428هـ.

[11] السكران ومآلات الخطاب المدني (1-2) شتيوي الغيثي، الوطن، عدد 2513، في 4/8/1428هـ.

[12] من بشائر ولادة السعودية الجديدة الوطن، عدد 2486، في 7/7/1428هـ.

[13] شهادات غربية في السعودية الجديدة، شاكر النابلسي، الوطن، عدد 2507، 28/7/1428هـ.

[14] مطلوب حماية البطة السوداء، الوطن، عدد 2359، في 26/2/1428هـ.

[15] الليبرالية والفتوى والبحث عن المفهوم، خالد المشوح، الوطن، عدد 2478، في 28/6/1428هـ.

(المصدر: مركز تأصيل للدراسات والأبحاث)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى