كتابات

الغلو المعاصر.. والتكفير بالمشاركة في الديمقراطية !

بقلم الشيخ عبدالوهاب آل غظيف

-مدخل:

قلت في مقال سابق:

(في الأزمنة المتأخرة عانت الأمة كثيراً من الاستبداد العلماني الجائر ، الذي أقصى الشريعة الإسلامية في بلاد المسلمين ، وحكم بالظلم والطاغوت ، بل وطارد المنكرين عليه الداعين إلى عودة الإسلام وتتبعهم بالقتل والسجن والإبعاد ، حتى كرّس انحرافاً عظيماً عن الإسلام في المجال السياسي في بلاد المسلمين .

وهذا الاعتداء مواجهته من أعظم الواجبات ، وجهاده بمختلف أنواع الجهاد من أنبل المهمات ، ومن هنا كان منطلق النشاط السياسي الإسلامي ، إما بالتأصيل النظري ، أو بالعمل الحركي ، غير أنَّ تخلف القدرة والاستطاعة عند الإسلاميين فرض عليهم الحديث عن السبيل السلمي في إعادة حكم الإسلام ، ممثلاً بالمشاركة في العملية الديمقراطية التي ظهرت بوادرها و لم تقم بشكل جدي في عموم العالم الإسلامي .

وقد اختلف الإسلاميون في المشاركة في هذه العملية ومدى نفعها ، إلا أن هذا الاختلاف من الأمور الاجتهادية التي لا تمس أصل وجوب تحكيم الإسلام المتفق عليه بينهم ، وإنما هي اختلافات حول الطريق الموصلة إلى هذا الأصل . )  [ مقال: الإسلاميون والشرط الديمقراطي ].

وصحيح أنه وقع لبعض المنتمين للصف الإسلامي تلوث فكري صاروا معه إلى ترقيق مفاهيم الشريعة وتحريفها، والدفع بها تحت الدولة العلمانية المعاصرة لتكون مهيمنة وحاكمة عليها، إلا أن هذه المقالة لا تتوجه لهذا المستوى من الانحراف العقدي، وإنما المقصود: أولئك المؤمنين بحاكمية الشريعة وقد صح اعتقادهم فيها، لكنهم لما رأوا العجز في الواقع عن تطبيقها آثروا الخوض فيما يتيحه الواقع من نظم مخالفة للشريعة بهدف تخفيف الشر، وتسخير هذه النظم لتطبيق ما يمكن تطبيقه من الخير والشرع، ولسان حالهم: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ) و ما لا يدرك كله لا يترك كله.. فهل وقع هؤلاء في فعلٍ مكفر؟!

وبالاستفهام الأخير تضيق دائرة الكلام في فعل هؤلاء – وهم طيف واسع من علماء ودعاة ومفكري ومجاهدي الأمة الإسلامية اليوم – ليتحدد النقاش في كون فعلهم كفراً من عدمه، لا في جوازه من تحريمه، ولا في بحث صلاحيته ونفعه في الواقع من عدمها.

والحقيقة أن فعل هؤلاء ليس كفراً، ولم يقل بتكفيره أحد من العلماء المعاصرين ممن له حظ في الفقه والنظر، بل نص العلماء في السابق واللاحق إما على جوازه وإما على تحريمه، ومن القواعد المنهجية التي ذكرها شيخ الإسلام أن ما اختلف فيه العلماء بين التجويز والتحريم لا يمكن أن يكون كفراً، وهذا ما يصدق على مسألتنا التي نحن بصددها.

لقد تناول خطاب الغلو المعاصر هذه المسألة كثيراً، فقام بتصعيد مستوى الخلاف بين الإسلاميين من بحث الجواز وعدمه، إلى بحث الكفر وعدمه، في مظهر من مظاهر الغلو والتشدد والتكفير بغير مكفر، وصار هذا الخطاب يرمّز هذه المسألة، ويجعلها باباً منه يدخل الداخل إلى مبنى خطابهم، وأول ما يصادف الداخل من هذا الخطاب.

–      لماذا ليس هذا الفعل كفراً؟!

إننا لا نعتقد أن:

( المشاركة في الأنظمة الديمقراطية المعاصرة بغية تخفيف الشر فيها عند العجز عن تطبيق الشريعة ) من الأفعال المكفرة، لعدة أمور:

1-  لأن الله جل جلاله قيّد التكليف بالاستطاعة، فإذا ذهبت الاستطاعة ذهب التكليف، فمتى عجز الإنسان عن تطبيق الشريعة أو بعضها لم يكن واجباً عليه إلا ما في استطاعته منها.

2- ولأن الشريعة وإن كانت كاملة في النظر والاعتقاد، إلا أنها في الواقع تتجزأ، فيصير المقدور عليه منها في كل واقعة هو المتعين وهو المكلف به.

3- ولأن الأفعال وإن اتفقت في الصور تختلف بدوافعها ومنطلقاتها، فالمشاركة في الأنظمة المعاصرة بهذه النية (نية تحصيل المقدور عليه من الخير، وتخفيف مايمكن تخفيفه من شرها) وإن اتفق في الصورة مع الحكم بغير ما أنزل الله إلا أنه مختلف في الدافع والمنطلق، وموجب الفقه والعلم ألا يسوى بين الأفعال لاتفاق صورها، بل يراعى اختلاف الدوافع والنيات.

4-  كلام أهل العلم والإيمان في هذه المسألة ونظائرها، فهو يدور بين التجويز وعدمه ولم يقل أحد منهم بالكفر، وممن جوزها: شيخ الإسلام ابن تيمية واحتج بحال يوسف عليه السلام فإنه كان وزيراً في حكومة كافرة، وعند ملك كافر، إلا أن عدم قدرته على حكمهم بالإسلام جوز له تخفيف الشر بالوزارة في حكومتهم، وكذلك حال النجاشي الذي كان ملكاً لا يحكم بالشريعة لكنه معذور لعجزه عنها.

–      لماذا جعلوا هذا الفعل كفراً؟!

هذه الفقرة سأحاول الإجابة فيها على أساس الغلط في العقلية الخارجية المعاصرة، والذي جرها إلى تكفير هذا الفعل بدون مستند شرعي، فهناك تصوران بنظري يمثلان قاعدة انطلق منها هذا التكفير، وهما:

أ‌- الجهل بمراعاة تجزؤ الشريعة، فالعقلية الخارجية حينما تتطلع إلى تطبيق الشريعة والسعي له، تنظر لمجموعة المبادئ والقيم والأحكام الشرعية المغيبة عن الواقع، ثم لا تستطيع تفصيلها وتمييز ما يمكن تطبيقه منها مما لا يمكن، فيصير تطبيق الشريعة عندهم هو تطبيق هذه القيم والأحكام الغائبة كلها، فيصير صعباً عليها تفهم تطبيق الممكن والمقدور وأنه هو الشريعة في الواقعة المعينة، ونظير هذا الاستعصاء أمام التجزؤ والانقسام في فهم الشرع والدين: استعصاء الخوارج الأولين في حكم مرتكب الكبيرة فهم سلبوا منه إيمانه كله لأنهم لم يتفهموا تعدد شعب الإيمان وانقسامها وإمكان وجود بعضها دون بعض، فلما رأوا الفاسق غاب عنه بعض الإيمان حكموا بغياب الإيمان كله.

ب‌- الجهل بمراعاة اختلاف النيات والدوافع وإن اتفقت الصور في الأفعال: فالفعل الواحد قد يكون كفراً أو معصية من شخص، لكنه واجب أو طاعة من شخص آخر، لاختلاف نيات ودوافع الشخصين، فمن ذلك: توزيع الحاكم للأموال فقد يدفعها لكبار الناس لتأليف قلوبهم وكسبهم في صف الإسلام ومن وراءهم فيكون بذلك مطبقاً لحكم الله، وقد يدفعها للكبار ليستميلهم إلى كرسيه وصفه فيكون ظالماً، فالفعل صورته واحدة لكن منطلقاته ودوافعه مختلفة، فالأول سنة نبوية والثاني سنة فرعونية، كما سماه شيخ الإسلام، ومن اللطيف أنّ جدّ الخوارج الأول الذي خرج في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً ( اعدل) خرج في هذه الصورة من الأفعال، وعنده ذات الإشكال، أعني حكم على صورة الفعل دون اعتبار دوافعه ومنطلقاته فجعل فعل النبي صلى الله عليه وسلم ليس عدلا ومن ثم أنكره!

وكذلك: الحكم على العالم المداهن للظالمين والعالم الذي يدخل على الظالمين لبذل ما يقدر عليه من نصح، بحكم واحد، لاتفاق صورة الفعل مع عدم اعتبار اختلاف الدوافع والمنطلقات، هو من مزالق الغلاة المتأخرين.

ومثله مسألتنا، فالحكم على مشارك في نظام سياسي كافر رضى بالكفر أو مع القدرة على الاختيار، بنفس الحكم على من شارك كارهاً للكفر عاجزاً عن الشريعة كاملة، مريداً تحصيل الخير وتقليل الشر : هو من الخلل في التصور القائد إلى العطب في الأحكام والأقوال.

وهذين الأمرين:

أ‌- عدم مراعاة تجزؤ الشريعة

ب‌- عدم مراعاة اختلاف النيات والدوافع في الأفعال ذات الصورة الواحدة

مردهما إلى الجهل وضعف البصيرة وعدم القدرة على التفقه والفهم، وقد جاء في صفات الخوارج في السنة النبوية أنهم لا يفهمون الدين ولا يفقهونه ( لا يجاوز تراقيهم ) ولذا يخرجون منه وهم يظنون أنهم قائمون به ناصرون له، لأنهم تعلقوا منه بصور وشعارات ولم يصلوا لحقيقته وباطنه.

والله أعلم .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى