كتب وبحوث

الإلحاد الجديد: أسوأ مما تظن

الإلحاد الجديد: أسوأ مما تظن

  • تأليف : ديفيد هولشر – David Hoelscher
  • ترجمة : ذيب الأكلبي
  • تحرير : خلود بنت عبدالعزيز الحبيب

– – – – – – –

في منتصف الألفية، وفي السنوات التي تلت ظهور ما يسمى بالإلحاد الجديد، لم تكن الحركة تفتقر للنقاد في صفوف غير المؤمنين، واللاأدريين ولازالت، ومع ذلك هناك قلة منهم ألفوا كتبا في هذا السياق ومن أولئك الذين كتبوا يبدو أن أحدا لم يهتم بتسليط الضوء على الجوانب الثقافية، والاجتماعية، والسياسية للحركة، سوى كرس هيدجز في كتابه: ‘عندما يصبح الإلحاد دينًا: الأصوليون الجدد لأمريكا’، 2009م. وكان اسمه حين طبع لأول مرة: ‘أنا لا أؤمن بالإلحاد: الصعود الخطر للأصولية العلمانية’، 2008م. والآخر هو تيري إيجلتون في كتابه: ‘المنطق، الايمان والثورة: تأملات في جدلية الإله’ 2009م. وكما تُبين التواريخ، مضى وقت طويل قبل أن نرى مؤلفات جديدة في هذا السياق.

على حين غرة، ظهر كتابان جديدان يحققان نجاحًا باهرًا مؤخرًا. في سبتمبر صدر كتاب مهم لـ سي جي ويرلمان: تهديد الإلحاد الجديد: الصعود الخطر للعلمانيين المتشددين (280 صفحة)، وفي أكتوبر قامت جامعة أكسفورد بإصدار كتاب ستيفن ليدرو: تطور الإلحاد: السياسة في الحركات الحديثة (262صفحة).

على الرغم من الاختلاف الكبير في الأسلوب واللهجة، فإن هاتين الدراستين لديها تشابه من حيث الموضوع، ومن حيث وقوعها في خطأ كبير لم ينتبه له معظم القراء، وكلا الكتابين مهمان للغاية لمن يريد أن يفهم تمرد، وعصيان شريحة كبيرة من حركة الإلحاد.

سي جي ويرلمان ( CJ Werleman )

سي جي ويرلمان هو صحفي استرالي، ومحاور، وكاتب سياسي، ويعيش حاليًا في الولايات المتحدة، وهو كاتب لعدة كتب تدور حول مناهضة الأديان، وكان سابقًا متحدثًا مطلوبًا في كل المؤتمرات الإلحادية، وكان لفترة من الزمن شخصية مرموقة في أوساط الحركة الإلحادية. وعلى الرغم من ذلك، وبعد أن أدرك مؤخرًا أن هذه الموجة الإلحادية الجديدة قد تحولت إلى نوع من الأصولية الخطيرة، أصبح ناقدًا شديدًا لها. ويرلمان يعرّف الإلحاد الجديد بأنه “الإلحاد الإنجيلي”، أو كما أوضح في مكان آخر بأنه “الإنجيلية المعادية للدين”. إنه الإيمان العميق بأن الدين هو المصدر الرئيسي للمصائب في العالم، وكذلك هي عائق للكمال البشري، وليوتوبيا الحضارة الغربية، وأصرّ ويرلمان كما فعل هيدجز من قبل على أن الإلحاد الجديد ما هو إلا أصولية علمانية.

إنها تظهر التزامًا متعصباً بالعلم، مع نظرة طفولية شديدة التبسيط للدين، مع موقف متعصب تجاه الإسلام، وإيمان أعمى بما يتخذونه ليكون “الدولة الأمريكية العلمانية النافعة”.

يحتوي الكتاب على 11 فصلاً. في أول خمسة فصول، يروي ويرلمان القصة، في بعض الأحيان بنقد ذاتي مثير للإعجاب، من رحلته من اللامبالاة الدينية إلى الإلحاد الجديد إلى التعددية، ويقدم الكثير من المعلومات المفيدة حول العزلة، ومناهضة النزعة الفكرية، الميل نحو تفكير الجماعة، وعداء الأديان والتعصب الذي يميز مساحات كبيرة من ملامح الإلحاد الجديد. في الفصول المتبقية، يركز ويرلمان على هاجس الملحدين الجدد من الإسلام، والدوافع العنيفة للمتزمتين المسلمين، وكيف خدمت كتابات وخطب الملحدون الجدد الهالة الإعلامية لكل من الارهابين الإسلاميين، أو الحكومة الإسرائيلية أو مدراء الإمبراطورية الامريكية مع قلقهم المستمر على أمنهم الوطني.

وبطريقة مقنعة وضح ويرلمان أن الإسلام الذي يقلق الملحدين الجدد، وعلى وجه التحديد مشاهيرهم مثل ريتشارد دوكنز وسام هاريس والراحل كرستوفر هيتشينز، ما هو إلا صورة نمطية كرتونية صنعوها هم تختلف كليًا عن الحقيقة التي يقرها أغلب المسلمين، وهي أن الدوافع وراء الإرهاب هي دوافع اجتماعية سياسية واقتصادية، وليست دينية. ولأنهم لا يعبأون برخاء الفلسطينيين وليست لديهم القدرة على رؤية الفلسطيني خارج إسلامه، فإن الإلحاد الجديد هو مذهب علماني متعصب. والخطاب الإلحادي يقدم دعم علاقات عامة للإمبريالية الأمريكية، مما يسهم في إيجاد جو من الخوف والعدائية يقود لمزيد من التحرش والعنف تجاه المسلمين في أمريكا.

هناك بعض العثرات في الكتاب، هناك عثرة صغيرة لكنها مهمة حينما قال ويرلمان أن مجموعة نمور التاميل الثورية الإرهابية في سيرلانكا هي ماركسية، وهذا غير صحيح ولم يزعموا يومًا أنهم ماركسيون.

وعادة أخرى خطيرة يقوم بها ويرلمان وهي وضع الاقتباسات الطويلة التي تقوم بكثير من عمله. معظم الاقتباسات تأخذ ثلث الصفحة وتزيد أحيانًا. ليس هذا فحسب، بل زعمه الخطير أن الإلحاد الجديد أصبح حركة تتبنى فكرة تفوق العرق الأبيض. ويرلمان يناقش عمل مجموعة من العلماء والصحفيين عملوا دراسة مثيرة للاهتمام. فمن جهة أنها تجعل من المسلمين هم الآخر، ترقى خطابات الملحدين الجدد حول الإسلام لكونها عنصرية، لكن هذه العنصرة لمجموعة مختارة ستبدو كما لو أنها تفتقد التطبيق العالمي لتفوق العرق الأبيض، والتركيز المستمر على لون البشرة. إن كان الإلحاد الجديد يدعم ويشجع الملامح البنيوية لتميز العرق الأبيض في الولايات المتحدة- وأظن أنهم يؤمنون بذلك – فإن مصطلح تفوق الأبيض على سبيل المثال كما عُرِّف في نظرية العرق النقدية، فيبدو عندئذ أنه ينطبق. لكن ويرلمان لم يناقش التركيبة العنصرية في الولايات المتحدة، أو الملامح الاجتماعية الاقتصادية للدين وللعلمانية بين غير البيض، أو الإلحاد من حيث صلته بهذه المواضيع.

إن الملحدين الجدد ينطبق عليهم قول الفيلسوف ميشيل روس أنهم كارثة بحق. وكما أكد العالم جيفري نول، مفكرون مثل دوكنز وهاريس وهيتشينز يصنعون دينًا كرجل القش ثم يهاجمونه بضراوة (الإنسانية والمجتمع: 2008).

إن كتاب ‘خطر الإلحاد الجديد’ يساعدنا على رؤية الحكمة الكامنة خلف هذا الرأي، وكما اقترح ويرلمان أن الوقت قد حان للتعددية والإنسانوية الإلحادية. لتأخذ بزمام الإلحاد إلى الأمام، بعيدًا عن أمثال دوكنز وهاريس وأيان حرسي، بعيدا عمن ينشرون الخوف والشك والكراهية؛ لأن المسلمين من خلال الدعاية الدوغمائية هم أهداف رئيسية لمثل هذا المزيج السام. لقد صدق في نصح المنظمات الإلحادية بأن يرفضوا هذا الخطاب البغيض لأصحاب الإلحاد الجديد، والسعي لإيجاد فرص للتعاون مع الأقليات الأخرى التي تعاني من التمييز مثل المسلمين الأمريكيين، كطريقة لتوسيع القبول المجتمعي للإلحاد، ويكتب ويرلمان لا تسعون في اضطهاد أقلية أخرى – هذا الاعتقاد ليس صحيح وصفيًا لكنه الموقف الصحيح أخلاقيًا.

ستيفن ليدرو ( Stephen LeDrew )

في الوقت الذي كان فيه كتاب ويرلمان مثيرًا وصداميًا، فإن كتاب ليدرو: ‘تطور الإلحاد’ يتسم في غالبه بالرصانة الأكاديمية؛ لأنه يناقش الكثير من الحجج على عكس ما يفعله ويرلمان في كتابه. كتاب ليدرو يتطلب تحليلاً عميقاً. ليدرو عالم اجتماع كندي، وزميل ما بعد الدكتوراه في مركز الدراسات الدينية والاجتماعية في جامعة ابسالا في السويد، وقد علق مؤخرًا في لقاء معه: أنه كشخص غير مؤمن أبدى إعدابه بالإلحاد الجديد في البداية، لكن بعد أن عرف الكثير عنهم بدأ يميز بعض أفكارهم باعتبارها خطر محدق، بما فيها نزعتهم نحو الداروينية الاجتماعية، وعدم تسامحهم مع التنوع الثقافي.

كتاب ليدرو الجديد هو دراسة فاحصة مثيرة للإعجاب، مليئة بالرؤى المثيرة والقيّمة عن الحركة الإلحادية بشكل عام، أو عن الإلحاد الجديد بشكل خاص. إنه يريد أن يطبق وجهة النظر الاجتماعية على موضوعه، لكن الجزء الأكبر من الفضل يعود إلى أنه يعرض اكتشافاته بطريقة جاذبة وغير اختصاصية، فيقسم النص إلى جزئيين رئيسيين: الجزء الأول عن الإلحاد من حيث هو فكر، والآخر من حيث هو حركة اجتماعية. في مقدمة الكتاب، يعلن ليدرو أن أهدافه تتضمن الأهم والأكثر تحديًا، وهو الافتراض الذي يُردد على نطاق واسع أن الحركات العلمانية هي حركات تقدمية متحررة.

ونحى ليدرو منحى ويرلمان (رغم أنه يبدو أن الكاتبين لا يعرفان بعضهما البعض)، إذ اتفقا على أن الإلحاد الجديد هو أصولية علمانية وفكر خيالي حديث *(أيديولوجيا طوباوية حديثة)*. يردد ليدرو ما ذهب إليه إيجلتون دون وعي منه أن الإلحاد الجديد ظاهرة سياسية من الأساس، فهي فقط نقد للدين في العلن، بينما هدفهم الحقيقي المستتر من وراء حجب هو نشر النزعة العلمية وإرساء سلطتها الثقافية. علاوة على ذلك، هي تدافع من بين العديد من الأشياء عن الحداثة وتعزز موقف الرجل الغربي الأبيض من الطبقة الوسطى، والذي يعتقد أنه تحت التهديد من انتشار مزيج من الجهل الديني، والنسبية المعرفية، وسياسة الهوية والتعددية الثقافية. إذن هم الإلحاد الجديد هو السلطة في النهاية. في خطوة مفيدة بقدر ما كانت متأخرة (حاول عدد قليل من الناس هذا، ولكن على حد علمي لم يقترب أحد من النجاح)، يدمّر ليدرو أحد الأساطير الأكثر انتشارًا التي يملكها الملحدين عن أنفسهم، وهي اعتقاد أن الإلحاد هو ببساطة مسألة عدم إيمان بأي آلهة. إن الإلحاد في الواقع: “مصطلح معقد مع تاريخ أكثر تعقيدًا”، ولا يمكن “اختزاله في تعريف واحد شامل”. يشرح ويرلمان أن “الإلحاد بمفرده” موقف غير إثباتي، أما عدم الإيمان فنادرًا ما يكون “مستقلًا بنفسه”. وكما يشير ليدرو، مع صعود النظرية التطورية، انتقل الإلحاد من نفي بسيط للمعتقدات الدينية إلى تأكيد الليبرالية، والعقلانية العلمية، وشرعية المؤسسات ومنهجية العلم الحديث، وبالتالي من النقد الديني إلى نظام أيديولوجي كامل. “وعليه أصبح الإلحاد شكلاً من أشكال الإيمان – بدلاً من عدم الإيمان – الذي تشكل عبر سياقاته الاجتماعية التاريخية والتي ترتبط ارتباطاً لا ينفصم مع مجموعة كبيرة من المبادئ التي ظهرت من عصر التنوير”.

خلال القرن التاسع عشر، حيث كان للملحدين مواجهاتهم الذاتية والمتباينة مع هذه المبادئ، تنامى انقسام له جذوره في القرن السابق بشكل أكثر وضوحًا. مال غير المؤمنين إلى الانخراط في أحد المعسكرين المتميزين الذين عادا للظهور من جديد منذ ذلك الحين، وعلى وجه التعيين “الإلحاد العلمي” و “الإلحاد الإنساني”. الذي لخصه، من بين أمور أخرى، أنصار التطور الفيكتوريين، المتأثرين بفلسفة اوغست كانت، والداروينيين الاجتماعيين، والآن ما يسمى المتشككين والملحدين الجدد، وهو نقد إدراكي يرى الدين على أنه متخلف تماما، وإعاقة للتقدم ووجوب التركيز على القضاء عليه. وهذا الأخير، الذي من “رواده البارزين لودفيغ فيورباخ وكارل ماركس، وبطرقهم الفريدة الخاصة، فريدريك نيتشه وسيغموند فرويد، والتي تظهر في الوقت الحاضر بشكل ملحوظ في الحركات الإنسانية العلمانية، هو نقد سياسي وأخلاقي “يرفض بنية العالم الذي يعطي شأن كبير للدين “، و” يفترضون أن التقليل من المعاناة ورفع مستوى الرفاهية والإنجاز في الحياة هو الشيء الوحيد الذي من المحتمل أن يجعل الدين يختفي “. لذا، هناك” (على الأقل) نوعين من الإلحاد، “مع معنى المصطلح “الذي تم بناءه وإعادة بناءه باستمرار من قبل الأفراد والجماعات مع وجهات نظر مختلفة. “

يحتوي كتاب ليدرو على العديد من الموضوعات والحجج والمناقشات التي تستحق إلقاء الضوء عليها ولا يتسع المقام هنا لذكرها، وهو يلاحظ أن الإلحاد الإنساني “اتخذ الموقف العلمي كمسلّمة ولا يقبل الشك، متقدمًا نحو نمط أكثر تعقيدًا من المشاركة”، مؤكدًا على نطاق واسع القلق الأنثروبولوجي المتعلق بالظروف الاجتماعية، والأخلاقية، والسياسة العامة. وكتب مقدمة ممتازة عما يسمى الفرسان الاربعة للإلحاد الجديد -دوكينز، هاريس، هيتشينز، ودانييل دينيت، ويشرح كيف أن الإلحاد الجديد “هو في جزء منه رد فعل ضد العلمانية، نقلًا عن أبحاث العلوم الاجتماعية، وقال أن الافتراض الذي يحب الملحدون الجدد ترديده في “أن المعرفة بالعلوم تؤدي إلى الإلحاد وهو ادعاء غير مدعوم بالأدلة”، على الرغم من أنه لا يستخدم هذا المصطلح، إلا أنه يناقش تفاني الملحدين الجدد لـ النظرية اليمينية” المضللة للتاريخ. ومثل ويرلمان، يرى ليدرو أن دعم هاريس القوي لإسرائيل إزاء علاقاتها مع الفلسطينيين يخدم “في إضفاء الشرعية على الإمبريالية الغربية والمصالح الجيوسياسية الاستراتيجية.”

ويعالج قضية الجندر المثيرة للجدل، التي يؤكد أنها واحدة من المجالات الرئيسية التي تٌظهر فيها الحركة العلمانية محافظتها الأساسية، ويقدم بعض الأدلة ذات الصلة والمثيرة، بما في ذلك اقتباسات من التعليقات المثيرة للجدل التي أدلى بها دوكنز ومما يثير الحيرة، على الرغم من ذلك أنه لم يأت أبدًا على ذكر التعليق الصادم الذي أدلى به سام هاريس لمقابلة في عام 2009: “لو كان لدي عصا سحرية تمكنني من التخلص من أحد أمرين وهما الاغتصاب أو الدين، لما ترددت في التخلص من الدين”.

ويجيز ليدرو أحيانًا لنفسه أن يقدم نقدًا أخلاقيًا صادقًا بأسلوب ثقافي عام يحل محل نزعته العلمية الأكاديمية المعتادة، وهو يؤدي خدمة جليلة للمجتمع بانتقاده لأستاذ علم النفس ستيفن بينكر بخصوص مواقفه السيئة والرجعية حول موضوع مدمني المخدرات، والرأسمالية، والسجن، ويضيف ليدرو علاوة على ذلك أن الحركات العلمانية، والإلحاد الجديد على وجه الخصوص، تٌظهر نزعة شمولية بما يتعلق بسلطة الدولة، داعمين التركيبة المسيطرة للسلطة السياسية. إن التدخلات الكبيرة من قبل الدولة في حرية الأفراد وكذلك المشاريع التوسعية يتم باستمرار شرعنتها فكريًا تحت ذريعة الأمن والحماية.

وفيما يتعلق ببعض التعليقات السابقة التي أدلى بها دوكنز، والتي تتعلق برؤية دوكنز التي تقول أن تشجيع الوالدين لاعتناق أبنائهم للدين يعتبر استغلالاً للأطفال، يكتب ليدرو أن السلطة التي تشرعن قيودًا على الوالدين هي سلطة أورويلية تدميرية، كأي شيء آخر ينسب للدين. ليدرو لم يكن واضحًا في هذا الموضوع، وقد ارتكب خطأ فادحًا حينما أهمل ذكر المصادر، ويبدو أنه كان لديه حدث في ذهنه لم يذكره، وهو توقيع دوكينز على عريضة في عام 2006، تطلب من رئيس الوزراء البريطاني أن يجعل “تلقين أو غرس الدين في أذهان الأطفال قبل سن 16 عملاً غير قانوني”، وسحَب دوكينز توقيعه بعد الاحتجاجات التي اندلعت في أجزاء من صفحات المدونات العلمانية، لكن حماسه المبدئي لهذه الفكرة هو بالتأكيد يوضح إلى أي مدى تكون عدائيته للدين مثيرة للمخاوف.

إن كتاب تطور الإلحاد هو دراسة أكاديمية جيدة، بل وذكي أحيانًا، لكنها تحتوي على الأقل على ثلاثة عيوب رئيسية، أولها: اسباغه الفضل الأكبر للعلوم الاجتماعية في تطور الإلحاد الإنساني، وأن الرواد الأوائل للإلحاد الإنساني قد أعطوا اعتبارًا للعوامل الاجتماعية في تقييماتهم للدين، وهذا فقط الدليل الوحيد الذي يقدمه لهذا الزعم الغريب. في الواقع الانسانيات وخصوصًا الفلسفة، والأدب، والتاريخ لعبت دورًا أكبر بكثير من العلوم الاجتماعية، فلاسفة الفكر الأخلاقي، والاجتماعي، مثل كارل ماركس وجون ستيوارت ميل وجون ديوي والكتابات الأخلاقية، والإنجازات التنظيمية للفلاسفة الإصلاحيين مثل فليكس أدلر وبول كورتز ومشروع دراسة مصادر فقه اللغة وتحليلها والأعمال الأدبية والنقد الاجتماعي لكتّاب مثل بيرسي بيش شيلي، ومارك توين، والنظرية والتطبيق للتاريخانية، كل هذه من بين العديد من التأثيرات الأخرى من عالم العلوم الإنسانية ساهمت بدعم لا يقدر بثمن في الجزء الثاني من “الإلحاد الإنساني”، بينما يشكل أهمية معظم الجزء الأول وتطوره. ربما ليس من المستغرب، إذن، أن الإلحاد الإنساني نفسه لا يحظى باهتمام كبير. في السنوات الاخيرة، ومصطلحاتها التنظيمية الرئيسية، أن الحركات العلمانية الإنسانية والثقافية الأخلاقية (الإنسانية الأخلاقية) قد تأثرت كثيرًا بالحركة الإلحادية الجديدة، مع إزالة النبرة الإنسانية إلى حد كبير من قبل الإنجيلية الملحدة. (بعض من ذلك سوف يتخذ الآن شكلًا رسميًا ومشرعًا، كمجلس الإنسانية العلماني، عبر المنظمة الأم، قد وافقوا مؤخرًا على الاندماج مع مؤسسة ريتشارد دوكينز للعقل والعلم)، ومع ذلك، فإن المنظمة الإنسانية الرائدة، الجمعية الإنسانية الأمريكية، ذُكرت مرتين فقط وبإيجاز. في كتاب ليدرو نوقشت الثقافة الأخلاقية لما لا يزيد عن صفحة واحدة بقليل، ولكن ليدرو لم يحاول أن يحلل كيفية تأثرها بالإلحاد الجديد.

هذه النقطة العمياء المتعلقة بالإنسانيات مهمة في إطار آخر، بإمكانه أن يوضح لماذا لم يذكر ليدرو أبدًا كريس هيدجز، الذي يتضمن كتابه المذكور سابقًا مناقشات مطولة للروايات والمسرحيات، أو لماذا لم يذكر الممثل الكوميدي بيل مار المتأثر بالإلحاد الجديد ولديه رهاب من الاسلام، والذي يحتمل أن يكون أشهر شخص غير مؤمن في امريكا، أو لماذا في القسم القصير للغاية الذي يكتنفه الغموض لم يذكر شيئًا عن نقاد الملاحدة للإلحاد الجديد، فهو لا يقول شيئًا عن القوة العملية السياسية، والتقييمات الأخلاقية من كتّاب، أو فلاسفة، مثل ناثان لين، آرون كونداني، جون غراي، وجاكسون ليرز، وجلين جرينوالد، أو الانتقادات الإنسانية الرائعة التي قدمت عبر مراقبون مثل المؤلف جيفري نال، والمؤرخ آر جوزيف هوفمان، وعالم الأنثروبولوجيا الثقافية سكوت أتران، الكاتب روبرت رايت، والفيلسوف ماسيمو بيليغوتشي.

أو، علاوة على ذلك، لماذا لم يذكر أبداً هذه النزعة المضادة للفكر، والمعادية للفلسفة، التي قام بها علماء ملحدون مثل هاريس، دوكينز، لورنس كراوس، ستيفن هوكينج، جيري كوين، ونيل ديقراس تايسون في كتابه: ‘العلم المضلل: طرح الأسئلة الكبيرة في ثقافة الإجابات السهلة’ (2014) ، وناقدٌ ألمعيّ آخر للإلحاد الجديد هو البروفيسور الانجليزي كورتيس وايت، أيضًا لم يُذكر في كتاب ليدرو، والذي يُلاحظ أن موقفهم تجاه الفلسفة مدفوع بنوع من “التحيز”، ويضيف وايت: “بل أود أن أذهب إلى أبعد من هذا لأقول” أن كتاباتهم المعادية للفلسفة ضرب من “التعصب”.

ومع ذلك يفوت ليدرو على نفسه الإشارة إلى ما ذكره الفيلسوف الملحد دان فينكي من أن الفلسفة “أثبتت من الناحية التجريبية أنها أفضل في إنتاج الملحدين أكثر من العلم”. تمشيًا مع هذا، من الرائع معرفة أنه على عكس ما يفترضه أغلب الملحدين، لم تكن الاكتشافات العلمية هي ما دفع تشارلز داروين لتعليق إيمانه بالله. وكما أشار ميتشل ستيفنز في كتابه الممتاز: ‘تخيل أنه لا يوجد جنة: كيف ساعد الإلحاد في خلق العالم الحديث’ (2014)، ما أضعف إيمان داروين هو ملاحظاته التي قدمها كأنثروبولوجي غير محترف، عن تنوع الأديان في جميع أنحاء العالم، وإخلاص المنتمين لها، وقراءته لأعمال شيللي، والفيلسوف ديفيد هيوم، ومختلف المفكرين الآخرين المتشككين، ويقتبس ستيفينسون من أي او يلسون: “عالم الطبيعة العظيم لم يتخلى عن الدين بسبب عمله على الانتخاب الطبيعي، بل بالأحرى حدث العكس، الانسلاخ من الإيمان الأعمى منحه الشجاعة الفكرية لاستكشاف تطور الإنسان أينما يقوده المنطق والدليل”.

المشكلة الثانية الخطيرة هي أن ليدرو لم يقل شيئاً عن العنصرية. هذا الإهمال خطأ كبير لسببين على الأقل، أولاً، كما لاحظ العديد من المراقبين، فإن الأشخاص غير البيض ممثلين تمثيلاً ناقصًا فيما يسمى الحركات التشككية. وكون تلك المنظمات الملحدة هي في الغالب “بيضاء” سيبدو إلى حد كبير على أية حال، أنها تنبثق من حقيقة أن القضايا التي يركزون عليها ليست من القضايا التي يرى غير البيض أنها ذات صلة مباشرة بهم. ثانيًا، على الرغم من أن العديد من النشطاء الملحدين يدَّعون أنهم إنسانيون، وحتى العديد ممن لا يدعون ذلك الاهتمام بشأن المساواة العرقية والعداله الاجتماعية، ما هو إلا تأكيد على أن تلك المثل العليا ليست ميزة بارزة في حركة الإلحاد.

لكن متى بدت الجماعات الملحدة شبيهة بالدولة نفسها، فتحدثت عن المخاوف الاجتماعية الاقتصادية للأقليات، فإن أنصار الإنسانية الراديكاليين مثل الكاتبة سيكيفو هتشينسون لن تحتاج إلى كتابة مثل هذا المقطع: “هناك القليل من التحليل للعلاقة بين الحرمان الاقتصادي، العرق، الجنس، والتدين في الإلحاد الجديد، أو النقد الإنساني العلماني للتدين المنظم، ومن هنا فإن ما ينبغي أن تقوله هذه التقييمات العقلانية السائدة عن الدين “له علاقة ثقافية محدودة بالأشخاص الملونين”. أو مثل هذا:

“المشكلة مع هاريس وغيره من الملحدين الجدد الذين يعتنقون العلم هو أن عملهم يفتقر إلى السياق، إنهم لا يقدمون نظرة اجتماعية لسبب كون الدين المنظم والتدين يسيطران باستمرار على المجتمعات المحرومة في أغنى وأقوى دولة على وجه الأرض. الدين هو مجرد جهاز للقمع الوحشي وعدم الإنصاف. المؤسسات العلمانية التي تنفذ وتدعم التراتبية القمعية يجب أيضا أن يتم معارضتها بفاعلية داخل الإطار الإنساني”.

أو هنا: “كما وصف من قبل العديد من غير المؤمنين البيض”، الإلحاد الجديد “يحافظ ويستنسخ الوضع الراهن للسيادة البيضاء في تقوقعها حول الذات في هذا الكون”، وتكتب هتشينسون: “الأقليات المضطهدة أكثر عرضة للخطر من خلال استثمارها في الدين المنظم أكثر من التفوق الأبيض، التحرير ليس مسألة محاربة العنصرية البيضاء…والطبقية بل هو التخلص من أغلال الخرافة”. هذه الاقتباسات من كتاب: ‘الشيء الأبيض: الإلحاد الجديد ومضايقاته’، وهو فصل من كتابها الذي صدر في 2011 : ‘النزال الأخلاقي: الملحدون السود، الجنس، والسياسة، وحروب القيم’. لكن ليدرو لم يذكر هتشينسون قط، ولم يناقش أيًا من القضايا المهمة التي أثارتها، والسبب غير معلوم في أنه اختار عدم التحقيق في موضوع العنصرية من حيث صلته بالحركة الإلحادية، ومهما كان السبب، فإن الإغفال مؤسف بقدر ما هو غامض.

هناك مكان واحد في كتاب ليدرو حيث يقول لنا باختصار شيئًا متعلقًا بالعرق، وتكون المعلومات مفيدة جدًا لما يعرضه لنا عن حالة الإلحاد المنظم هذه الأيام. في عام 2013، قدم رونالد ليندسي، رئيس مركز التحقيق، الخطاب الافتتاحي في مؤتمر CFI حول المرأة في العلمانية (WS). بعض ما قاله عن النسوية تعرض لعاصفة من الاحتجاجات داخل الدوائر المتشككة. يشير ليدرو إلى جانب رائع من الحلقة، وهو جانب يبدو أني أنا وغيري ممن لم يحضر على غير دراسة به. إن ليندسي لم يثر فقط الاعتراضات المتعلقة بالنسوية، بل أيضًا انتقد بشدة فكرة ربط النسوية بعداء الرأسمالية. وبعد اقتباس تصريحات ليندسي ذات الصلة، كتب ليدرو: “في هذه الصيغة، يتآمر الماركسيون، والنسويات لتحويل رجل الطبقة الوسطى الأبيض الى شيطان علماني. المعنى الخفي لحديث ليندسي هو رسالة إلى الرجل الأبيض من الطبقة الوسطى، الذي يقترح ليندسي أنه يتعرض للهجوم وللذم من قبل المؤامرة النسوية الماركسية لتحطيم وضعه المسيطر. هذا الخطاب هو تمثيل ممتاز لمعتقدات وأهداف اليمين الملحد، وتقديم دعمها للرأسمالية والنظام الأبوي معًا في الدفاع عن التركيبة الاجتماعية الاقتصادية المعترف بها وعلاقتها بالنفوذ والسلطة”.

هذا لو كانت مسألة مؤامرة النسوية والماركسية صحيحة. لسوء الحظ يبدو أن المكان الوحيد الذي تتواجد فيه المؤامرات في مشهد حركات التفكير الحر هو، على أية حال، في خيال ليندسي فقط. في الواقع كما قال ليدرو على الأقل 5 مرات مختلفة في الكتاب، عبر الحركات العلمانية السائدة تقريبًا كل الاهتمام بالعدالة الاجتماعية يأخذ شكل سياسة الهوية، نقد الرأسمالية، والقمع الاقتصادي. كما يقول ثماني مرات على الأقل أن الضجة التي أعقبت تعليقات ليندسي في مؤتمر WS تعطي مثالًا ممتازًا لهذا الموضوع. كما لاحظ ليدرو أن النقد “يركز بشكل حصري” على ملاحظات ليندسي حول النسوية.

العيب الأكبر:

هذا يقودنا إلى المشكلة الخطيرة الثالثة في كتاب ليدرو والعيب الرئيسي، والذي ألمحت إليه سابقًا، وهو أن الكتابين اللذين تم بحثهما هنا متشابهان في كونهما لم يغوصا في أعماق مشكلة الظلم الاقتصادي.

لماذا؟ يتساءل بعض القراء، أكان متوقعًا منهم أن يفعلوا ذلك؟ هناك عدة أسباب، ولكن دعونا نستعرض بإيجاز اثنين منهم، أولاً، كما تُظهر هذه الكتب الجديدة بوضوح، الإلحاد الجديد حركة سياسية، والأدلة على ذلك واضحة للعيان. من خلال موافقته وزارة الأمن القومي، الإلحاد الجديد يدعم الأنظمة المختلفة التي بها، على نطاق واسع، تنتهك الحكومة الأمريكية الحريات المدنية لمواطنيها؛ ومن خلال قبوله المتملق لليبرالية، فإنه يساعد على شرعنة نظام نيوليبرالي يدمر الطبقة الوسطى، ويرمي أعدادًا أكبر من الناس إلى الفقر، من خلال دعمها العام لمشاريع الولايات المتحدة الإمبريالية في الخارج، وتشجع أجندة التدخل من المحافظين الجدد. وكلها تثبت أن الإلحاد الجديد يعطي بسهولة ختم الموافقة للتحالف الصناعي، والعسكري، والمالي لمصلحة الأقلية المنتفعة.

في معظم الأحيان، بطريقة أو بأخرى، السياسة تتعلق بالاقتصاد، هذه حقيقة مهمة يجب أن نتذكرها عند تأملنا في حقيقة أخرى، وهي أنه في صخب التعليقات، والتقارير، والنقاشات، والدعاية المتعلقة بالسياسة الجغرافية، والإرهاب، غالباً ما تكون منسية، أي أن الإمبريالية أساسًا تدور حول الثروة. إنها مجموعة من الأنظمة والأساليب والأفكار الشوفينية حول حيازة الثروة والسيطرة عليها، والموارد المملوكة لشعوب خارج حدود الوطن بشكل قسري، واستخدام القوة التي تأتي من تلك الثروة من أجل تعزيز وضعية النخبة القليلة الحاكمة. لذا، عندما يتحدث سام هاريس عن الحاجة إلى “ديكتاتوريات حميدة” في الشرق الأوسط، ليتم تثبيتها بمساعدة الغرب حين يرى الغرب أنه ضروريًا، ليس من السهل التفكير في أي شيء أكثر سياسة من هذا.

وكما يجادل الكاتب فيل روكسترو، إنها سياسة من أكثر الأنواع فسادًا وفجورًا، “نفس الثرثرة القديمة البغيضة عن عبء الرجل الأبيض، التي كان الإمبرياليون الغربيون يخوضون فيها منذ شرعت طبقة النهب في بدايتها خلال عصر الاستكشاف”. وفي إشارة إلى هاريس و هيتشنز، يتابع فيقول: “هكذا تجري سفسطتهم : ‘تلك الغابات الأجنبية والصحاري تموج بالهمج، الوثنيين، أكلة لحوم البشر، وصائدي الرؤوس. لا يمكنك ان تكون عقلانيًا مع هؤلاء القساة البدائيين لذلك من واجبنا، كرجال عقلاء ومتحضرين أن نخضعهم ونجعلهم يرتدون الملابس ونثقفهم على طريقتنا، وبالطبع، قتلهم عندما يكون ذلك ضرورياً – وحقيقة أن ثروة مناطقهم الأصلية تتدفق غربا لتعزيز خزائن حكمنا المتضخمة والنخبة الاقتصادية ليس لديها علاقة بالأمر على الاطلاق’”.

في كتاب: ‘العقل والإيمان والثورة’، يشير إيجلتون إلى جانب آخر بالغ الأهمية في الموقف. ويوضح أن التطرف الإسلامي ليس مجرد رد فعل عنيف ضد السياسات الغربية “المفترسة”. هو أيضًا رد فعل على “سحق مختلف التمثلات الإسلامية العلمانية، الليبرالية، القومية، والاشتراكية”. ويكمل: “إن الأصولية الإسلامية، هي من بين أمور أخرى رد فعل عنيف على هزيمة اليسار الإسلامي، وهي الهزيمة التي تآمر الغرب فيها بفعالية”، ومن ثمة فإن “الحل للإرهاب الديني يكمن في العدالة العلمانية”.

من المؤكد أن هناك اعتبارات مذهلة حصلت بسبب تطور الأخبار مؤخرًا. في أواخر نوفمبر، نشر توماس بيكيتي، مؤلف الكتاب الأكثر مبيعًا: ‘رأس المال في القرن العشرين’، في صحيفة لوموند الفرنسية مقالًا جديدًا عن عدم المساواة. وكما أوجز جيم تانكرسلي من صحيفة واشنطن بوست، يرى بيكيتي أن عدم المساواة الاقتصادية في الشرق الأوسط، بين الدول وداخلها، هو “المحرك الرئيسي للإرهاب في الشرق الأوسط”. علاوة على ذلك، يقول بيكيتي: “التفاوتات الاقتصادية في الشرق الأوسط هي على أوسع نطاق في العالم، وتقع إلى حد كبير على عاتق الدول الغربية، وهذا، كما يقول تانكرسلي، “الإرهاب الذي تأتي جذوره من عدم المساواة…من الأفضل مكافحته اقتصاديًا”.

إن رفض هاريس وغيره من الملحدين الجدد الاعتراف بالأهمية العملية الأساسية، والتبعات الأخلاقية العميقة لمثل هذه الاعتبارات يخلق نمطًا من الإنكار بقدر ما هو مخجل فهو مضلل فكريًا. ثانياً، القليل من الناس لاحظوا ذلك، لكن هناك تناقضًا منطقيًا كبيرًا في صميم نظرة الملحدين الجدد وغيرهم ممن يُسمون المفكرين الاحرار للعالم، واقتناعًا منهم بأن لا شيء يبطّئ بالتقدم البشري أكثر من الإيمان الديني، فقد أخبرونا مرارًا وتكرارًا أنهم يريدون تخليص العالم من الدين، أو على الأقل تقليل تأثيره إلى حد كبير ولكن، بالنسبة للجزء الأكبر، يتجاهلون تمامًا الاستراتيجية الأكثر فعالية لتحقيق هذا الهدف، وهي زيادة نسبة الأشخاص الذين ليس عليهم أن يتعاملوا مع الصدمات والمخاوف التي تأتي مع الحرمان الاقتصادي.

كما أوضح الأستاذان بيبا نوريس ورونالد إنجلهارت بطريقة مقنعة، وهما المروجان العلميان البارزان لما يسمى: فرضية الأمن الوجودي (ESH)، أن “الدين المتسامي عادة ما يضعف من خلال الشعور بالأمن الوجودي – أي الشعور بأن البقاء على قيد الحياة آمن بما فيه الكفاية، ويمكن اعتباره أمرًا بديهيًا”، في حين يتعزز التدين “بفعل الشعور بالهشاشة تجاه المخاطر الحسية والاجتماعية والشخصية”، ويشيرون إلى أن تناقص الدين يوجد بشكل واضح في أكثر القطاعات الاجتماعية المزدهرة، التي تعيش في بلدان ما بعد صناعية ثرية”. الدافع للعلمنة إذن هو الأمن الاجتماعي الاقتصادي – نتيجة للتنمية المستدامة، تقل اللامساواة الاقتصادية، وتوفر شبكة أمان اجتماعية كافية.

أو كما صاغها ماركس بشكل جيد في نقد فلسفة الحق عند هيغل (1843): “إن مطالبة الشعب بالتخلي عن الأوهام المتعلقة بوضعه تعني مطالبته بالتخلي عن الوضع الذي يحتاج الوهم”. ويكمل ماركس: “إن نقد الدين إذن هو في مبدأه نقد لوادي الدموع الذي يشكل الدين هالَته المكلِّلة. وعلى هذا النحو يتحول نقد السماء إلى نقد للأرض، ونقد الدين إلى نقد للحق ونقد اللاهوت إلى نقد للسياسة”.

من المؤكد أن انعدام الأمن الوجودي ليس هو الدافع الوحيد للدين، ولكن لا يمكن إنكار أن هذا الأخير يكون إلى حد كبير بمثابة “القلب في عالم مجرد من الرحمة”. وكما ينقل إيجلتون عن المنظر الأدبي الماركسي إعجاز أحمد قوله: “إن العالم العلماني يجب أن يكون لديه عدالة كافية فيه من أجل ألا يضطر المرء إلى مناشدة عدالة الإله باستمرار ضد ظلم المُدنِّسين”. بالإشارة إلى أن الإلحاد عادة ما “يتفشى بشكل متفاوت بين البرجوازيين والمميزين والمتعلمين”، يشير الكاتب والملحد الماركسي بن نورتون إلى أنه إذا كان الملحد “يرغب حقاً في التخلص من الدين، فعليه أن يفعل ذلك معالجة المادة، الأصل الطبقي للدين، وليس كتابة مقالات مملة حول كيف أن الناس رعاع أغبياء يؤمنون بالخرافات (كما اعتاد الكثير من الملحدين الجدد أن يفعلوا)”.

وأريد أن أؤكد إذن أنه كما يصر الملحدون الجدد على أن الدين يجب أن يرمى في مزبلة التاريخ، وفي نفس الوقت يتجاهلون مشاكل الفقر، وعدم المساواة فإنني من ناحيتي أصر أيضًا على أن هذا عمل غير عقلاني، بل ومن ناحية منطقية بحته إن هؤلاء الملحدين لا يختلفون عن المؤمنين بالملائكة.

إن معظم النقاشات الصغيرة التي يكرسها ليدرو للاقتصاد هي نظرة ثاقبة، هو يلاحظ أنه من خلال نشرها لأيديولوجيتها العلموية، والتي تشمل الاعتقاد بأن “التقدم التقني المعاصر يعادل التقدم الاجتماعي والأخلاقي”، فإن الالحاد الجديد “يضفي الشرعية على النظام العالمي النيوليبرالي الحالي”، في حين أن الدين يوضع كـ “كبش فداء” لأي مشاكل يواجهها المجتمع. بالنسبة إلى التحرريين، الذين أصبحوا في السنوات الأخيرة يتمتعون بحضور كبير في عالم التفكير الحر المنظم، يشير ليدرو إلى أن أيديولوجيتهم الرأسمالية المتطرفة هي أمر يفسد نظرية التطور، ويسيء تطبيقها في المجتمع من أجل أن يقدم “أجندة سياسية فردانية راديكالية” تسعى إلى التخلص من جميع القيود المفروضة على السوق، ويقترح أنه عندما يتعلق الأمر بقضايا الاقتصاد والشؤون الخارجية والجنس، فإن اليمين الملحد بما في ذلك الإلحاد الجديد، لديه الكثير من القواسم المشتركة مع اليمين المسيحي أكثر من الإلحاد الإنساني.

معظم ما يقوله ليدرو عن الإلحاد ومشكلة الطبقية موجودة في الفصل الأخير من الكتاب، بعنوان “الملحد اليميني”، وفي خاتمة الكتاب، هناك العديد من الادعاءات التي يقدمها في هذه المسألة، ولكن هناك مساحة هنا لمناقشة واحدة فقط. يؤكد أن الأشخاص الوحيدون في الحركة العلمانية الذين يركزون على مسألة الرأسمالية هم من التحرريين الذين “يفعلون ذلك أيديولوجياً من أجل الاحتفاء بالرأسمالية والدفاع عن شرعية الهوة الواسعة والمتسعة التي تفصل الأثرياء عن الطبقات الدنيا”.

الجزء الأول من هذا الادعاء غير صحيح، إذن، وهذا ما يتوجب علينا أن نفعله أن نعتبر الحركة (أراها كـ ظاهرة بارزة، أكثر من كونها “المجتمع الملحد” كما يسميها النشطاء الملحدون بطريقة منغلقة ومنحازة لمصلحتها) بمعنى واسع لتشمل نقادها الملحدين واللاأدريين على اليسار الراديكالي، الذي يعكس عمله، ونشاطه، ويعزز القيم الإنسانية أكثر مما تفعله المنظمات الإنسانية نفسها، ثم هناك في الحقيقة مجموعة ثانية تركز على الرأسمالية، دعونا نسميها اليسار الملحد. إن ليدرو مشغول جداً بالتأمل في حقيقة أنه “مثلما يوجد مسيحيون ليبراليون ومسيحيون يمينيون، يبدو أن هناك ملحدين ليبراليين وملحدين يمينيين” لكن هناك مجموعة متنوعة من الملحدين واللاأدريين قد علقوا على حقيقة أن العلمانية المنظمة تعزز الظلم الاقتصادي. إنهم اشتراكيون، وشيوعيون، وفوضويون، وراديكاليون، وإنسانيون، متحدون لمعارضة كل من العلموية والليبرالية المعادية للألوهية والاقتصاد السياسي الرأسمالي.

على الرغم من ذلك، يمكن لقراء كتاب ليدرو أن يخرجوا بالانطباع الخاطئ، الذي يقول أنه لا يوجد معارضة علمانية ملحوظة للنيوليبرالية الملحدة، يتم تجاهلها بالكامل تقريباً من قبل المدونين العلمانيين، والمتحدثين في المؤتمرات، ومحرري المجلات، وقادة المنظمات، لكن المعارضة موجودة. إنها فكرة رئيسية في كتب هيدجز، وإيجلتون المذكورة أعلاه، ولقد وقع التعبير عنها من قبل المؤلفين تشيس مادار، كريس رايت، وجيف سبارو؛ ومن قبل الكاتب ومقدم البرنامج الإذاعي Equal Time for Freethought باري سيدمان؛ ومن قبل الصحفي، والناشط الإنساني ستيف ألكويست، ومن قبل المدون الماركسي وأمين المحفوظات رالف دومين، ومن قبل الكاتب والصحفي بن نورتون، ومن قبل أستاذ جامعة نيويورك ومؤرخ العلمانية مايكل ريكتنوالد، وهي موضوع رئيسي في كتاب هيتشينسون Moral Combat النزال الاخلاقي وكذلك في كتابها Godless Americana: Race and Religious Rebels(2013). لقد خصصتُ أكثر من 30000 كلمة للموضوع في غير هذا المقال.

ينتمي ويرلمان نفسه الى هذه المجموعة، وعلى الرغم من أنه، للأسف، لم يدرج في كتابه الجديد أي مناقشة متعمقة حول مشكلة الطبقية، إلا أنه عالج، إلى حد ما، الموضوع في مكان آخر. لقد وصف عدم المساواة في الثروة “بالأزمة الأخلاقية الأكثر إلحاحًا في عصرنا”، واعتبر التفاوت في الدخل “الأزمة الأخلاقية الكبرى لأمريكا منذ حركة الحقوق المدنية، وأزمتها الاقتصادية الأعظم منذ الكساد الكبير”. في العام الماضي، في مقال بعنوان: ‘الأكذوبة اللإلحادية التحررية: آين راند، عدم المساواة في الدخل، وفكرة السوق الحر الخيالية‘ The atheist libertarian lie: Ayn Rand، قدم واحدة من أفضل الضربات القصيرة التي كتبت على الإطلاق عن الاقتصاد التحرري. في أبريل 2014، في خطاب بعنوان “ماذا تعني الدولة الشمولية المتحكمة بالاقتصاد للإنسانية”، وقال لجمهور في سان دييغو أن “أمريكا هي في حاجة ماسة إلى ثورة” على شكل حملة “راديكالية” ضد سلطة الشركات. وهو اشتراكي ديمقراطي، ويؤكد أنه بدون اشتراكية “لن يكون لدينا مطلقًا أي حقوق إنسان حقيقية فوق الحق في الملكية”. في الآونة الأخيرة، كتب تغريده أن: “99 ٪ من الأمريكيين يحبون الاشتراكية الديمقراطية إذا كانوا يعرفون ما هي من الأساس”، وعلى الرغم من أن هذا الادعاء مبالغ فيه إلا أنه يعكس حماسة تثير الإعجاب.

إذا كان أي من مؤلفينا قد أدرجوا في كتبهم الجديدة مناقشة موضوعية للإلحاد ومشكلة الطبقية، ما أنواع المواضيع التي قد تناولوها؟ هنا عشرة أفكار من بين الكثير مما يمكن تقديمه:

1- أهمية وملاءمة فرضية الأمن الوجودي (لم يتطرق أي كتاب لهذا الموضوع من قبل).

2- احتمالية أن يكون تركيز الحركة على سياسة الهوية هو تعبير عن النيوليبرالية باستخدام الحجة ذات الصلة التي أدلى بها أدولف ريد، الابن.

3- الغياب الكامل تقريبا للاشتراكيين وغيرهم من مناهضي الرأسمالية بصفتهم متحدثين، وعاملين في المؤتمرات العلمانية، وعلى أي من شبكات المدونات المتشككة (مثلما يشير ويرلمان، فإن المؤتمرات الملحدة الرئيسية لا تتضمن أبداً عروض حول تاريخ وآثار الاستعمار الغربي، أو على تأثيرات العقوبات الاقتصادية، أو كيف أن السياسات الخارجية الامريكية تنتهي إلى “سحق الفقر والفوضى الاجتماعية” في الأماكن التي تقع تحت سيطرة الإمبراطورية الأمريكية، إلى آخر ذلك.

4- ارتفاع تكلفة حضور المؤتمرات العلمانية، التي يبدو أن طبقة البروليتاريا ليسوا مدعوين إليها على أية حال. (على سبيل المثال، كانت تكلفة التسجيل لاجتماع CFI لنهاية الأسبوع في يونيو الماضي 279 دولارًا.

5- التحالف العلماني من أجل قرار أمريكا، في عام 2012، لتوظيف إدوينا روجرز، وهو محافظ جمهوري عضو الجماعة الضاغطة، والمستشار الاقتصادي للرئيس جورج دبليو بوش، كمدير تنفيذي لها.

6- قيام قيادات لتنظيمات الحادية/إنسانية مهمة، بالإدلاء بتصريحات حول الفقر، وعدم المساواة، على مدى السنوات الثلاث الماضية بالمقارنة مع تلك التي أدلى بها البابا فرانسيس وغيره من الزعماء الدينيين.

7- ندرة المناقشات بين “المفكرين الأحرار” حول الظلم الاقتصادي والفقر في مواقع المدونات، في المجلات الإلحادية / الإنسانية، في المؤتمرات وحلقات النقاش، وفي أماكن أخرى.

8- الآراء الاقتصادية اليمينية لرئيس الملحدين الأمريكيين ديفيد سيلفرمان، وانخراط منظمته في مؤتمرات العمل السياسي المحافظ لعامي 2014 و2015.

9- عادةً ما تذكر المنظمات الملحدة والإنسانية بشكل متكرر إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان، حول حرية الفكر، والايمان، والتعبير ، بينما نادراً ما يتم ذكر الأحكام الاقتصادية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

10- حقيقة أن الكتاب المنتظمين في المجلات الإنسانية المهمة، قد احتجوا على الإهانات الملاحظة للنسوية، قد هددوا أحياناً بمقاطعة تلك المنشورات ومنظماتها الأم، في حين لم يتم تقديم مثل هذه التهديدات رداً على نزعات المجلات العامة النيوليبرالية والتحررية.

وانه لأمر محير أن يختار ليدرو عدم التركيز على مشكلة الطبقية، رغم ملاءمتها وأهميتها الشديدة، فإن بعض تعليقاته تجعل هذا القرار محيرا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. كما كتب في المقدمة “إن الانجراف نحو اليمين السياسي للإلحاد” هو تطور مذهل لحركة ذات جذور اشتراكية، وثورية، ضد القوى القائمة، والعدالة الاجتماعية”. في نهاية الفصل الأخير، يقترح أن مشكلة الطبقية ربما تكون “أكثر قضية مهمة ولكن مسكوت عنها لأولئك الذين يبحثون في” الحركة العلمانية. ويواصل “إنه لأمر مثير أن يكون اليوم، حتى الملحدين الذين يدافعون عن العدالة الاجتماعية ليس لديهم الكثير ليقولوه عن الرأسمالية”.

نعم، إن إهمال جميع الملحدين البارزين لمشكلة العدالة الاجتماعية هذه، والتي هي أكثر من أي قضية أخرى مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالبقية، لأمر مثير. البعض منا كانوا يقولون ذلك لسنوات، ومع ذلك، على الرغم من حقيقة أن القمع الطبقي قضية أساسية، كما أوضحت، إلا أن ليدرو اختار إهمال هذا الموضوع (في الغالب) من تحليله. لسوء الحظ، عند قيامه بذلك، فهو بطريقة ما قد ساعد في تعزيز الرسالة، التي تبثها مجموعات “التفكير الحر” إلى العالم بألف طريقة مختلفة، بحيث يكون من الأفضل تمامًا وضع هذه المسألة جانباً حتى وقت آخر، وهو وقت لا يأتي أبدًا.

إن المعالجة الجيدة للإلحاد والظلم الاقتصادي ستشمل بعض الخلفيات التاريخية المفصلة المتعلقة بمسألة الطبقية، وليدرو لا يقدم ذلك، لكنه على الأقل يشير لنا في الاتجاه الصحيح. ويشرح أن الإلحاد “ولِد، واتخذ شكله بالتشارك مع الحركات الفكرية السياسية الراديكالية وحركات العدالة الاجتماعية”. إلا أنه يلاحظ “الاهتمامات القديمة بالاشتراكية، وظروف الطبقة العاملة التي ظهرت بشكل بارز في السنوات الأولى من الحركة العلمانية غير مرئية عمليًا اليوم”. لذا، فإن الجمع بين سياسة اليمين والإلحاد هو “توقف جذري عن مساره السياسي التقليدي”. المرجعيات التاريخية تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر في إنجلترا، حيث بدأت العلمانية الأنجلو أمريكية كحركة منظمة.

يقدم ليدرو ملخصًا للدور الرئيسي الذي لعبه جورج جاكوب هوليوك في تشكيل تلك الحركة، هو يتحدث عن هوليوك و “الرواد البارزين” للإلحاد الإنساني المذكورين أعلاه من في فصول مختلفة، ولكن كمسألة تاريخية، طبقاً لما يقول ليدرو، فإن هوليوك ينتمي لتلك المجموعة. في عام 1851، أسس جمعية لندن العلمانية (في وقت لاحق أصبحت الجمعية الوطنية العلمانية)، وهي بشكل أساسي المكون التنظيمي لحركة طبقة عاملة وتقدم المبادئ العامة التي نقرنها الآن مع الإنسانية العلمانية. كـ اشتراكي هوليوك كان مهتمًا للغاية بما أسماه (كما نقله ليدرو) “التخفيف من ‘المصير القاسي‘ وإصلاح ‘حالة عدم المساواة في الوضع البشري‘”. “كان تركيز هوليوك إذن (كما نقل ليدرو) على العدالة الاجتماعية، وتقليل المعاناة، ويضيف ليدرو أن هولويك “يعترف بالتالي بالبصر الثاقب للإلحاد الإنساني حين اعتبر أن الدين ليس عملية إدراكية بحتة تتعلق بطبيعة الواقع المادي، وإنما هو استجابة لتجربة الوجود الاجتماعي”. بالنسبة إلى هوليوك كان الإلحاد، والعلمانية “بشكل أساسي، وضروري، مرتبط بتحسين ظروف الحياة للبشرية جمعاء”. (للمزيد عن هذا الموضوع، انظر كتاب مايكل ريكتنفالد القادم: ‘العلمانية البريطانية في القرن التاسع عشر: العلم والدين والأدب’).

ولنتأمل للحظة، على الرغم من ذلك، نوع المعلومات التي يتضمنها كتاب ليدرو، والعنوان الذي يستحق الذكر، والذي يتضمن غياب كلمة “تطور” عن الذكر. في ضوء كل ما قلته حتى الآن، فإن قراءة الحقائق الواردة في الفقرات القليلة القادمة هي إدراك سريع لأهميتها لتقييم حالة الحركة الملحدة اليوم. في الواقع، يبدو أن الفرد الأول في التاريخ الغربي الحديث الذي كان ملحداً مهماً، هو الكاهن الكاثوليكي الفرنسي جان ميسلر (1664-1729)، وكان ميسلر، الذي ترك وراءه مذكرات تكشف عدم إيمانه بصدق القصص التوراتية والعقائد الكاثوليكية وكراهيته الشديدة للدين، وكان بطلاً شجاعاً بالنسبة للفقراء. إن كتاب مسليير، الذي يقول عنه ستيفنس، موجّه إلى جماهير الفلاحين والعمال، ويهاجم النبلاء “والاضطراب، والعنف، والمظالم التي يرتكبونها على الفقراء”. وأدان الملكية الخاصة للممتلكات ودعا إلى ملكية مشتركة”، قبل أكثر من قرن من ظهور البيان الشيوعي (1848). وهكذا غالبًا ما كانت تتماشى مع الإلحاد خلال القرنين ونصف القرن التالي، وهو المشهد الزمني الذي يتضمن، في أوروبا، من سيأتي. دينيس ديدرو في التاريخ الفلسفي (أنتج بالتعاون مع آخرين، 1770)، والذي كما لاحظ ستيفنس، عارض العبودية، والاستعمار، والأرستقراطية، وأدان الجشع والاستغلال الاقتصادي، وكتاب شيللي “كوين ماب” (طبع لأول مرة في عام 1813)، وهو كتاب أعجب الكثيرين من الطبقة العاملة بسبب مشاعر كهذه: “… أغمي على الكثيرين من شدة الكدح، ربما يكونون قلة الذين يعلمون عاقبة الكسل”. وكتابات الفيلسوف ويليام جودوين والعديد من الأناركيين الإلحاديين الأوروبيين والروس، الذين جاءوا في وقت لاحق (على سبيل المثال، ميخائيل باكونين: “إن إلغاء فكرة الإله سيكون نتيجتها الحتمية التحرر البروليتاري”). الطبعات الاشتراكية اللاحقة لكتاب جون ستيوارت ميل: مبادئ الاقتصاد السياسي. الفلسفة الاجتماعية الإنسانية والاقتصاد السياسي الراديكالي، كارل ماركس والكثير من الملحدين الذين تأثروا به. إن فلسفة جان بول سارتر، التي وصفها ستيفينز بأنها “وجودية” ذات نزعة إنسانية “لأنها مكرسة لمخطط ثوري، مناهض للرأسمالية للارتقاء بالإنساني”. اتخذ الانحياز السياسي للإلحاد مسارًا مشابهًا جدًا في الولايات المتحدة، كما يؤكده من ضمن أشياء أخرى، التطورات والشخصيات التالية. في كثير من الأحيان هناك اتصال وثيق بين جماعات الفكر الحر والحركة العمالية خلال القرن التاسع عشر. الانشاء الأولي للحركة النسوية الملحدة كان خلال 1830م، من قبل الاشتراكي الطوباوي إرنستين ل. روز. وكان تأسيس الحركة الثقافية الأخلاقية في عام 1877م، بواسطة الديمقراطي الاشتراكي فيليكس أدلر، والدعم واسع النطاق في شيكاغو لحركة العمال المناضلين الاناركيين المعادية للدين خلال 1880م و1890م، وخلال نفس الفترة في مدينة نيويورك، كان انتشار حركة “الثقافة المضادة” التي تتألف من ملحدين، ومعظمهم من الطبقة العاملة اليهودية الأناركية (كتاب بول أفريتش، Anarchist Portraits، 1988). والبيان الإنساني الأول (1933) Humanist Manifesto I الذي دعا الى استبدال “وضع التملك والمجتمع الباحث عن الفوائد الى نظام اجتماعي وتعاوني اشتراكي”. ومن بين العديد من غير المؤمنين الآخرين، شارلوت بيركنز جيلمان، ألبرت أينشتاين، جون ديوي، لورين هانسبيري، إريك فروم، ستيفن جاي جولد، كورت فونيجوت وهوارد زين. الفلسفة الديمقراطية الاجتماعية للبيان الإنساني الثاني 1973. Humanist Manifesto II مؤسّسة الالحاد الأميركي مادلين موراي أواري، تدعم بنشاط النقابات العمالية، ومشاركتها أولا في حزب العمل الاشتراكي ومن ثم في حزب العمال الاشتراكي الأكثر راديكالية، وفي أوائل 1960م تحولت إلى الأناركية.

وينبغي لنا تضمين بعض النقولات الوجيزة حول اللغة. المقولة الإنسانية الشائعة “بلادي” هي العالم، وديني هو أن نفعل الخير “تعود الى كتاب حقوق الإنسان من قبل توماس باين، وهو بطل وفيّ للفقراء، والطبقة العاملة. (وكربوبي، كان باين أقرب إلى الإلحاد كما هو حال اغلب الناس في أواخر القرن الثامن عشر). لقد ابتكر الاشتراكي هوليوك كلمة “العلمانية” في 1851 (ليدرو يذكر ذلك، لكنه لا يوضح أن المصطلح كان يقصد منه اسم الحركة). شعار الفكر الحر “لا إله، لا أسياد”، والذي يفترض بشكل عام أن يكون من عمل بعض مشاهير الإلحاد أو منظماته، يأتي في الواقع من أدب نقابة العمال الراديكالية المسماة منظمة العمال الصناعيين للعالم في أوائل القرن العشرين.

في الماضي، كان الإلحاد المنظم في كثير من الأحيان قوة راديكالية تحارب نظامًا اجتماعيًا اقتصاديًا غير عادل، بينما اليوم يعطينا ما يسميه ليدرو بذكاء “التبريرية النيوليبرالية التطورية”. ستعتقد أن هذا التاريخ سيكون له معنى عميق للملحدين اليوم. في عام 2014، أصدر علماء السياسة في جامعة برينستون دراسة أكدت أن السياسة العامة في الولايات المتحدة شُكلت في الغالب من قبل مصالح وتفضيلات النخبة الاقتصادية، “في حين أن جماعات المصالح القائمة على الجماهير والمواطنين العاديين تملك القليل أو لا تملك تأثيراً مستقلاً”. بعبارة أخرى، وكما عرف المراقبون عن كثب منذ عقود، فإن الديمقراطية قد أزاحتها القلة الحاكمة، وعندما يبرز موضوع الفلسفة السياسية، يزعم معظم الملحدين أنهم يؤمنون بشدة بالديمقراطية الليبرالية، لكن هذا التأكيد العلمي تم تجاهله تماماً من معلقي التيار الإلحادي السائد.

في معرض حديثه عن مخاطر التعصب الإلحادي، مع إخلاصه لـ “العقل المقدس”، كتب ستيفنس قائلاً: “ما كان خطأً أخلاقياً في دين اللادينين هو باختصار أنه تم إضفاء الطابع المؤسسي عليه خلال الثورة الفرنسية، كما يقول توماس باين، إنها لم تكن مسيئة للدين جداً، بل كانت ارثوذكسية جداً”. ستيفنس يشير إلى حقيقة أنه مثلما فعلت المسيحية في كثير من الأحيان، أصبح الإلحاد من عدة أوجه غير متسامح وشرير، وأصبح الإلحاد الجديد شبيهاً بالأرثوذكسية عدا أنه لا يقطع رؤوس أعداد كبيرة من المواطنين الذين لا يتفقون معك. توضّح الحركة الإلحادية اليوم هذا بطرق عديدة، لكن لا شيء أكثر وضوحًا من تقديم “ستار دخان لمظالم الرأسمالية العالمية”. كما قال لوقا سافاج منذ عام.

في الواقع، وبالنظر إلى الطرق التي دفعت النيوليبرالية إلى قتل الطبقة الوسطى على مدى العقد الماضي أو نحو ذلك، يساعد الملحدون الذين يدعمون، أو يمكِّنون الوضع الراهن للاقتصاد في نقلنا بالقوة إلى مسافة قريبة من الواقع المرير الذي حلم به الملحد التحرري آين راند. ووفقًا لنتائج الأبحاث الجديدة، فإن 400 من أغنى الأمريكيين أصبح لديهم الآن ثروة أكثر من 61 في المائة من السكان، وأغنى 3 في المائة من العائلات “يمتلكون أكثر من ضعفي ما يعادل 90 في المائة من القاع”. من المذهل أن نصف الشعب الأمريكي أصبح الآن فقراء أو محدودي الدخل.

بتجردها من أي مبدأ تنظيمي سوى الاعتلال الاجتماعي للداروينية الاجتماعية، فإن الهاوية التي ينحدر فيها مجتمعنا تظهر لنا بشكل واضح جداً، أن العقلانية، التي لا تتأثر بالمشاعر والعاطفة تصبح مجرد دعم فعال لتحقيق اهداف مثل الهيمنة، والاستغلال، وأنماط لا حصر لها من عداء قسوة البشر (ناهيك عن مكافحة القسوة ضد الحيوانات والبيئة)، وهكذا، إلى الإلحاد المنظم، الغارق في الرؤى الحالمة لأن يسود العلم، غير عابئين بالتاريخ الذي تحدثنا عنه، وتفاقم حالة عدم المساواة، وزيادة البؤس البشري، والأسس الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية للإرهاب، والعلاقة القوية بين العافية الاجتماعية-الاقتصادية والعلمنة.

في هذه الأيام، تصطف الحركة مع المستبدين، وتدعم ما يسميه كيرتيس وايت “النظام الاجتماعي الأكثر تدميراً في التاريخ البشري -الرأسمالية والنزعة العسكرية الرأسمالية”. إن الأخلاقيات الإنسانية، التي يزعم الكثير من الملحدين أنهم يتبنونها، تستلزم منطقيًا القضاء على الظلم الاقتصادي والفقر. ولكن هذا يعني في الواقع، كما تعلمون، التركيز على تلك القضايا فكريًا وعمليًا. لكن الناشط الملحد المعتاد سيؤيد أن يبقى مرتبطًا بالكرسي، ويجبر على الاستماع إلى الكتب الصوتية للأعمال الكاملة لـ بات روبرتسون.

الخلاصة

لم يكن من قبيل المصادفة التاريخية أن تطور الإلحاد في العصر الحديث كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بحركات العدالة الاجتماعية، وبأن جهود الإصلاح تلك كانت تركز دائمًا على الصراع الطبقي، أو كان لها علاقة كبيرة به. إن الإلحاد الإنساني الذي ينصب التركيز الرئيسي فيه على ازدهار الإنسان، ويستلزم واجبات أخلاقية عملية (الأخلاقية الفلسفية)، أكثر من أي مكان آخر في الطيف السياسي، تجد تعبيرها، ودفاعها في اليسار الراديكالي، ماركس، الذي ألهم فكره في تكوين معتقد إنساني راديكالي لا يزال نابضًا بالحياة. وهو الذي كتب إلى من كانت فكرة تغيير العالم نحو الأفضل تشغل فكره “الفلسفة يمكن أن تكون مدركة فقط من خلال إلغاء البروليتاريا، ويمكن إلغاء البروليتاريا فقط من خلال إدراك الفلسفة”. وبالنظر إلى الوضع الحالي للعالم، فإن فهم الفلسفة الإنسانية لن يتطلب أقل من إعادة هيكلة اقتصادية بيئية، وهي إعادة هيكلة صديقة للأرض، راديكالية للحياة السياسية والاقتصادية. وبصفته مصدرًا رئيسيًا للأفكار السيئة، يظل الإلحاد الجديد عائقًا أمام هذا التحول، ويجب أن يسعى الاشتراكيون وغيرهم من المروجين لرفاه الإنسان إلى تقويضه كلما كان ذلك ممكنًا.

(المصدر: New Atheism, Worse Than You Think / موقع أثارة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى