كتاباتكتابات مختارة

الإمام محمد بن الحسن الشيباني الرائد الأول للقانون الدولي العام

الإمام محمد بن الحسن الشيباني الرائد الأول للقانون الدولي العام

تزاوج  الفقه مع الواقع في أذهان فقهاء الأمة الإسلامية الذين شهد لهم التراث الفقهي بذلك، فكان استخراج الأحكام الشرعية من الأدلة والمصادر يدور في ضوء مقاصد الشريعة، ولم يحدث مجافاة بين النص والواقع؛ وذلك لأن فهمهم للنصوص محكوم بالدليل وروحه، فكان فقههم يناسب الناس جميعا على اختلاف مشاربهم، وإن الناظر في فقه الأئمة الأعلام يجد أنهم أحاطوا بعلم الشريعة الإسلامية من جميع جوانبها، وكان لهم تميز ملموس في جانب التشريع الإسلامي، فكانت أحكامهم التي استنبطوها من النصوص الشرعية شاملة تغطي جميع جوانب الحياة، فهي تشمل:

الأحكام المتعلقة بالشعائر الدينية من صلاة وصيام وزكاة وتسمى في كثير من كتب الفقه بالعبادات والشعائر، والأحكام المتعلقة بالأسرة من نكاح وطلاق ونسب ونفقة وميراث ووصايا وتسمى أحكام الأسرة، والأحكام المتعلقة بأفعال الناس وتعاملهم في الأموال والحقوق وفصل المنازعات وتسمى المعاملات، والأحكام المتعلقة بسلطان الحاكم على الرعية , وبالحقوق والواجبات المتقابلة بينهما, وتسمى الأحكام السلطانية أو السياسة الشرعية0 وتسمى عند دارسي الحقوق : الحقوق الإدارية, والحقوق الدستورية، و الأحكام المتعلقة بعقاب المجرمين, وضبط النظام الداخلي بين الناس وتسمى ” العقوبات “، والأحكام التي تنظم علاقة الدولة بالدول المجاورة، في حالتي السلم والحرب، وتسمى في كتب الفقه بالسير0 ويطلق عليها حديثاً العلاقات الدولية، والأحكام المتعلقة بالحشمة والأخلاق والآداب والمحاسن والمساوئ وتسمى الآداب[1]0

وفي جانب تنظيم علاقة الدولة بالدول المجاورة، في حالتي السلم والحرب  نجد المسلمين -بالحقائق التاريخية -كانوا الرواد الأوائل في هذا الباب وعلى رأسهم الفقيه  الإمام محمد بن الحسن الشيباني الذي يعد الرائد الأول للقانون الدولي العام باعتراف الغرب  و أصحاب القانون أنفسهم.

وإذا كان الأوروبيون يعدون جروتيوس الهولندي مؤسس القانون الدولي فإن هذا خطأ علمي تاريخي؛ لأن الإمام محمد بن الحسن الشيباني وقد سبق جروتيوس بأكثر من ثمانمائة عام قد كتب في القانون الدولي الإسلامي في تفصيل وشمول لم يسبق به، ومن ثم يعد هذا الإمام مؤسسًا للقانون الدولي في العالم كله.

على أن هناك من الباحثين  من يرى أن جيروتيوس قرأ ما كتبه الشيباني في كتابه “السير الصغير” و “السير الكبير” ونقل منهما ما عزاه إلى نفسه. وليس فضل الشيباني في أنه أول من كتب في العلاقات الدولية فحسب وإنما يظهر فضله أيضًا في مجال الفكر القانوني، حيث إن  القانون الدولي المعاصر لم يأت بجديد بالنسبة لما كتبه الإمام محمد الشيباني، وقد تنبه إلى هذه الحقيقة العلمية والتاريخية فقهاء فرنسا، فأنشأوا في سنة 1932م، جمعية الشيباني للقانون الدولي، ثم حذا حذوهم فقهاء ألمانيا، فأسست في غوتنجن جمعية شيباني للقانون الدولي، وضمت هذه الجمعية علماء القانون الدولي والمشتغلين به في مختلف أنحاء العالم وانتخب رئيسًا لها الفقيه المصري، أحد أعلام القانون الدولي المعاصرين الأستاذ عبد الحميد بدوي (ت: 1965م) رحمه الله[2].

لقد نال الإمام الشيباني هذه المنزلة بين رواد القانون الدولي ؛لأنه فهم الشريعة الإسلامية فهما صحيحا، واستطاع أن يستخرج منها الأحكام التي تتناسب مع العصر،ولم يحصر الشريعة الإسلامية في نطاق الشعائر فقط، بل اهتم  بجانب  المعاملات  بالمفهوم الشامل وحدد علاقة الأفراد  مع بعضهم البعض وعلاقة الدول بعضها ببعض في حالة السلم والحرب حيث بين  أن معاملة  غير المسلمين  لها ضوابطها الشرعية والانسانية من خلال آيات القران  الكريم والسنة النبوية وقد ظهر ذلك جليا من خلال إبراز منهج الإسلام في  تعاملاته مع أصحاب العقائد المخالفة، وتعرض كذلك في كتابه السير الكبير  لأخلاق  الإسلام مع الدول المحاربة له وكيف تعامل الإسلام بطريقة إنسانية أخلاقية نابعة من فقه واع ورؤية إيمانية لا تفرق بين الإنسان  وغيره في الحقوق والواجبات، وبذلك استحق الإمام الشيباني  رسم صورة حقيقية للشريعة الإسلامية التي تتسم بميزات جعلتها شريعة صالحة لكل زمان ومكان،  شريعة تراعي في أحكامها الجانب الإنساني والأخلاقي، كما استطاع  الشيباني  تخليد اسمه في سجل عظماء القانونيين الدوليين، ولذا نطالب فقهاء المسلمين بأن يهتموا بالأمور المتعلقة بعلاقتنا بالآخرين في مباحثهم الفقهية ودراستهم الأكاديمية في رسائل الماجستير والدكتوراه، كما نطالبهم بإبراز دور الفقهاء المسلمين في المسيرة العلمية وأهم الجوانب التي تميز بها كل فقهية فهذه الأمور تنمي الملكة الفقهية، وتظهر لنا نماذج عملية نستضيئ بها في مسيرتنا العلمية ونثبت أيضا أننا لا نستطيع قطع الصلة بتراثنا بل لابد أن ننطلق منه لمستقبلنا دون جمود وتعصب، ويضاف لما سبق أن علماء التراث الإسلامي كان لهم فضل على البشرية كلها، ونستطيع أن ننطلق من هذا التراث -الذي يرفضه البعض ويريد محوه – إلى التجديد المنشود فقد وضعوا لنا الأسس والأصول التي نبني عليها ونشيد أمجادنا برؤية تراثية عصرية.


[1] الفقه الإسلامي  تطوره – أصوله – قواعده الكلية ص 31، ص 32 بتصرف يسير.

[2] مجلة مجمع الفقه الإسلامي 7/1723-1724.

(المصدر: مجلة البيان)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى