أخبار ومتابعاتكتاباتكتابات مختارة

إستراتيجية تدمير الموصل

بقلم د. محمد عياش الكبيسي

 

قصة تدمير الموصل، لم تبدأ بداعش ولا بكارثة الموصل الحالية، بل ربما ترجع إلى الثمانينيات، حيث خرج العراق منتصراً في معركة الثماني سنوات، وبجيش متفوق في العدد والعدة على كل جيوش المنطقة تقريباً، وبمنشآت تصنيعية نموذجية…

 

دخلت داعش الموصل، خرجت داعش من الموصل، ليس هناك من جديد ولا خروج عن المألوف، فداعش لم تدخل إلا لتخرج، هكذا هي منذ نشأتها في سلسلة متواصلة في كل المدن التي دخلتها في العراق وسوريا، والصور التي تنقلها وسائل الإعلام في كل هذه المدن متشابهة أيضاً، خراب شامل، وإزالة للمعالم والآثار، وخسائر غير منظورة ولكنها في غاية الخطورة، مثال على ذلك حالة الشعور بالإحباط وانسداد الآفاق لدى عامة الناس في هذه المناطق، لأن داعش في العادة لا تدخل إلا مع وجود مشروع تحرري يلتف حوله الناس، حتى إذا تعلقت آمال الناس به جاءت داعش لتدميره، هكذا كان مشروع المقاومة العراقية الذي فتح آمالاً واسعة للعراق والأمة، ثم كان مشروع الحراك الذي شكل منعطفاً آخر يبشّر بالانعتاق من الهيمنة الإيرانية والتغولات الطائفية، وفي سوريا كان هناك مشروع التحرر الفعلي الذي قارب على قطف الثمرة، هذه المشاريع كلها أحبطت بفضل داعش، وإن نظرة واحدة في توقيتات دخول داعش إلى كل هذه المدن بأرتالها وأعلامها وبلا عوائق دليلٌ كافٍ على أن هناك شيئاً ما غير طبيعي يحرك هذا المشهد ويرتّب أوراقه وفق خطة محكمة ودقيقة ومتسلسلة.

السؤال إذاً ليس عن داعش وما عملت وخرّبت، السؤال عن هذه الاستراتيجية التي لم تعد خافية على أحد.

لقد كانت تكلفة القضاء على داعش حينما كانت مختبئة في الصحراء أقل بما لا يقاس بتكلفتها بعد احتلالها لهذه المحافظات، وعلى الأقل كان يمكن منعها من احتلال هذه المدن كما منعوها من احتلال مدن أخرى مثل ديالى وسامراء، إضافة للمدن «الشيعية» التي لم تفكر داعش بالاقتراب منها! علماً أن كثيراً من هذه المدن ذات الأغلبية الشيعية لم تكن فيها قوّة عسكرية كتلك القوة التي كانت موجودة في الموصل.

إننا نتكلم هنا -إلى جانب التوقيتات المريبة- عن حدود على الأرض مرسومة بدقة أيضاً، وهي المحافظات والمدن السنّية حصراً، ولقد كنت أتابع تحرك داعش في مناطق محدودة جداً خارج هذه الخارطة المرسومة مثل اقترابها من مخمور وسد الموصل وسد حديثة وبعض قرى ديالى وأطراف سامراء -وهي كلها مناطق سنّية أيضاً لكن لها وضعها الخاص والمعروف- آنذاك فقط يسارع الطيران الأميركي للتدخل، فتفهم داعش الرسالة وتتراجع، بينما حينما تتحرك لأخذ الرمادي والفلوجة والموصل وغيرها لم تتحرك طائرة أميركية واحدة لمنعها أو تنبيهها على الأقل! بل هناك تقرير مصوّر بثته قناة الجزيرة عن الطريق الاستراتيجي الذي يربط الموصل بالرقة والذي كانت داعش تستخدمه لنقل جنودها وسلاحها ومؤنها بعلم الأميركيين، وحينما سأل المراسل أحد المقاتلين الكرد عن ذلك، أجاب بكل صراحة أنهم لو قطعوا هذا الطريق على داعش لضربهم الأميركيين، علماً أنهم كانوا على رابية مرتفعة ومطلة على الطريق، فلا هم يتعرضون لداعش ولا داعش تتعرض لهم إذا فهم كل طرف حدوده بالضبط! هذا التقرير له شواهد كثيرة يعرفها الناس العاديون في سوريا والعراق، وحركة الميليشيات الطائفية بتقدمها أو تراجعها أكثر وضوحاً في التعبير عن هذه الاستراتيجية، إنهم جميعاً أدوات مختلفة لمشروع واحد.

قصة تدمير الموصل، لم تبدأ بداعش ولا بكارثة الموصل الحالية، بل ربما ترجع إلى الثمانينيات، حيث خرج العراق منتصراً في معركة الثماني سنوات، وبجيش متفوق في العدد والعدة على كل جيوش المنطقة تقريباً، وبمنشآت تصنيعية نموذجية، في ذلك الوقت نستطيع القول إن قراراً قد اتخذ بتدمير العراق وجيشه ومنشآته، بل وبنيته التحتية بالكامل.

إن وضع العراق كله تحت مظلة الجحيم والحصار الخانق من سنة 1991 حتى 2003، لا يمكن تبريره ولا تفسيره إلا بوجود استراتيجية ثابتة في السياسة الأميركية تجاه العراق والمنطقة، والتي تأكدت بغزو العراق مرة ثانية والإجهاز على ما تبقى فيه، وحل مؤسساته بشكل رسمي وإشاعة حالة من الفوضى لم يشهد لها التاريخ مثيلاً.

لقد عمدت السياسة الأميركية بعد 2003 إلى صناعة عملية سياسية هزيلة ومفككة، تقوم على حالة من العبث والاستعداء الطائفي والقومي، وفتح أبواب الفساد والنهب والرشوة، وفي الوقت ذاته تم السماح بتكوين ميليشيات وجماعات مسلحة متناحرة، لتبدأ عملية التناوب على تدمير المدن بالكر والفر، وتغليب هذا الطرف مرة وذاك الطرف مرة أخرى، ومن غرائب هذا الوضع أن يسمح لرجل دين مقيم في العراق ولا يملك الجنسية العراقية بتشكيل جيش أقوى من جيش الدولة، وليس للدولة إلا أن تخضع وتقدم له التسهيلات وكافة الاحتياجات، فأي دولة هذه التي يريدونها في العراق؟ وأي نموذج ذاك الذي يمكن أن يعمم على المنطقة؟

في الجانب السوري تعبر ميليشيا حزب الله المسلحة حدود «الدولة اللبنانية»، بدون موافقة الدولة ولا علمها، لتجتاح «دولة» أخرى، ثم يقف «المجتمع الدولي» مكتوف الأيدي! ليس فقط المجتمع الدولي، بل والجامعة العربية والأنظمة العربية ودول الجوار، حتى إسرائيل لا تبدو مكترثة بل مرحبة، ثم تفاقم الأمر بوجود جيش إيراني رسمي، يقاتل وتشيع جثامينه في شوارع قم وطهران، والعالم كله يتفرج، ثم يقال لك ليس هناك مؤامرة ولا اتفاقات مسبقة!

السؤال الذي ينبغي أن يوجه لهؤلاء: هل فعلاً عجزت الولايات المتحدة عن بناء دولة مدنية حديثة في العراق؟ وهل عجزت عن إيجاد حل لمشكلة بشار والميليشيات المقاتلة عنه؟ وهل يمكن أن نقتنع بأن الأميركيين -والغرب عموماً- لم تعد لهم مصلحة في هذه المنطقة الحيوية من العالم فتركوها للضياع؟

إن تسطيح هذه الحقائق وتبسيطها على أنها مجرد سلسلة من الأخطاء غير المقصودة، من شأنه أن يضلل القارئ العربي، ويفقده القدرة على التنبؤ بما يمكن أن يحصل مستقبلاً، بمعنى أنه لن يتمكن من بناء أية خبرة ذات قيمة، وهذا بالضبط هو الذي يفسر حالة «الرمال المتحركة» في توجهات الشارع العربي، فمرة مع الأنظمة ومرة مع الثورات، ثم يرجع ليتقبل تلك الأنظمة أو يحن إليها، ومرة يصفق لحسن نصرالله ويرفع أعلام حزب الله، ثم يلعنه ويلعن حزبه وكل من يمت إليه بأدنى صلة.

لقد آن لهذه الأمة أن تدرك أنها مستهدفة بكل عناوينها، وأن كارثة الموصل وحلب والفلوجة وحمص لن تقف عندها، فليست هناك مدينة عربية واحدة مستثناة حتى مكة والمدينة، فاستفيقوا يا عرب واتركوا عنكم اللعب.

(المصدر: موقع الأمة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى