كتابات

استنباط العلماء لمقاصد القرآن

بقلم د.أحمد الريسوني

هذا المسلك تكفل بتمهيده عدد من العلماء، قاموا – ويقومون – باستقصاء مقاصد القرآن واستقراء دلالاتها الكلية، نظرا لما ينبني عليها من آثار بالغة في الفهم والتدبر والعمل. وقد أمرنا الله تعالى بالاعتماد على أهل الذكر العارفين به: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل : 43]، وأمرنا برد ما خفي علينا إلى أهل العلم والاستنباط {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء : 83]

ومن المعلوم بالتجربة والأمثلة أن العالِم الذي تَطولُ عشرتُه ومعاملته وتدبره لكلام الشارع وأحكامه، يصبح – بفضل هذه العشرة والخبرة – بصيرا مميزا لما يقصده الشارع وما لا يقصده. فهو تماما كمن يصحب شخصا زمنا طويلا؛ يسمع كلامه ويعاين أحواله، ويطلع على خبايا تصرفاته، فإنه – بعد ذلك – يستطيع أن يحكم جازما على أي قول من أقواله أو فعل من أفعاله، بأنه يقصد به كذا ولا يقصد كذا. بل يستطيع في كثير من الحالات أن يتوقع كلامه قبل أن يتكلم، ويتوقع فعله قبل أن يقدم عليه، وأن يتوقع أنه سيرضى بكذا ويقبله، أو أنه سيغضب منه وينكره…

فالعلماء الذين أفنوا أعمارهم في تدبر كلام الله وكلام رسوله، وفي تقليب النظر في أحكام الشرع وهديه – وخاصة منهم المفسرين – لهم كامل الأهلية والصلاحية ليخبرونا بما استقرأوه وما حصلوه من مقاصد الكتاب العزيز. ولهم كامل الحق علينا أن ننصت إليهم ونأخذ عنهم.

وفيما يلي نُبَذٌ مما توصلوا إليه في هذا الباب، أذكرها لفائدتها أولا، ثم تعريفا وتنويها بهؤلاء العلماء وما قدموه لنا، وإن كان الباب يبقى مفتوحا لغيرهم من للدارسين المتدبرين.

مقاصد القرآن عند الغزالي: ثلاثٌ مهمات، وثلاثٌ مُتِمات

لخص الإمام الغزالي في أول كتابه (جواهر القرآن) المقاصدَ الجامعة التي اعتنت معظم سور القرآن وآياته ببيانها وتحقيقها، قبل أن ينطلق في شرحها وتفصيلها. قال رحمه الله:

انحصرت سور القرآن وآياته في ستة أنواع:

ثلاثة منها هي السوابق والأصول المهمة، وثلاثة هي الروادف والتوابع المغْنية المتمَّة.

أما الثلاثة المهمة فهي:

– تعريف المدعو إليه (وهو الله عز وجل).

– وتعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إليه (وهي الشريعة والتكاليف الشرعية)

– وتعريف الحال عند الوصول إليه (يقصد اليوم الآخر).

وأما الثلاثة المغنية المتمة:

فأحدها: تعريف أحوال المجيبين للدعوة ولطائفِ صنع الله فيهم. وسره ومقصوده التشويق والترغيب. وتعريفُ أحوال الناكبين والناكلين عن الإجابة، وكيفية قمع الله لهم وتنكيله لهم . وسره ومقصوده الاعتبار والترهيب.

وثانيها: حكاية أحوال الجاحدين وكشفُ فضائحهم وجهلهم، بالمجادلة والمحاجة على الحق. وسره ومقصوده في جنب الباطل الإفضاح والتنفير، وفي جنب الحق الإيضاح والتثبيت والتقهير.

وثالثها: تعريف عمارة منازل الطريق، وكيفية أخذ الزاد والأهبة والاستعداد [1].

ومن الواضح في هذا النص أن أبا حامد غلبت عليه ثقافته ولغته الصوفية في صياغته لهذه المقاصد القرآنية. ولا غرابة في ذلك، فإن الفطام عن المألوف شديد، كما قال هو نفسه في مقدمة (المستصفى).

مقاصد القرآن عند ابن عبد السلام: جلب المصالح وأسبابِها، ودرءُ المفاسد وأسبابِها

وأما الإمام عز الدين بن عبد السلام رحمه الله، فجمَع مقاصد القرآن في جملة واحدة، قال فيها: “ومعظم مقاصد القرآن الأمر باكتساب المصالح وأسبابها، والزجرُ عن اكتساب المفاسد وأسبابها” [2].

وفي موضع آخر جمع مقاصد الكتاب والسنة معا في هذا المعنى فقال:

“ولو تتبعنا مقاصد ما في الكتاب والسنة، لَعَلِمنا أن الله أمر بكل خير دِقِّه وجِلِّه، وزجر عن كل شر دقه وجله، فإن الخير يعبَّر به عن جلب المصالح ودرء المفاسد، والشر يعبر به عن جلب المفاسد ودرء المصالح، وقد قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}” [3].

“وأجمعُ آية في القرآن للحث على المصالح كلها والزجر عن المفاسد بأسرها، قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ؛ فإن الألف واللام في (العدل والإحسان) للعموم والاستغراق، فلا يبقى من دِق العدل وجِله شيء إلا اندرج في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}، ولا يبقى من دق الإحسان وجله شيء إلا اندرج في أمره بالإحسان. والعدل هو التسوية والإنصاف، والإحسان إما جلب مصلحة أو دفع مفسدة. وكذلك الألف واللام في (الفحشاء والمنكر والبغي)، عامة مستغرقة لأنواع الفواحش ولِما يُذكر من الأقوال والأعمال” [4].

المقاصد الثلاثة عند البقاعي

قال البقاعي وهو يتحدث عن مقاصد سورة الإخلاص وكونِها تعدل ثلث القرآن: “وهي وافية بأمر الاعتقاد بالوحدانية الذي هو رأس الاعتقاد ، وباعتبار أن مقاصده كلها محصورة في بيان العقائد، والأحكام، والقصص. وهذه السورة على وجازتها قد اشتملت على جميع المعارف الإلهية والرد على من ألحد فيها ، ولأجل أن هذا هو المقصود بالذات الذي يتبعه جميع المقاصد، عدِلت في بعض الأقوال بجميع القرآن” [5].

المقاصد العشرة عند رشيد رضا

أول من توسع في الاستقصاء والبيان لمقاصد القرآن هو العلامة محمد رشيد رضا. فقد عقد لذلك فصلا ضافيا في نحو سبعين صفحة، وذلك في الجزء الحادي عشر من (تفسير المنار)، عند تفسير أول سورة يونس.

ونظرا لطوله، فإني أقتصر منه على رؤوس المقاصد التي بينها [6].

قال رحمه الله:

“مقاصد القرآن في ترقية نوع الإنسان:

النوع الأول من مقاصده: الإصلاح الديني لأركان الدين الثلاثة:

الركن الأول للدين الإيمان بالله تعالى…

الركن الثاني من أركان الدين عقيدة البعث والجزاء …

الركن الثالث للدين العمل الصالح …

المقصد الثاني من مقاصد القرآن: بيان ما جهل البشر من أمر النبوة والرسالة ووظائف الرسل…

المقصد الثالث من مقاصد القرآن: بيان أن الإسلام دين الفطرة السليمة، والعقل والفكر، والعلم والحكمة، والبرهان والحجة، والضمير والوجدان، والحرية والاستقلال …

المقصد الرابع من مقاصد القرآن: الإصلاح الاجتماعي الإنساني والسياسي الذي يتحقق بالوحدات الثمان:

وحدة الأمة – وحدة الجنس البشري – وحدة الدين – وحدة التشريع بالمساواة في العدل – وحدة الأخوة الروحية والمساواة في التعبد – وحدة الجنسية السياسية الدولية – وحدة القضاء – وحدة اللغة …

المقصد الخامس من مقاصد القرآن: تقرير مزايا الإسلام العامة في التكاليف الشخصية من العبادات والمحظورات …

المقصد السادس من مقاصد القرآن: بيان حكم الإسلام السياسي الدولي : نوعه وأساسه وأصوله العامة…

المقصد السابع من فقه القرآن: الإرشاد إلى الإصلاح المالي…

المقصد الثامن من فقه القرآن: إصلاح نظام الحرب ودفع مفاسدها وقصرها على ما فيه الخير للبشر…

المقصد التاسع من فقه القرآن: إعطاء النساء جميع الحقوق الإنسانية والدينية والمدنية…

المقصد العاشر من فقه القرآن: تحرير الرقبة [7].

وقد أعاد السيد رشيد رضا هذه المقاصد العشرة للقرآن، مع مزيد بسط لها، في كتابه (الوحي المحمدي)، حيث خصص لها الفصل الخامس، الذي يشكل الشطر الأكبر من الكتاب [8].

المقاصد الثمانية عند ابن عاشور

خصص العلامة محمد الطاهر ابن عاشور المقدمة الرابعة من مقدمات تفسيره لبيان مقاصد القرآن. وهذه فقرات منها: [9].

“إن القرآن أنزله الله تعالى كتابا لصلاح أمر الناس كافة، رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم، قال الله تعالى: (وأنزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين)، فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية، والجماعية، والعمرانية . فالصلاح الفردي يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها . ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد، لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير، ثم صلاح السريرة الخاصة ، وهي العبادات الظاهرةُ كالصلاة ، والباطنةُ كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر . وأما الصلاح الجماعي فيحصل أولا من الصلاح الفردي، إذ الأفراد أجزاء المجتمع ، ولا يصلح الكل إلا بصلاح أجزائه ومن شيء زائد على ذلك، وهو ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات ومواثبة القوى النفسانية. وهذا هو علم المعاملات ، ويعبر عنه عند الحكماء بالسياسة المدنية.

وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك؛ إذ هو حفظ نظام العالم الإسلامي ، وضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع، ورعْيُ المصالح الكلية الإسلامية، وحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها ، ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع…”

ثم انتقل إلى بيان مقاصد القرآن التي انتهى إليها استقراؤه، وهي ثمانية، نقتصر على ذكر رؤوسها وعناوينها:

الأول: إصلاح الاعتقاد وتعليم العقد الصحيح…

الثاني: تهذيب الأخلاق…

الثالث: التشريع، وهو الأحكام خاصة وعامة…

الرابع: سياسة الأمة، وهو باب عظيم في القرآن القصد منه صلاح الأمة وحفظ نظامها…

الخامس: القصص وأخبار الأمم السالفة للتأسي بصالح أحوالهم… وللتحذير من مساويهم …

السادس: التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين، وما يؤهلهم إلى تلقي الشريعة ونشرها…

السابع: المواعظ والإنذار والتحذير والتبشير…

الثامن: الإعجاز بالقرآن، ليكون آية دالة على صدق الرسول [10].

وقد عاد ابن عاشور ليستدرك في موضع آخر من تفسيره؛ فذكر مقصدين آخرين من مقاصد القرآن. فصارت مقاصده عشرة، كمقاصد الشيخ رشيد رضا.

قال ابن عاشور: “على أن من مقاصد القرآن أمرين آخرين:

أحدهما: كونه شريعة دائمة، وذلك يقتضي فتحَ أبواب عباراته لمختلف استنباط المستنبطين، حتى تؤخذ منه أحكام الأولين والآخرين.

وثانيهما: تعويد حَمَلة هذه الشريعة، وعلماءِ هذه الأمة، بالتنقيب والبحث واستخراج المقاصد من عويصات الأدلة، حتى تكون طبقات علماء الأمة صالحة في كل زمان لفهم تشريع الشارع ومقصده من التشريع، فيكونوا قادرين على استنباط الأحكام التشريعية، ولو صِيغَ لهم التشريع في أسلوب سهل التناول لاعتادوا العكوف على ما بين أنظارهم في المطالعة الواحدة” [11].

——————————————————

هوامش:

[1] — جواهر القرآن ص23 –24

[2] — قواعد الأحكام في مصالح الأنام — (1 – 10)

[3] — قواعد الأحكام في مصالح الأنام — (2 – 188)

[4] — قواعد الأحكام في مصالح الأنام — (2 – 190)

[5] — نظم الدرر في تناسب الآيات والسور — (8 – 593)

[6] — انظر ذلك في: تفسير المنار — 11 – 171 — 239

[7] — تفسير المنار — 11| 171– 239

[8] — الوحي المحمدي ص 191 إلى 348

[9] — انظرها بتمامها في: التحرير والتنوير 1 – 38– 45

[10] — التحرير والتنوير 1 – 38– 45

[11] — التحرير والتنوير — 3 – 18

المصدر: موقع الريسوني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى