كتب وبحوث

الصُّهيونيَّة المسيحيَّة: محرّك سياسات “ورثة كورش” تجاه العالم الإسلامي – 4 من 6

الصُّهيونيَّة المسيحيَّة: محرّك سياسات “ورثة كورش” تجاه العالم الإسلامي – 4 من 6

 

بقلم محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

 

أسباب التقارب بين اليمين المسيحي وإسرائيل

في مقال عنوانه “How Evangelicals Became Israel’s Best Friend-كيف أصبح الإنجيليُّون أقرب أصدقاء إسرائيل” سبقت الإشارة إليه، نُشر عبر مجلَّة كريستيان توداي عام 1998 ميلاديًّا، تزامنًا مع الذكري الخمسين لتأسيس دولة إسرائيل، يتناول تيموثي بي. ويبر، أستاذ تاريخ الكنيسة والدراسات اللاهوتيَّة في عدد من المعاهد الدينيَّة الأمريكيَّة، علاقة التواؤم بين الإنجيليِّين في أمريكا ودولة إسرائيل. يرى ويبر أنَّ التجربة أثبتت أنَّ أقرب أصدقاء إسرائيل هم أتباع الكنيسة الإنجيليَّة في أمريكا من المنتمين إلى اليمين المسيحي، وليس أدلُّ على ذلك أكثر من استجابة هذه الفئة بعينها لخطاب بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها، في مؤتمر “أصوات متَّحدة من أجل إسرائيل”، وهو تحالف مناصر لإسرائيل يُعرف اليوم باسم “تحالف الوحدة من أجل إسرائيل”، في أبريل من عام 1998 ميلاديًّا. وقد عبَّر نتنياهو عن مدى التقارب بين بلاده واليمين المسيحي في أمريكا بقوله “ليس لدينا من الأصدقاء والحلفاء أكثر من الحاضرين في هذه القاعة“.

يشير ويبر إلى أنَّ التقارب بين إسرائيل والعديد من الإنجيليِّين الأمريكيِّين محيِّر، خاصَّة مع الدفاع المستميت للإنجيليِّين عن المصالح الإسرائيليَّة، على حساب حقوق الفلسطينيِّين. لا ينكر الكاتب أنَّ إسرائيل تحارب أعمال التبشير الإنجيليَّة على أرضها، وتقيِّد جهود المبشِّرين، لكنَّ ذلك لم يؤثِّر على سير العلاقات المثمرة بين الطرفين. أمَّا عن تفسير سرِّ ذلك التقارب الشديد، فلا يجد ويبر من التفسيرات أصدق من الإيمان بنبوءات الكتاب المقدَّس. تمثِّل إسرائيل مهد المسيح، فهناك وُلد وعاش، وهناك صُلب وقام؛ لهذا السبب، يقطع آلاف الإنجيليِّين المسافة الطويلة في رحلات حجٍّ إلى إسرائيل “كي يمشوا حيث مشى يسوع” (ص1). يعرف أتباع الكنيسة الإنجيليَّة من الكتاب المقدَّس أنَّ إسرائيل هي موقع انطلاق العديد من الأحداث المصاحبة للمجيء الثاني ليسوع، وأنَّهم وإسرائيل مكلَّفون بأداء أدوار أسندها إليهم الربُّ لتنفيذ القدر المحتوم؛ ويجدر التذكير في هذا السياق بأنَّ الإيمان بعقيدة التدبيريَّة الإلهيَّة هو العامل المؤثِّر في ترسيخ هذه الأفكار في عقول الإنجيليِّين.

أمَّا عن أهم المعتقدات المرتبطة بالتدبيريَّة الإلهيَّة فهي:

-بعد اجتماع شتات بني إسرائيل في الأرض المقدَّسة، ستأخذ الحضارة الإنسانيَّة في الانهيار؛ حيث ستنحدر الأخلاق، وتنتشر الجرائم والفوضى، وتتفكَّك الأُسر. مع انتشار الحروب، وتفشِّي الأوبئة، وتغيُّر المناخ، سينشق الكثيرون عن المسيحيَّة، كما سيتخلَّى زعماء دينيُّون عن المعتقدات التاريخيَّة.

-بعد حالة التمزُّق التي ستشهدها الكنيسة، سيظهر زعيم شديد التأثير، سيتزعَّم حلفًا من عشر دول من دول أوروبا الغربيَّة، وسيتلف حوله الكثيرون لما سيعد بتحقيقه من السلام والأمن. ستدخل إسرائيل في اتفاقيَّة أمنيَّة مع هذا الزعيم، جاهلةً بحقيقته، وهو أنَّه “ضدُّ المسيح” (Antichrist)، وستستفيد إسرائيل من هذه الاتفاقيَّة الأمنيَّة في إعادة بناء الهيكل. غير أنَّ هذا الزعيم الديني المدلِّس سينقض الاتفاقيَّة بعد ثلاثة أعوام ونصف، وسيعلن نفسه إلهًا، مضطهدًا كلَّ من يرفض عبادته. سيلقى اليهود في تلك الفترة بلاءً شديدًا؛ ولذلك تُعرف تلك الفترة، التي تمتد إلى ثلاثة أعوام ونصف، بـ “المحنة الكبرى”.

-برغم ما سيمتلكه “ضدُّ المسيح” من قدرات خارقة، ستثور الأمم الأخرى عليه، وسيتزامن ذلك مع هجوم يشنُّه حلف شمالي من الدول الواقعة تحت سيطرة روسيا، على إسرائيل، بالتعاون مع حلف جنوبي، ليكون الهجوم مزدوجًا. تجتمع الجيوش الزاحفة من الشرق والغرب، وحينها يسعى الروس إلى تدمير إسرائيل، ولكنَّ الربَّ سيُهلكهم. سيواجه جيش “ضدِّ المسيح” معسكر “ملوك الشرق”، وسيتعارك الخصمان في مجيدو، وهو وادٍ يقع شمال غرب أورشليم. وبعد احتدام المعركة، سيظهر يسوع، باعتباره المسيَّا المخلِّص، ليُخضع جيش “ضدِّ المسيح”، ويقضى على القوى الباقية، وحينها سيقبل به اليهود مخلِّصًا، بعد أن رفضوه في مجيئه الأوَّل، لتبدأ ألفيَّة المسيح، وهي سنوات السلام والأمن والرخاء والمؤاخاة، التي سينعم فيها اليهود بالخلاص بعد إنجاز الربِّ وعوده لهم.

يشير ويبر إلى أنَّ القرن التاسع عشر قد شهد إحجام غالبيَّة الإنجيليِّين في أمريكا وبريطانيا، عن الاعتقاد في عودة اليهود إلى الأرض المقدَّسة، واستعادتهم عهدهم مع الربِّ، بعد أن حلَّ غضبه عليهم لكفرهم بيسوع الناصري. ويرجع السبب في ذلك إلى انتشار عقيدة الاستبداليَّة (Supersessionism)، والتي تؤمن بأنَّ الربَّ قد استبدل اليهود بالمسيحيِّين، بأن اختصَّهم بعهده، ليكونوا رعاة الأمم وحفظة الشريعة والهداة إلى دينه. وفق عقيدة الاستبداليَّة، أصبحت الكنيسة إسرائيل الجديدة، وورثت نبوءات الكتاب المقدَّس. خالف المؤمنون بالتدبيريَّة الإلهيَّة هذا الرأي، وسعوا لإيجاد دليل على عودة اليهود إلى الأرض المقدَّسة. من هنا، تأسَّست بعض المستعمرات الزراعيَّة على الأرض المقدَّسة أواخر القرن التاسع عشر، وكان للمبشِّرين الإنجيليِّين دورٌ بارز في التشجيع على تأسيس تلك المستعمرات، وتزامن ذلك مع نشأة الحركة الصهيونيَّة، في أمريكا قبل أوروبا.

لم يبذل من المؤمنين بالتدبيريَّة الإلهيَّة من الجهود الرامية إلى تأسيس وطن لليهود على الأرض المقدَّسة أكثر من وليام بلاكستون، القس الميثودي صاحب كتاب Jesus is Coming-يسوع قادم (1878)، الذي تُرجم إلى 42 لغة. في عام 1891 ميلاديًّا، وبعد عودته من المستعمرات اليهوديَّة الجديدة في فلسطين، رفع بلاكستون عريضة تطالب بتأسيس دولة يهوديَّة على أرض فلسطين، ونجح في جمع 413 توقيعًا لشخصيَّات بارزة في عالم السياسة والقضاء في أمريكا، من بينها رئيس المحكمة العليا، ورئيس مجلس النوَّاب، وعُمد نيويورك وشيكاغو وبوسطن، إلى جانب أباطرة البزنس. سارت الأمور كما أراد المناصرون لقضيَّة اليهود، وجاء انهيار الدولة العثمانيَّة بعد هزيمتها في الحرب العالميَّة الأولى بمزيد من النفع. غير أنَّ أمرًا وقع أثار الشكوك حول نزاهة اليهود، وهو انتشار حالة من الاعتقاد في صحَّة المؤامرة المنسوبة إلى اليهود، بتخطيطهم للسيطرة على العالم بعد إسقاط الحضارة المسيحيَّة، وفق ما ورد في بروتوكولات حكماء صهيون. حدث انشقاق في صفِّ المؤمنين بعقيدة التدبيريَّة الإلهيَّة، بأن أيَّد بعضهم صحَّة البروتوكولات، بينما رأى بعض آخر فيها معاداة للساميَّة وترويج للدعاية النازيَّة.

يشير ويبر إلى جانب مظلم في عقيدة التدبيريَّة الإلهيَّة تمخَّضت عنه العقائد المتعلِّقة بدور اليهود المعقَّد في النبوءة. صحيح أنَّ اليهود هم الشعب المختار، وورثة عهد الربِّ، ولكن يهود اليوم تحت سيطرة الشيطان، ويشاركون في انهيار الحضارة. اعترض المؤمنون بالتدبيريَّة الإلهيَّة على اضطهاد اليهود، خاصَّة بعد المحرقة النازيَّة (The Holocaust)، لكنَّهم رأوا أنَّ هتلر النازي كان سيفًا من سيوف القدر، سُلِّط على اليهود، كما سُلِّط عليهم من قبل البابليُّون والرُّومان. لم يجد الإنجيليُّون لمساندة اليهود في تلك المحنة، أفضل من إرسال نُسخ العهد الجديد، آملين أن يجد اليهود في يسوع معزِّيًا لهم في تلك المحنة. لم تستمر مرحلة ضعف اليهود طويلًا؛ فقد أسفرت الحرب العالميَّة الثانية عن تضاعُف نفوذهم، ونجحوا في إقناع العالم الغربي بضرورة تأسيس دولة تجمعهم. تأسَّست إسرائيل بالفعل في 14 مايو من عام 1948 ميلاديًّا، وانضمَّت رسميًّا إلى الأمم المتَّحدة في مايو من العام التالي. أمام التحقُّق المتواصل لنبوءات الكتاب المقدَّس، لم يهتم الإنجيليُّون بحقوق الفلسطينيِّين، خاصَّة بعد أن رأوا في تأسيس دولة إسرائيل بداية نهاية العهد الحالي. غير أنَّ أمرًا ظلَّ يؤرق الإنجيليِّين، وهو أنَّ الدولة الناشئة لم تشغل سوى مساحة محدودة من مساحة دولة إسرائيل المذكورة في الكتاب المقدَّس. من هنا، أيَّد الإنجيليُّون أيَّ حملة استهدفت توسيع مساحة أراضي إسرائيل، ويدخل في ذلك احتلال سيناء خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وحرب الأيَّام الستَّة عام 1967 ميلاديًّا، التي منحت اليهود السيطرة على جبل الهيكل، ليصبح تأسيس الهيكل الثالث مسألة وقت.

شهدت علاقة إسرائيل بالإنجيليِّين تطوُّرًا كبيرًا خلال عقد السبعينات من القرن الماضي، وازداد الدعم الإنجيلي لإسرائيل مع ازدياد الضغوط عليها للتنازل عن بعض الأراضي لصالح جيرانها. وكلَّما تطوَّرت تلك العلاقة، ازداد الدعم السياسي للخطوات التصعيديَّة الإسرائيليَّة تجاه جيرانها. إلى جانب عقد المبشِّرين وعلماء اللاهوت الإنجيليِّين المؤتمرات في إسرائيل لتقريب وجهات النظر وتكاتُف الجهود، عمد بعضهم إلى نشر مؤلَّفات تعبِّر عن العقيدة المحرِّكة للسياسات الإسرائيليَّة، ومن نماذج تلك المؤلَّفات كتاب The Late Great Planet Earth-كوكب الأرض العظيم المتأخر (1970) لعالم اللاهوت هال ليندسي. أصبح هذا المؤلَّف الأعلى مبيعًا خلال عقد السبعينات، بفضل شرحه الوافي لعقيدة التدبيريَّة الإلهيَّة بما يتناسب مع عقليَّة المسيحي المعاصر، من خلال ربط الأشخاص والرموز بالأحداث الجارية. ادَّعى ليندسي أنَّ المقصود في النبوءات بالإمبراطوريَّة الرومانيَّة التي يحييها “ضدُّ المسيح” السوق الأوروبيَّة المشتركة؛ والحلف الشمالي هو الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقيَّة؛ والحلف الجنوبي هو تحالُف عربي-إفريقي بزعامة مصر؛ أمَّا ملوك الشرق، فهم الشيوعيُّون الصينيُّون. تنبَّأ ليندسي أن تنحدر أمريكا من مركز القمَّة قبل زمن “ضدِّ المسيح”، لتصبح قوَّة أدنى مرتبةً؛ بسبب هيمنة الماديَّات على الحياة المعاصرة وانتشار الانحلال الأخلاقي. يُذكر أنَّ ليندسي عبَّر في كتاب The 1980s: Countdown to Armageddon-الثمانينات: العد التنازلي لمعرجة مجيدو (1982) عن استيائه من التردِّي الأخلاقي في أمريكا، معتقدًا أنَّ بإمكان الأمريكيِّين تدارُك الأمر، وتفادي الانزلاق إلى مرتبة أدنى من القوَّة، من خلال التحرُّك السريع للتصدي لجهود فئة من المتآمرين، يأتي الليبراليُّون على رأسها.

قدَّم الإنجيليُّون إلى إسرائيل كلَّ ما كانت تحتاج إليه، وأثبتوا أنَّهم داعم مخلص ونافع. لم تكن الحكومة الإسرائيليَّة في السابق تولي بدعم الإدارة الأمريكيَّة أو الجالية اليهوديَّة ثقةً كاملةً، لكنَّها ما كانت لتشكَّ في دعم الإنجيليِّين. صحيح أنَّ هناك اختلافات مذهبيَّة، يأتي على رأسها اعتقاد الإنجيليِّين بأنَّ اليهود يحتاجون التحوُّل إلى المسيحيَّة والإيمان بيسوع مخلِّصًا، ولكن هذا الاختلاف لم يمنع المنظَّمات الإنجيليَّة من التفاهم مع أصحاب المذاهب المخالِفة في الأمور ذات الاهتمام المشترك.

هذا وقد نشر موقع Breaking Israel News، أو أخبار إسرائيل العاجلة، بتاريخ 18 نوفمبر 2019 ميلاديًّا، أنَّ بفضل تدخُّل الإنجيليِّين، تسعى إسرائيل إلى تأسيس 24 موقعًا للسياحة الدِّينيَّة مذكورة في الكتاب المقدَّس، وقد تقدَّم مسؤولون إسرائيليُّون إلى كبار ممثلي الولايات المتَّحدة المختصَّين بذلك طلبًا رسميًّا، مشيرين إلى أنَّ الهدف من ذلك المشروع “التركيز على السياحة الصهيونيَّة المسيحيَّة”.

تأثير عقيدة “معركة مجيدو” على سياسة اليمين المسيحي

تنضم هذه الدراسة، وعنوانها “Swords into Ploughshares: Christian Zionism and the Battle of Armageddon-يَطْبَعُونَ سُيُوفَهُمْ سِكَكًا”: الصهيونيَّة المسيحيَّة ومعركة مجيدو”، إلى الجهود البحثيَّة للسفارة المسيحيَّة العالميَّة في القدس (ICEJ)، وعي منظَّمة صهيونيَّة مسيحيَّة، التي تستهدف حشد الدعم لدولة إسرائيل، التي “لم تزل تصارع من أجل الشرعيَّة والأمن، في وسط مجموعة من التحدِّيات السياسيَّة والأخلاقيَّة والوجوديَّة المريعة”، كما يذكر الكاتب في المقدِّمة. يتأسَّف الكاتب على “مأساة المحرقة” اليهوديَّة قد تحوَّلت إلى سلاح يُحارب به اليهود، بتشبيه معاناة الفلسطينيين على أيديهم بمعاناتهم على أيدي النازيين؛ كما يتأسَّف على ما يلاقيه داعمو إسرائيل من انتقادات عبر وسائل الإعلام، التي تتهمهم بإعاقة السلام في الشرق الأوسط، وبالسعي إلى التعجيل بنبوءات آخر الزمان. يوضح الكاتب أنَّ دعم منظَّمات الصهيونيَّة المسيحيَّة لإسرائيل دافعه أخلاقي وديني، وأنَّ دعم اليمين المسيحي لتلك القضيَّة ليس سياسي، إنَّما هو نابع من عقيدة دينيَّة، أصلها “نبوءات الكتاب المقدَّس وحقائق العهد الجديد” (ص2).

يوضح الكاتب أنَّ هذه الدراسة، المنشورة عبر موقع منظَّمة ICEJ، هي الأولى في سلسلة أطلق عليها Good Steward، أو الراعي الصالح، وهي تسمية مستمدَّة من الكتاب المقدَّس تشير إلى حُسن تدبير المسؤولين عن إدارة شؤون الناس. اختار الكاتب لدراسته عنوانًا فرعيًّا مقتبسًا من العهد القديم، وتحديدًا من سفري اشعياء (إصحاح 2: آية 4) وميخا (إصحاح 4: آية 3)؛ حيث اقتطعت عبارة “يَطْبَعُونَ سُيُوفَهُمْ سِكَكًا” من آيات تتناول فترة السلام العالمي بعد انتهاء معركة مجيدو، وجلوس المخلِّص على عرش أورشليم، ملكًا على العالم: “يَكُونُ فِي آخِرِ الأَيَّامِ أَنَّ جَبَلَ بَيْتِ الرَّبِّ يَكُونُ ثَابِتًا فِي رَأْسِ الْجِبَالِ، وَيَرْتَفِعُ فَوْقَ التِّلاَلِ، وَتَجْرِي إِلَيْهِ كُلُّ الأُمَمِ. وَتَسِيرُ شُعُوبٌ كَثِيرَةٌ، وَيَقُولُونَ: «هَلُمَّ نَصْعَدْ إِلَى جَبَلِ الرَّبِّ، إِلَى بَيْتِ إِلهِ يَعْقُوبَ، فَيُعَلِّمَنَا مِنْ طُرُقِهِ وَنَسْلُكَ فِي سُبُلِهِ». لأَنَّهُ مِنْ صِهْيَوْنَ تَخْرُجُ الشَّرِيعَةُ، وَمِنْ أُورُشَلِيمَ كَلِمَةُ الرَّبِّ.  فَيَقْضِي بَيْنَ الأُمَمِ وَيُنْصِفُ لِشُعُوبٍ كَثِيرِينَ، فَيَطْبَعُونَ سُيُوفَهُمْ سِكَكًا وَرِمَاحَهُمْ مَنَاجِلَ. لاَ تَرْفَعُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ سَيْفًا، وَلاَ يَتَعَلَّمُونَ الْحَرْبَ فِي مَا بَعْدُ” (سفر اشعياء: إصحاح 2، آيات 2-4). يضيف الكاتب أنَّ المنهج المتَّبع في هذه الدراسة لا يضع في اعتباره المخاوف المتصاعدة بشأن الصهيونيَّة السياسيَّة، إنَّما ينظر إلى اليهود باعتبارهم، والأرض المقدَّسة، مختارين من قِبل الربِّ، لتحقيق “خلاص العالم” (ص3). من هنا، يرى الكاتب أنَّ في الدفاع عن مصالح إسرائيل دفاع عن مصلحة العالم بأسره.

معركة مجيدو في سياق المذكور في النبوءات

كما سبق الإشارة، يبدأ الحديث عن معركة مجيدو في الإصحاح 16 من سفر رؤيا يوحنَّا اللاهوتي، باعتبارها المواجهة الأخيرة بين الأمم المتمرِّدة بقيادة ضدِّ المسيح، والمسيح ذاته بعد مجيئه. وبرغم معرفة الجميع بسفر الرؤيا ونبوءاته، يعتقد الكاتب أنَّ الكثيرين قد يجهلون حقيقة أنَّ كاتبه، يوحنَّا الرَّسول، “يهودي”، وأنَّ ما ورد في هذا السفر، الذي يدرج ضمن أسفار العهد الجديد، ذُكر في العهد القديم في سياقات مختلفة. يضرب الكاتب المثل في ذلك بما ورد في سفر اشعياء “بَلْ يَقْضِي بِالْعَدْلِ لِلْمَسَاكِينِ، وَيَحْكُمُ بِالإِنْصَافِ لِبَائِسِي الأَرْضِ، وَيَضْرِبُ الأَرْضَ بِقَضِيبِ فَمِهِ، وَيُمِيتُ الْمُنَافِقَ بِنَفْخَةِ شَفَتَيْهِ” (إصحاح 11: آية 4)، يشابه في وصفه لبأس المخلِّص ما جاء في سفر الرؤيا في السياق ذاته “وَمِنْ فَمِهِ يَخْرُجُ سَيْفٌ مَاضٍ لِكَيْ يَضْرِبَ بِهِ الأُمَمَ. وَهُوَ سَيَرْعَاهُمْ بِعَصًا مِنْ حَدِيدٍ، وَهُوَ يَدُوسُ مَعْصَرَةَ خَمْرِ سَخَطِ وَغَضَبِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ” (إصحاح 19: آية 15). يمجِّد الكاتب السلام المبشَّر به في العهد القديم في عبارة “يَطْبَعُونَ سُيُوفَهُمْ سِكَكًا” (اشعياء: إصحاح 2، آية 4؛ ميخا: إصحاح 4: آية 3)، ويجد أنَّ من المفارقة أن تُكتب هذه العبارة على لوح جداري خارج مقرِّ الأمم المتَّحدة في مدينة نيويورك الأمريكيَّة، حيث يتعرَّض اليهود ومسؤولو إسرائيل إلى ما أسماه “المؤامرات والاحتقار الدائم” (ص4). يتساءل الكاتب: “ألا يعلم هؤلاء (الدبلوماسيون منتقدو إسرائيل) أنَّ اشعياء وميخا يعلنان عبر نفس العبارة أنَّ هذه الرؤية للسلام العالمي لن تتحقق إلَّا بعد أن يحاكم الربُّ الأمم على معاداتها لليهود المجتمعين من شتاتهم في أورشليم؟ لماذا لا يتَّهم أحدٌ الأمم المتَّحدة إذن بالسعي إلى استحضار معركة مجيدو؟ لماذا يتعرَّض الصهاينة المسيحيُّون وحدهم للذم؟” (ص4).

تنمُّر إعلامي تجاه معركة مجيدو

يقول الكاتب أنَّ الإعلام بدأ في الآونة الأخيرة يتناول حركة الصهيونيَّة المسيحيَّة وكأنَّها حديثة الوجود، بينما هي تعود إلى قرون سبقت، وشهدت أوج تأثيرها مع إصدار وعد بلفور عام 1917 ميلاديًّا بتأسيس وطن قومي لليهود على الأرض المقدَّسة، واعتراف الرئيس ترومان عام 1948 ميلاديًّا بدولة إسرائيل الناشئة. غير أنَّ التناول الإعلامي للصهيونيَّة المسيحيَّة يزداد عدائيَّة في السنوات الأخيرة، وكأنَّما يسعى إلى منح العامَّة صورة غير صحيحة عن عقائد الحركة ودوافعها؛ برغم استناد الاعتقاد في وقوع معركة مجيدو إلى عقيدة التدبيريَّة الإلهيَّة، والإيمان باختصاص الربِّ أمريكا بدور محوري في تأسيس مملكته على الأرض المقدَّسة. يستند الكاتب في ذلك إلى العديد من الدراسات، التي ربَّما من أحدثها دراسة القس تيموثي ويبر تحت عنوان “How Evangelicals Became Israel’s Best Friend -كيف أصبح الإنجيليُّون أصدقاء إسرائيل المقرَّبين” (1998)، والتي اعتمدت بدورها على إسهامات سابقة لأشهر منظِّري الصهيونيَّة المسيحيَّة، سيروس سكوفيلد، وويليام بلاكستون، وجون نيلسون داربي.

لم يتوقَّف الانتقاد على الإعلام فحسب، بل امتدَّ إلى أشكال من التحالفات المناوئة للفكر الصهيوني، من بينها ما نشأ بين رجال دين مسيحيين عرب ومنشقِّين عن حركة الصهيونيَّة المسيحيَّة، تحت مسمَّى الدفاع عن القضيَّة الفلسطينيَّة، من خلال تحريف الحقائق، والنيل من معتقدات الحركة، والاستخفاف بأهدافها. بدأ تعاطُف الكنيسة البروتستانتيَّة تجاه القضيَّة الفلسطينيَّة في أعقاب حرب الأيَّام الستَّة، عام 1967 ميلاديًّا، و “دخول” اليهود، لتقل احتلالهم، ما أطلق عليه الكاتب “يهودا/السامرة”، مشيرًا بذلك إلى الضفَّة الغربيَّة، وإلى غزَّة.

بُذلت جهود جديَّة في توفير وسائل للتواصل بين كنائس الشرق الأوسط والكنائس الغربيَّة المناصرة للقضيَّة الفلسطينيَّة. يعتبر الكاتب أنَّ من أحدث فعاليات هذا التحالف “العربي/المسيحي/البروتستانتي/الإنجيلي” في مواجهة الصهيونيَّة المسيحيَّة، المؤتمر الدولي الخامس الذي عقده مركز السبيل المسكوني للاهوت التحرر في القدس، في الفترة ما بين 14 و18 أبريل من عام 2004 (ص11). وكان من أهم دوافع عقْد المؤتمر “مواجهة الصهيونيَّة المسيحيَّة”، واختُتم بتقريع حاد لـ “تعاليمها المهرطقة”. وجاء في البيان الصحافي لمؤتمر مركز سبيل لعام 2004 “تصبُ الصهيونيَّة المسيحيَّة تركيزها على أحداث نهاية العالم المؤدِّية إلى نهاية التاريخ البشري، بدلًا من العي في ظلِّ حُب المسيح وعدله اليوم…نرفض رفضًا قاطعًا عقائد الصهيونيَّة المسيحيَّة، بوصفها تعاليم خاطئة تقوِّض رسالة الحبِّ والرحمة والعدل للكتاب المقدَّس”. يضيف بيان المؤتمر أنَّ من أسباب رفض تعاليم الصهيونيَّة المسيحيَّة تشجيعها السياسات الأمريكيَّة والإسرائيليَّة “المتشدِّدة”، التي تقدِّم شكلًا من “الإقصاء الراديكالي والحرب الدائمة”، بدلًا من تعاليم المحبَّة ونشر السلام والتفاهم بين الناس، التي هي صحيح رسالة المسيح.

يبدو أنَّ النشاط المناوئ للصهيونيَّة المسيحيَّة قد امتدَّ إلى الكنيسة المشيخيَّة الأمريكيَّة ذاتها، والتي اعتمدت في اجتماعها العام، في يوليو من عام 2004 ميلاديَّا، قرارًا يلزمها بمعارضة الصهيونيَّة المسيحيَّة. وتتنوَّع أنشطة المعارضين لأعمال اليمين المسيحي في أمريكا، وقد أسَّس هؤلاء مجموعة من المنظَّمات ونُظُم الدَّعم، ساعين إلى الوصول إلى أبرز الشخصيَّات، في سبيل خدمة قضيَّتهم. ومن بين الجهود المثمرة لمعارضي الصهيونيَّة المسيحيَّة جمع توقيعات من 59 من الشخصيَّات الهامة من أتباع الكنيسة الإنجيليَّة، من بينهم علماء لاهوت وقساوسة وأساتذة جامعيين، على خطاب وُجِّه في يوليو من عام 2002 ميلاديَّا إلى الرئيس جورج دابليو بوش، يحثُّه على اتِّباع سياسة عادلة في التعامل مع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وكذلك على إدراك أنَّ عددًا ليس بالهيِّن من الإنجيليِّين الأمريكيِّين يرفضون تحريف البعض آيات الكتاب المقدَّس لدعم كلِّ سياسة وفعل للحكومة الإسرائيليَّة، بما لا يقبل النقد.

 

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى