كتب وبحوث

السَّلَف والمهارات العقليَّة قَلبُ الدَّلِيل أُنموذجًا

المقَـــدّمَــــــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

قوة الحجة ونباهتها في الردِّ في الجدل والمنظرة مما يُلجئ المخاطب إلى السكوت أو التلعثم، فإذا كانت تتضمَّن قلبًا لحجَّة الخصم عليه ازدادت قوةً ونكايةً في الخصم.

وهذه المهارة الحجاجية القويَّة تبوأت مكانها في كلام ربِّ العالمين، وسنة سيد المرسلين، وسلفنا الصالحين.

وكأنِّي بخلجات قلبك تقول هنا:

أحقًّا كانت هذه المهارة الحجاجية تسود نوادي السَّلف ومحاوراتهم؟

هل كان أئمة السُّنة والسلف يمتلكون هذه القوَّة في البيان والرَّد؟

وقبل ذلك هل هذه المهارة العقلية الحجاجية موجودة في الوحي؟

ستحاول هذه الورقة لملمة شعث هذه الأسئلة، والجواب عليها؛ ليعلم من لا يعلم أن السَّلف كانوا من أحذق الناس في المهارات العقلية، وأبرعهم في الحجاجات والمناظرات.

لم يكونوا حشوية أو سذَّجًا كما يحلو لبعضهم أن يطلقها، بل كانوا أفقه الناس للحجج والبراهين عقليَّة كانت أو نقليَّة.

والبحث في هذه الورقة يقتصر على عرض قصص ونقاشات أهل القرون الثلاثة الأولى التي استخدموا فيها هذه المهارة الحجاجية؛ إذ هم أوَّل من ينطبق عليهم وصف السلف.

حقيقة القلب ومفهومه([1]):

لا شكَّ أن الأجوبة المسكتة من المهارات الرفيعة في باب البيان والفصاحة، ولكن هناك نوع من أنواع الأجوبة المسكتة أشدُّ قوة وأعمق غورًا، ألا وهو: قلب حجة الخصم، فهو من أقوى المهارات الحجاجية للمخاطب، كما أنه من أصعبها وأمتنها إنشاءً وتركيبًا، وأشدِّها للخصم إفحامًا، وأكثرها للعقل إمتاعًا.

والمقصود بقلب الدليل: بيان المعترض (القالب) أن دليل المستدل الذي ذكره يدل عليه لا له([2]).

فيجعل من نفس الدليل الذي استدل به المتكلم دليلًا عليه، وهذه منزلة لا يبلغها إلا من بلغ الشأو في الفصاحة ورقى الدرجات في المحاجة والبرهان.

فهل كان هذا القلب موجودًا لدى السَّلف؟

يجب أولًا ألَّا ننسى أن السَّلف الذين نتحدَّث عنهم هم من العرب، واللغة والفصاحة لها ما لها عند العرب، ثم الأجوبة المسكتة أو قوة الرد هو مرقى من مراقي دهاة الفصحاء؛ إذ تجتمع فيه متانة الحجة مع صرامة الكلمة، ولا شك أن للعرب من هذه الخاصية النصيب الوافر؛ وخاصَّة قريش، فهم فرسان الفصاحة وآباؤها.

ولعل نفسك تاقت لقصَّة من قصصهم في ذلك، فتأمل هذه القصة من قصص السيرة النبوية العطرة، بين عمِّ النبي صلى الله عليه وسلم وقومه في العهد المكي:

توالت المحاولات من صناديد قريش لدحر جهد النبي صلى الله عليه وسلم ووأده في مسقط رأسه، وبعد مفاوضات ونقاشات بينهم وبين عمِّ النبي أبي طالب عرضوا عليه أن يتبنَّى أنهد فتيان قريش وأجملهم، وأحد أبناء سادتهم وأشرافهم ألا وهو عمارة بن الوليد ويكون له عقله ونصره، ويترك لهم ابن أخيه –النبي محمد صلى الله عليه وسلم- يقتلوه؛ حيث خالف دينهم ودينه ودين آبائهم، وفرَّق جماعة قومه، وسفه أحلامهم، وبذلك يتحقق العدل فيكون (رجلًا برجل).

فكان الجواب المفحم والرد المسكت من أبي طالب حيث قال:

“والله لبئس ما تسومونني! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا والله ما لا يكون أبدًا([3]).

فلم يجدوا بعد هذا طريقًا للردِّ عليه في هذه القضية، بل انتقلوا إلى قضيَّة أخرى ونقاشٍ آخر.

هذا ما كان عند العرب، فكما ترى كانت هذه المهارة سمة بارزة من سمات دهاتهم وفصحائهم، ولهم في ذلك وقائع وقصص جمعها بعضهم في كتب ورسائل.

وهذا أوان ما وعدنا أول الورقة؛ إذ وعدنا بعرض ما في القرآن من هذه المهارة الحجاجية.

القلب في الوحي:

لا يليق بالمسلم وهو يتحدث عن العقليات أن يتشاغل عن حجة الله البالغة وبرهان الإسلام الذي حوى أقوى البراهين وأفضل المهارات العقلية؛ وكانت لهذه المهارة حضورها في الكتاب العزيز، بل وفي أوج مستوياتها وأقوى أساليبها وأشدِّها إقناعًا، ومن القصص التي بذَّت بذلك قصص إبراهيم عليه السلام ومناوراته مع أهل دعوته من المخالفين:

فمنها: قصته مع أحد أكبر ملوك الأرض على مرِّ الزمان، النمرود أحد القلائل الذين ملكوا مشارق الأرض ومغاربها، وكان يتفاخر بملكه وقوته وجنده، واغتر بذلك وطغى وتجبَّر إذ أغناه الله، وكان يمير رعيَّته (أي: يعطيهم ما يأكلون ويشربون)، ولكنَّه لا يسلِّم الميرة لأحد حتى يسأله: من ربك؟ فكانت الرعيَّة تجيبه: أنت ربُّنا.

وحين جاء دور نبيِّنا إبراهيم عليه السلام لأخذ الميرة فامتحنه النمرود، وقال له: من ربُّك؟

فتخيَّر إبراهيم عليه السلام أقوى الحجج الناجعة لملحدٍ منكرٍ للخالق مثله، فألقى إليه بحجته العقلية البرهانية دليل التدبير؛ فقال: ربِّي الذي بيده حياة كلِّ شيء وموت كلِّ شيء، فبيده أمر كلِّ شيءٍ في الكون.

فكابر الطاغية النمرود ذلك وقال: ذلك بيدي أنا؛ فأنا آمر بقتل من أشاء فأميته، وآمر بترك من أشاء حيًّا فأحييه -والعرب تسمِّي ذلك إحياءً([4])- فأنا أملك الإحياء والإماتة.

وفي بعض الروايات أنه بالغ في العناد، وقال له: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}، إن شئت استحييتك وإن شئت قتلتك فأمتُّك.

عند ذلك لم يقف إبراهيم عليه السلام فارغًا فاه، بل قلب عليه دليله وأجابه بما يكشف للذكي والبليد عناده ومكابرته فقال له: إن كان بيدك إحياء كل شيء وتدبيره {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258].

فتلعثم النمرود الجاحد لربه وبُهت واندحر ولم ينبس ببنت شفة.

يقول المولى تبارك وتعالى آمرًا بتدبُّر هذه القصة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].

” فالله لا يهدي أهل الكفر إلى حجةٍ يدحضون بها حجةَ أهلِ الحق عند المحاجَّة والمخاصمة؛ لأن أهل الباطل حججهم داحضة”([5]).

ووجه القلب هنا: أنه استدلَّ بقوته وتدبيره على استحقاقه الألوهية، فقلب إبراهيم -عليه السلام- عليه دليله وبيَّن له أن القوة والتدبير الحقيقي الذي يستلزم استحقاق العبادة إنما هو بيد الله تعالى.

ومنها قصته حين حاجَّه قومه وخاصموه بأن آلهتهم خير من إلهه الذي يعبد، وخوَّفوه من أن تضرَّه أصنامهم لذكره إياها بسوء.

فقلب عليهم دليلهم وقال: أنتم تخوِّفونني بضرر إلهكم وتظنُّون أنه يملك النفع والضر مع أنكم أقررتم أنهم {لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} [الرعد: 16] حين حطَّمتهما وضربتها بالفأس([6])، ولا تخافون من الله -الذي تقرُّون أنه الخالق وقد خلق الضر والنفع وهو مالكه- مع أنكم تسوُّون بينه وبين الجمادات التي لا تملك لنفسها شيئًا دون دليل أو مبرر.

فأيُّنا هو الذي أولى بأن يخاف من الضر وأولى بأن ينعم بالأمن؟!!

وفي هذا يقول المولى جل وعلا على لسان إبراهيم: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 79 – 81].

وأيُّ حجة أقوى برهانًا وأشد إقناعًا وأظهر فصاحةً من هذه الحجة التي أشاد المولى جل وعلا بها، فقال: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِه} [الأنعام: 83] كما قال مجاهد وغيره من المفسرين.

يقول الربيع بن أنس البكري -أحد أئمة المفسرين من تلاميذ أبي العالية الرياحي والحسن البصري وقد أكثر ابن جرير من الرواية عنه- قال: “أفلج الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين خاصمهم، فقال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 79 – 81]؟ ثم قال: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِه} [الأنعام: 83]”([7]).

ووجه القلب هنا: أنهم استدلُّوا بأن مالك الضر والنفع يجب خوفه وخشيته؛ وعليه يجب على إبراهيم خوف آلهتهم لأنها قد تمسُّه بسوء، فقلب عليهم إبراهيم عليه السلام دليلهم وبيَّن أنهم هم من يجب عليهم أن يخافوا من الله تعالى؛ لأنه هو مالك الضر والنفع.

ومن الاستعمالات القوية لمهارة القلب في الوحي القرآني قوله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81].

ففي هذه الآية يحكي المولى تبارك وتعالى حال المنافقين الذين فرحوا بقعودهم وتخلُّفهم عن الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك وكرهوا الخروج معه لقتال أعدائه ميلًا إلى الدَّعة وإيثارًا للراحة وشحًّا بالمال، رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحوج ما يكون إلى دعمهم وقوتهم وقد أعلن النفير إلى الجهاد، ولكنهم تخلَّفوا وتشبَّثوا بحجة واهية، ألا وهي شدة الحر وجدب البلاد.

عندها قلب القرآن عليهم حجَّتهم تلك، وبيَّن أن ما يستدلُّون به على صنيعهم لا يدل إلا على بطلان فعلهم في بديهة العقل وعند الاعتبار بالمنطق الصحيح؛ فإن العاقل الطالب للراحة يتحمَّل أخفَّ الشِدَّتين لتزول عنه أشدَّهما، ولا يحتاج العاقل إلى عقد مقارنة بين شدةِ حرِّ الشمس وشدَّة العطش الدُّنيوي وبين شدَّة حرِّ نار السعير وشدة عذاب الحميم وماء الصديد ليتوصَّل إلى أن نار جهنم أشدُّ حرًّا وأكثر عطشًا وأكثر تعبًا -أجارنا الله وإياك أخي القارئ منها- بل يكفي مجرَّد تذكُّر، فذكَّرهم الله -توبيخًا لأنهم يعرفون ذلك وإنما تجاهلوه- بأن توقِّي حر نار جهنم وشدَّتها أبد الآباد أولى من توقِّي حرِّ الدُّنيا أيامًا وآماد، وفي توقِّي حرِّ نار جهنم وعطشها ما يطلبونه من الرَّاحة والدَّعة.

ووجه القلب هنا: أنهم استدلوا بصعوبة تحمُّل شدَّة حرِّ الدُّنيا أيامًا على تخلِّفهم عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلب القرآن عليهم حجتهم وبيَّن أن شدَّة حرِّ جهنَّم الأبدية التي لا تقارن مع حرِّ الدنيا تستلزم المبادرة إلى الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولنا مع سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفة، فقد أدَّى الأمانة ونصح الأمة وبلَّغ البلاغ المبين، فهديه خير الهدي، وقوله أبلغ القول، وفعله أقوم الأفعال، ومن القصص الرائعة التي أعمل فيها نبيُّنا الكريم هذه المهارة، ردُّه صلى الله عليه وسلم على الرجل الذي جاء مستأذِنًا في الزنا.

جاء أحد الشبَّان الجرءاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الزنا، بناءً على أنَّ جبلَّته وطبيعته تحبُّ ذلك وتميل إليه وتشتهيه وليس هناك ضررٌ محقَّقٌ خاصة إذا رضيت المرأة وأذن بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فثار عليه الصحابة وزجروه، وصاحوا: “مه مه” أي: كفَّ عن هذا.

حينئذٍ تجلَّت سعة صدر النبيِّ صلى الله عليه وسلم ورحابته فلم يزجره على قوله، وإنما انتقل إلى مخاطبة عقله، وإبطال اعتقاده انتفاء الضَّرر؛ فبيَّن له وجهًا من أوجه الضَّرر ممَّا جعله يرجع عن قوله السَّابق ويقرَّ بوجوده.

وقلب عليه القضيَّة؛ ووضعه في موضع المتضرِّر ضررًا بيِّنًا ليبصر حقيقة الضرر؛ ومثَّل له بأحبِّ الناس إليه؛ فقال له: “أتحبه لأمك؟”.

حينئذٍ استسلم لوجود الضرر وتلعثم ولم يجد غير قول: لا.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “ولا الناس يحبونه لأمهاتهم”.

وبيَّن أن ليس أبناء المرأة فقط هم المتضرِّرون بل هناك غيرهم، فسأله: “أفتحبه لابنتك؟“.

فكرَّر الجواب نفسه وأقرَّ بالضَّرر وقال: لا.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “ولا الناس يحبونه لبناتهم”.

ثمَّ جلَّى له أن كلَّ المجتمع سيتضرَّر لو قرِّر جواز الزنا؛ لأن كل أقرباء المرأة وذويها لن يرضوا بذلك، فسأله عن رضاه لأخته وعمَّته وخالته، فأجاب فيها جميعًا بالرَّفض، والنبي صلى الله عليه وسلم في كل ذلك يبيِّن له أن النَّاس لا يرضونه لأقربائهم أيًّا كانت صلة القرابة.

فالنبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أنه وإن كانت شهوته وجبلَّته تحبُّ الزنا وتميل إليه وفيه من الاستمتاع ما فيه، خاصة إن كانت المرأة راضية، فإن ذوي المرأة لا يرضونها لأنفسهم ولا لأهليهم وهذا فيه من الضَّرر ما فيه([8]).

ووجه القلب هنا: أن الشَّاب طلب الإذن في الزِّنا معتقدًا أحقِّيته لأنها جبلَّة وفطرة ولا ضرر فيها، فقلب عليه النبي صلى الله عليه وسلَّم قوله وبيَّن أن فيها ضررًا بالغًا بالمجتمع كلِّه لا بفردٍ من أفراده.

القلب عند سلفنا الصالح:

نهل سلفنا الصالح من معين الوحي ذاك الذي سبق معنا شيءٌ زلاله، وفازوا بالمقامات العالية في العقليات والمهارات الحجاجية كما كانوا كذلك في العمل بالنقليات الشرعية وحفظها، فكانوا يُعملون أفئدتهم في فهم وتعقُّل ما بلغهم من الوحي، ويستنبطون منها الحِكم والأحكام التي تنظِّم شئونهم، ويحاجُّون من خالفهم بالحجج والبراهين اليقينية القرآنية، ويشهرون عن مهاراتهم العقلية في المناورات والمناظرات.

هكذا كان السلف، لم يكونوا حشوية كما يعتقد بعض الناس، يحفظون ما لا يفقهون، ويهذون بما لا يعقلون، أو يحشدون النصوص حالهم حال حاطب الليل، بل كان التفقُّه والعمل بالوحي منهجًا لهم، واستعمال الأدلة البرهانية والمهارات العقلية ديدنهم وهجِّيراهم، وما استعمالهم لقلب الأدلة إلا جزءًا من ذلك، ودونك بعض القصص والمناورات التي استعملوا فيها هذه المهارة:

– استنكر رجلان على ابن عمر -رضي الله عنهما- تركه القتال مع من قاتل لدرء الفتنة في زمن ابن الزبير -رضي الله عنهما- مع أن غيره خرج لدرئها كما يزعم، وأنه بمكانته العلمية وجاهه الرفيع أولى وأحرى وأجدر بالقيام بذلك، فذكر له ابن عمر -رضي الله عنهما- أن حرمة الدم المسلم الذي حرَّمه الله ورسوله هو ما منعه من ذلك.

فاحتجَّا عليه بأن الله أمر بالقتال لدرء الفتنة وليكون الدين لله كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]، حينئذ بيَّن له ابن عمر -رضي الله عنهما- أن هذه الآية تؤيِّد موقفه الذي اتخذه وأنه قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان القتال مع الكفار وكانت نتيجته درء الفتنة بعكس ما عليه الحال في هذا القتال في عهد ابن الزبير رضي الله عنهم أجمعين، ونصُّ ردِّه: «قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله»،.

ووجه القلب هنا: أن الرجل استدل بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] بأن وجوب درء الفتنة يوجب على ابن عمر رضي الله عنهما المشاركة في القتال في فتنتهم تلك، فقلب عليه ابن عمر الدليل وبيَّن له أن تركه القتال هو ما يدرأُ الفتنة في ذلك الزمان([9]).

– كان عمر -رضي الله عنه- في طريقه إلى الشأم، وبينما هو كذلك بلغه أن الطاعون قد وقع في مقصد سفره الشأم، وكان من طريقة عمر -رضي الله عنه- استشارة الأكابر والخبراء قبل التصرُّف والحكم، فاستشار المهاجرين فوجدهم مختلفين بين من يرجِّح أن يستمر في طريقه ولا يرجع عن شيء خرج لأجله وذلك هو المتسق مع الإيمان بالقدر، وبين من يرجِّح الحفاظ على البقية الباقية من الصحابة ممَّن معه وأن لا يغامر بهم ويدخل تلك المدينة الموبوءة.

ثم استشار الأنصار -رضي الله عنهم- فاختلفوا أيضًا، ثم استشار مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فاتفقوا على الرجوع.

فأخذ عمر -رضي الله عنه- برأيهم ونادى في الناس: “إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه”.

وهنا اعترض أبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- على هذا القرار، واستدل بأن الإيمان بالقضاء والقدر يوجب عليه ألَّا يرجع عن تلك البلدة؛ لأن ما حصل فيها إنما حصل بقدر الله، والمؤمن يجب عليه الرضا بقضاء الله وقدره.

عندها قلب عليه عمر –رضي الله عنهما- هذا الاستدلال، وبيَّن أن كمال الإيمان بالقدر هو ما يوجب  عليه الأخذ بالأسباب.

وبيَّن له ذلك فقال: “نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله…”([10]).

ووجه القلب هنا: أن أبا عبيدة -رضي الله عنه- جعل الإيمان بالقدر مستلزمًا للاستمرار في السَّير، فقلب عليه عمر -رضي الله عنه- استدلاله وبيَّن أن كمال الإيمان بالقدر هو ما يوجب الأخذ بالأسباب والرجوع.

ولنقترب بعدسة البحث من زمن الأئمة الأربعة، ولعلَّنا نقمِّش من بينها مهارة الإمام أحمد بن حنبل (241) -رحمه الله- لا لشيءٍ إلا لشهرته بالرد على الزنادقة والجهمية ومحاجَّتهم واستخدامه هذه المهارة العقلية، ومن ذلك:

ذكر أن الجهميَّة يتشبَّثون بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ويقولون بنفي صفات الله تعالى؛ إذ هم “يقولون: ليس كمثله شيء من الأشياء، وهو تحت الأرضين السبع، كما هو على العرش، ولا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، ولم يتكلم، ولا يتكلم، ولا ينظر إليه أحد في الدنيا، ولا في الآخرة، ولا يوصف ولا يعرف بصفة…”([11]).

فقال الإمام أحمد -رحمه الله وهو يتحدث عن مناظرته لهم-: ” وقلنا: هو شيء.

فقالوا: هو شيء لا كالأشياء.

فقلنا: إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل، أنه لا شيء.

فعند ذلك، تبين للناس أنهم لا يؤمنون بشيء، ولكن يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون من العلانية.

فإذا قيل لهم: فمن تعبدون؟

قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق.

فقلنا: هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة.

قالوا: نعم.

فقلنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تؤمنون بشيء، إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرونه”([12]).

فانظر كيف قلب الإمام -رحمه الله- عليهم دليلهم، وبيَّن أن الآية تدلُّ على إثبات الصفات لله تعالى كما تدلُّ على إثبات الذات؛ لأن ذاتًا بلا صفات ليس بشيء في الواقع.

ووجه القلب هنا: أن الجهمية استدلوا بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] على نفي صفات الله تعالى، فقلبَ عليهم الإمام أحمد -رحمه الله- دليلهم وبيَّن أن هذه الآية ذاتها تستلزم إثبات الصفات؛ لأن الشيء الذي لا صفة له ليس بشيء.

وهناك قلبٌ آخر في هذا الموضع من المناقشة للإمام أحمد -رحمه الله- وذلك أن الجهمية قالوا بنفي الصفات؛ لأن ذلك من لوازم تعظيم الله تعالى وتنزيهه؛ ولذا قالوا: “ليس كمثله شيء من الأشياء، وهو تحت الأرضين السبع، كما هو على العرش، ولا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، ولم يتكلم، ولا يتكلم، ولا ينظر إليه أحد في الدنيا، ولا في الآخرة، ولا يوصف ولا يعرف بصفة…”([13]).

فقلب عليهم الإمام ذلك وبيَّن أن من لوازم نفي الصفات الكفر والإلحاد بعكس ما قصدوا من تعظيم الله، فقال: “فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيمًا لله، ولا يشعر أنهم إنما يعود قولهم إلى فرية في الله، ولا يعلم أنهم إنما يعود قولهم إلى ضلالة وكفر”([14]).

ووجه القلب هنا: أن الجهمية جعلوا نفي الصفات من لوازم تعظيم الله تعالى، فبيَّن الإمام أحمد -رحمه الله- أن إثبات الصفات من لوازم تعظيم الله تعالى، وأن من لوازم نفي الصفات نفي الذات والكفر والإلحاد.

ومن استعمالات هذه المهارة من الإمام أحمد –رحمه الله- ما بيَّنه من أن الجهمية تنفي صفة الكلام عن الله سبحانه وتعالى تارة، وتارة تُثبته ولكنها تزعم أن كلامه مخلوق – تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا -.

ويزعمون أن علة قولهم بذلك هو: الخوف من التشبيه بالمخلوقين.

فردَّ عليهم الإمام أحمد -رحمه الله- أن قولهم بنفي صفة الكلام عن الله تعالى هو تشبيهٌ له سبحانه بالأصنام والجمادات التي لا تنطق، فقال -رحمه الله-: “قد أعظمتم على الله الفرية، حين زعمتم أنه لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله؛ لأن الأصنام لا تتكلم، ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان”([15]).

وحينئذٍ أُفحموا وتلعثموا، ولكنهم تركوا تلك الدَّعوى وادَّعوا أنه يتَّصف بالكلام سبحانه، ولكن قالوا: إن كلامه مخلوق.

وردَّ عليهم الإمام أحمد -رحمه الله- ذلك أيضًا فقال: ” قلنا: وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق، فشبهتم الله بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق، ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خَلق لهم كلامًا، فجمعتم بين كفر وتشبيه، فتعالى الله عن هذه الصفة علوًّا كبيرًا”([16]).

ووجه القلب هنا: أن الجهمية جعلوا إثبات صفة الكلام مستلزمًا لتشبيه الله تعالى بخلقه، فبيَّن الإمام أحمد -رحمه الله- أن نفي صفة الكلام مستلزم لتشبيه الله تعالى بالأصنام والجمادات، وأن القول بأن كلامه سبحانه مخلوق مستلزم لتشبيه الله تعالى بالبشر والمخلوقات.

وهذا القلب ذاته الذي استعمله الإمام أحمد كان حاضرًا في نقاشات العلماء من بعده، ومن أولئك:

الإمام البخاري محمد بن إسماعيل -رحمه الله- (256) صاحب أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، فقد بيَّن أن الجهمية نفاة الصفات فرارًا من التشبيه أولى باسم (المشبِّهة) من مثبتة الصفات؛ يقول الإمام البخاري -رحمه الله-: إن الجهمية هم المشبهة؛ لأنهم شبهوا ربهم بالصنم والأصم والأبكم الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ولا يخلق”([17]).

ومنهم: الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد الدارمي -رحمه الله- (280) عند ردِّه على المريسي الجهمي، ومن ذلك:

ادَّعى المريسي أن الله تعالى يسمع الأصوات ويبصر الألوان بلا سمع ولا بصر، وأن الله منزَّهٌ عن الاتصاف بصفتي السمع والبصر؛ لأن إثباتهما يستلزم تشبيه الله تعالى بخلقه، وبذلك يسمِّي أهل السنة المثبتة للصفات مشبِّهة.

فبيَّن الإمام الدارمي -رحمه الله- أن نفي صفتي السمع والبصر هو ما يستلزم التشبيه، وأن من ينفي الصفات أولى بهذه الصفة ممن يثبتها؛ قال رحمه الله: “فيقال لهذا المريسي الضال: الحمار والكلب أحسن حالا من إله على هذه الصفة؛ لأن الحمار يسمع الأصوات بسمع، ويرى الألوان بعين، وإلهك بزعمك: أعمى أصم، لا يسمع بسمع، ولا يبصر ببصر. ولكن يدرك الصوت كما يدرك الحيطان والجبال التي ليس لها أسماع، ويرى الألوان بالمشاهدة ولا يبصر في دعواك.

فقد جمعت أيها المريسي في دعواك هذه جهلا وكفرا، أم الكفر فتشبيهك الله تعالى بالأعمى الذي لا يبصر ولا يرى… وكيف استجزت أن تسمي أهل السنة وأهل المعرفة بصفات الله المقدسة: مشبهة، إذ وصفوا الله بما وصف به نفسه في كتابه بالأشياء التي أسماؤها موجودة في صفات بني آدم تكييف، وأنت قد شبهت إلهك في يديه وسمعه وبصره بأعمى وأقطع، وتوهمت في معبودك ما توهمت في الأعمى والأقطع فمعبودك مجدع منقوص، أعمى لا بصر له، وأبكم لا كلام له، وأصم لا سمع له، وأجذم لا يدان له، ومقعد لا حراك به، وليس هذا بصفة إله المصلين؟ فأنت أوحش مذهبًا في تشبيهك إلهك بهؤلاء العميان والمقطوعين، أم هؤلاء الذين سميتهم مشبهة أن وصفوه بما وصف به نفسه بلا تشبيه؟”([18]).

ووجه القلب هنا: أن المريسي جعل إثبات صفتي السمع والبصر مستلزمًا لتشبيه الله تعالى بخلقه، وسمَّى مثبتة الصفات مشبِّهة، فقلب عليه الإمام الدارمي -رحمه الله- ذلك وبيَّن أن نفي صفتي السمع والبصر مستلزم لتشبيه الله تعالى بالأعمى والأصم، وأن نفاة الصفات أولى بمسمَّى (المشبِّهة).

ومنهم الإمام ابن خزيمة أبو بكر محمد بن إسحاق النيسابوري (311) فقد احتج على نفاة الصفات المعطِّلة بهذا الدليل، وسوف يأتي ذكره([19]).

والإمام الدارمي –رحمه الله- يعدُّ أحد أبرز حذَّاق هذه المهارة كما في المثال السابق، ومن استعمالاته لها أيضًا:

ادعى المريسي أن معنى قوله تعالى: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] أنه ولَّى بعض خلقه بذلك، وأن ذكر اليد جاء لتأكيد الخلق.

فردَّ عليه الإمام الدارمي -رحمه الله- بأن معنى الآية إثبات صفة اليدين لله تعالى، وأن ذكر اليد لتأكيد الخلق.

يقول الدارمي -رحمه الله-: “وأما قولك: (تأكيد للخلق) فلعمري إنه لتأكيد جهلت معناه فقلبته، إنما هو تأكيد اليدين وتحقيقها وتفسيرهما، حتى يعلم العباد أنها تأكيد مسيس  بيد، لما أن الله قد خلق خلقا كثيرا في السموات والأرض أكبر من آدم وأصغر. وخلق الأنبياء والرسل. وكيف لم يؤكد في خلق شيء منها ما أكد في آدم إذ كان أمر المخلوقين في معنى يدي الله كمعنى آدم عند المريسي… فأكد الله لآدم الفضيلة التي كرمه وشرفه بها، وآثره على جميع عباده إذ كل عباده، خلقهم بغير مسيس بيد، وخلق آدم بمسيس، فهذه عليك لا لك وقد أخذنا فالك من فيك محتجين بها عليك كالشاة التي تحمل حتفها بأظلافها”([20]).

ووجه القلب هنا: أن المريسي تأوَّل صفة اليد وزعم أن التأكيد تأكيد للخلق لا لليد، وبذلك لا تدل الآية على إثبات صفة اليد لله تعالى، فقلب عليه الإمام الدارمي -رحمه الله- الآية وبيَّن أن التأكيد تأكيد لليد، وأنه هو المتَّسق مع تخصيص آدم عليه السلام

ومن استعمالاته أيضًا:

أن المريسي اتخذ تأويل النصوص منهجًا أو المغالطة والتضليل كما يعبِّر الإمام الدارمي؛ التماسًا للراحة من مضامين النصوص ومعانيها وأحكامها.

فبيَّن الإمام الدارمي –رحمه الله- أن تبنِّي منهج التأويل لن يزيده إلا تعبًا وخنقًا؛ لأنه لا يستطيع دفع تلك المعاني الثابتة بالنص، والمؤكَّدة باللسان العربي المبين، وبتداول المؤمنين لها من الزمن الأول.

يقول الإمام الدارمي -رحمه الله وهو يناقش المريسي-: “غير أنه وردت عليك آثار لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بخلقك، ونقضت عليك مذهبك فالتمست الراحة منها بهذه المغاليط والأضاليل، التي لا يعرفها أحد من أهل العلم والبصر بالعربية، وأنت منها في شغل، كلما غالطت بشيء أخذ بحلقك شيء فخنقك حتى تلتمس له أغلوطة أخرى، ولئن جزعت من هذه الآثار فدفعتها بالمغاليط مالك راحة فيما يصدقها من كتاب الله عز وجل الذي لا تقدر على دفعه، وكيف تقدر على دفع هذه الآثار وقد صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألفاظها بلسان عربي مبين، ناقضة لمذاهبك وتفاسيرك، وقد تداولتها أيدي المؤمنين وتناسخوها، يؤديها الأول إلى الآخر والشاهد إلى الغائب إلى أن تقوم الساعة، ليقرعوا بها رؤوس الجهمية ويهشموا بها أنوفهم، وينبذ تأويلك في حش أبيك، ويكسر في حلقك… فإن كنت تدفع هذه الآثار بجهلك، فما تصنع في القرآن، وكيف تحتال له؟ وهو من أوله إلى آخره، ناقض لمذهبك، ومكذب لدعواك حتى بلغني عنك من غير رواية المعارض أنك قلت: ما شيء أنقض لدعوانا من القرآن غير أنه لا سبيل لدفعه إلا مكابرة بالتأويل”([21]).

ووجه القلب هنا: أن المريسي تبنَّى منهج التأويل مع النصوص طلبًا للراحة، فبيَّن له الإمام الدارمي -رحمه الله- أن من تبنَّى منهج التأويل لا راحة له.

ومن الأئمة الذين برعوا في هذه المهارة ووظَّفوها في نقاشاتهم الإمام عبد العزيز الكناني -رحمه الله- صاحب الحيدة في نقاشاته مع بشر المريسي التي أقيمت بحضرة المأمون، ومن ذلك:

– في أول المناظرة طالب الإمام الكناني بشرًا المريسي بأقوى حجة عنده على القول بخلق القرآن؛ فقال: “يا بشر ما حجتك أن القرآن مخلوق، وانظر إلى أحدِّ سهم من كنانتك فارمني به، ولا تحتاج إلى معاودتي بغيره”.

فقال بشر: “تقول القرآن شيء أم غير شيء؟ فإن قلت: إنه شيء، أقررت أنه مخلوق؛ إذ كانت الأشياء مخلوقة بنص التنزيل، وإن قلت: إنه ليس بشيء، فقد كفرت؛ لأنك تزعم أنه حجة الله على خلقه، وأن حجة الله ليس بشيء”([22]).

فالمريسي هنا يستدل على كون القرآن مخلوقًا بأنه شيءٌ من الأشياء، وأن كل شيءٍ فهو مخلوق؛ لأن الله تعالى يقول: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62].

فقلب عليه الإمام الكناني دليله، وبيَّن أن كون كلام الله شيئًا لا يقتضي أنه مخلوق، وأن المقصود بالآية: كل شيء مخلوق ليس بخالق، فلا يدخل فيها ذات الله تعالى ولا أسماءه الحسنى ولا صفاته العلى؛ فقال: “إن الله عز وجل أجرى على كلامه ما أجراه على نفسه؛ إذ كان كلامه من صفاته، فلم يتسمَّ بالشيء ولم يجعل الشيء اسمًا من أسمائه، ولكنه دل على نفسه أنه شيء وأكبر الأشياء إثباتًا للوجود ونفيًا للعدم، وتكذيبًا منه للزنادقة، والدهرية ومَن تقدَّمهم ممن جحد معرفته وأنكر ربوبيته من سائر الأمم؛ فقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19]،  فدل على نفسه أنه شيء ليس كالأشياء، وأنزل في ذلك خبرًا خاصًّا مفردًا لعلمه السابق أن جهمًا وبشرا ومن قال بقولهما سيلحدون في أسمائه ويشبهون على خلقه، ويدخلونه وكلامه في الأسماء المخلوقة، قال عزَّ وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فأخرج نفسه وكلامه وصفاته من الأشياء المخلوقة بهذا الخبر تكذيبًا لمن ألحد في كتابه، وافترى عليه، وشبهه بخلقه، قال عزوجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ثم عدد أسماءه في كتابه ولم يتسمَّ بالشيء ولم يجعله اسمًا من أسمائه… ثم ذكر جل ذكره كلامه كما ذكر نفسه ودل عليه بمثل ما دل على نفسه ليعلم الخلق أنه من ذاته وأنه صفة من صفاته، فقال الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ}  فذم الله اليهودي حين نفى أن تكون التوراة شيئا، وذلك أن رجلا من المسلمين ناظر رجلا من اليهود بالمدينة، فجعل المسلم يحتج على اليهودي من التوراة بما علم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وذكر نبوته فيها حتى أثبت نبوته صلى الله عليه وسلم من التوراة فضحك اليهودي، وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فأنزل الله عز وجل تكذيبه، وذم قوله، وأعظم فريته حين جحد أن يكون كلام الله شيئًا، ودل بذلك على أن كلامه شيء ليس كالأشياء، كما دل على نفسه أنه شيء ليس كالأشياء ثم قال في موضع آخر: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}  فدل بهذا الخبر أيضا على أن الوحي شيء بالمعنى، وذم من جحد أن كلام الله شيء، فلما أظهر الله عز وجل اسم كلامه لم يظهره باسم الشيء فيلحد الملحدون في ذلك ويدخلونه في جملة الأشياء المخلوقة، ولكنه أظهره عز وجل باسم الكتاب والنور والهدى ولم يقل قل من أنزل الشيء الذي جاء به موسى، فيجعل الشيء اسما لكلامه، وكذلك سمى كلامه بأسماء ظاهرة يعرف بها، فسمى كلامه نورا وهدى، وشفاء، ورحمة، وحقا، وقرآنا، وأشباه ذلك لعلمه السابق في جهم وبشر ومن يقول بقولهما إنهم سيلحدون في أسمائه وصفاته التي هي من ذاته وسيدخلونها في الأشياء المخلوقة”.

ووجه القلب هنا: أن المريسي استدلَّ بوصف القرآن بأنه شيء على أنه مخلوق؛ لأن كل شيءٍ فهو مخلوق بناءً على قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62].

فقلب عليه الإمام الكناني رحمه الله دليله وبيَّن أن وصف القرآن بأنه شيء لا يستلزم أن يكون مخلوقًا؛ لأنه لا يدخل في عموم الآية إلا المخلوقات، ولا يدخل فيها ذاته سبحانه وكذلك أسماؤه الحسنى وصفاته العلى.

– ومن المواقف أيضًا: بعد حيدة المريسي عن الجواب عن مسألة وإفحامه من قبل الكناني في أخرى طرح المريسي دليلًا على القول بخلق القرآن فرحًا ظانًّا أنه لا يُرد كغيره، فقال: “قد خطبت وتكلَّمت وهذيت وتركتك حتى تفرغ مما ادعيت (من إبطال خلق القرآن) بنص التنزيل، ومعنا من كتاب الله آية لا يتهيأ لك معارضتها ولا دفعها، ولا التشبيه فيها، ولا الخطب عليها، كما فعلت في غيرها، وإنما أخرتها ليكون انقضاء المجلس عليها وسفك دمك بها”([23]).

واستدل بقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] على أن القرآن مخلوق، وزعم أن جعل لا تأتي إلا بمعنى (خلق) في القرآن وفي اللغة عامة.

فأقرَّه الإمام الكناني أوَّلًا بأن من أشرك بالله عز وجل أحدًا في صفة الخلق فهو كافر حلال الدم بأمثلة كثيرة أطال فيها، ثم أورد عليه مثل هذه الآيات التي تؤيد الشرك لو كان كما يقول بشر:

{وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل: 91]، وقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224]، وقوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57]، {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} [إبراهيم: 30].

فهذه الآية الأخيرة مثلًا لو كانت (جعل) فيها بمعنى (خلق) للزم منه القول بأن الإنسان خلق أندادًا لله تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، وهو ما أقرَّ بشرٌ بكفر قائله قبل أن يعرض عليه هذا.

فبيَّن الإمام عبد العزيز الكناني أن جعل هنا بمعنى (صيَّر) وأنها تدل على إثبات صفة الكلام لله تعالى، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق([24]).

ووجه القلب هنا: أن المريسي استدل بقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] على أن القرآن مخلوق، وزعم أن جعل لا تأتي إلا بمعنى (خلق) في القرآن وفي اللغة عامة.

فقلب عليه الإمام الكناني رحمه الله دليله وبيَّن أن (جعل) هنا بمعنى (صيَّر)، وأن الآية دالة على أن القرآن كلام الله منزَّلٌ غير مخلوق.

ومن حذَّاق هذه المهارة أيضًا من علماء السَّلف الإمام عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (276)، فقد وظَّف هذه المهارة في كتاباته ومناقشاته، ومن ذلك:

– ذكر -رحمه الله- أن نفاة القدر يرون أن الله تعالى لم يشأ إيمان المؤمن، ويجعلون قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس: 100] بمعنى: بعلم الله، فأبطل الإمام ابن قتيبة -رحمه الله- قولهم ذلك، وبيَّن أن في نفس الآية ما يقلب دعواهم عليهم؛ فقال: “وفي صدر هذا الكلام [يعني: الآية الكريمة] دليلٌ على ما قال أهل الإثبات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب إيمان قريش فأنزل الله عليه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، ثم قال على إثر ذلك: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس: 100] يريد: بمشيئته وإطلاقه.

فأول الكلام دليل على آخره، والناس مجمعون لا يختلفون على أن القائل إذا قال: لو شئت لأتيتك. أنه لم يشأ إتيانه، ولو شئت لحججت. أنه لم يشأ الحج، ولو شئت لتزوجت. أنه لم يشأ الزواج، فكذلك يلزم في: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} [يونس: 99] أنه لم يشأ ذلك، ومثله: {أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31]، و: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]”.

ووجه القلب هنا: أن نفاة القدر ادَّعوا أن قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس: 100] بمعنى: بعلم الله، فقلب عليهم الإمام ابن قتيبة ذلك بالآية ذاتها.

– ومنها: أن نفاة الصفات نفوا صفة اليد عن الله تعالى، وجعلوا اليد في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] بمعنى: النعمة.

فأبطل الإمام قولهم وبيَّن أن نفس الآية التي استدلوا بها دالة على نقيض ما ادَّعوه، فإنه وإن كانت اليد تأتي في لغة العرب بمعنى النعمة، إلا أنها في هذه الآية وصفت بأنها {مَغْلُولَةٌ}، والنعم لا تُغل، وكذلك ما بعده من الآية؛ يقول الإمام ابن قتيبة -رحمه الله-: “ولكنه لا يجوز أن يكون أراد في هذا الموضع النعمة؛ لأنه قال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] والنعم لا تغل، وقال: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64] معارضة بمثل ما قالوا، ولا يجوز أن يكون أراد: غُلَّت نِعمهم، ثم قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] ولا يجوز أن يريد: نعمتاه مبسوطتان”([25]).

ووجه القلب هنا: أن نفاة اليد ادَّعوا أن اليد في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] بمعنى: النعمة، فقلب عليهم الإمام ابن قتيبة ذلك بالآية ذاتها.

ومن أولئك الإمام ابن خزيمة أبو بكر محمد بن إسحاق (311) صاحب كتاب التوحيد، فقد أعمل هذه القضية في محاوراته ومناظراته، ومن ذلك:

– قلبه دعوى الجهمية أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه، ببيان أن نفي الصفات هو المستلزم لتشبيه الله تعالى بالأموات وما لا يليق بالمولى سبحانه وتعالى؛ يقول -رحمه الله-: “وزعمت الجهمية -عليهم لعائن الله- أن أهل السنة ومتبعي الآثار، القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، المثبتين لله عز وجل من صفاته ما وصف الله به نفسه في محكم تنزيله المثبت بين الدفتين وعلى لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم بنقل العدل عن العدل موصولا إليه = مشبهة؛ جهلًا منهم بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وقلة معرفتهم بلغة العرب، الذين بلغتهم خوطبنا… فزعمت لجهلها بالعلم أن معنى قوله: وجه الله: كقول العرب: وجه الكلام، ووجه الثوب، ووجه الدار، ووجه الثوب، وزعمت أن الوجوه من صفات المخلوقين وهذه فضيحة في الدعوى، ووقوع في أقبح ما زعموا أنهم يهربون منه، فيقال لهم: أفليس كلام بني آدم، والثياب والدور مخلوقة؟، فمن زعم منكم أن معنى قوله: {وجه الله} [البقرة: 115] كقول العرب: وجه الكلام، ووجه الكلام، ووجه الثوب، ووجه الدار، أليس قد شبه -على أصلكم- وجه الله بوجه الموتان؟ لزعمكم -يا جهلة- أن من قال من أهل السنة والآثار، القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم: لله وجه وعينان، ونفس، وأنه يبصر ويرى ويسمع: أنه مشبه عندكم خالقه بالمخلوقين، حاشا لله أن يكون أحد من أهل السنة والأثر شبه خالقه بأحد من المخلوقين فإذا كان على ما زعمتم بجهلكم، فأنتم شبهتم معبودكم بالموتان!! نحن نثبت لخالقنا جل وعلا صفاته التي وصف الله عز وجل بها نفسه في محكم تنزيله، أو على لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم مما ثبت بنقل العدل عن العدل موصولا إليه ونقول كلامًا مفهومًا موزونًا، يفهمه كل عاقل…” إلى أن قال: “فقال جلَّ وعلَا لكليمه موسى ولأخيه هارون صلوات الله عليهما: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، وما لا يسمع ولا يبصر: كالأصنام، التي هي من الموتان ألم تسمع مخاطبة خليل الله صلوات الله عليه أباه: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]؟ أفلا يعقل -يا ذوي الحجا- من فهم عن الله تبارك وتعالى هذا: أن خليل الله صلوات الله عليه وسلامه لا يُوبِّخ أباه على عبادة ما لا يسمع ولا يبصر، ثم يدعو إلى عبادة من لا يسمع ولا يبصر، ولو قال الخليل صلوات الله عليه لأبيه: أدعوك إلى ربي الذي لا يسمع ولا يبصر، لأشبه أن يقول: فما الفرق بين معبودك ومعبودي؟ والله قد أثبت لنفسه أنه يسمع ويرى، والمعطلة من الجهمية تنكر كل صفة لله جل وعلا وصف بها نفسه في محكم تنزيله، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لجهلهم بالعلم، وقال عز وجل: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 43، 44]، فأعلَمَ الله عز وجل أن من لا يسمع ولا يعقل كالأنعام، بل هم أضل سبيلا، فمعبود الجهمية -عليهم لعائن الله- كالأنعام التي لا تسمع ولا تبصر والله قد ثبت لنفسه: أنه يسمع ويرى”([26]).

– ومنها: زعمت الجهمية أن المقصود بالجلال والإكرام الذات لا الوجه في قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]، بدعوى أنه من باب قول العرب: وجه الكلام، فأبطل هذا القول بأن هذا النعت يعود على الوجه ولذا كان مرفوعًا؛ يقول -رحمه الله-: “قد بين الله عز وجل في محكم تنزيله الذي هو مثبت بين الدفتين أن له وجهًا، وصفه بالجلال والإكرام والبقاء، فقال جل وعلا: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] ونفى ربنا جل وعلا عن وجهه الهلاك في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88].

وزعم بعض جهلة الجهمية أن الله عز وجل إنما وصف في هذه الآية نفسه، التي أضاف إليها الجلال، بقوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 78]، وزعمت أن الرب هو: ذو الجلال والإكرام، لا الوجه.

قال أبو بكر [يقصد نفسه رحمه الله]: أقول وبالله توفيقي: هذه دعوى، يدعيها جاهلٌ بلغة العرب؛ لأن الله عز وجل قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]، فذكر الوجه مضمومًا في هذا الموضع، مرفوعًا، وذكر الربَّ بخفض الباء بإضافة الوجه، ولو كان قوله: {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] مردودًا إلى ذكر الرب في هذا الموضوع لكانت القراءة: ذي الجلال والإكرام مخفوضًا، كما كان الباء مخفوضًا في ذكر الرب جل وعلا، ألم تسمع قوله تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 78]، فلما كان الجلال والإكرام في هذه الآية صفة للرب، خفض ذي، خفض الباء الذي ذكر في قوله: {رَبِّكَ} [الرحمن: 78]، ولما كان الوجه في تلك الآية مرفوعة، التي كانت صفة الوجه مرفوعة، فقال: {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]، فتفهَّموا يا ذوي الحجا هذا البيان الذي هو مفهوم في خطاب العرب، ولا تغالطوا فتتركوا سواء السبيل”([27]).

ووجه القلب هنا: أن الجهمية زعموا أن الجلال والإكرام في قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] يرجع إلى ذات الله لا إلى الوجه؛ إمعانًا في نفي صفة الوجه، فقلب عليهم الإمام هذا القول وبيَّن أنه لا يصح إلا عودها على الوجه؛ لأن (ذو) مرفوعة.

الخاتمة:

ها نحن نحطُّ الرحال بعد رحلة طويلة تنقَّلنا فيها بين القرون المفضَّلة ورأينا كم كانوا أهل حجة وبرهان، وأرباب عقليَّات ويقينيات، ولم يكونوا مجرَّد حفَّاظ يهذون بما لا يفقهون، أو حشوية لا يدرون ما يقولون كما يدَّعي من يدَّعي، وكما قال العلماء: “جميع أهل الضلال إذا احتجوا بشيء من كتاب الله وكلام أنبيائه كان في نفس ما احتجوا به ما يدل على فساد قولهم”([28]).

وصلَّى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) لتميم القاضي رسالة ماجستير بعنوان قلب الأدلة على الطوائف المخالفة– مطبوعة في ثلاثة مجلدات، استفدنا منها في هذا البحث.

([2]) ينظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 519)، البحر المحيط في أصول الفقه (7/ 362)، وهو من أوضح التعاريف، وهو الذي ذكره تميم القاضي في رسالته قلب الأدلة، ولا نطيل الحديث في الخلاف في تعريفه ومحترازته، وإنما قصدنا إبراز القضية في مقالة وجيزة دون إسهاب.

([3]) سيرة ابن هشام (1/ 267).

([4]) كما قال تعالى ذكره: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [سورة المائدة: 32]؛ ينظر: جامع البيان، ت شاكر (5/ 432).

([5]) جامع البيان، ت شاكر (5/ 437).

([6]) كسر إبراهيم عليه السلام أصنامهم وحطَّمها، فتداعوا عليه حتى أقرُّوا بأنها لا تملك القدرة للدفاع عن نفسها، فاحتجَّ عليهم إبراهيم عليه السلام وقال: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66، 67].

([7]) جامع البيان، ت شاكر (11/ 491).

([8]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ط الرسالة (36/ 545) برقم (22211)، والطبراني في المعجم الكبير (8/ 162-183)، وقد صحَّح العلماء إسناده وذكروا أن: “رجاله رجال الصحيح”، كالعراقي في المغني عن حمل الأسفار (ص:812) برقم (3)، والهيثمي في مجمع الزوائد ط حسين أسد (2/ 279)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 712) برقم (370).

([9]) أخرجه البخاري (4513).

([10]) أخرجه البخاري (5729).

([11]) الرد على الجهمية والزنادقة، ت: دغش العجمي (ص: 207).

([12]) الرد على الجهمية والزنادقة، ت: دغش العجمي (ص: 208 وما بعدها).

([13]) الرد على الجهمية والزنادقة، ت: دغش العجمي (ص: 207).

([14]) الرد على الجهمية والزنادقة، ت: دغش العجمي (ص: 212).

([15]) الرد على الجهمية والزنادقة، ت: دغش العجمي (ص: 274).

([16]) الرد على الجهمية والزنادقة، ت: دغش العجمي (ص: 276).

([17]) خلق أفعال العباد للبخاري (ص: 43).

([18]) نقض الإمام الدارمي على المريسي (1/ 300 وما بعدها).

([19]) سبب تأخير ذكر استعمالات الإمام ابن خزيمة أنني حاولت ترتيب العلماء قدر الإمكان حسب وفياتهم.

([20]) نقض الإمام الدارمي على المريسي (1/ 232).

([21]) نقض الإمام الدارمي على المريسي (1/ 391).

([22]) الحيدة والاعتذار في الرد على من قال بخلق القرآن (ص: 33).

([23]) الحيدة والاعتذار في الرد على من قال بخلق القرآن (ص: 59).

([24]) ينظر: الحيدة والاعتذار في الرد على من قال بخلق القرآن (ص: 62).

([25]) الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية لابن قتيبة (ص: 40).

([26]) التوحيد لابن خزيمة (1/ 53 وما بعدها).

([27]) التوحيد لابن خزيمة (1/ 52).

([28]) الجواب الصحيح لابن تيمية (4/43).

للتحميل كملف PDF يرجى الضغط هنا

(المصدر: مركز سلف للبحوث والدراسات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى