الإلحاد بين السّردية التبريرية والمسؤولية الفردية

الإلحاد بين السّردية التبريرية والمسؤولية الفردية

بقلم الشيخ محمد خير موسى

إنَّ الحديث عن قضيّة الإلحاد والدّخول في تفاصيلها ومحاولات سبر أغوارها والوقوف على ظروفها الموضوعيّة قد يوصل رسائل خاطئة للمتلقّي ملحدًا كان أم مؤمنًا، باحثًا أم قارئًا.

تفسيرٌ لا تبرير:

من أخطر الرّسائل التي قد يتلقّفها المتلقّي وهو يتابع الحديث عن قضيّة الإلحاد، وعوامل نشوئها وأسباب إذكائها وصور ترويجها: الشّعور بتبريرِ وجود الظّاهرة من حيثُ الأصل، ممّا يوصل إلى التبرير للملحدين جُنُوحَهم إلى هذه الطريق الشائكة.

وهنا لا بدّ من التأكيد على الفرق الشاسع بين المنطق التفسيري والمنطق التبريري عند الحديث عن الظواهر.

فالمنطق التفسيري يهدف إلى التّشخيص الدّقيق للظّاهرة أو الحالة، وتلمُّس مواطن المشكلة، وجذورها وأعراضها وثمارها، وذلك يمثّل الخطوة الأولى في طريق المعالجة.

فمن الإشكالات المنهجيّة في التّعامل مع قضيّة الإلحاد: الولوج إلى العلاج والمسارعةُ إلى مناقشة الحلول وتفنيد الشّبهات قبل الوقوف الدّقيق على حقيقة الظّاهرة من حيث أسبابها العميقة، وأنواعها المختلفة، وخصائص كلّ نوع، ودوافعه، وما يفترق به عن غيره من الأنواع.

وإنَّ التفسيرَ المنهجي والتشخيص الدقيق هو الذي يتيح للمشتغلين والعاملين في هذا المجال وضع الخطط النّاجعة، ورسم الاستراتيجيّات المثمرة، والسّير في مسارين معًا وهما: الوقاية والعلاج، وتقسيم العلاج إلى مسارين أيضًا هما: المسار بعيد المدى والمسار المرحلي العاجل.

ثمّ بعدَ ذلك وضع البرامج العمليّة المستندة إلى الخطاب الواعي المدرك لمن يخاطبهم وكيف يخاطبهم.

أمَّا الخطاب التبريريّ فهو حكمٌ على الفعل وعلى القائم به بالتّخلية من المسؤوليّة أو بالتّقليل منها على أبسط تقدير؛ عندها يغدو التبرير جزءًا من المشكلة لأنّه يمنع علاجها، ويعمّق جذورَها ويزيد رسوخها.

إنَّ التّفسير يمثّل مرتكزًا في العلاج؛ علاج الإلحاد بالوصول إلى خلفيّاته الحقيقيّة وجذوره الخفيّة، بينما يمثّلُ التبريرُ حالة هروبٍ من المشكلة بإنكارِها حقيقةً وإن تمّ الإقرارُ بها صورة.

سرديّات تبريريّة:

عند الحديث عن ظاهرة الإلحاد تبرز إلى السّطح على ألسنة مَنْ جنحوا إلى هذا السبيل ومن يرى فعلهم متقبّلًا سرديّات عديدة تقوم على التبرير والتّنصّل من المسؤوليّة بإبعادها وإلقائها على الاخرين غالبًا؛ ومن هذه السرديّات على سبيل المثال لا الحصر:

سرديّة الاستعلاء العقلي:

وتقوم هذه السرديّة على الإعلاء من الشّأن العقلي للملحد الذي لم يستسلم لقوالب الإيمان الجامدة والمتوارثة، وتمجيد جرأته في تحرير عقله وتشغيل تفكيره ليصل إلى الحقّ بناء على تفكيرٍ عقلاني لا تسليمٍ انقياديّ!!

ويحاول العديد من الشّخصيّات ذات الصّبغة الرّمزيّة في المجتمع من مفكرين وفنّانين ترسيخ هذا المعنى، وقد جسّد هذه السّرديّة -على سبيل المثال- الممثّل الكوميدي السّعودي ناصر القصبي عندما قال في مقابلة تلفزيونيّة كاسرًا حواجز الواقع الاجتماعي للمجتمع الذي يتحدّث من داخله، ومنتهكًا خصوصيّة شهر رمضان ليطلق سرديّته العجيبة قائلًا: “أنا أحترم الملحد، وهو أفضل منّي، وايمان الملحد أقوى من إيماني؛ فأنا قد ولدتُ مسلمًا واستسلمتُ للموضوع، أمَّا الملحد فيبحث عن الحقيقة التي لا أبحث أنا عنها”.

ثمَّ أطلق القصبي حكمًا آخر أعجب من هذا بكلّ ثقةٍ قائلًا: “الله يحبّ الملحد أكثر منّا جميعًا؛ لأنّه يبحث عن الحقيقة، لذلك فهو [أي الملحد] مميّز عن كل الأشخاص الباقين”.

ومن صور هذه السرديّة إلى جانب هذا المدح العقلي لسلوك الملحد، ما يجري من عقد مقارنات غير سويّة منهجيًّا ولا أخلاقيًّا للتأكيد على الاستعلاء العقلي للملحد على غيره.

ومن ذلك: عقد مقارنة بين عالم فيزياء ملحد أو فيلسوف كبيرٍ ملحد وغير ذلك من هذه النّماذج، والحديث عمّا قدّموا للبشريّة من علوم معارف وخدمات؛ ومقارنتها بإيمان راعي غنمٍ في الصّحراء أو يقين فلّاحٍ بسيطٍ، والحديث عن الفرق الهائل بين عقل هذا وسذاجة ذاك؛ للوصول إلى فكرة أنَّ العقل يعلو بالإلحاد بينما تنمو السّذاجة في ظلال الإيمان!!

إنَّ هذه السرديّة تفترضُ أنَّه يجب على المؤمنين جميعًا خوض غمار الشّكّ زرافاتٍ ووحدانًا، وإلَّا فإنَّه لا قيمة لكلِّ إيمانهم هذا الذي لا يساوي لحظة انقداح عقل الملحد!!

إنَّ الحديث بهذا المنطق الاستعلائيّ الواصف للملحدين بأنّهم أصحاب التّحرّر من قيود التّسليم السّاذج، وأنّهم أصحاب حسٍّ نقديٍّ عالٍ، ثمّ وصف المؤمنين الذين لم يدخلوا لجّةَ الشّكّ بأنّهم سطحيّون وسذّج؛ هو منطقٌ تحكّميّ يفتقر لأبسط قواعد التفكير العقلانيّ، وينطوي على معضلة تكفير الآخرين باسم التّفكير وباسم العقل.

سرديّة التّغطية على الفعل الذّاتي بسلوك الآخرين:

من السّرديّات التبريريّة الشّائعة؛ تبرير الإلحاد بسلوك الآخرين، ومن ذلك القول: بأنَّ “أخلاق المؤمنين هي السّبب في الإلحاد”، والقول: “انظر إلى المتديّنين كم هم سيئون في أخلاقهم وسلوكهم”.

وهذه السّرديّة تقوم على التّعميم الجاهل، ولو افترضنا جدلًا صحّة هذا الحكم، فالسّؤال الذي يجب أن يجيبَ عنه مطلقو هذه الافتراضات هو: “وماذا عن أخلاق الملحدين”؟

فإنّ كان سوء أخلاق المؤمنين دفعكم إلى الإلحاد؛ فهل إذا سردنا عليكم مشاهد من سوء أخلاق الملحدين ستتركون الإلحاد وتعودون إلى الإيمان؟!

ومن تبرير الإلحاد بسلوك الآخرين: القول بأنَّ ما يقوم به المتدينون من جرائم ذبحٍ وحرقٍ وتقطيع وسجن وتعذيب هو السبب في إلحادهم.

ورغم تأكيد عموم المسلمين على الدّوام بأنَّ الإسلام بريءٌ من كلّ هذا الدّنس الذي يُراد إلصاقه به؛ إلّا أنَّ السّؤال الذي يطرح نفسه: وماذا عن الملحدين الذين ارتكبوا مجازر تفوق مجازر هؤلاء بآلاف المرّات؟ ماذا عن ستالين وجرائم الإبادة التي ارتكبها مثلًا؟! هل سيدفعكم ذلك إلى التّخلّي عن الإلحاد والفرار منه إلى الإيمان؟!

إنّ هذه السرديّة لا تعدو كونها تبريرًا يقوم على اجتزاء المَشَاهد والحكم على جزء من الصورة وانتقائيّة الأحكام ثمّ تنزيلها على شرائح منتقاة بتجريمها وتبرئة شرائح أخرى اجترحت الأفعال ذاتها بدوافع رغائبيّة لا منطق يحكمها ولا منهجيّة تضبطها.

سرديّة العطف والإشفاق:

في الوقت الذي لا يفتأ الكثيرون من نهش المؤمن بسياط التّقريع واللّوم وتحميل المسؤوليّة؛ فإنّهم لا يكلّون من المسارعة في إظهار العطف المبالغ فيه للملحد، والحديثِ عنه بإشفاق بالغٍ بطريقةٍ تبريريّة لإلحاده وإظهاره على أنّه ليس أكثر من ضحيّةٍ لما يحيط به.

وهذه سرديّة تنطوي على انقلابٍ خطيرٍ حيث تفعل الشّفقة هنا نقيضَ ما ينبغي أن تفعله وتنتجه في السّلوك السليم.

نعم إنَّ الملحد يستحقّ العطف والشّفقة، وهو ضحيّةُ عوامل وأسباب عديدة، ولكنّ هذا لا يعني مطلقًا تبرير فعله، أو تخليتُه من المسؤوليّة عن اختياره.

بل إنَّ العطف والشّفقة تقتضي المسارعة لإيجاد العلاجات المناسبة والعاجلة، فلو أنّك رأيت مريضًا بيده سمٌّ يريدُ تجرّعه، فهل تكون الشّفقة بإعلان تحمّل المحيطين بهذا المريض المسؤوليّة عن سلوكه؟! أم يكون العطف الحقيقيّ ببيان خطورة السّم وتحذير المريض منه وتحميله مسؤوليّة تجرّعه والمسارعة في انتزاع السمّ من يده وعلاجه ممّا خالط بدنه من ذاك السّمّ الزّعاف؟!

ليسوا ساذجين:

إنَّ الكثير من السرديّات التبريريّة تلتقي في نقطة بالغة الخطورة وهي افتراض سذاجة الملحد بحيث أنّه لا يعي ما يقدِم عليه من قناعات وأفكارٍ يتبنّاها، ولا يدركُ مآلات طريقه الذي ارتضاه.

وهذا في حقيقته افتراضٌ يتنافى والحديث عن الاستعلاء العقلي للملحد ورهافة الحسّ النّقدي عنده من جهة، إضافة إلى أنّه يمثّل من جهةٍ أخرى إهانةً للملحد لا يقبلُها عاقلٌ على نفسه.

فالتبرير يوحي بأنَّ الملحدَ شخصٌ ساذجٌ لا يملك قرارًا ولا يستطيع اتّخاذ موقف، وأنّ الرياح التي تعصف من هنا وهناك تجعله يميل معها حيثُ مالت.

إنَّ الإنسان العاقل حرٌّ مختارٌ مسؤولٌ عن اختياره، والسّياق التبريريّ الذي يلقي المسؤوليّة باتّجاه الآخرين يتنافى مع حقيقة الحريّة والاختيار التي يستندُ إليها الملحدون أصلًا في الدّفاع الشّرس عن قرارهم بالإلحاد.

المسؤوليّة الفرديّة:

إنَّ الإلحادَ قرارٌ شخصيّ ذاتي يتّخذه الفرد باختياره، وهذا لا يعني مطلقًا إغفال عوامل إذكائه والتّرويج له والأسباب الدّاعية إليه.

فالإنسان على سبيل المثال يتعرّض في واقعه للاستهداف من الحملات الإعلانيّة الترويجيّة لكثير من البرامج والأنشطة، وكذلك السّلع والبضائع، ومع ذلك هو وحده من يقرّر شراء السّلع، ووحده من يقرّر ويختار النّشاط والبرنامج الذي ينخرط فيه.

وتعرّضه للاستهداف التّرويجي لا يلغي مسؤوليّته عن قراره، وكذلك عند دراسة أسباب إقدامه على الشّراء فإنَّ الإعلانات الترويجية تكون حاضرةً بوصفها سببًا عند تفسير السلوك.

وكذلك هو الإلحاد فلا بدّ من دراسة الأسباب والعوامل بُغية تفسير الظّاهرة والوقوف على خلفيّاتها للقدرة على علاجها والتّعامل معها، ولكنّ هذا لا يلغي على الإطلاق المسؤوليّة الفرديّة للملحد عن قراره الذي اتّخذه بملء إرادته وحريته واختياره.

(المصدر: موقع “على بصيرة”)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى