كتابات

القياس ومراعاة المقاصد

بقلم د. أحمد الريسوني

هذا وجه آخر من الوجوه التي لا يُستغنى فيها عن مراعاة المقاصد. بل هو أحوج إليها مما سواه. فإذا كان الفهم والتفسير والتنزيل لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يصح ولا يستقيم إلا بمعرفة مقاصده ومراعاتها، فإن هذا هو ما يلزم — أو هو ألزم — في إجراء القياس على النصوص. وسبب الزلل الوارد هناك، هو أكثر ورودا هنا، وأعني به الجهل بمقاصد الشريعة أو الغفلةَ عنها. قال الإمام ابن تيمية “العلم بصحيح القياس وفاسده من أجَلِّ العلوم، وإنما يَعرف ذلك مَن كان خبيرا بأسرار الشرع ومقاصده وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن التي تفوق التعداد وما تضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد وما فيها من الحكمة البالغة والرحمة السابغة والعدل التام” [1].

وقد نَقَل ابن القيم أن ِابن الْمُبَارَكِ سئل: “متى يفتي الرجل؟ قال: إذا كان عالما بالأثر بصيرا بالرأي. وقيل ليحيى بن أكثم: متى يجب للرجل أن يفتي؟ فقال: إذا كان بصيرا بالرأي بصيرا بالأثر. قلت: يريدان بالرأي القياسَ الصحيح والمعانيَ والعلل الصحيحة، التي علق الشارع بها الأحكام وجعلها مؤثرة فيها طردا وعكسا” [2].

فالذي لا يكون بصيرا بالقياس الصحيح، وبالمعاني والعلل الصحيحة التي يُبنى عليها، يَسقط في الأقيسة الـحَـرْفية الصورية، الخالية من مقاصد الشرع أو المجافية لها، مثلما يسقط في التفسيرات الـحَـرفية الظاهرية لنصوص الشرع وألفاظه إذا فسرها على هذا النحو. وكما أن الجمود اللفظي والغلو فيه يؤديان إلى القول بمعانٍ غريبة مستهجنة، فكذلك الشأن مع الجمود القياسي والمغالاة فيه. فكِلا المسلكين ضرب من الظاهرية السطحية، التي تؤدي إلى تجميد الشريعة وتشويه أحكامها. وهذا ما عناه ابن العربي بقوله: “فإن في اتباع الظاهر على وجهه هدمَ الشريعة، حسبما بيناه في غير ما موضع” [3].

ومن المسالك الواقية من آفة المبالغة في القياس أو وضعه في غير موضعه أو في غير مرتبته، تقديمُ الاعتماد على كليات الشريعة ومقاصدها، قبل اللجوء إلى القياسات الجزئية. وهذا مسلك ثابت عن الأئمة مالك وأبي حنيفة والشافعي. وقد أورد إمام الحرمين رأي الإمام الشافعي بأن المجتهد يبحث عن الحكم المطلوب أولاً في نصوص الكتاب، ثم في نصوص السنة، بدءاً بالمتواتر منها، ثم الآحاد … قال: “فإن عَدم المطلوبَ في هذه الدرجات لم يخض في القياس بـعد، ولكنه ينظر في كليات الشرع ومصالحها العامة. وعدَّ الشافعي من هذا الفن إيجاب القصاص في الـمُـثَـقَّـل، فإنَّ نفيه يخرم قاعدة الزجر. ثم إذا لم يجد في الواقعة مصلحة عامة، التفت إلى مواضع الإجماع، فإن وجدهم أطبقوا على حكم نصوا عليه فقد كفَوْه مؤنة البحث والفحص. فإن عدم ذلك خاض في القياس” [4].

وإذا كانت كليات الشرع ومصالحه العامة تقدم على القياس وتَحْجُبه، أيّاً كان حكمه ومقتضاه، فمن باب أولى أن تقدَّم عليه إذا اقتضى شيئا أو أفضى إلى شيء يتنافى معها. وهذا لا يقتضي إبطال القياس أو الطعن في حجيته ومشروعيته، وإنما يعني أنه قد استعمل في غير موضعه، أو بغير شروط صحته. وقد أجاد ابن القيم غاية الإجادة وأبلى البلاء الحسن، في بيان حالات كثيرة أسيئ فيها استعمال القياس، فأوقع أصحابَه في معضلات، أقَلُّها لجوؤهم إلى القول بأن في الشريعة أحكاما جاءت على خلاف القياس. والحقيقة أن الشريعة إنما تخالف الأقيسة الفاسدة، التي تقع بمعزل عن حِكَم الشريعة ومقاصدها [5].

وتلافيا للغلو في الظاهرية اللفظية أو القياسية، فإن العلماء سلكوا مسلكا استدلاليا آخر أطلقوا عليه اسم الاستحسان. وبغض النظر عن النقاشات والمساجلات اللغوية والفنية حول مصطلح الاستحسان ومدى الحجية الاستقلالية لهذا “الدليل”، فإن مما لاشك فيه أن للأئمة والفقهاء المجتهدين، مسالك اجتهادية يلجؤون إليها ويسلكونها كلما واجهوا استنتاجات وتخريجات لفظية أو قياسية، تجافي مقاصد الشريعة وتخرم مصلحة من مصالحها القطعية. وكان لفظ الاستحسان هو الاصطلاح الجامع الأكثر استعمالا للتعبير عن هذه المسالك، التي ليست في الحقيقة سوى مسالك مقاصدية استصلاحية. وقد نقل ابن حزم — وغيره — قولة بليغة للإمام مالك، وهي عن “أصبغ بن الفرج قال: سمعت ابن القاسم يقول: قال مالك: تسعة أعشار العلم الاستحسان، قال أصبغ بن الفرج: الاستحسان في العلم يكون أغلب من القياس [6].

ما أريد الوصول إليه هو أن القياس الفقهي الصرف، بخطواته وشروطه الشكلية المعروفة، محفوف بعدد من الاحتمالات الظنية، التي تجعل نتائجه غالبا بحاجة إلى نوع من الرقابة أو التصديق قبل اعتمادها. والفقيه الذي يجري الأقيسة وهو ناظر ومحتكم إلى مقاصد الشرع العامة، وإلى مقاصده أو مقصوده في المسألة الخاصة التي ينظر فيها، يكون قد أجرى القياس على هدى من الشرع. وأما إذا غفل عن الحِكَم والمقاصد، أو لم يتمكن من معرفتها في نازلته، فهذا الذي يحتاج قياسه إلى تصديق بَعْدِيٍّ، للتثبت من انسجامه وعدم تصادمه مع مقاصد الشريعة، وإلا وجب رده وعدم التصديق عليه.

ومن الأمثلة الواضحة والشهيرة في هذا الباب، قضية قتل الجماعة للواحد، وقتل الجماعة بالواحد. فقتل الجماعة للواحد هو أن يشترك شخصان أو ثلاثة أو أكثر في قتل شخص واحد. وقد ذهب الجمهور الأعظم من الصحابة والأئمة وفقهاء المذاهب، إلى أن الذين يشتركون متعمدين في قتل شخص واحد، يُقتلون به جميعا. وهذا هو المعبر عنه بقتل الجماعة بالواحد. وعمدة هذا القول هو المقصد الشرعي الكلي في حفظ النفوس وحقن الدماء وردع العدوان عليها. إذ لو لم يُقتل المشتركون في الجريمة، لكان هذا تشجيعا على القتل وتهوينا لأمره. وأكثر جرائم القتل العمد تتم بالتواطئ والاشتراك. وعند عدم تطبيق القصاص على الجماعة، فإن هذا سيدفع حتى الذين كانوا يفكرون في القتل بصورة منفردة، يعمدون إلى إشراك غيرهم للإفلات من القصاص. مع أن القتل الجماعي هو في حد ذاته يعد درجة عالية الخطورة في سلم الإجرام والفساد في المجتمع. وهذا ما يحتم تشديد العقوبة، ولو بالقتل تعزيرا.

وأما المانعون من قتل الجماعة بالواحد فمستندهم النظر القياسي الظاهري. فالنصوص الشرعية جاءت بالقصاص والمماثلة فيه، فالنفس بالنفس، أي قتل الواحد بالواحد، وجاءت بأن الاعتداء لا يردُّ بأكثر من مثله، ولا يجوز الإسراف في القتل … وبناء عليه فالقتيل الواحد لا يقتل به إلا واحد، قياسا على ما هو معهود في العقوبات الشرعية. وذهب داود وغيره إلى أن الجماعة المشتركين في القتل لا يقتل منهم أي أحد، لتعذر المماثلة، وإنما عليهم الدية. قال الصنعاني مؤيدا هذا المذهب : “والظاهر قول داود، لأنه تعالى أوجب القصاص وهو المماثلة، وقد انتفت هنا. ثم موجب القصاص هو الجناية التي تَزهَق الروح بها، فإن زهقت بمجموعِ فِعْلِهِمْ، فكل فرد ليس بقاتل، فكيف يقتل عند الجمهور؟!” [7].

هذا النظر القياسي الظاهري تجاوزه الجمهور، لتنافيه مع مقاصد الشريعة ومصالحها العليا، وإن اختلفت عباراتهم ومصطلحاتهم في تفسير ذلك. فالحنفية يتجاوزونه باسم الاستحسان، كما يوضحه قول السرخسي: ” وَإِن اجْتَمَعَ رَهْطٌ عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ بِالسِّلَاحِ فَعَلَيْهِمْ فِيهِ الْقِصَاصُ …وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُمْ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ، لِمَا فِي الزِّيَادَةِ مِن الظُّلْمِ عَلَى الْمُتَعَدِّي … وَلَا مسَاوَاةَ بَيْنَ الْعَشَرَةِ وَالْوَاحِدِ، وَهَذَا شَيْءٌ يُعْلَمُ بِبَدَاهَةِ الْعُقولِ، فَالْوَاحِدُ مِن الْعَشَرَةِ يَكُونُ مِثلا لِلْوَاحِدِ، فَكَيْفَ تَكُونُ الْعَشَرَةُ مِثلا لِلْوَاحِدِ؟ وَأَيَّدَ هَذَا الْقِيَاسَ قَوْله تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وَذَلِكَ يَنْفِي مُقَابَلَةَ النُّفُوسِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ” [8].

والشافعية يتركون القياس في مثل هذه الحالة باسم الكليات والضرورات التي لا يتقدم عليها القياس الجزئي، كما يقول الجويني: “ومن خصائص هذا الضرب أن القياس الجزئي فيه، وإن كان جليا، إذا صادم القاعدة الكلية تُرك القياس الجلي للقاعدة الكلية. وبيان ذلك بالمثال: أن القصاص معدود من حقوق الآدميين، وقياسها رعاية التماثل عند التقابل، على حسب ما يليق بمقصود الباب. وهذا القياس يقتضي ألا تقتل الجماعة بالواحد، ولكن في طرده والمصير إليه هدم القاعدة الكلية ومناقضة الضرورة، فإن استعانة الظَّلَمة في القتل ليس عسيرا، وفي درء القصاص عند فرض الاجتماع خرم أصل الباب” [9].

والمالكية يتجاوزونه عملا بمنهجهم في تقديم الاستدلال المرسل على القياس. وقد يعبرون عن هذا الاستدلال المرسل بالاستحسان أيضا. وفي الحالتين فإن مرادهم حفظ المقاصد والمصالح الشرعية وتقديمها على القياس متى خالفها. قال الشاطبي: “ومقتضاه (أي الاستحسان) الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس، فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشَهِّيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة، كالمسائل التي يقتضى القياس فيها أمرا، إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى أو جلب مفسدة كذلك [10].

وعلى أساس هذا الاستحسان المصلحي المقاصدي، فرَّع الشاطبي قاعدة أخرى مفادها أن السعي في تحصيل المصالح الشرعية إذا شابَـتْـه مفاسدُ عرَضية لا مفر منها، فإن ذلك لا يمنع من المضي في تحصيل تلك المصالح، بشرط اجتناب المفاسد المعترضة قدر المستطاع، “كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال، مع ضيق طرق الحلال واتساع أوجه الحرام والشبهات، وكثيرا ما يُلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز. ولكنه غير مانع، لما يئول إليه التحرز من المفسدة الـمُرْبية على توقع مفسدة التعرض. ولو اعتُبِر مثل هذا في النكاح في مثل زماننا لأدى إلى إبطال أصله، وذلك غير صحيح. وكذلك طلب العلم، إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها، وشهودُ الجنائز وإقامةُ وظائف شرعية، إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضي، فلا يُخرِج هذا العارضُ تلك الأمورَ عن أصولها، لأنها أصول الدين وقواعد المصالح ، وهو المفهوم من مقاصد الشارع. فيجب فهمها حق الفهم، فإنها مثار اختلاف وتنازع” [11].

وقد استعرض السرخسي عدة تعريفات توضيحية لمغزى الاستحسان، ثم قال : “وَحَاصِلُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ أَنَّهُ تَرْكُ الْعُسْرِ لِلْيُسْرِ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الدِّينِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {خَيْرُ دِينِكُمْ الْيُسْرُ} [12]، وَقَالَ لِعَلِيٍّ وَمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا حِينَ وَجَّهَهُمَا إلَى الْيَمَنِ {يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا قَرِّبَا وَلَا تُنَفِّرَا} [13] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَلَا إنَّ الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ وَلَا تُبَغِّضُوا عِبَادَ اللَّهِ عِبَادَةَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْراً أَبْقَى}[14] [15].

———————————-

[1] مجموع الفتاوى 4 |363, والنص بتمامه عند ابن القيم أيضان انظر أعلام الموقعين 2 | 57

[2] أعلام الموقعين 1 | 59

[3] أحكام القرآن 1 | 29

[4] البرهان 2 | 875

[5] انظر أعلام الموقعين، خاصة الجزء الثاني منه.

[6] الإحكام في أصول الأحكام ، 6 | 757

[7] انظر: سبل السلام ، كتاب الجنايات 1 | 176

[8] المبسوط 12 | 355

[9] البرهان 2 | 604 ، وانظر: تخريج الفروع على الأصول ، للزنجاني ، ص 322

[10] الموافقات 4 |205 ـ 206

[11] الموافقات 4|211

[12] رواه أحمد (15619) عن أعرابي مجهول ، والطبراني في الكبير عن عمران بن الحصين بلفظ (خير دينكم أيسره)، وقد صححه أحمد شاكر في عمدة التفسير (1|223).

[13] رواه البخاري في كِتَاب الجهاد والسير، باب ما يكره من التنازع والاختلاف (2828)، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، بابا في الأمر بالتيسير وترك التنفير(3269)، عن عبد الله بن قيس.

[14] رواه البيهقي في السنن الكبرى، في كتاب الحيض، باب جماع أبواب الخشوع في الصلاة (4360)، عن جابر بن عبد الله.

[15] المبسوط 12 |355

المصدر: موقع الريسوني.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى