تقارير وإضاءات

الشيخ أحمد المحلاوي.. شيخ المعارضة الذي لم يهدأ شابا ولا كهلا

الشيخ أحمد المحلاوي.. شيخ المعارضة الذي لم يهدأ شابا ولا كهلا

إعداد إسماعيل عرفة

“كلما أمُرّ على مسجد القائد إبراهيم، ميدان الثورة الأول بالإسكندرية، لا يسعني إلا أن أذكر الشيخ أحمد المحلاوي بالدعاء. ففي أي يوم أقرر فيه النزول للمشاركة في المظاهرات المناهضة للاستبداد، أجده قد سبقني إلى هناك. صوته الجهوري لا يزال في أذنيّ، كان خطيبا مفوها جزلا، لا يمكنني أن أفصل بين صوت المحلاوي في خطبة الجمعة وبين المظاهرات المليونية، كلاهما حالة واحدة للثورة على الطغيان”.

بهذه الكلمات، ينقل إلينا أحد الشباب السكندري مدى تأثره بحضور الشيخ أحمد المحلاوي في ثورة 25 يناير 2011م، حيث لم يكن الشيخ المحلاوي مجرد خطيب يقوم بوظيفته الاعتيادية عبر خطبة الجمعة، بل كان داعية ذاع صيته في ربوع مصر بأكملها، وهو الذي لم ينتمِ يوما لتنظيم أو حزب، بل كان حاضرا دائما بين الجماهير ومُنتميا لهمومها، مع حرصه الواضح على وضع مسافة تفصل بينه وبين الحزبية.

شجّع الشباب المشاركين في ثورة 25 يناير 2011م، وشارك في المظاهرات المناهضة للانقلاب، وعارض من قبله سياسات الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، ووقف من بعده ندًّا لرئيس مصر الأسبق محمد أنور السادات، فدخل المعتقل في عهده، ثم عارض مبارك والسيسي من بعده. أسس أول جمعية في الإسكندرية انتقلت بالعمل الإسلامي من المسجد إلى الشارع، وهي جمعية “علماء المساجد بالإسكندرية”، وتتلمذ على يديه الكثير من المشايخ، منهم: محمد إسماعيل المقدم، وصفوت حجازي، والشهيد عبد العزيز الرنتيسي -القيادي المعروف بحركة حماس- أثناء دراسته بمصر، وفايز النوبي، وغيرهم. فما قصة هذا الشيخ؟ وكيف مزج بين الإمامة الدينية والعمل الجماهيري والمعارضة السياسية، في زمن يكثر الحديث فيه عن شيوخ السلاطين؟

نشأته وتعليمه والانتقال إلى عالم “البنطلون”!
 الشيخ “أحمد عبد السلام المحلاوي” (مواقع التواصل)

وُلِد أحمد عبد السلام المحلاوي في الأول من شهر يوليو/تموز عام 1925م في قرية عزبة المحلاوي بمحافظة كفر الشيخ، وأتم حفظه للقرآن الكريم في كُتّاب قريته، ثم التحق بالدراسة الأزهرية بمعهد طنطا ومنها إلى كلية الشريعة بالقاهرة وأنهى دراسته بها عام 1954م، وبعدها بعامين حصل على درجة تخصص التدريس -الماجستير- من كلية اللغة العربية، ليُعَيَّن بعد ذلك إماما وخطيبا ومُدرسا في وزارة الأوقاف بمدينة البُرُلُّس بمسجد السطوحي عام 1957م.

تفرغ المحلاوي في هذه المنطقة النائية لطلب العلم لمدة خمس سنوات كاملة، وبدأ نشاطه في الدعوة والتدريس فور انتقاله إليها. وقد لعبت سمات شخصيته، وطريقة خطابته، دورا فاعلا في تأثيره المباشر على قطاع عريض من الجماهير. فيذكر على سبيل المثال أن أهل تلك المنطقة في ذلك الوقت كانوا يحتفلون بمولد يسمى مولد “السطوحي”، فقال لهم الشيخ المحلاوي إن ما يقومون به من طقوس محرَّم. لينقطع أهل المنطقة على الفور عن هذا الأمر، كما كان أهل البلدة يوقدون شموعا في القبور على سبيل العادة، فتوقفوا عن ذلك بعد أن نهاهم “المحلاوي” عن القيام بذلك[1].

استمرت إمامة الشيخ المحلاوي لمسجد السطوحي حتى عام 1963م، لينتقل بعدها إلى محافظة الإسكندرية بناء على أمر وتكليف من وزير الأوقاف وقتها الدكتور محمد البهي، ليبدأ فصلا جديدا من فصول حياته في مسجد سيدي جابر، والتي أسماها الشيخ بمرحلة الانتقال “من عالم الريف إلى عالم البنطلون والميني جيب”. ويرجع الشيخ فايز النوبي، أحد تلامذة الشيخ المحلاوي المقربين، سبب هذه الترقية إلى أن البهي (وزير الأوقاف) “وجد أن الشيخ المحلاوي من الأئمة النشيطين، والعلماء المتميزين، والذين ينبغي أن يَعُمَّ النفعُ بهم وتستفيد منه جماهير الإسكندرية، فنُقِل إليها وعمل بمسجد سيدي جابر، والذي جعل منه الشيخ شعلة نشاط حقيقية”[2].

وحينما وصل المحلاوي إلى الإسكندرية، كان معظم الإسلاميين في السجون، وكان المسجد في ذلك الوقت، كما يذكر المحلاوي، مقصورا على كبار السن ومن ليس لهم عمل، ولم يكن يوجد المصلون في المسجد إلا في صلاة الجمعة فقط، فبات المسجد كالمحراب الأجوف بلا أي فاعلية دينية أو اجتماعية له. ووفق هذا الحال، تحرّك المحلّاوي في مساعٍ حثيثة لتجاوز هذا الجمود، وبدأ التفكير في كيفية التعامل إزاء هذا الوضع الجديد.

المسجد ليس للصلاة فقط!

“عندما جئت إلى الإسكندرية، كان عمل إمام المسجد أشبه ما يكون بـ”الحانوتي”؛ حيث يقتصر تعامله على العجائز والمرضى وكبار السن[3]

(الشيخ المحلاوي)

رسم الشيخ المحلاوي لنفسه طريقا خاصا في مساعيه للوصول إلى الشباب، فاتجه إلى العمل مُدرسا بالمدارس الأهلية حتى يتمكّن من نشر الدعوة من خلالها. ويوضح ذلك قائلا: “عندما جئت إلى الإسكندرية لم يعجبني أسلوب الدعوة، فلم يكن يوجد بالمسجد سوى موظفي المعاشات والبوابين، لا توجد امرأة، ولا يوجد شاب، فقررت حينذاك الذهاب إلى الشباب وعدم انتظار مجيئهم للمسجد”.

رأى المحلاوي ضرورة التوسع في أمر الدعوة التي كانت مقتصرة على مدرسة واحدة، ففكّر في طريقة تشجيع أكبر عدد من الشباب للقدوم للمسجد بدلا من الذهاب للمدرسة

ويستكمل المحلاوي: “وحتى أنجح في ذلك التحقت بالمدارس الخاصة أُدرّس فيها صباحا، وأتفرغ للمسجد في فترة المساء، واكتشفت من اتصالي بهم بُعدهم الكامل عن الدين”، ثم وجه كلامه إلى الصحفية التي تحاوره قائلا: “هل تتخيلين أنني كنت أنظم لهم رحلات يوم الجمعة إلى المسجد للتعرف عليه؟!”[4].

وبعد مُدّة، رأى المحلاوي ضرورة التوسع في أمر الدعوة التي كانت مقتصرة على مدرسة واحدة، ففكّر في طريقة تشجيع أكبر عدد من الشباب للقدوم للمسجد بدلا من الذهاب للمدرسة، وقال إن هذه الخطة كان عنوانها: “نقل المدرسة للمسجد”. فاتفق المحلاوي مع مجموعة من زملائه المدرسين على إعطاء دروس خصوصية مجانية لجميع المراحل العمرية داخل المسجد، مشيرا إلى أن “الدروس الخصوصية كانت في الستينيات تُشكّل عبئا كبيرا على الأسرة، لذلك كان المتوقع أن يكون الإقبال على دروس المسجد كبيرا، وهو ما حدث فعلا. ولأن الهدف كان إيمانيا، فقد اشترطت أن يكون الحضور قبل صلاة العصر بنصف ساعة والانتهاء بعد صلاة العشاء، لذلك كان الطالب يصلي بالمسجد ثلاثة فُروض”.

كما حدد الشيخ المحلاوي للفتيات أياما منفصلة عن الشباب، واشترط حضور الفتاة محجبة، خاصة حينما يذكر أنه “عندما جاء للإسكندرية عام 1963م، لم يكن بها أثر للحجاب إلا إذا كانت من ترتديه ريفية أو صعيدية، ولك أن تعرف أني كنت أشاهد الفتاة تأتي كاشفة رأسها ومعها الحجاب ترتديه قبل المسجد بخطوات فأفرح لأنها سترتديه عدة ساعات”.

من المدارس إلى الجامعات

أغرى نجاح المسجد مع طلبة المدارس المحلاوي للتخطيط لاقتحام الجامعة، فاتصل بأساتذة الجامعة الذين يعرفهم بحكم وجوده في المجتمع وعرض عليهم فكرة الدروس المجانية لطلبة الجامعة، لم يتردد أحد ورحبوا بشدة بالفكرة، وعلى عكس المتوقع، فقد بدأ المحلاوي بالكليات العلمية على رأسها الطب والصيدلة والهندسة، ووفر للطلاب كل ما يحتاجون إليه داخل المسجد لدرجة أنه وفّر المعامل وحتى الجثث التي يدرس عليها طلبة الطب. ويروي الشيخ المحلاوي: “ومن المواقف التي لا أنساها أن أستاذا بكلية الهندسة كان مريضا بالقلب ظل يراجع لطلابه ليلة الامتحان حتى أشفقت عليه وطلبت منه الاكتفاء عدة مرات، لكنه رفض وأصرّ عليّ الاستكمال، فلم يكن أمامي من حل سوى قطع التيار الكهربي عنه رأفة بحالته الصحية”. وقد أطلق الشيخ على مشروعه هذا اسم “الجامع والجامعة” لمعاونة الطلبة ورعايتهم دينيا وعلميا وماديا واجتماعيا.

استمرت “فصول التقوية للطلاب” في مسجد سيدي جابر كما أطلق عليها الشيخ المحلاوي، وأدّى نجاح الطلاب وتفوقهم إلى اقتداء أئمة المساجد الأخرى بما يفعله[5]، واستغل الشيخ ذلك الحماس فأسس جمعية “علماء المساجد بالإسكندرية” لتكون منبرا ومؤسسة يتحرك من خلالها العلماء والدعاة لخدمة الدين والوطن ورعاية مصالح الدعوة والدعاة.

كان نجاح المسجد والجمعية واضحا، بعدما جذب المحلاوي إليه كثيرا من الشباب، والذين باتوا رموزا في فترة لاحقة، منهم: الدكتور إبراهيم الزعفراني القطب الإخواني

كما وفر الشيخ لعدد من زملائه الأئمة شققا سكنية عن طريق معرفته وعلاقاته ببعض المحافظين، ورغم حاجته إلى شقة جديدة بسبب صِغر وضِيق مَسْكنِه، فلم يُطالب الشيخ لنفسه بشقة سكنية وقتها بحسب ما يُروى من مقربين منه. كما يَذكر الشيخ المحلاوي قيامه ببعض الأنشطة التي تجاوزت العمل الطلابي، إذ يقول: “لقد طورنا النشاط ليستوعب كل أنشطة الحي، فامتد إلى محو الأمية وعمل المستوصفات، وتقديم المساعدات، والمصالحات العرفية بين الناس، حتى إن نقطة شرطة سيدي جابر كانت تلجأ إلينا عند حدوث أي خصومات لنقوم بدورنا في الصلح، كما شكّلنا عدة لجان لمواساة الناس وتهنئتهم باسم المسجد، ونظّمنا رحلات لمواساة المرضى في المستشفيات”[6].

فكان نجاح المسجد والجمعية واضحا، بعدما جذب إليه كثيرا من الشباب، والذين باتوا رموزا في فترة لاحقة، منهم: الدكتور إبراهيم الزعفراني القطب الإخواني، والدكتور محمد إسماعيل المقدم وهو من رموز السلفية حاليا، وغيرهم كثيرون، وهذا الأمر كان له أثر كبير على ما يُعرف بـ “الصحوة الإسلامية” التي بدأت من الإسكندرية وانتقلت منها للقاهرة ثم الصعيد.

مضايقات عبد الناصر

أمام هذا النشاط الآخذ في التوسع، بدأت السلطة تنتبه لخطر الشيخ المحلاوي، لا سيما أنه لم يكن مناصرا ولا مُحبا لعبد الناصر، ويعود ذلك لأربعة أمور ذكرها المحلاوي في حواره مع صحيفة المصري اليوم، وهي: عداء عبد الناصر للتيار الإسلامي، وإلغاؤه لهيئة كبار العلماء بالأزهر، وحلّه لهيئة الأوقاف، وإلغاؤه للمحاكم الشرعية[7].

يحكي المحلاوي: “بدأ صِدامي مع السلطة في عهد جمال عبد الناصر وليس في عهد السادات، ففي عام 1965م بدأت الأزمة بين عبد الناصر وبين الإخوان المسلمين تتجدد، وكان التيار الإسلامي محجما جدا، حتى إن المسجد يكون خاليا من المصلين باستثناء يوم الجمعة”. إلا أن السلطة في عهد عبد الناصر لم تتعرَّض للشيخ المحلاوي بمضايقات كثيرة، على اعتبار أن نشاطه كان محدودا وغير مُسيّس، لذا، فقد كانت أبرز مضايقات نظام عبد الناصر للمحلاوي، كما يحكي المحلاوي بنفسه، عندما طلب منه رئيس حي شرق الإسكندرية الدعاء لجمال عبد الناصر في خطبة الجمعة، فرفض المحلاوي قائلا: “لو ذكرته يكون في ذلك إساءة له، لأنه يعني أنني مُجبر على ذكره”، فلما أصر على موقفه قال له: “إنك رئيس حي شرق وأنا لا أتبعك ولكن أتبع مديرية الأوقاف… فاستصدر رئيس الحي من الأوقاف قرارا ليلزمني بالدعاء لجمال من على المنبر”، ولكن المحلاوي رفض الانصياع للقرار وأهمله تماما.

استمر نشاط المحلاوي بمسجد سيدي جابر بعد وفاة عبد الناصر إلى منتصف السبعينيات(7)، ولم يكن نشاطه يسيرا، بل كان يبلغ به ضيق الموارد أحيانا ما يضطره إلى الإنفاق من ماله الخاص من أجل إحياء أنشطته، ورغم علاقاته الواسعة مع الكثير من الجهات الرسمية وغير الرسمية فإنه رفض تماما الانتقال من مسكنه المتواضع بحي كليوباترا بالإسكندرية، الذي لا يزال يقيم فيه حتى الآن.

من المسجد إلى الشارع

“جمعية سيدي جابر كانت أول حدث في مساجد الأوقاف لا يقف عند حدود الصلاة والعبادة، بل يتعدَّى لمتطلبات المسلم من دراسة وعلاج واجتماعيات”[8].

(الشيخ المحلاوي)

لم يكن الشيخ المحلاوي في نشاطه مع الطلبة يستهدف “الطلاب الإسلاميين” فقط، بل كان ينظر بعين الداعية إلى شريحة الطلاب بأكملها، فكما يروي الدكتور إبراهيم الزعفراني -أحد قياديي الإخوان المسلمين- أن الشيخ المحلاوي “قام من خلال جمعيته بشراء بعض الأجهزة الطبية من ماله الخاص، كما قام بتوفير مكان للدراسة من أجل مساعدة الطلاب في دراستهم، وكانت الفتيات يحضرن بالحجاب في وقت ندر فيه من كان يلتزم بالحجاب خارج المسجد”[9]. وقد عبّرت هذه الشريحة -غير المرتدية للحجاب- عن اتساع رقعة تأثير المحلّاوي.

بدأ الشيخ المحلاوي منذ منتصف السبعينيات بالخروج عن إطار حلقات المسجد الدينية والتعليمية، لينطلق في طول الإسكندرية وعرضها لإلقاء المحاضرات فى السرادقات التي أقامها أهالي الإسكندرية، وتصادف حينذاك أن إحدى كنائس الإبراهيمية قامت بتنصير شابين مسلمين مما أثار الحمية الدينية لدى الشيخ المحلاوي وأهل الإسكندرية، فامتدت السرادقات التي أُقيمت للاحتفال بالمولد النبوي لمدة عام كامل. ولم يكتفِ الشيخ المحلاوي بالشارع السكندري فحسب، بل وسع نشاطه إلى المجتمع الطلابي الجامعي كذلك، فانفتح الشيخ على النشاط الديني بالجامعة داخل أسوار الجامعة نفسها، وإضافة إلى ذلك فقد جعل من مسجد القائد إبراهيم بعد صلاة الجمعة منبرا لطلاب الجامعة -كما يحكي الزعفراني- يخاطبون من خلاله جمهور الإسكندرية[10].

كما أصبح المحلاوي من بين المحاضرين الدائمين الذين يقدمون مواعظهم وأفكارهم في المحاضرات التي كانت كليات الجامعة تتسابق في عقدها داخل مدرجات الكليات ليلا ويحضرها جمهور عريض من أهالي الإسكندرية بمختلف مستوياتهم الاجتماعية، ويؤكد الشيخ فايز النوبي أن الجامع والجامعة “كانا منارتي التوعية والثقافة الدينية والاجتماعية والسياسية بالإسكندرية”[11].

احتضان الإسلاميين

في عهد السادات، بدأ عهد التصادمات مع الشيخ المحلّاوي، تحديدا عقب حادثتين رئيستين: الأولى هي عندما قرر السادات عقد مُصالحة مع قادة وأعضاء الحركة الإسلامية الذين اعتُقلوا في عهد عبد الناصر وأُفرج عنهم، فلم يجدوا منبرا أو مساحة يستطيعون الدعوة من خلالها، ليستقبلهم الشيخ المحلاوي ويقدمّهم في مسجده بسيدي جابر، ووفر لهم ما يحتاجون إليه من سبل وموارد تُعينهم على العودة لمسار الدعوة. ويحكي الشيخ فايز النوبي أن هذا الأمر حمل الحاسدين للشيخ والحانقين عليه في النظام الساداتي أن يشوا به، “فصدر قرار من السادات بنقله من الإسكندرية إلى محافظة كفر الشيخ سنة 1977م، لكن الشيخ لم يستجب للقرار كما لما يستجب لقرارات عبد الناصر، فاستقر الأمر بالحكومة أن تبقيه بمدينة الإسكندرية على أن ينتقل إلى مسجد القائد إبراهيم بمنطقة محطة الرمل”[12].

وكان لاحتضان الإسلاميين تأثير عميق في الحركة الإسلامية بالإسكندرية، حيث يذكر الدكتور إبراهيم الزعفراني مدى تأثيرها قائلا: “كان لهذا النشاط العلمي الديني بالمسجد أثر كبير في ترابط الطلاب المسلمين وبروز قيادات طلابية ذات توجه ديني داخل كلية الطب، مما ساعدنا فى خوض الانتخابات الطلابية بها فيما بعد والفوز بقوائم كاملة في معظم الدفعات، إلى حدّ أننا كنا نطلق عليها (قائمة المسجد)”[13].

رجل الدين إلى المعارضة السياسة
 السادات وكامب ديفيد (مواقع التواصل)

أما الحادثة الثانية التي مثّلت منعطفا في مسيرة المحلاوي مع السلطة السياسية، فهي معاهدة كامب ديفيد التي عقدها السادات مع إسرائيل عام 1978م، فمنذ هذه اللحظة، بدأ الشيخ المحلاوي يتعرض للجوانب السياسية ولشخص الرئيس السادات نفسه في خطبه، وتطورت الأحداث، لتبدأ الشرائط التسجيلية للشيخ بالانتشار بين جموع الجماهير في مختلف محافظات مصر، وكانت شرائطه تنافس شرائط الشيخ عبد الحميد كشك وخطب الشيخ عبد الرشيد صقر بمسجد صلاح الدين بالقاهرة. كما امتدت معارضة المحلاوي للسادات إلى أسرة السادات نفسها، فكان ينتقد نمط الحياة والسلوك الاجتماعي والاقتصادي لأسرة السادات وخاصة زوجته السيدة جيهان، حيث دخلت عليه مسجد سيدي جابر لتفتتح بعض المشروعات الخيرية فاستنكر بشدة دخولها من غير حجاب[23]، كما انتقد “بذخها في تناول الأطعمة الأجنبية”[24].

ويروي المحلاوي قصة هذه الأزمة قائلا: “حوَّلتُ مسجد القائد إبراهيم إلى حديقة هايدبارك الإسكندرية، فكانت تُعقد فيه كل المؤتمرات المهمة التي تنتقد اتفاقية كامب ديفيد وكل السياسات الخاطئة نحو إسرائيل وغيرها من السياسات، فغضب السادات غضبا شديدا، إلا أنني لم آبه لذلك، فقد وجدت أنه بدأ يغتر بعد أن أسموه بطل الحرب والسلام، وبدأ يحرك الدولة كأنها مجموعة من الألعاب في مسرح العرائس ويمسك بجميع الخيوط، حتى إنه حل مجلس الشعب لأن هناك عددا لا يزيد على أصابع اليد يعارض معاهدة السلام”.

ويستكمل المحلاوي: “وبدأت أقوم بجولات في جميع المحافظات وألقي خطبا نارية تهاجمه، فتم استدعائي لجهاز المدعي الاشتراكي في يوليو 1981م لتكون قضيتي هي القضية الأولى بعد صدور قانون العيب، وتم إيقافي عن العمل، فذهبت إلى المسجد تحيطني الجموع وألقيت خطبة وجهت له الكلام فيها كأنه شخص أقل مني وأحاسبه”[14].

وجدت السلطة صعوبة كبيرة في القبض على الشيخ المحلاوي نظرا لشعبيته الجارفة بالإسكندرية، وهذا ما بيّنه الباحث عبد المنعم منيب بقوله: “كان كل أهل الإسكندرية يحبون الشيخ المحلاوي لمعارضته القوية والعلنية للسادات، وأيضا لأنه كان يقوم بأعمال مجتمعية وخيرية واسعة بمساعدة الفقراء والأرامل واليتامى، سواء في مجال المعيشة أو العلاج، كما كان ينسق دروسا خاصة لطلبة كليات الطب والعلوم والهندسة الفقراء بالمسجد، كما كان يساعدهم في الحصول على الأدوات والكتب المطلوبة لدراساتهم ولمعاملهم، وكل ذلك عبر جمعه الأموال من المتصدقين وتخصيصها وتوزيعها في هذه الأغراض. ومن هنا فقد خرج نحو مليون متظاهر بالإسكندرية صبيحة اعتقاله مما أجبر مباحث أمن الدولة على إطلاقه من الاعتقال لتهدئة الناس، وبعد أن هدأ الناس بعدة أيام أُعيد اعتقال الشيخ أحمد المحلاوي مرة أخرى”[15].

 الشيخ المحلاوي (يمين) والسادات

ولعل هذا ما يُفسّر كراهية السادات الشديدة للشيخ المحلاوي على وجه التحديد دونا عن رموز المعارضة والمشايخ الآخرين كافة، وتجلّت هذه الخصومة الشخصية بوضوح عقب اعتقالات سبتمبر/أيلول عام 1981، التي قبض فيها السادات على الشيوعيين والإسلاميين والقوميين والمسيحيين، حينما خصص السادات ساعة كاملة من خطابه أمام مجلس الشعب للحديث عن الشيخ المحلاوي فقط، وأمسك شرائطه أمام الكاميرات مُستثنيا شرائط جميع المعتقلين الآخرين، في حين أنه لم يتحدث عن بقية المعارضين مجتمعين إلا في دقائق معدودة.

وقال السادات في خطابه: “شيخ أزهري واخد العالمية والمفروض إنه يعرف الدين الإسلامي وبعدين يدّعي إنه داعية إسلامي، بتاريخ 23 يناير 1981 تحدث بعد الصلاة بأنه لا توجد سيادة قانون في مصر لأن القانون لا يحترم.. هاجم المعاهدة واعتبر سيناء في حكم المحتلة لأنها ستكون منزوعة السلاح وأنه من البنود السرية للمعاهدة يعني كذب.. إجرام.. سفالة.. بذاءة.. لما يقف راجل معمم ومن الأزهر الشريف علشان يقول بنود سرية، والله ما هرحمه بالقانون، يقولوله قول وما تخفش وهنقعدك على المنبر ولا توقفك الحكومة، أهو مرمي في السجن زي الكلب”.

السجن

استمر اعتقال المحلاوي منذ يوليو/تموز 1981م حتى سبتمبر/أيلول من العام نفسه، وقد استمع لخطاب السادات عبر أحد أجهزة الراديو الموجودة في السجن. وتعجب المحلاوي من الغيظ الشديد الذي أبداه السادات تجاهه، بل تعجب المحلاوي من وصف إحدى الصحف للمحلاوي عقب خروجه بأنه “الخصم الأول للسادات”.

يصف الشيخ المحلاوي فترة دخوله للسجن ويقول: “كانت بداية دخولي سجن طرة رهيبة، حيث وضعت في حجرة ضيقة مظلمة لا ترى فيها أي شيء، وبأحد جدرانها فتحة (طاقة) ضيقة للضوء، أما الأرضية فكانت غير مستوية حتي لا تُمكّنك من النوم فوقها، وإلى جوارك صفيحتان إحداهما لمخلّفاتك والأخرى للمياه، وكان من الممكن أن تبدل إحداهما مكان الأخرى، بالإضافة إلى أنك تقضي ٢٤ ساعة إلا ربعا في الظلام الدامس، أما ربع الساعة فيسمح لك فيه بالخروج لتدخل دورة المياه، وكانت لا تطاق، والطفح منها يجعل دخولها أمرا مستحيلا”[16].

ويروي المحلاوي قصة طريفة قائلا: “دخلت السجن مرتديا “الجُبَّة” البيضاء والعمامة، وما إن استقرت الحال بي في الزنزانة ٢٥، حتى وجدت شابا يلتقيني أثناء فترة الخروج القصيرة وكان مسجونا بالزنزانة المقابلة ويقول لي: “يا شيخ أنت والدي”، قلت له: “أشكرك”، فلم أكن أعرفه، لكنه لم يكتفِ بذلك، بل أحضر لي ملابس من عنده (غيارات) وأكرمني، وحوّل السجن عندي إلى جنة، وخفف عني كثيرا، واكتشفت بعد عدة أيام أنه “شاري” السجن لحسابه بفلوسه، وهو ما جعلني أتعجب حتى اكتشفت أنه أحد أكبر تجار الحشيش في مصر، وأن اسمه محمد وشهرته المعلم “حمامة”، وينتمي إلى عرب السويس، وأنه سُجن قبلي بأربعة أو خمسة أشهر فقط، وفي الصباح كان أخونا حمامة -رحمه الله- قد سمع خطاب السادات هو الآخر، وحينما حان وقت الخروج من الزنزانة وجدته يتجه إليّ قائلا: “يا مولانا دا أنت طلعت خطير قوي”.

المحلاوي ومبارك: اغتيال معنوي بطيء

عقب اعتقالات سبتمبر/أيلول 1981م، ظلّ الشيخ المحلاوي في معتقله بسجن الاستقبال بطرة لمدة عام كامل، وخلال سجنه، وبعد شهر واحد فقط من اعتقاله، تعرّض السادات للاغتيال من قِبل مجموعة من الضباط الإسلاميين، الذين صرَّحوا خلال محاكمتهم أنهم قاموا باغتيال السادات نظرا لعدة أسباب، كان من ضمنها “إهانة السادات للعلماء مثل الشيخ المحلاوي”، وليبدأ حسني مبارك الذي كان نائب الرئيس في عهد السادات مقاليد الحكم، ولتنطلق معه مرحلة بَدَت جديدة.

بدأ مبارك بفتح صفحة جديدة مع الإسلاميين، وأُفرج عن الشيخ المحلاوي في يوليو/تموز 1982م، إلا أن منعه من العمل بالمساجد والخطابة بقي مستمرا، وحاول المسؤولون في الدولة ووزارة الأوقاف إغراء الشيخ بقبول العمل مفتشا أو مديرا بالأوقاف، فأبى إلا أن يعود إماما وخطيبا، وعاد بالفعل إلى صعود المنبر، وتدشين دروسه ومحاضراته من جديد.

لكن بعد سلسلة من الأحداث الدامية مع الجماعة الإسلامية، استشعر مبارك خطرا من الشيخ المحلاوي، فأصدرت وزارة الأوقاف قرارا بمنع المحلاوي من الخطابة أو الدروس، ولم يتمكّن أحد من إلغاء القرار. في هذا السياق، يوضح الكاتب سليم عزوز ذهنية مبارك في تصفية الكوادر الدينية في تلك الفترة قائلا: “كانت الخطة الأمنية في عهد مبارك تقوم على المنع من المنبع، فلا يعود الشيخ كشك لمنبره أبدا، ويعود المحلاوي باتفاق خاص مع وزير الأوقاف الأحمدي أبو النور، ورغم التزامه ببنود الاتفاق غير المكتوب، فقد تمت ترقيته في عهد الوزير التالي، حتى مُنع من الخطابة، فلا يشعر بذلك أحد، إلى أن يُحال للمعاش، فيصبح مجرد ذكرى”[17].

حضوره في ثورة 25 يناير 2011م

خفت نجم الشيخ المحلاوي بعد منعه من صعود المنبر، وظل الحال كذلك حتى قدوم يوم 25 يناير/كانون الثاني 2011م، فرغم كبر سنه، دبَّت ثورة المصريين في الشيخ المحلاوي الحماس من جديد وصار جزءا من الحراك الثوري وواحدا من أبرز أئمته المعروفين، في الإسكندرية خصوصا وفي مصر عموما، وفوجئت الجماهير السكندرية يوم 4 فبراير/شباط 2011 أن الشيخ المحلاوي هو من سيقوم بأداء خطبة الجمعة في جامع القائد إبراهيم، الميدان الأول للثورة في الإسكندرية.

كانت هذه هي المرة الأولى التي يصعد فيها المحلاوي المنبر منذ خمسة عشر عاما، فهللت له الجماهير ورحّبت به الجموع الثورية، وظل المحلاوي يحفز المتظاهرين بخطبه الحماسية مشاركا في كل المسيرات والمظاهرات، حتى رحيل مبارك عن الحكم يوم الجمعة 11 فبراير/شباط 2011.

استمر الشيخ المحلاوي عقب تنحي مبارك في الخطابة بمسجد القائد إبراهيم، ومُشاركا في القضايا السياسية بعيدا عن الحزبية، محفزا الجماهير على التمسك بمبادئ ثورتهم وعدم التفريط في حقوقهم. وليتعرض الشيخ المحلاوي إثر مواقفه للهجوم من قِبل أنصار النظام المخلوع بشكل منتظم، وفي ديسمبر/كانون الأول 2012م حوصر المحلاوي في مسجد القائد إبراهيم عقب صلاة الجمعة مباشرة، بواسطة مجموعة من “البلطجية” المنظمين والمجهزين، والذين هاجموا المسجد بغتة، واستطاع المحلاوي وأنصاره تخطّي هذه الأزمة بسلام[18].

معارضة الانقلاب

عقب انقلاب 3 يوليو/تموز 2013 مباشرة، باشر المحلاوي مناهضة الحكم العسكري، وكان يشارك المتظاهرين في مطالبتهم بالعودة إلى المسار الديمقراطي، ورفضه الانقلاب على إرادة الشعب. ورغم أنه -نظرا لكبر سنه- لم يستطع المشاركة في التظاهرات، فإنه كان دائم الحضور في مسجد القائد إبراهيم، وإذا مرت المظاهرات من تحت بيته خرج إلى شرفته مسرعا ليُحيّي المتظاهرين.

استمرت دعوات الشيخ المحلاوي بمقاطعة الاستفتاء في يناير/كانون الثاني 2014م، ورفض الانتخابات الرئاسية، وبلغ حنق النظام به إلى حد أن الإعلامي المؤيد للنظام أحمد موسى قام في عام 2015م بإجراء مكالمة تليفونية مع الشيخ المحلاوي أعلن فيها رفضه للأحزاب الإسلامية ودعوته لتهدئة الوضع وقبول مسار ما بعد 30 يونيو/حزيران 2013م. لكن المفاجأة المتوقعة هي أن الشيخ المحلاوي صرّح بعدها أن هذا الصوت كان مزورا وأنه لم يكن إلا انتحالا لشخصيته، واستهزأ بالمكالمة وذكر أنه لا يعرف من هو أحمد موسى أساسا، وأكد أنه لم يتصل به أحد في وقت الحلقة، بل فوجئ بأصدقائه يتصلون به ليكتشف بعدها أن موسى قام بتزوير صوته[19].

ورغم جلوسه في بيته منذ 2017م لأسباب صحية، فإن الشيخ المحلاوي لا يزال مُشاركا في الأحداث قدر استطاعته، ويقوم بالتعليق على الأحداث الجارية في البلاد وفقا لطاقته، آخرها ما قام به في يونيو/حزيران 2019م حيث سجّل مقطعا مصورا قام فيه برثاء الرئيس السابق محمد مرسي[20].

كما يحكي عنه فايز النوبي، أحد طلابه المقربين: “ولا يزال فضيلته بفضل الله عز وجل رغم بلوغه الثالثة والتسعين من عمره بكامل صحته وعافيته وذاكرته، يلتقي أحبابه وتلاميذه بمنزله بالإسكندرية، بل ويُلقي لهم درسا أسبوعيا في التفسير، ويردّ من خلال الهاتف على أسئلة واستفسارات الجماهير، ويقضي ما استطاع من حوائج المسلمين”[21]. كما لا تزال قناته على موقع يوتيوب حتى الآن تنشر له دروسه في التفسير بشكل منتظم[22].

هكذا كانت مسيرة حافلة بالعطاء لعالم آثر الصدع بما يؤمن عوضا عن السكوت أو التبرير للسلطان، وخرج من ضيق العمل الوظيفي للإمام إلى رحاب العمل الجماهيري الواسع، وشارك الجماهير همومها ومشكلاتها ونزاعاتها، ونزل إلى الناس دون استعلاء ولا تفريط، فأصبح نموذجا لرجل فقيه في الدين، ويعارض السلطات الاستبدادية، ويساهم في العمل الاجتماعي، ويتحرك من أجل الناس لا من أجل السلطة.

(المصدر: ميدان الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى