كتب وبحوث

أنواع المفهوم عند الأصوليِّين

إعداد قاسم عبد الواحد

الحمد لله, والصَّلاة والسّلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه, ومن والاه. أمَّا بعد:

فالمفهوم عند الأصوليِّين نوعان: مفهوم الموافقة, ومفهوم المخالفة, فإذا تقرَّر هذا؛ فإنّ بحثنا في هذا الصَّدد يشتمل على ثلاثة مباحث:

المبحث الأوّل: مفهوم الموافقة, أنواعه, وحجيَّته عند الأصوليِّين.

المبحث الثَّاني: مفهوم المخالفة.

المبحث الثَّالث: أنواع مفهوم المخالفة.

المبحث الأوّل: مفهوم الموافقة وحجيَّته عند الأصوليِّين.

مفهوم الموافقة: هو فهم الحكم في المسكوت من المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده، ومعرفة وجود المعنى في المسكوت بطريق الأولى[1].

وقيل: هو المعنى الثَّابت للمسكوت عنه, الموافق لما ثبت للمنطوق, لكون المسكوت أولى بالحكم من المنطوق, أو مساويًا له[2].

أسماء مفهوم الموافقة: يسمّى بالتَّنبيه بالأدنى على الأعلى, وبفحوى اللَّفظ.

واختلف في تسميته قياسًا: فذهب بعض الشَّافعيَّة إلى أنَّه قياس؛ لأنه إلحاق المسكوت بالمنطوق في الحكم، لاجتماعهما في المقتضى، وهذا هو القياس.

وذهب الحنفية، وبعض الشافعية, وبعض الحنابلة إلى أنّه ليس بقياس؛ إذ هو مفهوم من اللفظ من غير تأمل ولا استنباط، بل يسبق على الفهم حكم المسكوت مع المنطوق من غير تراخ، إذا كان هو الأصل في القصد، والباعث على النطق، وهو أولى في الحكم[3].

والخلاف في تسميته قياسًا؛ خلاف لفظي؛ لا ينبني عليه حكم؛ لأنّ الفريقين متَّفقان على أنَّه قاطع, وأنّه حجّة؛ فالاختلاف في التّسمية اختلاف تنوّع؛ لا اختلاف تضاد.

قال ابن قدامة: ومن سماه قياسا: سلم أنّه قاطع، فلا تضره تسميته قياسا[4].

أنواع مفهوم الموافقة: مفهوم الموافقة نوعان:

النَّوع الأوَّل: مفهوم الموافقة الأولى بالحكم من المنطوق. ومن أمثلة هذا النَّوع قوله تعالى: فلا تقل لهما أفٍّ[55], فإنّه يدل بطريق الأولى على تحريم الضّرب والشتم وما أشبه ذلك[6]. وقوله تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره[7], فمثقال الجبل المسكوت عنه أولى بالحكم من مثقال الذرة[8]. وقوله تعالى: وأشهدوا ذوي عدل منكم[9], فأربعة عدول المسكوت عنهم أولى[10]. وقوله عليه الصَّلاة والسلام: «أربع لا تجزئ في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والكسيرة التي لا تنقي»[11]؛ فإذا لم تجزئ العوراء, فالعمياء من باب أولى. والأمثلة على ذلك كثيرة.

النَّوع الثَّاني: مفهوم الموافقة المساوي للمنطوق في الحكم. ومن أمثلة هذا النَّوع قوله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنّما يأكلون في بطونهم نارًا[122], فإنّه يدلّ على تحريم الأكل بمنطوقه، وعلى تحريم كلّ ما فيه تفويت لمال اليتيم بمفهوم الموافقة المساوي، فلا يجوز التصدق بمال اليتيم ولا إنفاقه في الجهاد ونحوه[13], وقوله عليه الصَّلاة والسلام: «أربع لا تجزئ في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والكسيرة التي لا تنقي»؛ فالحديث صالح للتَّمثيل للمفهومين؛ فما كان من العيوب أشدّ وأشنع من العيوب المنصوصة أولى وأحرى أن تمنع الاجزاء, وما كان من العيوب مساويًا للمنصوصة كقطع الأذن والذّنب؛ فهل تمنع الاجزاء كمنع العيوب المنصوصة, والعيوب الأشدّ؟: خلافٌ بين فقهاء الأمصار؛ وهي مسألة فقهيّة, تدرس بالتَّفصيل في البحوث الفقهيّة اللاحقة بإذن الله تعالى.

حجيَّة مفهوم الموافقة: حجّة عند العلماء؛ ولم يخالف في حجّيته إلا الظَّاهريّة؛ وشبهتهم في ذلك؛ زعمهم أنّه من قبيل القياس؛ إذ القياس عندهم باطل.

ومفهوم الموافقة من هذه الحيثيَّة أنواع:

النوع الأوّل: قطعيّ الدَّلالة, والأمثلة السّالفة لمفهوم الموافقة الأولى من هذا القبيل.

النّوع الثَّاني: ظنيّ الدّلالة: كقولهم: إذا ردت شهادة الفاسق فالكافر من باب أولى. وإنّما قلنا بأنّ هذا النّوع ظنّيّ؛ لأنه لا يبعد أن ترد شهادة الفاسق؛ لأنه متهم بالكذب, ولا ترد شهادة الكافر لكونه يحترز عن الكذب، والراجح رد شهادة الكافر[14].

النَّوع الثَّالث: الضَّعيف, مثاله: إيجاب الشافعيَّة الكفارة في قتل العمد؛ لوجوبها في قتل الخطأ؛ قالوا: إذا كانت الكفارة واجبة في قتل الخطأ؛ فلأن تكون واجبة في العمد من باب أولى, ورُدّ هذا؛ لأنّ الكفارة وجبت في قتل الخطأ لقلة الجرم، وأما القتل العمد فإن الكفارة لا تكفره؛ لكونه جُرما عظيما لا يكفره إلا القود[15].

المبحث الثَّاني: مفهوم المخالفة.

مفهوم المخالفة: هو أن يكون المسكوت عنه مخالفاً لحكم المنطوق[16].

وقيل: هو الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم المذكور في المنطوق عما عداه[17].

ويُطلق مفهوم المخالفة ويُراد به: دليل الخطاب.

 المبحث الثَّالث: أنواع مفهوم المخالفة.

لمفهوم المخالفة أنواع كثيرة؛ نكتفي بذكر ستة منها:

الأوَّل: مفهوم الغاية: وهو ما يفهم من مدّ الحكم إلى غاية بإحدى أدوات الغاية وهي: إلى، حتى، اللام[18]. مثاله: قوله تعالى: فلا تحلّ له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره[199], يفهم منها: أنها إن تكحت زوجاً غيره حلت له[20]. وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «لا زكاة في مال حتّى يحول عليه الحول»[21]. فمنطوقه دال على نفي الزكاة قبل الحول، ومفهومه دال على وجوبها عند تمام الحول[22].

الثّاني: مفهوم الشرط: مثاله قوله تعالى وإن كنّ أولات حمل فأنفقوا عليهنّ حتّى يضعن حملهن[23]. يفهم منه أن غير الحوامل لا نفقة لهن[244]. وقوله عليه الصّلاة والسلام في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما؛ أنّ أمّ سلمة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأت الماء»[25]. يفهم منه أنّها إذا لم تر الماء؛ فلا غسل عليها.

الثَّالث: مفهوم الصِّفة: ويقصد بالصفة: ما هو أعمّ من النعت عند النحاة، فيشمل النعت، والحال، والجار والمجرور، والظرف، والتمييز[266]. مثاله: ما أخرجه أبو داود في سننه؛ من حديث عبد الله بن عبد الله بن عمر وسالم بن عبد الله ابن عمر: «في سائمة الغنم»[27]. فتخصيص السَّائمة بالذكر يدلّ على أنّ المعلوفة لا زكاة فيها؛ وهو الذي عليه جمهور فقهاء الأمصار؛ ولم يخالف في هذه المسألة إلا المالكيّة؛ فأوجبوا الزكاة في السَّائمة والمعلوفة.

الرابع: مفهوم العدد: هو ما يفهم من تخصيص العدد بالذكر. أو ما يفهم من تعليق الحكم على عدد مخصوص[28].مثاله قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}[299] دال بمنطوقه على الثمانين، وبمفهومه على عدم إجزاء ما نقص عنها، وعلى المنع من الزيادة عليها[30].

الخامس: مفهوم التقسيم: هو ما يفهم من تقسيم المحكوم عليه قسمين فأكثر، وتخصيص كلّ منهما بحكم[311].مثاله: ما أخرجه مسلم في صحيحه, من حديث ابن عباس، أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر، وإذنها سكوتها»[32]. فمنطوقه واضح، ومفهومه أنّ كلّ قسم يختص بحكمه، ولا يشارك الآخر في حكمه، فالثيب أحقّ بنفسها فتكون البكر ليست أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن، يدل على أن الثيب لا تستأذن؛ لأنّ الإذن منها لا يكفي بل لا بد من التّصريح[33].

السَّادس: مفهوم اللقب: هو ما يفهم من تخصيص الاسم المجرد بالحكم من نفي الحكم عما عداه, وسواء أكان الاسم لإنسان أو حيوان، اسم علم أم اسم جنس[34].

مثاله: ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما, من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل»[35]. دلّ منطوقه على جواز المماثلة, ودلّ مفهومه على جواز المماثلة والزيادة عند اختلاف الجنس.

هذا: وصلّى الله وسلّم على خير خلق الله, محمّد بن عبد الله, وعلى آله وصحبه ومن والآه.

 المراجع

[1]  روضة الناظر وجنة المناظر 2/111.

[2]  أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله 378.

[3]  روضة الناظر وجنة المناظر 2/111-113.

[4]  المصدر السَّابق.

[5]  سورة الإسراء 23.

[6]  أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله 378.

[7]  سورة الزلزلة 7.

[8]  مذكرة في أصول الفقه 284.

[9]  سورة الطلاق 2.

[10]  مذكرة في أصول الفقه 284.

[11]  أخرجه ابن ماجه 2/1050 برقم 3144 من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. قال الألباني: إسناده صحيح. انظر: إرواء الغليل 4/361.

[12]  سورة النساء 10.

[13]  أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله 378, مذكرة في أصول الفقه 284.

[14]  أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله 378.

[15]  المصدر السّابق؛ بنوع من التّصرّف.

[16]  مذكرة في أصول الفقه 285.

[17]  أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله 379.

[18]  المصدر السّابق 380.

[19]  سورة البقرة 230.

[20]  مذكرة في أصول الفقه 285.

[21]  أخرجه ابن ماجه وغيره 1/571 برقم 1792. قال الألباني: إسناده صحيح. انظر: إرواء الغليل 3/254.

[22]  أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله 380.

[23]  سورة الطلاق 6.

[24]  مذكرة في أصول الفقه 285.

[25]  صحيح البخاري 1/38 برقم 130, صحيح مسلم 1/251 برقم 313.

[26]  أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله 380.

[27]  سنن أبي داود 3/21. وإسناده صحيح.

[28]  أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله 380.

[29]  سورة النور 4.

[30]  أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله 380.

[31]  المصدر السَّابق.

[32]  صحيح مسلم 2/1037 برقم 1421.

[33]  أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله 381.

[34]  المصدر السَّابق.

[35]  صحيح البخاري 3/74 برقم 2177, صحيح مسلم 3/1208 برقم 1584.

(المصدر: الملتقى الفقهي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى