كتابات

الأمطار والسياسة!!

بقلم د. محمد عياش الكبيسي.

العالم اليوم محكوم بالسياسة في كل حركاته وسكناته، فالناس يأكلون سياسة، ويشربون سياسة، ويتنفسون سياسة، ومن الصعب أن يجد المرء لنفسه فسحة للراحة والاستجمام بعيدا عن دخان السياسة.

كنت أقرأ في الأدب العراقي القديم عن صديق جلس مع صديقه على ضفاف دجلة للأنس والراحة فاشترط عليه أن يتحدث بما يشاء عدا السياسة، بدأ صاحبه بالحديث عن النخلة وكم تعمر؟ فقاطعه لأن هذا سيجر إلى نقد الحكومة وسياساتها الزراعية والصناعية ويذكر بقصة (الجسر الخشبي البالي)، فانتقل صاحبه إلى الحديث عن الفوانيس المعلقة في الطرقات وكم تحتاج من النفط؟ فقال له: هذا تدخل صريح في شؤون أمانة العاصمة، وانتقاد أمانة العاصمة انتقاد للحكومة، قال: لم يبق إلا أن نتحدث عن الشعير وعلف الخيول، قال: وهل اشتقت السياسة إلا من سياسة الخيول، أما ترى أن كلمة (سايس) و (سياسي) من جذر واحد وبمعنى واحد؟!

هذا الكلام كان أيام الفوانيس والجسور الخشبية، فما بالكم اليوم؟ حتى الذين تربوا على مقولة (أعوذ بالله من الشيطان والسياسة) تراهم اليوم يزاحمون السياسيين ويعقدون الصفقات والتحالفات السرية والعلنية.

استبشر الناس بهطول الأمطار الموسمية، فحب الناس للمطر حب فطري، خاصة في الجزيرة ودول الخليج، فالمطر عندهم بهجة وحياة وتجدد وانتعاش، حتى منغصات المطر يتعاملون معها بإيجابية، فالطالب حينما يعتذر لك عن الدوام بسبب المطر وانقطاع الطريق يقول ذلك بفرحة وسعادة، لا كما يعتذر في أي حالة ثانية، نعم هناك نقد للمؤسسات المعنية في عدم أخذها بالاحتياطات اللازمة، خاصة مع انكشاف بعض العيوب الصغيرة أو الكبيرة في المنشآت والطرقات، وهم يتناقلون الصور والشواهد بعفوية وتلقائية دون تكلف ولا تحرج، وهذا في الغالب يأتي بنتائج إيجابية، ويعزز في الوقت ذاته من حالة الثقة بين الدولة والمواطن، إلا أن الذي حصل في هذا الموسم أن هناك بعض الفضائيات ومواقع التواصل عملت بطريقة استثنائية على تسييس المطر! مستغلة بعض الصور المنشورة للوصول إلى أهداف سياسية محددة مثل:

أولا: محاولة تضييق الفوارق في أنظار الناس بين تلك الأنظمة الغارقة في الفساد السياسي والمالي والذي ينذر بالانهيار الشامل كما هو الشأن في العراق ومصر، وبين الأخطاء والإشكالات العادية والمتوقعة والقابلة للتصحيح والمعالجة كما هو الحال في دول الخليج، وهذه محاولة يائسة وبائسة، فما أنفقته الحكومة العراقية مثلا في قطاع الكهرباء يكفي لبناء منظومة كهربائية على مستوى العالم العربي كله، لكن الكهرباء لم تتحسن وما زالت المدن العراقية غارقة في الظلام! وهكذا قل عن المليارات التي تهدر في الجانب العسكري والأمني والخدمي، إنها بلاد منكوبة ومسلوبة بكاملها وليست تسريبا في سقف أو انسدادا في طريق.

ثانيا: محاولة إقناع المواطن الخليجي أن السبب في هذه الإشكالات يعود إلى الاهتمامات الخارجية في الشأن اليمني والسوري وغيرهما وما تتطلبه من تكاليف! ولا يخفى على عاقل أن المقصود من كل هذا الضغط على دول الخليج للانكفاء على نفسها وفتح الساحة بالكامل للهيمنة الإيرانية حتى لو أدى ذلك إلى تطويق الخليج وخرق منظومته الأمنية، وفي الوقت ذاته يلتزم هؤلاء جانب الصمت إزاء معاناة الشعوب الإيرانية التي ترى أغلب ثرواتها تهدر في الخارج بينما تعيش هي تحت خط الفقر!

أمام هذا التسييس المفضوح تتعالى بعض الأصوات المخلصة في ردة فعل متوقعة لرفض النقد والكف عن المحاسبة والمساءلة، وهذا توجه خطير من حيث النتيجة، لأنه يوفر الغطاء المريح لبذور الفساد، وبهذا تفلت الجهات والشركات المقصرة، وتتنصل عن التزاماتها، مما ينذر بتكرار الخطأ وتفاقمه، وهذا ما تقع به بعض الجماعات الإسلامية حيث تشعر أنها في حصانة عن أي مساءلة أو محاسبة طالما أنها تخوض مواجهة مفتوحة مع (العدو) وبالتالي فإن أي نقد أو دعوة للمساءلة والمحاسبة معناه كشف ظهر الجماعة لعدوها، مع أن القرآن يقول غير هذا؛ ففي أوج المواجهة بين المسلمين والمشركين كان القرآن يتنزل: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)، هكذا نزلت صريحة مدوية مع أن جبهة الشرك كانت على أشدها، وجبهة اليهود في داخل المدينة يسودها التوتر والترقب، والمنافقون في الداخل يكيدون ويتآمرون، نزلت لكي تعلمنا أن المراجعة والمساءلة مصدر قوة للصف وليست سببا في إضعافه.

الحقيقة الأخرى التي ينبغي التنبه لها أن المجتمع قد لا يكون منزها عن التقصير حتى وهو يطالب بمحاسبة المقصرين، فاستخدام كل الطرق مثلا للحصول على الوظيفة دون النظر إلى الكفاءة الذاتية، أو حرص الطالب على النجاح ونيل شهادة التخرج دون الحرص على التكوين العلمي الرصين، ونحوهما من الظواهر المنتشرة في مجتمعاتنا، يعني في المحصلة أن المجتمع لديه مشكلة في التعامل مع قيمة الإتقان وأمانة العمل، وإذا كان المجتمع نفسه هو من يدفع بمثل هؤلاء إلى ساحات العمل ومنصات المسؤولية فكيف يدعو بعد هذا إلى مساءلتهم ومحاسبتهم؟

إن منظومة القيم تصنعها المجتمعات لا الحكومات، وبقدر ما يكون الخلل في هذه المنظومة يكون حجم الخلل في حياتنا العملية والسلوكية على مختلف الصعد وفي كل المجالات.

المسؤولية إذاً مسؤولية مشتركة، والمواقع فيها متنوعة ومتكاملة (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، وكل واحد منا على ثغرة (فإياك إياك أن نؤتى من قبلك).

المصدر: العرب القطرية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى