كتابات

القدوة والقيادة

بقلم د. علي بن عمر بادحدح

في عصر تزداد فيه الخطوب وتضطرب القلوب وتزيغ الأبصار وتتصارع الأفكار وتتعدد الرايات وتكثر الزعامات وتصنع النجومية والقدوات، تكون الحاجة إلى المثل والقائد والقدوة كبيرة، وهذا ما تميزت به الأمة الإسلامية عن سائر الأمم في القيادة النبوية التي قُدمت لنا في صورة مهمة ينبغي أن تكون نصب أعيننا ومحور وأساس تفكيرنا {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} والآية الكريمة كما يقول ابن كثير “أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أُمر الناس بالتأسي به يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه” لأن هذه الآية جاءت في سياق آيات الأحزاب يوم كان أهل النفاق قد اضطربوا وانخذلوا ويوم بلغت الشدة مبلغها: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} وهنا قدمت القدوة المثلى في رسوخ الإيمان وعظمة اليقين وقوة الأمل في الله سبحانه وتعالى وصدق التوكل عليه، وإذا كان المطلوب الاقتداء به في هذه الأحوال الشديدة فمن باب أولى أن يكون الاتباع له والاقتداء به مأموراً ومطلوباً في كل الأحوال الأخرى.

الكمال البشري

لن تجد كمالاً في البشرية أسمى ولا أرقى ولا أنقى ولا أبقى مما أثر في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال ابن حزم رحمه الله: “من أراد خير الآخرة وحكمة الدنيا وعدل السيرة والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها واستحقاق الفضائل بأسرها فليقتد بمحمد صلى الله عليه وسلم وليستعمل أخلاقه” لأنها تمثل أعلى قمة في الكمال البشري، كظم للغيظ وتواضع في القدر وحكمة في الرأي وسماحة في النفس وإقدام في الخطب كل ذلك في صورة مثالية جميلة رائعة، ثم من جهة أخرى هي قدوة شاملة أنّى أردت وجدت فيها معالم القدوة، إن كنت زوجاً وجدت ذلك الزوج الرحيم الذي يكرم زوجه ويحسن إليها ويعفو عنها ويحسن توجيهها وإرشادها في قمة أخلاقية سلوكية مثالية، وإن أردت أن تنظر إلى القدوة في الأبوة أو في الصحبة أو في القيادة أو في الرئاسة أو في القضاء أو في أي جانب من الجوانب فإنك واجد ذلك في كل شيء بلا استثناء.

وفي كل الظروف والأحوال ستكون القدوة ماثلة والأسوة شاخصة والنور مشرق من هذه السيرة النبوية العطرة، ثم هي قدوة واقعية ليست خيالية، هي لإنسان كمّله الله عز وجل وأعلى قدره بالنبوة والوحي لكنه جعل بشريته حاضرة ظاهرة مؤثرة في الناس فهو يعيش بينهم يأكل كما يأكلون ويشرب كما يشربون ويغضب كما يغضبون، لكن كماله الذي حباه الله به هو الذي يجعله موضع القدوة، كان النبي معهم كأحدهم كما قال بعض الصحابة: كان معنا كأحدنا لا يعرفه القادم من بيننا.

إن الاقتداء بالنبي ليس أمراً سهلاً، فلن يكون مقتدياً به على وجه صحيح أو مقبول من يريد أن ينام ملء عينيه ويأكل ملء ماضغيه ويضحك ملء شدقيه ويكون مرتاحاً هادئ البال، لو كان ذلك كذلك لكان أحق به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شج وجهه وكسرت رباعيته وسال الدمع على وجهه ولقي ما لقي من أعدائه في مكة ومن المنافقين في المدينة ومن خصومه ومقاتليه في كل الأحوال، وكان أمر الاقتداء ليس سهلاً فيه هذا العمل والجد، فهي قدوة تضحية وفداء مثلها جمع من الأنصار في نموذج فريد في يوم أحد يوم انقلب ميزان المعركة وتوجه المشركون يريدون النيل من سيد الخلق صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فإذا بالأنصار يتحولون إلى دروع بشرية تحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنال السهام والضربات وهم يقولون: نحرنا دون نحرك يا رسول الله، تلك صورة القدوة الحقيقية.

واجبنا

لنجعل الأولوية أين نحن من حبنا الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم!؟ حباً تخفق به قلوبنا وتدمع له أعيننا وتتعلق به أرواحنا وتسمو نحوه وتطمح إليه آمالنا، أين نحن من إذكاء هذه الجذوة ببعث سيرته عليه الصلاة والسلام في بيوتنا ومع أبنائنا وفي مجالسنا!؟ لنرى فيها من تلك العظمة ما يعلق بها قلوبنا أعظم وأعظم، أين نحن من الاتباع والاقتداء!؟ لا أقول في أمور مهمات بل في أمور هي الأساسيات حتى ما يعرف بالسنن الرواتب التي واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم أكثرنا إلا من رحم الله لا يواظب عليها ولا يحرص عليها، والأذكار والأعمال وما هو أعظم من ذلك من الأمانة والعدالة والإنصاف، أين نحن من هذا؟ بدلاً من أن نتجادل في مسائل لا طائل من ورائها ، ثم أين نحن كأمة من معالم بناء النبي صلى الله عليه وسلم للأمة، بناؤها على ارتباطها بكتاب ربها وسنة نبيها، بناؤها على الإيمان واليقين، بناؤها على الوحدة لا الفرقة، بناؤها على العزة لا الذلة، بناؤها على كل خير ونبذ كل شر، أين نحن من هذا؟

كل هذا أولوية فيه القدوة الحقيقية في أعماق القلوب وأغوار النفوس، في خواطر العقل وطموحات النفس، في كلمات اللسان وأفعال الجوارح، في واقع الفرد وحياة الأمة، هذا هو الذي يريده منا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المصدر: موقع اسلاميات.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى