كتابات

أدوات صناعة العقل على ضوء الكتاب والسنة

بقلم الشيخ د. ابراهيم الدويش

إن مما ميز الله عز وجل به الإنسان عن غيره من الكائنات الحية هو العقل، بل هو أبرز ما يميزه في الحقيقة، ثم إنه مما ميز الله عز وجل به بعض بني آدم على بعض.

وإذ نتحدث عن العقل في الإنسان فلابد وأن نفرق بين العقل الذي يُضَادُّه الجنون، والعقل الذي يضاده السَّفَه.

قال الإمام ابن القيم: “والعقل عقلان: عقل غريزة، وهو أبو العلم، ومربِّيه، ومثمِّره، وعقل مكتسب مستفاد، وهو ولد العلم وثمرته ونتيجته، فإذا اجتمعا في العبد فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، واستقام له أمره واقبلت عليه جيوش السّعادة من كل جانب، وإذا فقد أحدهما فالحيوان البهيم أحسن حالًا منه، واذا انفرد انتقص الرجل بنقصان أحدهما”.

فهذا النوع الثاني من العقل هو مادة الحديث عن صناعة العقل، إذ هو الذي يقبل تلك الصناعة، وتؤثر فيه أدواتها، بخلاف الأول.

ولا زال الناس يثنون على العقل، ويتفقون – مسلمهم وكافرهم، طائعهم وعاصيهم – على منزلة العقل، ورفعة شأن العقلاء، فكفى بالعقل فخرًا ورفعةً أن ينتسب إليه ويدَّعيه من لا يملكه ولا يتمتع به، وكفى بالسَّفَه عيبًا ودنوًّا أن يتبرأ منه وينفيه من هو ساقطٌ فيه تمام السقوط، فعن همام بن يحيى قال: «قلنا لقتادة أي الناس أغبط؟ قال: أعقلهم. قلنا: أعلمهم؟ قال: أعقلهم».

ومن ذلك قول القائل:

وأفضل قسم اللَّه للمرء عقله *** فليس من الخيرات شيء يقاربه

إذا أكمل الرحمن للمرء عقله *** فقد كملت أخلاقه ومآربه

ولازال أهل الفضل يرفعون ذا العقل بعقله وإن كان فقيرًا معدمًا، ويقدمونه على من كان سفيهًا ولو كان غنيًّا مليئًا؛ قال أبو حاتم ابن حبان : “كفى بالعاقل فضلًا – وإن عدم المال – بأن تصرف مساوئ أعماله إلى المحاسن؛ فتجعل البلادة منه حلمًا، والمكر عقلًا، والهذر بلاغةً، والحدة ذكاءً، والعي صمتًا، والعقوبة تأديبًا، والجرأة عزمًا، والجبن تأنيًّا، والإسراف جودًا، والإمساك تقديرًا”.

وقال القائل:

فمن كان ذا عقلٍ ولم يك ذا غنًى … يكون كذي رجلٍ وليست له نعل

ومن كان ذا مالٍ ولم يك ذا حجًى … يكون كذي نعلٍ وليست له رجل

ومما يدعو إلى الحديث عن العقل وصناعته هو ما نراه من الأثر السيء لضعف العقول، وسفاهتها، فمن ذلك:

أولًا: أثره على الأفراد في اختيار ما يقيم حياتهم، ويصلح أمر آخرتهم، فترى كثيرًا من الناس مصرًّا على تقديم ما فيه شهوة عاجلة، رغم ما فيه من عاقبة فاسدة في الدنيا، وعقوبة عظيمة في الآخرة، وما ذاك باختيار عاقلٍ حصيفٍ ناصحٍ لنفسه، بل قد أوتي مِن سَفَهِ عقلِه.

بل ومن ناحية اختياراتهم في أعمالهم، فتجد أحدهم يعمل العمل الذي لا يستطيعه، ولا يجيده، ولا يملك أدواته، فما هو إلا أن يفشل فيه، فيظن نفسه فاشلًا وتخور قواه لذلك، وما الأمر إلا سوء تقديرٍ للإمكانات، وسوء توظيفٍ للقدرات.

ثانيًا: أثره على الأسرة، فكم من بيوتٍ أقيمت على غير أساسٍ صحيح، وأديرت على غير أسلوبٍ رجيح، فكانت العاقبة بتهاوي هذه البيوت، فيترتب على ذلك من العواقب الوخيمة ما الله به عليم، من تشريد أبناءٍ، وفساد نساءٍ، وسقوط مجتمعاتٍ، وما ذاك إلا من ضعف العقل، وضعف اختياراته.

ثالثًا: أثره على المجتمعات، وهو مبني بدرجة كبيرة على ما سبق، فالأسرة لبنة المجتمع، والفرد لبنة الأسرة، ففسادهما فسادٌ للمجتمع بالطبع، سيما إذا أضيف إليهما تواطؤ المجتمعات على إقرار الفساد الحياتي والسقوط الديني في أركان المجتمع الذي يحوط الجميع، وما ذاك إلا من سوء الاختيار والتوجه، الناتجين عن ضعف آلات العقل وتمييزه.

رابعًا: أثره على الأمم والدول بعامة، وهو مبنيٌ على ما سبق – أيضًا – بدرجة كبيرة، مضافًا إلى ذلك ما يكون من سياسات الدول تجاه بعضها البعض، مما يترتب عليه فساد أكبر يعم الأرض بأسرها.

فمن ذلك ما نراه من أممٍ قد اهتمت بتنمية عقول أبنائها، واكتشاف أصحاب المواهب منهم في كل المجالات – تقريبًا – فكان في ذلك خيرٌ كبيرٌ لهذه الأمم، بل وللبشرية بأسرها، إذ ظهر ذلك في صورة اختراعاتٍ، وابتكاراتٍ تفيد الناس في جنبات الأرض.

وعلى الجانب الآخر نرى أممًا استخدمت ذلك في صناعات وحياكة مؤامرات أدت إلى دمارٍ كبيرٍ في جنبات الأرض، ولا أدل على ذلك من أن نعرف أن عدد من قتلوا في الحرب العالمية الثانية وحدها حوالي خمسون مليونا من البشر، وما ذلك إلا بسبب البُعد عن شرع الله وعدم الاهتداء بالوحي الإلهي الذي يوجه هذه الطاقات وجهتها الصحيحة لخدمة البشرية.

وهذا الاهتمام من قِبَل الأمم بعقول أبنائها، واستغلال ذلك نراه في سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، رغم تأخر الخلف عن ذلك بدرجة كبيرة، فقد كان سلف الأمة يهتمون ويستشيرون أصحاب المواهب والعقول، فهذا الخليفة عمر بن عبد العزيز يقول: “لأن يكون لي مجلس من عبيد الله – أي: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة – أحب إلي من الدنيا؛ ” وقال: “والله إني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال، فقالوا: يا أمير المؤمنين، تقول هذا مع تحريك وشدة تحفظك؟! فقال: أين يذهب بكم؟ والله إني لأعود برأيه وبنصيحته وبهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف، إن في المحادثة تلقيحًا للعقل، وترويحًا للقلب، وتسريحًا للهمّ، وتنقيحًا للأدب”.

ويقول الإمام ابن القيم: “وقد مدح الله سبحانه الْعقل وأهله في كتابه في مواضع كثيرة منه وذم من لَا عقل له وأخبر أنهم أهل النّار الّذين لا سمع لهم ولا عقل، فهو آلة كل علم وميزانه الّذي به يعرف صحيحه من سقيمه وراجحه من مرجوحه والمرآة الّتي يعرف بها الحسن من القبيح”.

وإذا كان أمر العقل بهذه الخطورة، والأثر العظيم في حياة الفرد والأسرة والمجتمع، بل والعالم بأسره، كان لابد على المسلمين – لاسيما من تصدوا لقيادة الأمة وتربيتها، من الولاة والعلماء وأهل الرأي ونحوهم – من النظر فيما ينهض بالعقل.

والناظر في كتاب الله عز وجل، وفي سنة نبيه ﷺ  وما ورد في التاريخ الإسلامي، والحضارة الإسلامية يجد عجبا في مجال النهوض بالعقل وتنميته، فلنذكر من ذلك بعض الأدوات التي تظهر جليةً لكل متطلع:

أولًا: البيئة:

فهي أول أدوات التأثير في عقل الإنسان، لأنها مهد الإنسان ونشأته، ولذلك يتفق العقلاء على أن: “الإنسان ابن بيئته”. يعنون أنه يتأثر بها، وبسلوكيات أهلها، فلذلك تجد تفاوتًا كبيرًا بين أبناء البيئات المختلفة، وما ذاك إلا لاختلاف المخزون الذي امتلأت به عقول بني هذه البيئات من جراء تأثير بيئاتهم المختلفة في عقولهم، مما يؤثر في سلوكياتهم.

والناظر إلى بيئة العرب قبل البعثة الإسلامية يجد أن ما كان بها من سلوكياتٍ وطباعٍ حسنةٍ كان سببًا في إسلام كثيرٍ منهم، وما كان فيها من عصبيةٍ جاهليةٍ وسلوكٍ سيءٍ كان من أهم أسباب صدود بعضهم، وبقائه على دينه الجاهلي، فمن ذلك قصة أبي طالبٍ عمِّ النبي ﷺ ، حيث أبقته عصبيته لملة آبائه على دينهم، وتسببت في موته على الكفر، وما ذاك إلا للأثر العظيم للبيئة في تنشئة هؤلاء القوم على العصبية للآباء.

ثانيًا: التعليم والثقافة:

اللذان يرتقيان بمستوى عقل الإنسان، فيخرجانه عن بعض مساوئ بيئته وما نشأ عليه، ومما يبين أهمية ذلك ما نراه في كتاب الله عز وجل – وهو رأس مصادر الثقافة – من اهتمام بعقول المسلمين، والرقي بها، فلا تخطئ ذلك أبدًا في كتاب الله عز وجل عن طريق بيان أوجه ضلال الكافرين العابدين الأوثان وتركيزه على أنه لم يدفعهم لذلك إلا سفه عقولهم، فيقول سبحانه وتعالى : { أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [الأنبياء:67] فيقرعهم إذ تركوا عبادة خالقهم ورازقهم ومدبر أمورهم والمالك لكل شيء وإليه يرجعون سبحانه، وذهبوا إلى عبادة غيره، فأي عقول هذه العقول؟!

وكذلك لا تخطئ في ختام العديد من الآيات القرآنية : { أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [البقرة:44] ، { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [البقرة:73] ، { أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }  [يونس:3] ، { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [يونس:24]، ونحو ذلك مما ينبه على أهمية الأمر، ومدى تأثير تعالىم الوحي في النهوض بالعقل والفكر، ورفعة القوم عن سفاسف الأمور.

وظل رسول الله ﷺ طيلة فترة بعثته، سيما الفترة المكية ينتشل أصحابه من سفه العقول بعبادة الأصنام، وترك عبادة رب العالمين، ومن الجاهلية وعصبيتها وما فيها من مساوئ إلى رفعة العقول، وحسن التصرف، والناظر في سيرته ﷺ يرى ذلك واضحًا جليًّا باديًا لكل أحدٍ، لا تخطئه عين.

وهذا وإن كان اهتمام أمة الإسلام بالدرجة الأولى إلا أنه قد اهتمت به كل الأمم المهتمة برفعة شأنها، ولو لم تكن مسلمة، فهذه اليابان بعدما أُلْقِيت عليها القنبلة الذرية، ودمرت دمارًا عظيما، إذا بها أول ما تهتم به هو التعليم، فكان المعلم يقف ليعلم التلاميذ فوق أنقاض المدارس، وما ذاك إلا لعلمهم بأهمية التعليم في صناعة عقول الأجيال.

ثالثًا: التربية:

وهي من أوائل ما يؤثر في الإنسان إذ يتلقاها الإنسان غالبا في مهد حياته، وانظر إلى قول الله عز وجل: { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان:13]. فانظر إلى اهتمام الأنبياء – وهم رؤوس الإصلاح – بصناعة الأمم والنهوض بعقول أبنائها، وما ذاك إلا لإدراكهم أهميتها وتأثيرها.

وكذلك كان رسول الله ﷺ في تربيته لأصحابه، فعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه: كنت غلامًا في حِجر رسول الله ﷺ ، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله ﷺ : ((يَا غُلامُ سَمِّ اللَّهَ ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ)) فما زالت تلك طعمتي بعدُ .

رابعًا: القدوة:

وأما القدوة، فلها وقع عظيم في قلوب الناس، فالفعل أقوى من القول، و”النفوس إلى الاقتداء بالفعال أسرع منها إلى الاقتداء بالقوال”.

وقد بين الله عز وجل ذلك في مواضع عديدةٍ بالمنطوق والمفهوم، فمن ذلك قوله تعالى:   [الأحزاب:21].

ولم تغفل السنة هذا الجانب بل نبهت عليه وأوضحته، وبينته، فمن ذلك أن النبي ﷺ أمر الصحابة أن ينحروا، ثم يحلقوا من أجل أن يتحللوا من عمرتهم، فلم يستجيبوا فاستشار ﷺ أم سلمة رضي الله عنها ، فأشارت عليه أن يخرج فينحر ويحلق، ويتحلل، ففعل فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا اقتداء به ﷺ .

وختامًا نقول: هذا ما اتسع له المقام من ذكر الأدوات في موضوعٍ هو في الحقيقة: صناعة الأمم والرقي بها عن طريق صناعة عقول أبنائها، ولو اتسع المقام، وفصل هذا الأمر لاحتاج مجلدات لتفصيله.

فنسأل الله عز وجل التوفيق والسداد، ورفعة أمة الإسلام، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد ﷺ .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى