تقارير وإضاءات

الباحثون السوريون وأقوى أدلة التطور .. هل هي قوية حقا؟

إعداد محمد أمين خلال

كنت أتصفَّح بين ثنايا الصَّفحات العربية التي تعمل على ترجمة العلم ونقل الأبحاث بحلَّة معرَّبة إلى الشَّباب، وهذه ظاهرة صحِّية في الحقيقة، إلاَّ أنَّني أصبت بخيبة أملٍ مريرة، كالتي قد يتعرَّض لها أيُّ شخصٍ توجَّه إلى السوق فعُرِضت عليه بضاعة العلم، فإذا بهم يبيعون له السُّمَّ في الدَّسم، ويشحنون عقله بإيديولوجيا معيَّنة يقومون بتمريرها بين أسطر المقالات والمواضيع التي ينشرونها.

على إثر هذا، قامت صفحة تسمي نفسها “الباحثون السُّوريون“، بنشر منشور تقول أنها تعرِض فيه ثلاثة أدلة تدعم صحَّة نظرية التَّطور (رابط المقال) ونُشر مثل هذا على صفحة “أنا أصدق العلم” وصفحة “الباحثون المغاربة“، فكنتُ أعتقد أننا أخيراً سنقرأ أدلَّة رصينة وقويَّةً تُنهي هذه الحرب الضَّروس بين أدعياء التَّطور وأعدائه، وأننا لن نجد أنفسنا أمام أدلة مغصوبةٍ ومزيَّفةٍ كالتي ألِفناهَا من دعاة التطور الذين وثِقنا بهم، لكن، وجرياً على العادة القديمة، ألْفَيْنا أنفسَنا أمام سيلٍ عرمرم من المغالطات المُكرَّرة والأدلة المزوَّرة التي تعفَّنت وبان عوارُها وزُورها، وأمام ربطٍ فلسفي-عقلي بين دلالاتٍ مستقلَّةٍ وبين إديولوجيا التَّطور، فقرَّرتُ اختصار هذا الرَّدّ السَّريع على هذه الأدلة التي يزعمون أنها دعامات علمية ومناقشتها بهدوء في هذا المقال.

قبل الشُّروع في الرّد، يجِب أن نتَّفق أوَّلاً أن ذيوع نظريَّة التَّطور وشيوعها ليس دليلاً على صِحَّتها، والاحتكام لهذا الذُّيوع احتكامٌ للجمهور وهو باطِلٌ بالمنطق، كما أن الحقَّ يُعرف بالدَّليل لا بكثرة المُستدلِّين، ولَكَم أجمعتِ البشريَّة على نظريَّات ودرَّستها في جميع جامعاتها العالمية، فتبيَّن في الأخير أنَّها مجرَّدُ وهم وخيال، كنظرية الفلوجستون، ونظرية الكون الأزلي التي تربَّعت على عرش العلم لألف سنة قبل أن تنسفها الكشوفات الحديثة كالدِّيناميكا الحرارية، ونظرية التوسُّع والتَّباعد المجرَّاتي، والإشعاع الحراري وغيرها، وقل مثل ذلك بخصوص فكرة مركزية الأرض في الكون التي ظلَّ معمولاً بها لقرون طويلة، والحقُّ أن سبب صمود نظرية التَّطور لحدود السَّاعة ليس قُوَّتها، بل لأنها البديل الوحيد لنظرية الخالِق التي لا تتوافق مع مصالح اللُّوبي الذي يتحكم في المؤسسات والمجلات العلمية، وهو الذي جَعل النَّظرية في منأىً عن إمكانية الدَّحض العلمي Falsifiability العملي، إذ كلَّما عرَض عارض يقضي بانقضاء هذه الأكذوبة، إلا وتمَّ تطويعه باستمرار ليتوافق معها، فهم ببساطة يضعون النَّتيجة في مقدِّمة ما يريدون الوصول إليه، ثم بعد ذلك يبحثون لها عن الأدلة ويقومون بليِّ أعناقها لتُعانق النظرية رغماً عن عُنقها، إذ هي ولو طارت عنزة.

عرض أدلَّتهم ونقدها

التَّشابهات المورفولوجية

يسعون في هذا الدَّليل إلى إقحام التَّشابهات على مستوى المورفولوجيا وربطها بالتوزُّع الجغرافي، داخل دائرة التَّطور، بحيث أنَّ هذا التَّشابه الهائل بين الكائنات الحيّة يستحيل إلا أن يكون نتيجة سِلفٍ مُشترك، وهذا كلامٌ إنشائي غاية في التضعضع والاهتراء، والرَّد عليه يكون من وجوه:

أوَّلاً: مُرجِّحُ دلالة التَّشابهات المورفولوجية على وحدانية المُصمِّم الواحد أرجح من دلالته على وحدانية السِّلف الواحد، كما لو عثرنا على قِنِّينتَيْ كوكا كولا متشابهتين، واحدة صغيرة وأخرى كبيرة، فهذا دليلٌ على وحدانية المُصنِّع، لا على أنَّهما خرجتا من نفس القالَب التَّصنيعي (السِّلف المشترك)، وكذلك التَّشابهات بين الكائنات الحية، سواء فيزيولوجيا-جينوميا، مورفولوجياًًّّ، دليل على أنَّ صانعها واحد، بِخلاف لو كانت الفروق بين الكائنات شاسعة، كأن يحتوي بعضها على شريط حمض وراثي (DNA)، وبعضها على وحدات تركيبية من صنفٍ آخر غير الذي نعرِفه، فهذا كان ليدُلَّ على اختلافِ صانِعها، كما يدُلُّ الاختلاف في نظام تشغيل هواتف سامسونغ (أندرويد) وآبل (IOS) على اختلاف مصنِّعهما، وما يُحاجَج به لدفع هذه الحُجَّة عن وحدة الخالق فهو لحجَّة وحدة السِّلف أدفع.

ثانياً: التَّشابه المورفولوجي هو في الحقيقة دليلٌ ضدَّ التَّطور وليس في صالحه، إذ حسبَ دراسات التَّطور المُتقارب convergent evolution، نجد بعض الحيوانات التي تتشابه بينَها حدَّ التَّطابق، ومع ذلك لا يربط بينها أيُّ سلف مشترك في درجة قريبة على المستوى التَّطوري، فالذِّئب الرَّمادي المشيمي مثلاً، والذِّئب الأسترالي الجرابي، لا يستطيع غيرُ المتخصِّص التَّمييز بينهما لشِدَّة تطابقهما المورفولوجي، ولكن الذِّئب الجُرابي أقرب للكنغر والسِّنجاب الأسترالي، منه للذِّئب الرَّمادي، والأخير أقرب للفيل والأرنب منه للذئب الجرابي، كما يتباعد السِّنجاب المشيمي عن صديقه الجرابي، ويتقاربُ الأول مع الإنسان والثاني مع الكوالا [1]، بل أحيانا نجد بعض التَّشابهات بين كائنات أو بين بعض أعضائها في الشَّكل وحتى في الوظيفة، كالتَّشابه بين أذناب الخنافس والعقارب، فإلى جانب التَّشابه الشَّكلي بينها، فهي تؤدِّي نفس المهمة في كلا الكائنين، من حيث الاستشعار وحقن السُّموم في الضَّحايا أو الفرائس [2]، فلا اعتبارَ لهذا التَّشابه على مستوى التَّطور أصلاً، هيكليّاً كان أم وراثيا، نظراً لما أحدثته الكشوفات في سلسلته الفيلوجينية من صدعٍ يستحيل رأبُه، كما أنَّ المُعاينة الظَّاهرة وحدها كفيلة بقلب القُفَّة على رأس هذه الحجة الباهتة، إذ لا يلزم من تشابُه الفرس وفرس النَّهر وحدة سِلفهما ولا لازمَ للقول بهذا، كما أنَّ المثال الذي قاموا بِضربه على التَّشابه العائلي ليس مُطَّرِداً ولا يجري دليله على المدلول بصفة تلازمية، والدَّليل الذي لا يلزم منه الاطراد لا يلزم منه وقوع الاستدلال، وعدمُ جريانه يَثبتُ من حيث وجداننا لتوائمَ -وليس إخوة فقط- مختلفين لا شبه بينهما [3]، وعلى النَّقيض تمَاماً، فوجه الشَّبه بين نيلسون مانديلاَّ ومورغان فريمان وكوفي عنان، ليس دليلاً على أنهم من نفس العائلة [4]، وهم ليسوا كذلك، فلا نعرف كيف يستدِلُّون بهذه المستملحات على قضية يصِفونها بالحقيقة العلمية، فهل تشابه السَّحاب والآيس كريم دليلٌ على أن لهما سلفاً مشترَكاً!؟

ثالثاً: الوُقوع في مغالطة “المُصادرة على المَطلوب”، وذَلك حين قاموا بالاستدلال على التَّوزع الجغرافي لبعض الكائنات الحية المشتركة الصِّفات، في مناطق معيَّنة على صِحَّة التَّطور، وهي نتيجة يجب الوصول إليها بعد تقديم مقدِّمة مفادها أن الكائنات الحيَّة إذا نجحنا في تفسير توزُّعها الجغرافي وفق الانتخاب الطبيعي النَّاقل للنَّوع، فسوف يُثبت لنا هذا صِحَّة التَّطور، لكنَّهم قلبوا الآية ووضعوا النَّتيجة التي يريدون الوُصول إليها في مقدِّمة إثبات نفس النَّتيجة، وهذا باطل باتِّفاق العُقلاء، ومثاله كما لو طلبَ منا شخصٌ تصديقه، فقلنا له وما دليلك؟ فقال: لأنَّني أقول الحقيقة.. !!

رابعاً: وقوعهم في مغالطة الاستدلال الدَّائري، فجعلوا التَّطور دليلاً يُفسِّر التوزع الجغرافي للكائنات المتشابهة، والكائنات المتشابهة دليلاً يُفسِّر التَّطور، فأصبحت X صحيحة من خِلال Y، و Y صحيحة من خلال X..!!

خامساً: المِثال الذي قاموا باعتماده من حيث التَّسلسلات الهرمية الشَّبهية وتوزُّعها الجغرافي ليس قاعِدةً ثابتة، حيث أنَّنا قد نجد في بعض الغابات والسُّهول مختلف الأنواع الحيوانية، المشيميَّات Subclass Eutheria Placental mammals، والجرابيَّات Subclass Metatheria marsupials، وكذلك الثديَّات وحيدة المسلك Subclass Prototheria، كالزَّرافة من الصِّنف المشيمي، والسِّنجاب الجرابي، والقنفذ من ذوات المسلك الوحيد [5]، وهي ليست متشابهةً من حيث بنائها الهيكلي، وتجمع بينها نفس الجغرافيا، فإذا كان التَّشابه في المورفولوجيا حسب التوزُّع الجغرافي، يثبت السِّلفوية، فالاختلاف ينفيها، وما يلزم من إثباته إثبات التَّطوُّر، يلزم من نفيِهِ نفيُهُ.

سادِساً: نَقضُ كلامهم بعضه لبعض، حَيثُ قالوا أنَّه: “كلَّما كان السِّلف المشترك لنوعين موغِلًا في القِدم، كلَّما تباعدت الأنواع واختلفت المورثات وتلاشت التشابهات، فالأنواع ذات التشابهات الكثيرة تميل للعيش بعضها قرب بعض”، فإذا كان ذلك كذلك، فهذا دليل على أنَّ الأنواع الجُرابية التي قالوا أنَّها: “توجد تقريباً حصريّّاًً في أستراليا”، لا علاقة بينَها وبين المشيميات التي تعيش في أمريكا الشَّمالية، وبالتَّالي فحسب كلامِهم نفسه: فالذِّئب الأمريكي والأسترالي مشتركان في نفس السِّلف لأنهما متشابهان مورفولوجيا، وفي نفس الوقت لا علاقة بينهما لأنهما متباعدان جغرافيا ولا يعيشان قُرب بعضهما.

سابعاً: قالوا: “إذا كان التطور غيرَ صحيحٍ فهذا التوزيع الجغرافي سيكون غيرَ منطقيّ أبداً، وفوق كل هذا فالتشابهات ستبدو اعتباطية تماماً مما يتناقض مع توزعها المتقن”، حيث قاموا هنا بعد الاعتراف بالتَّوزُّع المتقن والحكمة في وجودِ كلِّ شيء في مكانه مرتَّباً ومتناسقاً، بنَسبِه إلى الطَّفرات العمياء والانتخابات العشوائية والسِّلف المزعوم، ولم يقوموا بنسبه إلى خالقٍ حكيم ومدبِّرٍ عظيم، وكلُّ حجَّة تُخرج الخالق خارج هذا التَّفسير، فهي أشدُّ خروجاً لغيره منه في قضية العشوائية والأسلاف الموهومة، سيما وأن ما انبنت عليه هذه الدعوى طرحٌ عقلي-فلسفي، لا تَجربةَ مراجَعة الأقران Peer Review.

التَّعاقبات الكثيرة للأنواع وتعاقُبها عَبر الزَّمن

هُنا يَجِبُ أن نُحدِّد مفهوماً أساسيّاً ننطلق منه حتَّى لا تُمارس رياضة الجمباز في خلط المصطلحات والمفاهيم، إنَّ نظرِيَّة التَّطوُّر أساساً مبنية على انتقال نوعٍ إلى آخر، وهذا يتوقَّف بالأساس على تركيبة الحمض النَّووي والتَّغييرات التي تلحقه، إما بنشوء نوعٍ جديد من الكائنات الحية عن طريق التَّغيرات (الصدفوية) في تركيب الحمض النَّووي الخاص بأبَوَيْ نوعٍ أول موجود سابقاً، أو في حمض النَّوع نفسه، أو بتزاوج نوعين مختلفين وإنتاجهما لنوعٍ آخر يختلف شريطه الوراثي عن شريط والديه، وهذا كُلُّه رهين بنشوء جينٍ واحدٍ على الأقل نافعٍ وظيفيّاً، وإن كان الأمر في إثبات النَّظرية أصعب، وذلك لعوزه لتعاقب ملايين الجينات التي نشأت بنفس عددها وبتعقيد وظيفي هائل -عشوائي- من أول خلية وحتى جميع الأنواع الحالية، على أساس أن يختلف كل جينٍ جديد عن القديم، وموافقته له في حمل الصِّفات الوظيفية، وهذا هو الأصل الذي عليه المعول، أما المستحاثات التي يُعثر عليها، فهي لا تعني سوى شيءٍ واحدٍ، أن هناكَ نوعاً من الأنواع، بادَ أو انقرض فخلَّف تلك الأحفورة خلفه، وحتَّى تُصبح تلك الأحفورة دليلاً على الانتقال النَّوعي، يجب العثور على أقَلِّ تقدير، على سلسلة واحدةٍ تملأ الفراغ بين نوعٍ واحد من بين ملايين الأنواع وبين سِلفه المزعوم والتدليل عليه بالقطع لا بالمُحتمل، وهذا مع كامل الأسف، ومعَ هذه الأعداد المهولة من الأنواع الحية والتي لو تحولت حقّاً لخلفت وراءها أضعافها من المستحاثات، والتي لم نعثر عليها ولم نجدها، سوى بعض السِّيناريوهات البوليودية المُلَفَّقة والمُختلَقة فيما يخص السِّجل الخاصَّ بتطور الحيتان، ناهيك عن تزوير الأحافير وتدليسها، والعبث بأعمار المُستحاثات [6]، والذي يجعل من الصَّعب الحكم على أية أحفورة بالنَّزاهة أو العكس.

والرَّد على ما جاء في هذا الدَّليل من وجوه:

أولا: اختلاف المستحاثات التي نعثر عليها للأنواع الحالية لا يلزم منه التَّطور، بل قد يلزم منه أنَّ تلك الأنواع انقرضت، أو أنَّ بعضها خضع لتكيُّفٍ (ميكروتطور)، وهذا ليس كفيلاً بإخراج النَّوع عن نوعه، أو أنَّ بعضها لا يزال كما هو ولم يتغيَّر.

ثانياً: التَّشابهات بين المستحاثات على مستوى تعاقبها الزَّمني، ليس دليلاً على وحدة سلفها أو تدرُّجها عبر الأجيُل من الطَّفيف إلى المُعقَّد، أو من التعبير البسيط إلى المُركَّب، فالتَّشابه قد يكون له مدلولٌ عكسي تماماً، وهذا قد أوردنا الرَّدَّ عليه في المحور الأول.

ثالثاً: عثرنا على عدد كبير من المستحاثات التي لم تتغيَّر أبداً طيلة أمدٍ بعيد من السِّنين، وأشهرها سمكة الكويلاكانت التي تعود لعصر الدَّيناصورات، فقد عثرنا عليها مَؤَخَّراً، دون تغيُّرٍ أو انتقال نوعي [7]، وتم العثور على عدَّة مستحاثات تتجاوز 150 مليون سنة، لا فرق بينها وبين ما نُشاهده اليوم من نفس المخلوقات التي تحفَّرت [8].

رابعاً: خلطهم للمفاهيم وقلبهم للمصطلحات، وهذا واضح من خِلال استدلالهم بالقرنبيط والبروكولي والملفوف (والباذنجان والليمون)، والعجيب أنهم يقولون أننا نُشاهد هذا التَّطور في المختبر، إذ يبدو أن البعض لا يفرق بين التَّطور والتَّكيُّف والتَّهجين، ومع ذلك يسمون أنفسهم “باحثون”.

الصِّفات الأثرية من الماضي

ينتفض هذا الدَّليل الثَّالِثُ لديهم، لحشر أنف التَّطور مُجدَّداً في زوبعة الأعضاء الأثرية Vastigial Organs، وبدلَ أن يَقوموا بتقديم طرح متكامل ينتهض لتحقيق تلك النَّظرية اليتيمة، زعموا زعماً، أنَّ تلك الأعضاء ما هي إلا نتاجُ تغير وظيفي Repurposed trait، وهنا نطلب منهم أمام الجميع، أن يقدِّموا لنا دليلاً علميا مخبريّاً واحداً، على هذا التَّغير الوظيفي، فإذا لم يوجد ولن يوجد لا في تجربة لينسكي ولا عصافير داروين ولا غيرها، فكفُّوا عن دسِّ المصطلحات الميتافيزيقية لمتابعيكم، وخلخلة عقولهم بأيديولجيا مبنية على طروح عقلية لا تدليل عليها، والاعتراض على طرحهم المتقهقر يُمكن صياغته باختصار:

أولاً: عدم العلم ليس علماً بالعدم، فعدم معرفتنا لعمل تلك الصِّفات (الضَّامرة) ليس دليلاً على عدم عملها، إذ انعدام الدَّليل المعين لا يستلزم انعدام المدلول المُعيَّن ما لم يكن مُلازما له، فقبل مُدَّة وبعد منتصف القرن التاسع بعد العشرة، لم نكن نعرف عمل الغدد الصَّماء، فقمنا بتصنيفها على أنها أعضاء ضامرة لا عمل لها، وهذا كان قبل اكتشافنا للهرمونات، فهل الغدد بلا عمل فعلاً لأنها كذلك، أم لأننا لم نكن قد اكتشفنا عملها بعد؟

ثانياً: من العيبِ كيف أن أشخاصا يصفون أنفسهم بالباحثين مازالوا يعتقدون أنَّ كثيراً من تلك الأعضاء ضامِرٌ فعلاً، فمثلاً يربطون بين وجود الشَّعر عندنا وعند بعض الحيوانات كالقرود، أنه باقٍ من بقايا التَّطور، ويقفزون على هذا الحكم رغم أنَّ الشَّعر وظيفي في الإنسان، إذ يعمل عمل المستشعر باعترافهم (لازال الشعر الدقيق على أجسادنا ينتصب كما ينتصب شعر القِطَّةِ عند الخوف)، ويحمي البشرة من بعض الأشعة الضَّارة، ويعمل كحسَّاسٍ عندما تلامسه الكائنات الصغيرة كالبعوض والذباب، ونفس الأمر نقوله بخصوص أجنحة الطُّيور والحوض الذي قالوا أنه يدعم المشي وآثار الأقدام في الحيتان، وقد نقلب الحجَّة عليهم فنقول: إذا كانت هذه الأعضاء دون فائدة كما تزعمون، فلماذا يبقي عليها الانتخاب الطبيعي؟
والسَّبَبُ حسب زعمهم في ظهور هذه الأقدام، أنه وفي زمن سحيق قرَّرت البرمائيات أن تتطوَّر من أسماك إلى زواحف فثديَّات نمت لها أقدام، وفي يوم من الأيام قررت هذه الثديات العودة إلى البحر والتخلِّي عن أقدامها مجدَّداً، وهو سبب ضمور تلك الأقدام، لا شكَّ أننا سمعنا مثل هذه الأمور في قصص ما قبل نوم الأطفال كثيراً، ولكن “باحثين” يرفضون الخرافات يعتقدون أن هذا ما حصل فعلاً، إذ هوَ السَّبب الذي يجعل ما يعتقدون أنه (أقدام) في الحيتان كذلك، وهو غير ذلك، فتلك الأعضاء في الحيتان ليست أثرية كما يزعمون، بل إنَّها تؤدي وظيفة فعَّالة، أثناء تزاوج الحيتان [9]، كما أنَّ بناء هذا السِّيناريو الهوليودي، قائمٌ على تخمين حدسي لا دليلٍ علمي، إذ لا علاقة بين شبه تلك الأعضاء في الحيتان للأقدام بما ارتسموه حولها من رواية داروينية، فالشَّبه ليس دليلاً علميا لا على التَّطور ولا على السِّلف المشترك، وقد ضربنا لهذا أمثلة موثقة في الرَّدِّ الأول، فوجود أعضاءٍ في الإنسان شبيهة بأعضاء أخرى، كاليَد مثلاً عنده وعند الكوالا، ليس دليلاً إطلاقاً إلا على الشَّبه وانتهى، دون مدلولٍ علمي ثابت ومُلازِمٍ لهذا الشَّبه، فهل التَّشابه بين الملح والسُّكر دليل على وحدة سلفهما؟ أو انحدار أحدهما من الآخر؟ .. كلاَّ.

هذا المقال موجه لعقول شباب الأمة، والتي تسعى بعضُ الصَّفحات المدفوعة لأدلجة فكرهم باسم العلوم والكشوف المخبرية، وذلك بإطعامهم السُّم في الرَّحيق، وكلُّ متابع لصفحاتهم على بصيرةٍ بالكمِّ الهائل الذي تنشره تلك الصَّفحات من ترويجٍ للشذوذ الجنسي والإباحية والخُلع، والانحلال والثقافة الذَّاعرة والسُّكر والعهر والتطوُّر عبر التَّطفر، والنظريَّات الإلحادية-اللائكية-المادِّية العمياء باسم العلْموة، ولكنَّ الشمس لا تحجب بالغربال، وضوء النَّهار لا ينطمِسُ بكتابة كلمة “ظلامٍ” على الجِدار.

المصادر

ملاحظة: استعمالنا لهذه المصادر للدَّلالة على ما دَلَّلنا بها عليه، لا للمصادقة على ما لم نستعملها لأجله.

[1] : انظر هنا، هنا، وهنا.
[2] : انظر هنا، وهنا.
[3] : انظر هنا، وهنا.
[4] : انظر هنا، وهنا.
[5] : انظر هنا.
[6] : انظر هنا، هنا، وهنا.
[7] : انظر هنا، وهنا.
[8] : انظر هنا، هنا، وهنا.
[9] : انظر هنا، وهنا.

(المصدر: مركز يقين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى