كتاباتكتابات مختارة

“الاحتلال” العثماني: مسلمون مفترون ونصرانية منصفة

بقلم منذر الأسعد

كنا أطفالاً لا نعرف إلا ما نتلقاه في المدرسة.. أشبعونا بشتم ” الاحتلال العثماني” حتى حسبناه حقيقةً لا شك فيها. ثم استيقظنا من الخرافة لنعلم أن العثمانيين – بما لهم وما عليهم- نجحوا في حمايتنا من الغزو الصليبي الجديد 400 عام.. وأن فلسطين لم تسقط تحت براثن المحتل البريطاني إلا بعد تفكيك الدولة العثمانية، ليقول المجرم الإنكليزي الجنرال اللنبي سنة 1917م وهو يقتحم فلسطين: الآن انتهت الحروب الصليبية.. وليدخل المجرم الآخر –الفرنسي- غورو دمشق ويقف عند قبر صلاح الدين الأيوبي ليقول له في شماتة: ها قد عدنا يا صلاح الدين (رداً على قول صلاح الدين لأسلاف غورو عندما طردهم من المشرق: اذهبوا إلى غير رجعة) !!

كراهية الإسلام نفسه
فوجئت منذ مدة بحملة منظمة في مواقع التواصل الاجتماعي، تتابع ما انقطع من تزوير الكتب المدرسية “القومجية” التي سقطت أقنعتها بفضل الله ثم بفضل الكتب التاريخية الموضوعية..

كنت أظن –وبعض الظن إثم- أن القوم أذكى من التورط في كذب بواح كهذا، في زمن الثورة المعلوماتية والتواصل السهل بين الناس بمن فيهم أهل الذكر ..

قبل أن أعرض ما يطرحه القوم اليوم من أباطيل، ينبغي لي التنبيه إلى فرق وحيد بين الذين خدعونا في مناهج التعليم المحشوة بالدجل، وبين كذابي اليوم.. فالسابقون في أكثريتهم هم من أبناء الأقليات غير المسلمة، الحاقدين على الإسلام، والذين جحدوا تسامح العثمانيين المفرط مع أجدادهم. ولذلك كان هؤلاء يُخْفُون حقدهم الدفين تحت أقنعة القومية المزعومة والعلمانية الزائفة.

أما دجاجلة الوقت الحاضر، فأغلبهم مهرطقون جهاراً نهاراً، وإن كانوا أصلاً ينحدرون من عائلات مسلمة !!
ثقافة البغضاء – إذاً- واحدة لكنها تختلف في الشكل لا أكثر.

وما يُحْزن حقاً أن يدخل في حفل الكذب كاتب ذو اطلاع واسع، وليس من الفئة المهرطقة.. ففي حديثه عن اختراع المطبعة قال :
ورغم أن الإنجيل كان أول كتاب يطبعه جوتنبرج وقف الفاتيكان في وجه المطبعة واعتبرها اختراعاً شيطانياً ينشر المعرفة بين الرعاع.. حذر منها الملوك والأمراء ووجـه بمطاردة وإعدام ملاكها وأجبرهم على العمل سـراً.. وفي حين تراجع الفاتيكان عن عدائه للمطبعة ظلت محرمة في بلاد العرب طوال ثلاثمائة عام (تحت ظل الدولة العثمانية) بحجة أنها وسيلة غربية لنشر الكفر والرذيلة بين المسلمين.. وخلال هذه الفترة أضاءت مصابيح المعرفة في أوربا في حين ظل العرب أميين غافلين عن دور المطبعة في نشر المعرفة – حتى غزا نابليون مصر عام 1798 حاملاً معه أول مطبعة عربية لنشر دعاياته العسكرية..

الكذب المزدوج
وجريمته –كما لاحظتم- مزدوجة فقد افترى على العثمانيين، ثم نَسَبَ “الفضل” لواحد من أكبر المجرمين الدمويين في التاريخ: نابليون بونابرت ..  ولو أنه اعترف بأن غاية هذا الغازي الصليبي من اصطحابه مطبعة عربية، خدمة مشروعه الخبيث وقد أراد التهوين منه فادعى أنه ” دعايات عسكرية”!!
وتأتي الحقائق لتنسف تلك التخرصات، بدءاً من لمحة عن تاريخ الطباعة، منشورة بموقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف .. حيث تبين أن عام 1486م كان بداية الطباعة بالحروف العربية، وقد طُبِع في عام 1505م في مدينة غرناطة كتابان بالعربية هما: وسائل تعلُّم قراءة اللغة العربية ومعرفتها، ومعجم عربي بحروف قشتالية، بتوجيه من الملكين الكاثوليكيين المتعصبين: فرديناند وزوجته إيزابيلا !!

ثم يضيف الموقع الرصين: تاريخ دخول المطابع الحديثة إلى تركيا مضطرب، لم تتفق المصادر على تحديد بدايته؛ حيث ورد أن بداية معرفة الأتراك للمطابع الحديثة كان مع دخول المهاجرين اليهود إلى الأراضي العثمانية، عندما حملوا معهم مطبعة تطبع الكتب بعدة لغات هي: العبرية، واليونانية، واللاتينية، والإسبانية، فطُبعت التوراة مع تفسيرها في عام 1494م، وطبع كتابٌ في قواعد اللغة العبرية عام 1495م، وطبعت كتب أخرى بعدة لغات في عهد السلطان بايزيد الثــاني (886-918هـ‍ /1481-1512م) بلغت تسعة عشر كتابًا   .

ويؤكد بعضُ الباحثين أن الآستانة عاصمة الأتراك العثمانيين هي أول بلد شرقي يعرف المطابع الحديثة، ويرجع ذلك إلى عام 1551م، في عهد السلطان سليمان الأول القانوني (926-974هـ/ 1520-1566م)، وكانت ترجمة التوراة إلى اللغة العربية، والتي قام بها سعيد الفيومي هي أول كتاب يطبع في تركيا في ذلك العام، وقد طبعت بحروف عبرية   .

ويذكر موريس ميخائيل أن أول مطبعة تطبع بحروف عربية في اسطنبول هي التي أسسها إبراهيم الهنغاري عام 1727م (1139هـ)، وسمح له بطباعة الكتب عدا القرآن الكريم، ويبدو أن أول كتاب يظهر في هذه المطبعة هو كتاب ((قاموس وان لي )) في مجلدين، بين عامي 1729-1730م، وهو ترجمة تركية لقاموس (( الصحاح  )) للجوهري، ويقترب معه إلى حد كبير الدكتور سهيل صابان في تحديد تاريخ أول مطبعة بالحروف العربية تظهر في تركيا لصاحبيها سعيد حلبي، وإبراهيم متفرقة، وذلك عام 1139هـ‍ (1726م)   .

وفي رأي آخر أن كتب الحكمة والتاريخ والطب والفلك طبعت مع بداية عام 1716م، عندما صدرت فتوى من شيخ الإسلام عبد الله أفندي بجواز طبعها!!
ثم يختم الموقع ما يخص تاريخ الطباعة في تركيا بقوله:

ولعل هذا الاضطراب في تحديد بداية تاريخ دخول المطابع إلى تركيا لا يحجب بعض الأمور الواضحة حول معرفة الأتراك العثمانيين للمطابع الحديثة، وهي:

1-    أن تركيا العثمانية أول البلاد الشرقية معرفة للمطابع.
2-    تأخر الطباعة بالحروف العربية عنها بالحروف الأخرى.
3-    تردد الأتراك في طباعة كتبهم، حتى صدور فتوى بجواز ذلك.
4-    أن العلماء الأتراك حرَّموا طباعة المصحف الشريف؛ خوفًا عليه من التحريف.
5-    أن الإذن بطباعة الكتب بالحروف العربية جاء متدرجًا، ففي البداية سُمح بطباعة الكتب في مجال الطب والفلك والحكمة والتاريخ، ثم أُذن بطباعة الكتب الأخرى.

أين السفاح نابليون؟
أمام هذه الوقائع الساطعة، كيف يستجيز كاتب مسلم أن يسهم في تضليل الناشئة، فيكذب مرتين: مرة باتهام العثمانيين بما هم برآء منه ومرة باختلاق فضل للسفاح نابليون لا وجود له إلا في خيالات عبيد الغرب؟

وما يضاعف من جريمة ذاك الكاتب وأشباهه، أن تُنْصف العثمانيين مؤرخةٌ غير مسلمة، وتعمل أستاذة في جامعة غربية!!

إنها الباحثة نيللي حنا التي تتصدى بالحجة المعززة بالوثائق، لمواجهة الكثير من المقولات الاستعمارية، من خلال عملها البحثي الطويل كأستاذة للتاريخ العثماني بالجامعة الأمريكية في القاهرة، ومن خلال كتبها ومنها: “ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية” و”تجارة القاهرة في العصر العثماني”،حيث دحضت المقولات ذات الطابع الاستشراقي من  أن العصر العثماني كان عصر ركود اقتصادي وفكري إلى أن جاء الاستعمار الفرنسي وتلاه محمد علي بمحاولاته “الإصلاحية”.

(المصدر: موقع المسلم)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى