كتابات مختارة

أيّ إسلام يريده أوباما لنا؟

بقلم عبد العزيز قاسم

لمّحت في مقالتي بالأسبوع الماضي بأن أخطر ما ذكره الرئيس الأمريكي باراك أوباما في حديثه الشهير لمجلة “أتلانتيك”، هو رؤيته لحل مشكلة “داعش” – وصف التنظيم بـ”الجوكر” في فيلم “الرجل الوطواط”- والتطرف الإسلامي عموما، حيث نقل الكاتب جولدبرج أن أوباما في أحاديثه الخاصة مع قادة العالم الآخرين، يقول دوما: “إنه لن يكون هناك حل شامل للإرهاب الإسلامي إلى أن يتصالح الإسلام نفسه مع العصرية والحداثة، وإلى أن يمر بإصلاحات مثل تلك التي غيّرت المسيحية”.

تلقف بعض كبار اللبراليين السعوديين الرسالة، فكتب د. تركي الحمد تغريدة في “تويتر” قال فيها: “أقولها ببساطة..ما لم نعلن القطيعة مع ابن تيمية وجماعته، كما أعلن الغرب قطيعته مع القديس أوغسطين وجماعته، فنحن في بحر الضياع غارقون”. وكتب غيره عن الإمام ابن قدامة المقدسي، وأتصور أننا سنشهد في الفترة المقبلة أسماء وكتبا جديدة تنضم لقائمة مطالبات القطيعة، وحرق كتبها.

ابتداء سنسأل الرئيس الأمريكي، الذي لا أشك مطلقا بأن رؤيته استقاها من بعض أبناء جلدتنا التي يسوطوننا بذات التهمة في الفضائيات والصحف ومراكز البحوث، هذا السؤال: هل تصحّ مقارنة الإسلام وظروفه التي يعيشها بكُنه وظروف المسيحية في القرون الوسطى. كي يطالب بالإصلاحات والرؤية التجديدية له؟ أي طالب مستجد في الجامعة اليوم، دعك من عتاة الباحثين والمتخصصين، لو يذهب لأي مكتبة ويقدم بحثا عن أسباب المناداة بإصلاح الكنيسة في تلك الأزمنة، ليجد أن معظمها كان محصورا في قضايا، الإسلام كدين بريء منها، بل هو على الضد تماما منها.

المصادر التاريخية تذكر أن من أهم أسباب الثورة هو إصدار الكنيسة لصكوك الغفران، وما تبع ذلك من فساد للقساوسة، وديننا الوضيء يرفض تماما ذلك، ويجعل العلاقة مباشرة مع الله جل وعلا.

هناك السبب الأهمّ، هو موقف الكنيسة من العلم والعقل، حيث إن كتب التاريخ تذكر مئات القصص عن تعرض علماء ذلك العصر للإعدامات والتعذيب بسبب مخالفتهم لرؤية الكنيسة، وأسوق هنا قصة العالم الشهير (جاليليو جاليلي)، الذي أثبت دورانَ الأرض حول الشمس على خلاف الاعتقاد الكنَسيّ القائم على أنّ الأرض ثابتةٌ لا تتحرك، وأنّها مركز الكون. كما استطاع هذا العالم أن يُثبت أن هنالك كواكبَ سيّارةً تدور حولها، وأنَّ عددها يزيد عن سبعة كواكب على خلاف الاعتقاد الكنسي السائد آنذاك والذي كان يحصرها في سبعة كواكب فقط، فثارت ثائرةُ الكنيسة وأعلنت هرطقة وكفر وإلحاد هذا العالم مُستندةً إلى أنَّ أقواله تخالف ما ورد في الكتاب المقدس. وتمَّ تحويل (جاليليو) إلى محكمة التفتيش في روما، وأعلن أمام البابا “أربان الثامن” تراجعه وتوبته عمَّا قاله. وقال في إعلانه هذا: “أنا جاليليو، وفي السبعين من عمري، سجينٌ جاثٍ على ركبتيَّ، وبحضور فخامتك، وأمامي الكتاب المقدس، الذي ألمسُه الآن بيدي أعلن أني لا أشايع، بل ألعنُ وأحتقرُ خطأ القول وهرطقة الاعتقاد بأن الأرض تدور”.

قارنوا هذه الممارسة الظالمة بموقف الإسلام من العلم،”يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ”، بل نفى الله تعالى المساواة بين العالم والجاهل فقال: “قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ”، دعكم من منزلة العقل التي زخر القرآن الكريم في آيات كثيرة بالتنويه له، مما جعل المفكر المصري عباس محمود العقاد يقول: “في كتب الأديان الكبرى إشارات صريحة أو مضمونة إلى العقل أو إلى التمييز. ولكنها تأتي عرضًا غير مقصودة. وقد يلمح فيها القارئ بعض الأحايين شيئًا من الزراية بالعقل أو التحذير منه. لأنه مزلّة العقائد. وباب من أبواب الدعوى والإنكار. ولكن القرآن لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم. والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه. ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية. بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها. مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة. وتتكرر في كل موضع من مواضع الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله. أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه”.

هناك أسباب أخرى عجلت بالثورة على الكنيسة، منها انحراف رجال الدّين ونسيانهم لدورهم الأخلاقي والدّيني، وابتداع الكنيسة لنظام “محاكم التفتيش”، وأيضا فرض الكنيسة للكتاب المقدَّس باللغة اللاتينية واحتكارها لفهمه وتفسيره، فضلا عن عوامل سياسية وقومية، جلها لا توجد في الإسلام كي يطالبنا أوباما بإسلام متصالح مع الحداثة، ولربما يتبين لكم ملامح هذا الإسلام الذي يرغبه، عندما يدلل –فيما دلل- على أن أندونيسيا تحولت للتشدد، لمجرد أنه رأى النساء الاندونيسيات متحجبات. فالحجاب برؤية الكاوبوي الأسمر زيّ غير متصالح مع العصر والحداثة، ولكم أن تتخيلوا باقي ملامح الإسلام الذي يريد أوباما لنا، كي يحل مشكلة التطرف.

قصة تفكيك “الإسلام السنّي” وإعادة قراءته، مهمة مستحيلة وإن كان البعض يتحرق عليها ويتشّوق إليها، واستحالتها شيءٌ لا يفهمه من يفكر بالعقلية الغربية التي تعاملت مع دين مفكك محرّف. ولدينا تاريخ طويل من المحاولات العلمانية في العالم العربي التي حاولت إعادة قراءة الدين الإسلامي (أي تحريفه)، فكانت النتيجة أن فقد أصحاب تلك القراءات شرعيتهم، وصاروا يعيشون فقط في عالم أعمدة الصحافة، أو زوايا المكتبات المهملة.

من حاول تبديل شيءٍ من ذلك، فقد أحرق نفسه وأسقطها. وأكبر عالمٍ سنيٍّ، لو حاول تحريك أصلٍ واحدٍ من أصول أهل السنة، لأحرقته أصواتُ أهل السنة.

ثق يا سيد أوباما أن أهم وأكبر سبب للتطرف الإسلامي هو سياسة بلادك عبر انحيازها الكامل والأخرق للكيان الصهيوني من نشأته، السبب سياسي بحت في نقمة الشعوب العربية عليكم، وتعاقبت أجيال وأجيال وهم يتوارثون هذا الكره والبغض لانحيازكم الأعمى، وقد سأل قبلك -بكثير من البلاهة- الرئيس بوش الابن: لماذا يكرهوننا؟

هيث ليدجر الممثل الاسترالي الذي جسّد شخصية الجوكر في الجزء الثاني لفيلم الرجل الوطواط THE DARK KNIGHT مات بعد تمثيله الفيلم، بتأثير من انعكاس الشخصية عليه، وهو ما نؤمله أن ينعكس لمن خلّق “داعش”.

(الشرق)

المصدر: الاسلام اليوم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى