أسئلة شائكة في مواجهة الإصلاح والثورة والتحرر

أسئلة شائكة في مواجهة الإصلاح والثورة والتحرر

بقلم حسام شاكر

تتزاحم أسئلة شائكة في وجه تجارب الإصلاح والتحرّر التي تبدو عالقة في انسداد مزمن وكبوات متلاحقة. وبعد مقالة “هل أخفقت حركات الإصلاح ومشروعات التحرر؟” تُكرّس هذه المقالة لتناوُل جملة من الأسئلة الإشكالية عن تنازع الإصلاح والثورة، والمفاضلة بين المشاركة والانزواء، وتجاذبات الإقدام والإحجام، وخيارات إدارة الصراع المفروض على الجماهير، وسطوة ثقافة التجزئة على محاولات النهوض والانعتاق. غنيّ عن البيان أنّ تحرير الأسئلة الشائكة هو مطلب بحياله، بما يقتضيه من بيان الإشكاليات التي ينطوي عليها كل منها، مع أهمية الترفُّق في المفاضلة بين الخيارات وحسم “الحلول” بالنظر إلى تعقيدات الواقع وتعدّد صوره وافتراق أحواله واحتدام تناقضاته وما قد يتخلّله من انسداد بعض السُّبُل أيضاً.

تنازع الإصلاح والثورة

تنطوي ثنائية الإصلاح والثورة على تنازعات موضوعية يفرضها الواقع. فقد تتعارض مساعي الإصلاح مع محاولات الثورة، لكنهما في بعض السياقات والتجارب قابلتان لأن تتناغما بأقدار وقد تباشران أدواراً تكاملية متضافرة وإن لم ينعقد توافُق مُسبَق عليها. فللإصلاح رهاناته وخياراته وشروطه، وللثورات مخزوناتها ومخاضاتها ومغامراتها الجسورة أو المتهوِّرة؛ التي تراهن على تفكيك واقع مُهيْمن بسيول الجماهير أو بقوّة الفوضى أو باللجوء إلى خيارات عنيفة أحياناً. لا تقوم الثورة في واقع المجتمعات والأمم بالقوى الإصلاحية وحدها، وقد لا تنقدح بمثلها أساساً إن كان من عادة الإصلاحيين التعامل مع الواقع القائم والاصطبار عليه والتمرحُل في معالجته وعَقْلنة الخيارات المعتمدة ودراسة الموقف بحذر واستشراف المآلات وتقدير العواقب، بخلاف طوفان الثورات الهادر الذي قد يقلب المعادلات فجأة وقد يهوي بالأنظمة دون أن يُطلَب منه مُسبَقاً برنامج للحكم أو خطّة للبناء أو تصوّر مُبرَم لليوم التالي.

قد تكتسب الثوْرات ضراوتها من انبعاثٍ جماهيري يستعلي على أدوار قيادية مؤسّسية مركزية أو ما في حكمها، أمّا الجماهير التي تحشدها إرادة التقويض فقد تفرِّقها رؤى البناء شِيَعاً، وقد يزرع انشغالُ الثائرين باليوم التالي بذرةَ إخفاقٍ وسط التئام الجماهير؛ باستدراجها إلى تنازع على جِلْدِ الدبِّ قبل اصطياده. ظلّ الإشغال بخيارات اليوم التالي والجدل بشأنها حيلةً مألوفة لتفريق تجمّعات الثوّار والجماهير المنتفضة وتشظية كتلة التغيير الحرجة؛ كأن يُطلَب منها الاتفاق على شكل الأنظمة البديلة ودساتيرها وانتخاباتها وتوزيع الحصص على المكوِّنات المنخرطة في المشهد الغاضب. عندما يحاول بعض الإصلاحيين التصرّف كثوريِّين دون التخفُّف من منطق إصلاحيٍّ نمطي اعتادوه؛ فإنهم بهذا الصنيع المُعَقْلَن قد يفارقون مواقعهم التي كانوا عليها ويكبتون الثورات التي ينخرطون فيها ويُلجِمون الاندفاعة الجماهيرية من حيث أرادوا أو لم يحتسبوا، وقد ينتظر بعضُهم أن يجري الأمر كلّه بأيديهم تفكيكاً وتركيباً، وقد يضعون تصوّرات مثالية أو خيارات تغيير طهورية لا تتَصل بملابسات الواقع، كمَن يأمل بركوب الموج دون أن يَمَسُّه الماء.

إنّ ضعف جاهزية بعض الإصلاحيين لخوض مغامرات الثورة تعود إلى أنهم رسموا في سبيل الإصلاح خططاً وبرامح وأقاموا هيئات ومؤسسات ونسجوا وشائج وأواصر، ولعلّ بعضهم حقّق حضوراً مجتمعياً ومكتسبات لا يُستهانُ بها في مجالات متعدّدة، كما أنّ استثمار بعضهم مواقعهم في المجتمع لأجل التمدّد عبر نسيجه؛ مما يفرض عليهم إبرام حسبة خسائر قد تلحق بهم إنْ اتّجهوا إلى الثورة على واقع تشابكوا معه، بما يجعل المكتسبات الجزئية التي تحرزها بعض حركات الإصلاح محرِّضاً على تثاقلها إلى الأرض وباعثاً على مهادنة الوضع القائم وإن أظهرت السخط عليه لفظياً. ثمّ إنّ معضلة قيادة الجماهير بزمام تشكيلات إصلاحية تتجلّى في أنّ الزمام ذاته وإن كان في أصله أداةَ توجيهٍ وترشيد؛ قد يصير في مراحل معيّنة لجاماً لغضب شعبي أو كابحاً لاندفاعة جماهيرية، رغم أنّ الرهان على الغضب الهادر قد يكون خياراً لا بديل عنه لزحزحة قواعد اللعبة القهرية عن مواضعها وإحداث كوّة في جدار الانسداد المزمن الذي لا تملك محاولات الإصلاح الهادئة والمُعقْلنة والمزمنة خياراتٍ ملموسة لتفكيكه أو معالجته أساسا؛ بموجب قواعد اللعبة المفروضة ذاتها.

ثمة تفريق واجب، إذن، بين أدوار التوجيه والترشيد والبناء التي يُفترَض أن تنهض بها حركات الإصلاح في مجتمعاتها؛ وأن يؤول الأمر إلى احتكار القيادة المجتمعية بخيارات أحادية لا تملك في التعامل مع الواقع تصريفاً ولا تبديلاً. إنّ الواقع العربي المُثقَل بالسطوة القهرية المُسلّطة على البلدان والشعوب والمجتمعات يتطلّب تنويع خيارات التصرّف إزاءها بما يوسِّع هوامش المناورة المتاحة للشعوب وإرادة الإصلاح والتحرّر الكامنة فيها، وبما يُحدِث توازنات نسبيّة أفضل إزاء واقع الانسداد القائم. أمّا النزعات السلطوية والاستبدادية فتجد مصلحتها في مصادرة الفضاء العام لذاتها وإحكام القبضة على المجتمع والتضييق على الأنفاس الطليقة، وقد لا تتهاون مع مخزونات القوة المجتمعية الكامنة المستقلّة عن السلطة أو النظام، خشية أن تدفع بإزاحات إصلاحية أو ثورية في مراحل لاحقة.

مسلك التخطيط للإصلاح والتحرر

ينطوي التخطيط على فرص مؤكّدة لحركات الإصلاح ومشروعات التحرّر، لكنه قد يجرّ عليها عواقب غير متوقّعة أيضاً. فليست مسالك التخطيط على ضرب واحد، فهو في مخاضات الإصلاح والتحرّر قد يتطلّب مراهنة على أهداف لا تُعَدّ حسب منطق التخطيط الإجرائي “واقعية” أو “قابلة للتحقّق” أساساً. لا يخفى أنّ أحداثاً كبرى وتحوّلات مفصلية في ماضي البشر وحاضرهم فاقت قابليّةَ التوقّع المُسبَق، وهو ما يفرض الحذر من الرضوخ لطقوس رائجة في التخطيط والاستشراف؛ تستبعد قوّة المتغيِّر في المعادلة الذي قد يمنح عاملاً معيّناً فيها وزناً مضاغفاً أو قد يُحيِّد مفعول عاملٍ آخر ذي سطوة.

قد يُحيِّد التخطيط النمطيّ وفق معادلاتٍ مجرّدة؛ عواملَ ويتجاهل متغيِّرات، وليس نادراً أن يُغري المنطقُ الإجرائي أو التصوّرُ التجريدي بتخطِّي مفعول الزمن في إنجاز التغيير. قد يحسب القوم أنّ الزمن وحداتِ قياسٍ عددية ومؤشِّراتٍ نمطية في معصم اليَد؛ دون أن يلحظوا أنه جزء من المعادلة؛ ففيه تنكسر أمم وتذوي؛ أو تُصقَل أخرى وتتألّق. إنّ الزمن هو مجال تكوينيّ لا يجعل التيه تيهاً ولا الجوع جوعاً ولا الحصار حصاراً؛ بل يكون فضاءً للتخلية والتحلية، وفسحةً لاختمار الوعي وممارسة التجريب، وقد يتطلّب هذا من حركات الإصلاح والتحرّر شحذ إرادتها وإحسان تهيُّؤها. وقد يكون الزمن إيذاناً بأن يخلُف من بعدهم خلْفٌ يتنصّلون من الالتزامات المنعقدة ويتّبعون المصالح اللحظية وينزلقون إلى نقيض ما اجتمعوا له وعليه ابتداءً.

وإذ يُرجَى من التخطيط الرشيد أن يأخذ بأدوات مُباشرة على بصيرة؛ فإنه لا يسعه أن يغفل عن السُّنَن الكبرى. يختلّ التوازن إلى وَعيٍ حالمٍ مُنفصمٍ عن الواقع؛ أو إلى رضوخ للواقع القهري المفروض وشروطه المُغلَقة؛ إن اكتُفيَ باستحضار السُّنَن الكبرى دون خيارات الفعل في الواقع؛ أو إن تعالت الثانية على الأولى وأغفلتها. يفرض التخطيط الرشيد في حركات الإصلاح ومشروعات التحرّر مصارحةً مع الذات ابتداءً، وإن كانت قاسية، بما يحاكي لحظة النظر في المرآة، ومَن لا يَقْوَى على مكاشفة ذاته بواقعها؛ قد تدفعه الخبراتُ المؤلمة دفعاً إليها لمعاينة ندوب وتشوّهات لا سبيل لإنكارها.

ينبغي الحذر من مزاعم التخطيط الساذجة ومقولات الاستراتيجيا القاصرة التي يفرضها تلامذة لم يجرِّبوا المناقشة الحضارية، ويجدر الاحتراس من خطباء وشعراء ومتحدثي شاشات ومغرِّدي شبكات؛ يرسمون واقعاً بمقاييس بيانهم الساحر وأبعاد إطلالاتهم المكلّلة بإعجابات المتابعين؛ ثم تستولي عليهم الغفلة ويتملّكهم النعاس ويتركون النّاس وحدكم ليواصلوا الاستغراق في رؤى مُتخيّلة. ويتطلّب التخطيط الرشيد انعتاقاً من ذهول اللحظة وسطوة الانكسار. ففي الواقع العربي المثخن بالجراح ما يحرِّض على الذهول ويُغوي بالشطط ويجعل الحليم حيراناً. ومن نافلة القول أنّ النخب المتصدِّرة في حركات إصلاح ومشروعات تحرّر؛ ليست بمنأى عن الانزلاق إلى منطق نسَجَتْه لحظةٌ داهمة وفرضته الفواجع بسطوتها على الوعي؛ بما يعود بعواقب جسيمة على أدوار يُفترَض أن تنهض بها في رسم المسارات وقيادة الرّكْب وتقديم النموذج لمجتمعاتها وشعوبها وأمّتها. إنّ محاولة رؤية الواقع من ثقب إبرة المحنة الموضعية أو الصدمة المرحلية أو الخبرة الذاتية؛ قد تقدح بجدارة النخب المحسوبة على مساعي الإصلاح والتحرّر. كما أنّ مواصلة إدراك العالم من وَجه واحد فقط؛ كفيلة بتوليد انطباعات تتعسّف في فهم واقعه وإدراك تفاعلاته، ولن تُحسِن النخب التي ترضخ لهذا المنظور تصرّفها معه بالتالي.

تموضع حركات الإصلاح في مجتمعها

من الأسئلة التي تواجهها الحركات الإصلاحية في بيئاتها ما يتعلّق بمعالجة “المأزق الطبقي” أو الانحصار الفئوي الذي يحول دون تمدّدها في بعض أوساط النخب التي تشكِّل الصفوة المتنفِّذة في المجتمعات. غالباً ما تمثِّل هذه الصفوة، تحديداً، طبقةً مرتبطة وجودياً بالوضع القائم أو متحالفة معه فلا ترى مصلحتها في أي تغيير جذري أو إصلاح جوهري، وقد تُستنفَر في وجه الشعب وحركاته الإصلاحية وجماهيره الثورية إن استشعر النظام تهديداً. من المفهوم أن تحرص النزعة السلطوية على عزل تأثير حركات الإصلاح عن المحيط الاجتماعي لضبّاط الجيش والأمن والشرطة وكبار رجال الأعمال و”وجوه المجتمع” والنخب الثقافية والفنية والإعلامية المرتبطة بمنظومة النفوذ السلطوي أو المحيطة به.

ثم إنّ منظومة النفوذ ذاتها تقتدر، زيادة على ذلك، على استثارة فئات مجتمعية مهمّشة ضد مشروعات الإصلاح وجماهير الثورة إلى حدّ تجنيد صبية الأحياء المسحوقة والعشوائيات في حملات غوغائية؛ وهؤلاء تحديداً من فئات لم تجد ذاتها على ما يبدو في خطاب حركات إصلاحية تنتمي إلى الوسط المجتمعي؛ وربّما تَجاهَل “الإصلاحيون” خصوصيّات أطراف مجتمعهم أو ترفّع بعضهم على هوامشه. وثمّة قوّة ضاربة تختزنها الهوامش، قوامها من أصحاب السوابق وعتاة المجرمين الطلقاء وجماعات الجريمة المنظّمة؛ قد تزجّ بهم أذرع النفوذ السلطوي في جولات ترهيب دامية أحياناً وتستعملهم على هيئة “مليشيات” غير نظامية للردع أو العقاب، وإن اشتهروا بوصف “البلطجية” أو “الشبِّيحة”.

تشير هذه الشواهد وما يشبهها إلى معضلة تواجهها حركات الإصلاح في بيئاتها ومع بعض أوساط مجتمعاتها أحياناً، بما يتطلّب منها صياغة مقاربات تتجاوز أحادية الوعاء وشحّ أدوات الفعل المجتمعي والجماهيري وقصور خطابها عن التمدّد ضمن عموم الجمهور. ليس من المتوقع في نهاية المطاف من أي حركة أو مشروع تأطير كتلة حرجة من فئات المجتمع ككلّ بفعالية في تشكيل واحد، ولا أن تُفلح حالة واحدة من التشكيل المجتمعي في التمدّد والانتشار وإطلاق طاقات المجتمع أو الشعب عموماً نحو الإصلاح المنشود. وما مِن داعٍ إلى “وضع كل شيء تحت سقف واحد” في الحضور المجتمعي لتشكيلات الإصلاح التي تكتشف أبعاداً أعمق ومعضلات أعقد في بيئة اشتغالها؛ بما يفوق قدراتها على المعالجة والتصدِّي.

في مسألة الشوكة

لا تستقيم الدولة والحكم والنظام بدون “احتكار العنف” واستصحاب “الشوكة”، المتمثلة بقوّة ردع تقتدر على العنف أو قد تستبطن تكتّلاً عصبويّاً، وهذا في الأنظمة جميعاً. فالدولة “السّويّة” تحتكر العنف، عبر أجهزة الجيش والشرطة ونحوها، فاحتكار العنف وممارسته بأقدار في الداخل والخارج هو من سِمات الدولة الحديثة ومنها الديمقراطيات البازغة جميعاً بأنظمتها وتقاليدها ومعاييرها.

 

لا يتحقّق التمكين لثورةٍ ما بدون استصحابها شوْكة مادية و/أو رمزية، وإنْ لم تحظَ تجارب التغيير في المراحل الانتقالية بشوْكة مجتمعية وجماهيرية أو من أطراف منحازة إليها؛ تحميها وتحقِّق قدراً من توازن الرّدع مع مخزون العنف لدى سلطة مستبدة؛ فإنها تبقى في حالة انكشاف غير مأمونة العواقب. حسِبت بعض جماهير العرب أنّ شوْكة “القوات المسلّحة” ضامنة لإرادة الجماهير في وجه نظام هبّ الشعب منتفضاً عليه، وسُمِعَت هتافات ساذجة تفخر بأنّ “الشعب والجيش يد واحدة”، قبل تحرُّك آليّات العسكر فوق أجساد المعتصمين بالميادين من بَعدُ، وكان درساً تاريخياً موجعاً. سادت توقّعات حالمة لا صِلَة لها بالواقع، لانتفاء التجريب المسبَق أحياناً وبمفعول تنظير بعض النخب لديمقراطية بلا أسنان، وأدبيات تنادي بفضائل “الحكم الرشيد” دون أشواك؛ فأغوَى ترَفُ الأروقة هذا ذوي السلطة المستبدّة بالتمادي ومحاولة الإجهاز على الحالة الجماهيرية الغضّة.

لم يكن واقعياً أن ينشد بعضهم زهرة التغيير دون أشواكها أو أن يطلبوا ثمرة الديمقراطية دون مخاضات مؤلمة تسبقها. ثمّة نخب أخذت الديمقراطية الفرنسية، مثلاً، بألبابها كلّ مأخذ وصرفت وعيَها عن مقاصل الثورة الفرنسية ومخاضاتها الدامية. ولم يشأ بعضهم ملاحظة أنّ العنف، الجماهيري أو المسلّح أو الحربي، كان حدثاً مؤسِّساً لبعض ديمقراطيات الحاضر التي أفضت إلى مآلاتها بعقد اجتماعي قهري مفروض بالشوْكة، فنزلت الأمّة على مقتضياته من بعدُ بما فيه من أسس دستورية موجِّهة وضابطة ومن عنف مُحتكَر لردع مَن قد تسوِّل لهم أنفسهم أمراً.

أمّا الثورات الناعمة، كالتي شهدتها بلدان أوروبا الشرقية في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات، فما كان لها أن تُسقِط أنظمتها إلاّ بعد جولات أسبق من السّحق بالدبابات كما جرى في المجر (1956) وتشيكوسلوفاكيا (1968) مثلاً، ثم أدركت الجماهير فرصتها اللاحقة مع بلوغ الأنظمة الحمراء نقطة العجز وانكشف ضعفها كما تجلّى في مقاربات الإصلاح التي خاضها غورباتشيف في ربع الساعة الأخير من العهد الأحمر تحت عناونيْ “البريسترويكا” و”الغلاسنوست”. ثم إنّ حراك الجماهير الذي يقف العالم معه مشجِّعاً ومصفِّقاً، وتتجنّد دول الريادة الغربية في دعمه وإسناده؛ يبقى محظياً قياساً بجماهير تُسحَق في الميادين بأضواء خضراء تمنحها دول الريادة ذاتها التي تبسط الزرابيّ الحمر في اليوم التالي لاستقبال مقترفي المذابح.

غاية القول أنّ أمم الشرنقة بوسعها مواصلة الاستئناس بالطهورية السياسية والإحجام الميداني والمقولات العذبة، دون أن يعفيها هذا من سؤال التغيير إن طلبته، سواء أتعلِّق هذا بتحريك ساكنٍ أم بتسكين متحرِّك. ليس سؤال “الشوْكة” ترفاً اختيارياً؛ فقد يُفرَض على قوى إصلاحية أو ثورية بصفة اضطرارية بما قد يستدرجها إلى مجازفات بين الإقدام أو الإحجام. قد تتعامل قوى تحسب ذاتها إصلاحية أو ثورية مع سؤال “الشوْكة” بمقولات مبدئية هي إلى الشعارات أقرب، لكنها قد تجد نفسها في لحظة تاريخية تتسارع فيها التحوّلات إزاء استحقاق حاسم على مستوى “الوطن” أو في مواجهة حتمية مع طرف يستعمل الشوْكة بما تراه تهديداً ماحقاً لوجهة الوطن والشعب والأمّة، بما يضعها إزاء استحقاق التصرّف وقد لا تمتلك مؤهِّلاته وأدواته أساساً.

برز سؤال “ما العمل؟” بصيغ شتى ضمن شواغل حيّرت شباب الميادين العربية التي سحقتها الدبابات. استشعر هؤلاء انكشاف جماهير سلمية إزاء سطوة البطش وهالهم أن يُساقوا إلى مذابح جماعية دون فرصة لكبح العجلات المتقدِّمة فوق أشلائهم. وجدت الجماهير ذاتها بين الانقياد إلى المسلخ بلا مقاومة؛ أو الانزلاق إلى عنف مسلّح تُتقن الدولة ونظامها فنّ الإجهاز عليه وعزل الضالعين فيه عن مجتمعهم وتحويلهم إلى قائمة مُطارَدين بلا أفق تغييري مرئيّ، ثمّ انزلق أفراد منهم إلى دركات التوحّش مع مجموعات ميدانية بلا بصيرة.

وإن صعد من يَرَوْن أنفسهم “إصلاحيين” بخيار الشوْكة “إنْ استُكرِهوا عليه”، بالسيطرة على قوّة الجيش ومراكز الدولة مثلاً؛ قد يصير بعضهم من بعدُ متنفِّذين منتفعين من الحالة، أو فئة “أوليغارشية” بالأحرى، وهذا من متلازمات السُّلْطة عموماً والسُّلطة القهرية الأحادية خصوصاً. فإن أتاحت الشوْكة حمايةً للمشروع؛ فإنّها قد تُفضي به إلى ما يقوِّض مقولاته المبدئية أيضاً، وقد يتمكّن حاملو المشروع حقاً لكن دون أن يحقِّق المشروع وعودَه. فمن مزالق عنف التحوّل الثوري أو الانقلابي أنه قد يخنق روح الإصلاح التي يتذرّع بها؛ خاصة إن لم يُصَر إلى كبح العنف وتنظيمه ليغدو شوْكة رادعة للتجاوزات؛ تحضُر بسطوتها بأدوار وظيفية محسوبة وضمن عقد اجتماعي ضابط يستند إلى شرعية شعبية ذات مصداقية مؤكّدة، وليس بأن تستأثر بها صفوة تستحوذ على الحكم ومراكز النفوذ وتتذاكى في إنتاج مشهد مشاركة شعبية مزيّف ومواسم اقتراع مسرحية.

لا ريْب أنّ سؤال الشوْكة شائك بطبيعته، ولا يصحّ معه تجريد الحالات بصفة نموذجية مفترضة بمعزل عن الواقع وتفاعلاته؛ لأنها ليست حالات سابغة على الاحتمالات جميعاً التي قد يعرض لها أي مجتمع أو أمّة، بما يتطلّب سعةً في أفق التوقّعات وتروِّياً في النظر وتفصيلاً في الخيارات. من مفارقات الحالة؛ أنّ استفراد الاستبداد بجماهير عزلاء قد يدفعها إلى الاستنجاد بشوْكة الخارج واستجداء تدخّل طائراته وأساطيله وقرارات “الفصل السابع”؛ بما قد يجيِّر حراكها لمصالحه ويرهن انتفاضتها لحساباته ويسخِّر ثورتها لأولويّاته، وقد تربح بعض القوى بمقتضى ذلك لحظةً ثورية وتخسر مشروعاً وطنياً؛ عندما تتهاون مع شروط قوى الهيمنة الخارجية أو ترضخ لإملاءاتها المفروضة من عَلٍ. لا تُدرِك بعض “القوى الثورية” أنّ الهيمنة الخارجية ذاتها تبقى قادرة على التأثير على نسيج المشهد الثوري ذاته والتلاعب بتوازناته وربما إعادة إنتاجه بما يخدم مصالحها، خاصة إنْ تشكّلت حالة اعتمادية على “الداعمين” و”المانحين” لا فكاك منها.

الاستبداد ليس وحده المعضلة

يُبالِغ بعضهم في حصر مبعث الشرور بالاستبداد، لكنّ النظرة الفاحصة تقتضي بحث شروط الواقع عموماً وإن تسيّد الاستبدادُ مشهدَه. فإن صحّ في بعض القراءات أن يُعَدّ الاستبداد حدثاً مؤسِّساً لاختلالات الواقع بالمنظور التاريخي؛ فإنّ معضلات الواقع العربي المزمن تشير بصفة أشمل، إلى أنه محكوم بتجزئة الأمّة وهيمنة الخارج واستبداد الداخل علاوة على وجوه القصور الملحوظة في المجتمعات. أي أنّ الاقتصار على تحديد معضلات الحاضر بالاستبداد الداخلي لا يمنح صورة متكاملة عنها؛ ومن شأنه أن يصطدم بالواقع لدى محاولة إصلاحه أو تغييره في مستوى محلِّي مباشر وحسب.

تهاوَن بعضهم مع حقيقة أنّ استبداد الداخل يحظى، غالباً، بغطاء من هيمنة الخارج، وأنّ هذا الغطاء مؤهّل للتدخّل بخيارات غير محسوبة لقهر الشعوب إنْ تنفّست وتحرّكت فيها إشارات الحياة. أمّا معادلة التجزئة فتُبقي قطع الفتات المسيّجة بإحكام تحت أعلام وطنية؛ مرتهنةً لحالة اعتمادية على أدوار خارجية؛ بما يقضي بإخضاع أيً منها أو محاصرتها وخنقها؛ إنْ حاولت الانعتاق من هيمنة الخارج، علاوة على إشغالها في صراعات بينية تهدِّد الأمن القومي الجماعي وتستنزف قدراتها ومواردها وتزيد في إخضاعها للهيمنة الخارجية.

ينبغي مصارحة الأجيال الجديدة بحقيقة أنّ فتات الأوطان المسيّجة جميعها مكشوف استراتيجياً بموجب اختلالات جسيمة في موازين القوى، وخاضع لمنظومات مراقبة واختراق، ولطائرات بدون طيّار تسبح في الأجواء، ولأساطيل رادعة ترابط قبالة السواحل، ولصواريخ “توماهوك” تصفع سرديات السيادة الوطنية في لحظة الحقيقة. ولا مناص من المصارحة بأنّ مسألة الاستبداد -على أهميتها واستعصائها- تبقى جزءاً من كُلّ؛ بصرف النظر عن تشخيص المعضلة المؤسِّسة بالمنظور التاريخي، ففي النتيجة قد يَحصُل الفكاك من الاستبداد الداخلي مع الإبقاء على الهيمنة الخارجية وتقديم قرابين الطاعة لها، وهو ما تُنادي قوى في المشهد العربي به منذ زمن بتعبيرات صريحة أو متذاكية.

 

إنّ أحد الدروس المشهودة للانتفاضات الشعبية العربية منذ خواتيم 2010 أنّ محاولة تحييد استبداد الداخل لا تكفي وحدها لأن تحسم الشعوب الموقف، فالهيمنة الخارجية ووكلاؤها الإقليميون قادرون على التلاعب بالمشهد وصرفه عن مساره أو إخضاعه وإحباطه والاندفاع إلى شراء ذمم أوساط سياسية وربما اختراق المشهد المحسوب على الثورة وقوى الإصلاح والتغيير أيضاً؛ إن لم تكن بعضها حالات مُستزرعة مسبقاً ومُدّخرة لمآلات الأمور.

تمجيد حظائر التجزئة

من الضغوط التي تُمارَس على حركات الإصلاح ومشروعات التحرّر ما يدفعها إلى الانكفاء ضمن حظائر أسلاك التجزئة وإدارة ظهرها لأمّتها والانغلاق على ذاتها في زمن الانفتاح والعولمة. ممّا يخدم هذا المنحى أنّ تتولّى بعض الخطابات الرائجة عربياً تقديم مفهوم الالتزام بالوطن والشعب بمعنى يُناقض الانفتاح على المحيط والأمّة والعالم، بما قد يُفضي إلى انغلاق المشروعات الإصلاحية في نطاق فتات التجزئة وارتهانها إلى قراءة ضيِّقة لمفهوم “الوطن” يقوم على مفهوم انعزالي عن جواره وأنساقه وأمّته.

إنّ مسعى المشاركة في الحكم ضمن دول شبه مستقلّة؛ يضغط على المحسوبين على حركات الإصلاح ومشروعات التحرّر باتجاه تخفيض سقوف خطاباتهم والحدّ من التوقّعات المعقودة على نواصيهم، والتزام الحدود بما لا يتخطّى أسلاك التجزئة. والمعضلة في هذا المقام أنّ هذه الأسلاك التي تفصل بلدان الإقليم بعضها عن بعض وتحجز مجتمعاتها عن أن تتواصل؛ أنشأت معها حواجز وأسواراً وأسلاكاً شائكة في الأذهان تعزل كلّ شعب عن محيطه، بما يقضي بتمزيق أواصر انعقدت عبر التاريخ ولا غنى عن الاستثمار فيها للمستقبل. كما انبثقت عن حظائر التجزئة دعايةٌ فجّة للاستهلاك الداخلي تمنح أوهام المجد التليد والاستقلال الناجز والسيادة المطلقة والإنجاز الشامل والتقدم الباهر من حول رموز ورايات بصفة لا تتناسب مع الواقع المجرّد.

وإذ لا يصحّ إغفال الواقع الإقليمي الذي تشكّل مع هذه الحظائر والأسلاك التي فُرِضت على الأمّة من خارجها؛ فإنّ خطاب الإصلاح لا يصحّ به أن يرضخ لثقافة التجزئة ومنطقه، كأن يتذاكى بتقديم مفردة “الوطن” كناية عن التنكّر لأمّته، أو افتراض إمكان تجاوز النسيج الإقليمي المتشابك تاريخياً وحضارياً في طريق “الانفتاح على العالم”. مِن شواهد المأزق أن يتباهى محسوبون على حركات إصلاحية بتواصلهم النشِط مع جهات ومراكز ومنصّات حول العالم، مع تحرّجهم في الوقت عيْنه من الظهور في سياقات محسوبة على الأمّة وقضاياها ومكوِّناتها الإصلاحية والتحرّرية، خشية الإضرار بالاعتراف العالمي بهم؛ أو الغربي بالأحرى. لابدّ لحركات الإصلاح ومشروعات التحرّر، أنْ تلحظ أنّ تجاوز ثقافة القطيعة والخصام بين أقطار الأمّة يبقى مطلباً لأي استقلال ناجز أو نهضة منشودة، وأنّ تعذُّر هذا المطلب التاريخي في الواقع لا يقضي بالتنصّل منه والقعود عن الأخذ بما تيسّر من أسبابه ومقدِّماته على الأقلّ.

بين المشاركة القاصرة والانزواء الطهوري

من الإشكاليات الشائكة في مسار حركات الإصلاح ما يتعلّق بمفاضلتها بين إنجازات جزئية قد تُعَدّ ممكنة؛ والإنجاز الجذري أو “الشامل” الذي صار في الأنظار مستحيلاً أو بعيد المنال. لسؤال المفاضلة ذاته وجه آخر يتعلّق، أحياناً، بالحاجة إلى الاندماج في واقع يُراد إصلاحه والقبول بمواصفات فيه (ربما كانت) منبوذة؛ وهذا بمقتضي الرِّهان على “إصلاحه من الداخل”. تتشكّل المفاضلة من هذا الوجه بين احتمال التراجع المبدئي أو حتى “التلوّث” النسبي في الميدان؛ والركون إلى الطهورية الاعتزالية في أروقة الأمنيات، ولكلٍّ في ذلك خيارات.

يُعَوِّل بعضهم على “المشاركة” في واقع مُقيّد بشروط قهرية مفروضة عليه؛ على أمل تحقيق إصلاح جزئي ما أو إنجاز مكتسبات موضعية متفرِّقة أو لمجرد قطع الطريق على خيارات يفترضون أنها ستكون “أسوأ” بدون هذه “المشاركة”. يتمسّك آخرون، في المقابل، بمقولات الإصلاح الشامل أو المعالجة الجذرية بلا تسويات جزئيّة أو تنازلات مرحليّة أو خطوات وسيطة، وقد يحتفظون عبر هذا الخيار بطهورية ذاتيّة لكنها قد تنعزل عن واقع الممارسة أو تتوارى عن صناعة الحدث. يبقى هذا الافتراق في الخيارات نتيجة متوقّعة في واقع الانسداد الذي تتعذّر فيه تجارب المشاركة المتكافئة للأطراف المجتمعية المتعدِّدة، فهذا الواقع في أفضل حالاته يظلّ محكوماً بسلطة، مرئية أو غير مرئية، هي التي تُفسِح المجال لآليّات ديمقراطية جزئية أو شكلية؛ لكن دون ديمقراطية ناجزة في جوهرها.

يسَع المقاربة الإصلاحية الرّحبة أن تتجاوز ضيق التشكيلات وحصرية خياراتها إلى عموم المشهد المجتمعي وتنوُّع مقارباته، بأن تلحَظ حاجة الواقع إلى التعامل مع الانسداد المزمن فيه بخيارات إصلاحية متعدِّدة قابلة للتعايش في حيِّز مجتمعي واحد؛ وإن تعارضت جذرياً أو مرحلياً في خياراتها وتزاحمت على استقطاب الجمهور عيْنه وتنافست عليه. من مكاسب الحالة، كما تتشكّل في بعض البيئات مثلاً، أنّ القوى المجتمعية العازفة عن الانخراط في تجاربِ مُشارَكةٍ مقيّدةٍ سلطوياً؛ ستشكِّل عاملَ ضغط على سُلطَة تُمسِك بخيوط المشهد بما يفرض استيعاباً نسبياً لتشكيلات “الإصلاح” الجزئي المُشارِك لتفويت الفرصة على تيّارات “الإصلاح” الجذري. لا تقضي هذه المقاربة بالانعتاق من الانسداد المزمن؛ لكنها قد تتيح توازناً نسبياً بديلاً عن خيارات العزلة الشاملة أو المواجهة المفروضة أو استعلاء القهر، وقد تساعد على تنمية وعي مجتمعي وتفاعل جماهيري مع مضيّ الوقت وتعاقُب المراحل. قد تكون هذه الحالة من الكمون النسبي والتفاعل الجزئي بمثابة اختمار متدرِّج لتجارب إصلاحية بما قد يتيح رفع سقف مكتسباتها، لكنها قد تعود باستيعاب تجارب إصلاحية وتدجينها وإدماجها في منظومة السلطة وولوغها في بركتها الآسنة من حيث احتسبت أو لم تحتسب. وليس نادراً أن تصير حركات إصلاح ومحاولات ثورة ومشروعات تحرّر عبئاً على غاية أعلنتها ورسالة حمَلَتْها، وأن تدفعها هزائم السياسة وكبوات الميدان إلى إسباغ روح الانصياع واشتراطاته على أجيال المستقبل، ومحاولة “تأصيلها” من خلال المرجعيات القائمة لكل مجتمع أو أمّة.

هل من حاجة إلى التشكيلات أساسا؟

أثقلت الدعاية المضادّة لروح التشكّل والتكتّل والتنظيم وعي بعض المجتمعات العربية، فصارت تنفر من الأحزاب والتشكيلات والجماعات والتنظيمات ونحوها؛ لِما ارتبط بها في الأذهان من متلازمات سلبية. ويبدو أنّ الحالة امتدّت إلى أوساط إصلاحية صارت تُعلِن موقفها المناهض لأي حزب أو تشكيل أو جماعة أو تنظيم، وقد يكون الخيار البديل عندها “تيّاراً” يتحرّك، أو أن يغادر الجميع مواقعهم ليتولّى “الشباب” كلّ شيء، أو أن يؤول الأمر إلى “مؤسّسات متخصصة” و”مراكز أبحاث ودراسات” ونحو ذلك من الأمانيّ.

ما يُلحَظ في بعض هذه المقاربات أنها تأتي أحياناً محكومة بموقف نفسي من التشكيلات النظامية، وقد تحكم على مبدأ تشكّل الأحزاب أو التنظيمات أو الجماعات أو الأطر الجماعية بانتفاء الحاجة إليها من واقع استنتاجاتها وانطباعاتها بشأن أداء بعض العناوين التي عايشتها في هذا الشأن، ثمّ تقترح بديلاً عنها جميعاً مِن الخيارات سابقة الذكر أو مِن سواها. تتدحرج النخب التي تتبنّى هذه الخيارات إلى مزالق منهجية إن حاولت نَفْي التشكيلات المجتمعية، التي هي من متلازمات الاجتماع الإنساني أساساً ومِن مقتضيات العصر الحديث خصوصاً ومن أدوات الفعل والمشاركة أيضاً. ومن الخطأ أن يدفع قصور التجارب وعثراتها إلى تقويض فكرة التشكيلات من أساسها أو استبعاد قابليّتها للتطوير والترشيد أو نفي الحاجة إليها جملةً وتفصيلا. وإذ يُنادي بعض أصحاب الرأي والنظر بخيار “التيّار” بديلاً عن التشكيلات والأحزاب والجماعات؛ فإنّ تركيز هذه المقولات على فكرة البديل الإحلالي بنزعة “إما تيّار أو تشكيل”؛ هو تضييق لواسِع وحصر لخيارات وإلزام بما لا يلزم؛ وكأنّ الواقع لا يحتمل حالةً تفاعلية إيجابية يمكن افتراضها بين التيّارات والتشكيلات التي تتحرّى الإصلاح وتنشد التغيير.

لا غنى لأمّة تسعى للفكاك من ضمورها الحضاري عن تيّارات الإحياء والاستنهاض والإصلاح؛ لكنّ افتراض أنها لا بدّ أن تكون بديلاً حصرياً عن التشكيلات المؤطّرة؛ مما يقتضي مراجعة مبدئية وتقديراً واقعياً وتوازناً في النظر. وإذ لا تخفى معضلةُ التشكيلات المنطوية على ذاتها أو المتعصِّبة لرؤاها؛ التي تتركّز فيها الخبرة وقد تستحوذ على مفاتيح النفوذ الجماهيري أو تترفّع على المكوِّنات المجتمعية من حولها أو تُصادِر أدوار المجتمعات لذاتها بوعي منها أو بدون وعي؛ فإنّ الفرار من هذه المعضلة المفترضة إلى تعسُّف في القول بانتفاء الحاجة إلى التشكيلات أساساً أو بضرورة التخلّص منها؛ إنما هو مجازفة مؤكّدة. وإنْ ضاق بعضهم بهياكل هرمية وقواعد انتظام صارمة؛ فإنّ ميْلهم إلى نَفْيِ تمظهراتها واستبعاد نمطيّاتها قد يرهن اجتماعهم لتأثيرات منعقدة بأدوار غير نظامية، واستقطابات غير مُعلَنة، ومراكز قوى محتجبة، وتواطؤات غير مرئية، وهذه من سمات الاجتماع الإنساني عموماً. وإنْ استبدّت ببعض التشكيلات نزعاتُ تصلّبٍ أيديولوجي فعلت فعلها ببعض التجارب؛ فإنّ بعض التيّارات لا تبرأ من ذلك أيضاً، وما يقتضي الحذر أنّ بعض النزعات الأيديولوجية أعادت إنتاج ذاتها في تمظهرات ناعمة غير ملحوظة أحياناً في تجارب الواقع حول العالم، حتى أنّ مزاعم “نهاية الأيديولوجيات” تبدو مقولة أيديولوجية أحياناً.

 

من تناقضات الحالة أنّ بعض رافضي التشكيلات هم منخرطون في مثيلات لها، وأنّ بعض مناهضي العمل الإقليمي أو العالمي بين أطياف محسوبة على الأمّة؛ لا يمانعون بمثل ذلك إن جاء من أطياف متجاوزة لها، وأنّ من تحسّسوا من “التنظيمات” وأعلنوا البراءة منها؛ آل الحال ببعضهم إلى وكلاء لمنظمات دولية غربية المنشأ وصاروا يردِّدون مقولاتها كمحفوظات مرجعية مجيدة. تشير هذه التناقضات إلى أهمية تجاوز عقد مركّبة في واقع النخب والجماهير والتحرّر من أعباء نفسية أثقلت وجدان المجتمعات والشعوب وأذهانها بما ينعكس على وجوه الأداء ومسارات التجارب وآفاق التفكير وخيارات التصرّف.

آفات المزايدة والتعصب

على حركات الإصلاح ومشروعات التحرّر أن تتّقي تأثير مَن يصعدون منصّاتها بمنطق لا يستقيم، ويخالجون حواراتها فيستبّدون بوُجهتها، وقد يحمل بعضهم هراواتٍ معنوية بسطوة شعارات مرفوعة أو بوطأة فواجع مشهودة، وقد يكون بعضهم من حاملي الألقاب المتكاثرة في أوساط الفكر والعلم والرأي والقرار. قد يصعد هؤلاء بتقديرات فجّة لا تجد من يجرؤ على فحصها أو إعلان الشكّ ببعض مزاعمها، ومَن بوسعه أن يكسر تواطؤات الصمت المتضافرة من حول خطابات تهوي بالتقديرات وتُصادِر الاستراتيجيات وتبتني ما يروق لها من الحقائق والتصوّرات؟ وإنْ أقدم مُستَمِع جَسور على المناقشة؛ قد يُرمى بشرر من شكّ في ولائه للشعارات والتزامه بالمحفوظات ووفائه للضحايا، وقد يطارده تأنيب علني أو تقريع ضمني جراء تهاونه مع جراح نازفة واستهانته بآلام المكلومين في مصابهم، وسيكفي اللوْم المسدّد رادعاً لغيره عن أن يُراجعوا مقولاتٍ متفشِّية في مجالسهم وملتقياتهم وشبكاتهم وتطبيقات تواصلهم.

قد تتفاقم الحالة في زمن التشبيك من وجوه مخصوصة؛ فإن أطلق أحد المُشفِقين تغريدةً يتيمة تشي بقناعته في مسألة مُسيّجة – بغير وجه حقّ – بأسلاك شائكة؛ ستعود عليه المحاولة “الآثمة” بصيْحات هادرة تكون إيذاناً بنهشه على الملأ في مزايدات تصعيدية يتبارى المنخرطون فيها بالاغتراف من بركة الشتائم الآسنة وتعبيرات الوصم والتشنيع والإقصاء. إنه جمهور تتجاذبه الاستقطابات الشبكية وتؤجِّجه ثقافة التوتّر وحمّى القطيعة الصاعدة في زمن الصراع والاحتراب، بما يغويه بالبحث عن فرائس في كل موسم لتفريغ إحباطات الواقع في كل واحدة منها، وتحميلها مسؤولية رمزية عن انكسارات وانهيارات ومرارات عالقة في الحُلوق. لا يصحّ بنخب تخلّل أوساطاً فكرية وعلمية وإرشادية أو تُحسَب على حركات إصلاح ومشروعات تحرُّر، أن تمرق من مقتضيات الرُّشْد والتوازن؛ فمثل هذا يبقى أمارةَ تدهوُرٍ ومؤشِّرَ إخفاق، فكيف إن أمسك بعضُهم بقاطرة ركبه أو شارك في اقتراح الوجهة وتخطيط المسار؟

إنّ الذين زاغت منهم الأبصار وبلغت قلوبهم الحناجر، لا يصحّ بحركات الإصلاح ومشروعات التحرّر أنْ تمكِّن لهم في نقاشات عامة ليمسكوا بزمامها وليُلجِموا الرؤى الحرّة ويعقدوا الألسن المنطلقة؛ بسطوة الترهيب المعنوي ونظرات الشكّ في المقصد. على حركات الإصلاح ومشروعات التحرّر أن تبرأ من المزايدات المتشنِّجة والخطابات المُغالِية، وأن تحترس من تملّق انفعالات غير رشيدة في أوساط جماهيرها في حيلة مألوفة لتعظيم قدراتها على الحشد والتعبئة. من شأن التعويل على السذاجة والتسطيح والتعصّب أن يرتدّ على الحركات والمشروعات ذاتها فتتخلّف وتتدهور وقد يُستعمَل الأسلوب ذاته في تجاذباتها الداخلية بضراوة لا تُحسَد عليها؛ وقد ينصب الجمهور أعواد المشانق المعنوية لتجارب هذه الحركات والمشروعات ولرموزها؛ بمفعول التعبئة الساذجة والنزعة المتعصِّبة.

لا يَهدي منطقُ المزايدات المتشنِّجة إلى رؤية صافية يتطلّبها التصرّف الرشيد، ولا يُسعِف في إنضاج تقديرات مستقلّة عن الزيْغ والهوى، حتى أنّ بعضهم يأتي بما يُزعَم أنه من التحليل والبحث والدراسة لخدمة أحكام مُسبَقة لا تقبل عندهم تبديلاً ولا تعديلا، ولتصديق أمانيّ رغائبية منعقدة سلفاً فلا تزيد الطين إلاّ بِلّة. وقد تكاثرت مراكز “الدراسات والبحوث” المزعومة؛ المنصرفة أساساً لتسعير الغضب واستثارة الأحقاد وبعث الضغائن وتوفير “إثباتات علمية” تعزِّز خطابات الشحن والتعبئة ضمن مربّعات التوتُّر وخنادق القصف المتبادل على خطوط التماس السياسية والإقليمية والإثنية والطائفية. ما الذي يُرجَى من منصّات التقدير ودوحات النظر وأروقة النخب إن استبدّت بها العواطف وأمسكت بخطامها المُزايدات ورضخت لمن يحظون بامتياز الابتزاز العاطفي في مقامات التفكير والاستراتيجيات؟ على الجرّاح الماهر أن يعزل مشاعره الإنسانية العميقة قبل الإمساك بمبضعه كي لا ترتعش كفّاه، وكي لا يكون شريكاً في الفتك بقضية يُحسَب عليها، وإن حَسُنت نواياه وأجاد في نزف الدمع على ضحاياها.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى