تقارير وإضاءات

من “فور شباب” إلى مشنقة “بن سلمان”.. لماذا يستهدفون علي العمري؟

من “فور شباب” إلى مشنقة “بن سلمان”.. لماذا يستهدفون علي العمري؟

إعداد محمد فتوح

إن كُتب لك أن تزور مدينة “ميلانو” الإيطالية، فستجذبك ساحة مثل “الدُوُمو” الشهيرة وتخطف ناظريك الأضواء والمباني الإيطالية على جانبي الطريق، يتوسط هذه الساحة تمثال ذهبي فوق قمة كاتدرائية الدُومو الأثرية، حينها ستدفعك الدهشة للوقوف وقراءة المعلومات التاريخية المُدونة في اللوحة الإرشادية بجوار المبنى الأثري، قراءة ستذهب بك في رحلة تاريخية إلى ملاحم الحروب وأروقة السياسة وحوادث الكساد العظيم عبر التاريخ، وصولا إلى العصور الحديثة.

وعلى بُعد أمتار من ساحة “الدُومو” ستجد أمامك سوق “إيمانويل الثاني” والذي تتراص فيه البازارات، وتدفعك ألوانه إلى التأمل في خرائط العواصم البائدة المعلَّقة بالأعلى، تلك الرسومات التي نقشها فنانو النهضة مثل مايكل أنجلو ورفائيل ودي ريبيرا؛ ليختلط في نفسك الحاضرُ بالماضي، والملاحم التاريخية بالسياسة الدولية، والفلسفة بالفن، والشعور الديني بالقصص الإنسانية والأساطير التي نشأت عبر العصور، فتشهد السلام والحرب، وصور الرق ومفاوضات تحرير العبيد، حتى تبلغ عصور الاستعباد الوظيفي والأمني فيما نعيشه اليوم.

في كل مدينة كبيرة من مدن العالم، هناك قصص تُروى، من ميلانو وفينيسيا والبندقية وروما، إلى باريس وليون وبرلين وميونيخ، إلى دمشق وحلب وحضرموت وعدن واللاذقية وبغداد والموصل والقاهرة والإسكندرية وإسطنبول.

مشاهد وزيارات نقلنا إليها برنامج “مذكّرات سائح” لمُدن غرضها الرئيسي متمثّل في التعرف على تاريخها وربطه بحاضر أوطاننا، مع استنطاق معاني الدين والفلسفة والفن والجمال والأخلاق والقيم التي تحويها. كانت هذه هي الرسالة الأهم التي عَرَف بها كثير من الشباب العربي الداعية الشاب “علي العمريّ” في برنامجه، والذي جمع فيه بين الأسلوب العصري والمضامين الفكرية الجادة، حيث لم يكن البرنامج مسامرة عابرة أو سياحة للتدليل على ما نعيشه من استلاب حضاري، بل كان برنامجا مُحمّلا بمضامين فكرية مع انفتاح على الحضارات العالمية، وهو ما أهَّله لحيازة لقب سفير السياحة العربية من جامعة الدول العربية عام 2012، إلا أن ذاك السَّفير، وبمرور الأيام، بات “إرهابيا” تُهدده عقوبة الإعدام.

العُمري.. والإرهاب؟

“وليّ الأمر: هو من اختاره الناس [بالشورى]، فإذا اختاره الناس وبايعوه؛ فهذا هو وليّ الأمر”

(علي العمري)

في بدايات ظهور الداعية علي العمري في الأوساط العامة، اتخذ العُمري قرارا بخلع عباءة دكتور الشريعة المحلية، مُرتديا زيَّ الشباب العربي، وليبرز نتاج جهوده المبكّرة بإتمام إنتاج مواسمه التسعة من برنامجه، وهو ما وصفه العمري بقوله: “لم يمر عليّ حالة نفسية صعبة في عمري كما كان يمر عليّ فترة تصوير حلقات موسم كل سنة.. ماذا تتخيلون واقعي وأنا أمر مع شرارة أول سنة على تجربة نهضة ماليزيا وأقرأ كل ما يمكن قراءته عن نجاحها، وفي مخيلتي واقع أمتنا العربية والإسلامية؟! وماذا تتخيلون وأنا أطوف بلاد الأندلس وأذرعها شبرا شبرا وأحبس دموعي وأكتم حزني على كل الحضارة والتاريخ والعلوم والفنون التي فقدناها؟!

ثم بالله عليكم، ماذا تتخيلون وأنا وسط المظاهرات في اليمن عربيا ثم اليونان أوروبيا، وبينهما أقلب مواجع بل فواجع النظر على متاحف التعذيب وذكريات الاستقلال في سجن الباستيل بفرنسا، ومتحف التعذيب في هولندا، وقصة العجوز المسيحي المناضل أمام البرلمان البريطاني، ووضع سجن السويد، وغرف التفتيش في أمن الدولة بمصر بعد 25 يناير. فيا تُرى كيف تظنون نفسيتي بعد كل ذلك؟!” [1].

إلا أن “علي العمريّ” الذي عُرف باعتباره مقدم برامج شبابية لم يكن تأثيره منحصرا على المقولات المجرّدة؛ إذ كان حاضرا ومتفاعلا مع ما يدور في ساحات مظاهرات الربيع العربي، سواء في ميدان التحرير بمصر، أو في اليمن، وقبلهما ثورة الياسمين في تونس. ووفق هذه التحولات التي طرأت على الجغرافيا العربية، سيُغير العمري برنامجه “مذكرات سائح” ويضم إليه برامج أخرى، سيلبس فيها ثوب المفكر هذه المرة، ليُناقش مفاهيم الربيع العربي والبناء عليه، ودور الشباب في ذلك، فأخرج برامج أخرى شبابية مثل “أقنعني” و”180 درجة” و”افتحوا الأبواب”.

وهي البرامج التي نقلت العُمري لقلب الحراك الشبابي، بتساؤلاته، وآماله، وهمومه، ليقف موقفا سياسيا في حقيقته بمواجهة الأنظمة المستبدّة، مندفعا بشعور مفاده أن هناك نهضة ما آتية لهذا القُطر العربي الذي غرق في الاستبداد.

وقد مثّلت هذه النقلة في توجهات العمري الإعلامية عاملا رئيسيا في وضعه في وقت لاحق من قِبل السلطة السعودية على رأس أولويات برنامج الاعتقال الذي شنّته على الدُّعاة “الفاعلين”. ففي سبتمبر/أيلول 2017، كان اسم “العمري” قد أضحى أحد أبرز الأسماء التي تصدّرت قائمة معتقلي الرأي، إذ نظر إليه الأمير محمد بن سلمان ونظامه السياسي باعتباره أحد أخطر الدعاة في المملكة، وباتت صورته مع سلمان العودة وعوض القرني مترافقة للتعبير عن الثلاثة المتهمين بالإعدام لتهديد أمن المملكة!

كثيرة هي الأخبار الواردة التي تفيد تعرض العمري لانتهاكات كحال عدد من الرموز الدَّعوية المعتقلة في سبتمبر/أيلول 2017. انتهاكات مثل الضرب والصعق الكهربي، وإطفاء السجائر في جسده، و”الإيهام بالغرق، وتقييده وتثبيته على الأرض” [أ] [2]. أما فيما يتصل بالتهم التي تُبرر هذه الإجراءات بحقه، فقد وُجّهت للعمري تُهم تربطه بالعمل لمؤسسات شبابية تعمل على تحقيق أهداف إرهابية وتجنيد الشباب تحت غطاء الترفيه، وتهم بإنشائه لقناة “فور شباب” والثناء على سيد قطب، وتأييد الربيع العربي والتحريض على ولاة الأمر! [3]

https://twitter.com/SAEED_NASSER/status/1147466250626523136

تُهمة الأَخونة

“إخواننا، الشيخ سلمان العودة والشيخ علي العمري، وأعداد من الإخوة الصادقين، معتقلون الآن لأن كثيرا منهم كان مع يوسف القرضاوي!” 

(يوسف القرضاوي – المؤتمر الأخير لاتحاد علماء المسلمين)

منذ زمن ليس ببعيد، بات معلوما أن التصريح بالانتساب إلى تيار الإخوان المسلمين أو التضامن معهم في المملكة كفيل بأن يودي بصاحبه إلى الإقصاء الديني أو الاعتقال السياسي، لكن ولي العهد السعودي نقل هذه التهمة لتصل إلى حبل المشنقة، وذلك عقب إدراج الإخوان كجماعة إرهابية في المملكة [4].

ورغم ذلك الحظر القانوني للإخوان، فإن التيار العام للإخوان لا يزال حاضرا بمفاهيمه الحركية في المملكة باختلاف الأسماء [ج]، ويمكن إرجاع أسباب هذا الحضور منذ قدوم شخصيات “إخوانية” في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي إلى المملكة، وهُم القادمون تحديدا من مصر وسوريا، أمثال محمد قطب ومنّاع القطان وغيرهم، وقد كان لحضورهم في السلك التعليمي أكبر الأثر في امتداد تلك الأفكار.

وبمرور الوقت، بدأ تيار حركيّ سلفيّ بالظهور في المملكة، مُتخذا من تشكّلاته أسماء مختلفة [5]، مثل السرورية، والصحوة، وغيرها من الأسماء التي يمكن القول إنها مُزجت بمفاهيم الإخوان الحركية من ناحية، وبالعقيدة السلفية الوهابية من ناحية أخرى، وكثيرا ما عُبِّر عنها في المجتمع السعودي باسم تيار الصحوة الذي بدأ في الظهور سبعينيات القرن الماضي وتنامى حتى تسعينياته، وهو التيار الذي ما زالت آثاره ممتدة في المملكة رغم حرب بن سلمان عليه [د]. وعلى الرغم من هذا التداخل المشتبك لأفكار الإخوان المسلمين مع عدد من التيارات داخل المملكة، فإن اسم “الإخوان المسلمين” ما زال بمنزلة التهمة التي يتبرأ الجميع من الانتساب إليها، وهو الرفض الذي تظهر حدّته في العلن خصوصا، وإن تبنى البعض أفكارها ضمنيا [هـ].

إلا أن “علي العمري” -من بين الجميع- امتاز بجرأة لم تكن لكثيرين غيره في خطاباته الإعلامية، وبرز ذلك أثناء تعامله مع تُهمة “الأخونة” التي كثيرا ما نسبها إليه الإعلام الحكومي السعودي [و]. أحد هذه اللقاءات كان مع تركي الدخيل، والذي حاول أن يُدِينه بأن حركته وسط الشباب إنما هي حركة إخوانية، ليصرّ العمري أن الدين الذي يعمل من أجله هو العمل مع كل المسلمين ما داموا لم يخالفوا الكتاب والسُّنة [6]. وفي حوار تلفزيوني آخر مع المذيع الجدليّ “علي المديفر”، وجه إليه المديفر سؤالا مباشرا بقوله: “هل ينتمي الدكتور علي العُمريّ إلى الإخوان المسلمين؟!”.

وعلى الرغم من أن جُل الدعاة في المملكة يتحرّزون من الإجابة عن مثل هذا السؤال، ويُجيبون بالنفي مباشرة -مهما كان تعاطفهم مع الإخوان- فإن العمري كان له نهج خاص؛ فأجاب بأن الإخوان قد فتحت لهم المملكة أبوابها قديما وكانوا سببا في تعليم الجيل الذي ينتمي إليه العمري، وكانت كُتبهم تُوزَّع في الحرم المكي والمدني، وأمام باب السلام في المدينة على مرأى ومسمع من المشايخ، فليس له أن يتنكّر لمن علّمه هو وجيله في المملكة.

وليواصل العمري فكرته قائلا: “أنا أنتمي إلى كل فكرة تخدم عقيدتي الإسلامية، ومجتمعي، ولا أُخفي حُبي لعملي واجتهادي مع هذا التيار أو ذلك، ولا أستطيع أن أجد أن السعودية أتت بعلماء من مصر والأزهر وأخذوا يُعلّموننا ويدرّسوننا وتُوزّع كتبهم في الحرم النبوي ثم أتنكّر لهذا كله وأقول لا أحبه! بل أعمل معه! أعمل مع الإخواني والتبليغي والسلفي”.

ولم تكن تلك نهاية إجابته، إذ يقلب العُمري الطاولة على المديفر سائلا إياه: “وأنت ألم تنتمِ إلى المحاضن الصيفية في شبابك وتفخر بذلك، وأنت تعلم أن القائمين على هذه المحاضن كانوا إخوانا؟!”. صمتَ المديفر برهة، وبدا عليه الارتباك، ثم نفى ما قاله عنه العمري وأجاب: “لكني لستُ إخوانيا”، وغيّر الموضوع بسؤال في اتجاه آخر.

أكبر من مذيع

“الحاكم عندما يقول “اسمعوا وأطيعوا” فهذا يعني قبل أن أُطيع، أن أسمع من الحكام، وأن أنظر في برنامجه الانتخابي، ثم أختاره.

فإن اخترته فحينها أسمع. لكن الحاكم إذا لم يسمع للناس، فلا سمع له ولا طاعة من الناس، بل هو ظالم ومستبد”

(علي العمري)

لم يكن العمري مجرد مذيع شاب أو أحد الدعاة العصريين فحسب، بل كان قبل ذلك كله فاعلا في شرائح شبابية داخل المملكة وخارجها، وله حضوره الذي جعل لشخصيته وزنا بين أقرانه، إضافة إلى ذلك، فالعمري، رغم اقترانه بالشباب وعالمهم، وقدرته على مخاطبة الجموع الشابة، فهو شيخ فقيه.

ووفق التعريفات الكلاسيكية للشخصية، فهو علي بن حمزة بن أحمد العلواني العُمري، ويبلغ من العمر 47 عاما، من مواليد “جدة” وأحد أشهر دعاتها، وقد حصل على ماجستير في أصول الفقه بتقدير ممتاز، وأشرف على رسالته الشيخ الموريتاني الشهير عبد الله بن بيه، كما حصل على الدكتوراه في الفقه المقارن في أحد أهم مؤلفات المغاربة في الفقه المالكي عبر رسالة “الفتح الرباني شرح نظم رسالة ابن أبي زيد القيرواني” التي قام بتحقيقها ودراستها، وكان بن بيه ذاته مشرفا عليه، مع عالم الحديث والتواريخ الشهير خلدون الأحدب [7].

ورغم أن العمري يعدُّ ابنا من أبناء الصحوة، فإنه لم يحصر نفسه في اختياراتها، وكان لنشأته في سوريا وهو صغير واقترابه من الحركة الدعوية خارج المملكة دور كبير في انفتاح العمري على شرائح ورؤى مختلفة. فقد يخالف العمري السائد الفقهي في المملكة أحيانا، لكنها مخالفة لم تكن تتذرع بالخلاف لإسقاط الأحكام الشرعية كما يفعل حداثيو المملكة، وهو ما جعل العمري حلقة وصل بين امتدادات مدرسة الشيخ يوسف القرضاوي في نسختها الحركية، وبين الصحوة في السعودية بأبعادها الأصولية والعقدية.

نعم، كان صيت القرضاوي غير مُحبّب في المملكة، إلا أن ذلك لم يدفع العُمري لإخفاء علاقته به، فقد نشر عددا من الصور بينهما على حسابه في إنستغرام عدة مرات وعلق على إحداها بقوله: “تشرفت باللقاء أمس في الغداء مع العلامة يوسف القرضاوي.. سبحان من جعل في لقائه سرا وحبا.. ولا يخلو مجلسه من ضحكة وشعر وفقه وروح”. وامتدح العمري شيخه القرضاوي في عدد من برامجه، وعمل على تقريب فتاواه للشباب، وقد انعكس ذلك في كتابه “الجديد في فقه الجهاد” والذي هذّب فيه العُمري كتاب “فقه الجهاد” للقرضاوي، وجعلها في صورة أسئلة وإجابات مُيسرة للشباب العربي.

كان صيت القرضاوي غير مُحبّب في المملكة، إلا أن ذلك لم يدفع العُمري لإخفاء علاقته به، فقد نشر عددا من الصور بينهما على حسابه في إنستغرام عدة مرات  (مواقع التواصل)

الصحوة بألوان “شابة”

ليس العمري إذن مجرد طالب علم غارق في المسائل والكتب فقط، ولا واجهة إعلامية فحسب، بل يمكن أن يوصف باعتباره ذا خطاب شرعي وجاد ومنفتح في الوقت ذاته على بيئات مختلفة. وقد اتجهت خطاباته وإنتاجاته لشريحة الشباب على التحديد، إذ جاوزت برامجه العشرين برنامجا، وأنتج العشرات من الكتب التي تميّزت بسلاسة الأسلوب وعمق الفكرة؛ فكانت كلها موجهة نحو الشباب، ومستهدفة أفكار التغيير.

عُرف عن العمري كذلك نشاطه الشبابي العالمي، لا سيما من خلال منظمة “فور شباب” وقناة “فور شباب” التي يرأس مجلس إدارتها، وقد جمع العمري إلى ذلك عددا من المناصب الأكاديمية الأخرى مثل رئاسته جامعة مكة المكرمة للعلوم الشرعية، وأمانته لرابطة الفن الإسلامي العالمية، وعضويته للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

وفي وقت من الأوقات، مثّلت مؤسسة “فور شباب” نافذة لـ”الشباب الإسلامي” على الإعلام الحديث، واهتمت القناة بقضايا الشباب على شاشتها، وأولت اهتماما خاصا بالفكر الإسلامي في الفنون والحياة، وانبثق منها عدد من اللجان والهيئات العالمية. استمالت القناة في الوقت ذاته عددا كبيرا من الدعاة ذوي الطابع الحركي المتفاعل مع الشأن العام، فعرضت حلقات ليوسف القرضاوي وطارق السويدان ببرنامج “نوافذ”، بالإضافة إلى علي العمري نفسه، وسلمان العودة، ومحمد الحسن ولد الددو الشنقيطي في برنامجه الشهير “مفاهيم” مع د.عادل باناعمة، إضافة إلى دعاة آخرين مشهورين ظهروا عليها وقتها مثل محمد العريفي وعمرو خالد وأحمد الشقيري في برنامج “خواطر”.

مثّلت المفاهيم التي يناقشها العمري بعيون النظام قنابل موقوتة لا يمكن أن يستقر معها نظام لم يعرف غير الطاعة العمياء، ولم يسمع من قبل بشيء اسمه “محاسبة الحاكم” أو “حقوق الرعي”

امتد أثر العمري الشبابي إلى الداخل السعودي كذلك، فكان للمؤسسة فرع في جدة، وهو الامتداد الذي سيصبح لاحقا إحدى أكبر التهم التي وُجّهت إلى العمري، حيث اتُّهم بالعمل على إنشاء مؤسسات شبابية إرهابية وتمويلها، فتحوّلت المؤسسات التي عمل العمري على تقويتها في عالم الفن والقضايا الدينية إلى تهمة يُعاقب صاحبها بالقتل تعزيرا.

الثورات.. الشرخ الذي لن يلتئم

“إذا سألتني عن القيمة الأهم والمبدأ الأول في حياتي، فسأخبرك بلا تردد أنها قيمة الحرية، وأنا أستشعر الانتماء للأمة الواحدة، فكل ما يحدث في العالم الإسلامي فإنه مهم لي”

(علي العمري)

كان للعمري قبل الربيع العربي نشاط ملحوظ فيما يخص القضية الفلسطينية، حيث يُعتبر فرع منظمة فور شباب في فلسطين -إلى الآن- أحد الفاعلين الحاضرين في الساحة الشبابية بالداخل الفلسطيني [8]، وكانت فلسطين -برمزيتها- هي القضية الأهم التي تجمع الدعاة المنشغلين بالعمل العام فيما قبل الربيع العربي.

لكن مع اندلاع شرارة الثورات العربية، انتقل العمري لجغرافيتها المختلفة، وهو الذي لم يكتفِ بتأييدها، بل أصبح أحد المشاركين فيها، حيث نزل العمري إلى ميادين الثورة، ونقل برنامجه “مذكرات سائح” من البلدان المختلفة إلى ميادين الثورات لينقل صوت الشباب من خلف الشاشات.

ومن ميدان التحرير بالقاهرة [9] بث العمري حلقته عن الثورة المصرية في برنامجه، ووقف أمام مبنى الحزب الوطني -الحاكم أيام مبارك- بعدما أحرقه الثوار ليقول: “قد تستغربون من مفأجاة الشعوب، والتي ستخرج يوما من الأيام عليكم إن استمر الظلم”. كما شارك العمري في الثورة اليمنية، بل قاد مظاهرات فيها، وخطب في المتظاهرين متزينا بالزي اليمني التقليدي والخنجر الفلكلوري [10].

وكان لتركيا نصيب وافر من استلهام تجربتها في الحكم لدى العمري، فقد خصص لها أغلب حلقات برنامج “مذكرات سائح” وجعلها مثالا في حل المشكلات المجتمعية العالقة.

ابن سلمان وشد الوتر داخل المملكة

“النظام ليس شخصا، وولي الأمر له صلاحيات لا يمكن له أن يتجاوزها.

هذا ما تخبرنا به الدولة الإسلامية، وإلا فكيف يمكن لفرد واحد في عصرنا أن يكون له القرار الوحيد سياسيا وعلميا واقتصاديا وشرعيا؟! ثم يتم اضطهاد المعارضين لهذا الفرد!

في الدولة الإسلامية لا خوف على المعارضين، لأن الحاكم مثله مثل الناس بالتمام” 

(علي العمري)

استثمر العمري مناخ الحرية الذي أتاحه الربيع العربي ليرتفع بسقف خطابه، وليناقش قضايا جوهرية جديدة داخل المملكة نفسها، على الرغم من أنها ظلّت في خانة “القضايا الحساسة” لسنوات طويلة.

قد تسأل: ما القضايا الحساسة؟، هيَ مثلا أن تشيدَ بالثورة، ودور الشباب فيها، وأن تدعو لمحاسبة الحاكم أو ولي الأمر ومناقشة حدود صلاحياته، وأن تدعو للمراقبة المجتمعية، وأن تُبيّن أحكام المعارضة السياسية، وأن تناقش ثقافة الانتخاب، وأن تدافع عن حقوق المعتقلين، وأن تطالب بالكشف عن تضخم الثروات ونهب المسؤولين، وأن تنقّب خلف شعارات التنمية البرّاقة، ودور الدولة في نصرة المظلومين. وقد استمر العُمري على نهجه المعتاد: مخاطبة الشباب، وهي “القضايا الحسّاسة” التي جعلت الإعلام السعودي يوجّه له تُهما بـ “تصدير الثورة” وإثارة الفتنة.

ولم يكن العمري مجرّد صوت إعلامي، بل بات منبرا لإيصال أصوات المظلومين. ففي إحدى حلقاته عن “حقوق السجناء” في السعودية، هاتفته امرأة سعودية باكية وشاكية اعتقال والدها، وأنها لم تره من سنوات، فلم يقطع العمري الاتصال عليها خشية من الرقابة، بل ترك المساحة لها حتى النهاية، ثم ناشد بإخراج المعتقلين، ووجّه رسائله إلى المسؤولين بأن المعتقلين بشر، لهم حقوق في “رقبة السلطة” ينبغي ألا تتجاوزها، أو بعبارة العمري: “أنا معتقل؟! إذن أنا إنسان، فلا تنسَ هذا!” [11].

مواضيع شائكة، ومعالجات جريئة لم تكن مألوفة على الساحة الإعلامية الخليجية عموما والسعودية خصوصا، مع استضافة شخصيات لها حضورها الفاعل والحركي في الثورات وحركتها الفكرية، مثل إجراء مهاتفات على الهواء مع الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة في تونس، وأحمد الريسوني العالم المقاصدي المغربي والرئيس الحالي للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وعوض القرني الشيخ الصحوي في المملكة، وغيرهم من الشخصيات غير المرحب بها في المملكة [ز].

مثّلت المفاهيم التي يناقشها العمري بعيون النظام قنابل موقوتة لا يمكن أن يستقر معها نظام لم يعرف غير الطاعة العمياء، ولم يسمع من قبل بشيء اسمه “محاسبة الحاكم” أو “حقوق الرعية”. شخصية كهذه، كان لها من الحضور الشبابي، والعلاقات العابرة للحدود، والأهلية العلمية، والفاعلية المجتمعية، لم يكن لها إلا أن تكون خلف القضبان في نظام ابن سلمان.

بالطبع لم يكن اعتقال العُمري منفصلا عن سياقات كُبرى أعم شهدها الواقع الاجتماعي والسياسي السعودي على إثر صعود ابن سلمان لولاية العهد في المملكة، ولم يكن العمري وحده في تلك الحملة، لكنه بالتأكيد كان أحد أبرز الوجوه المعتقلة ضمن اعتقالات سبتمبر/أيلول 2017 التي شنّها نظام محمد بن سلمان على قطاع واسع من الدعاة والمفكّرين والناشطين الاجتماعيين. وها هو العمري، الذي وقف في قلب الحراك الشبابي العربي، يقف خلف قضبان ابن سلمان بتهم الإرهاب، ليدفعنا بمواقفه للنظر والتمعّن في مذكرات سياحته في الحياة، من جديد.

__________________________________________

هوامش:

[أ] هناك أدوات تعذيبية أخرى تعرض لها علي العمري بحسب ما أوردت العديد من المصادر، مثل وضع قطعة قماش في فمه وتغطية وجهه بما يشبه الكيس البلاستيكي، ثم سكب الماء على وجهه بحيث يشعر أنه يغرق، وما خفي أعظم.

[ج] لا شك أن المقصود بتيار الإخوان هنا ليس جماعة الإخوان المصرية وقيادتها، فالتيار أوسع من التنظيمات المحليّة.

[د] تيار الصحوة مصطلح أعم وأشمل ويمكننا أن نجعله رافدا أساسيا تنبثق منه روافد أخرى متعددة، كما أن التقسيمات والتسميات في الواقع السعودي ليست بتلك الحدية والانفصال التي نراها في بلدان أخرى مثل مصر على سبيل المثال.

[هـ] دأب الإعلام السعودي على نسبة عدد من الدعاة إلى هذا التيار العام، واعتبارهم رموزه في المملكة، وعلى الرأس منهم علي العمري ومحمد موسى الشريف وعوض القرني، وقد شملت اعتقالات سبتمبر/أيلول 2017 ثلاثتهم.

[و] وإن لم يكن يصرح بالانتماء التنظيمي للإخوان في أي من لقاءاته.

[ز] بل إن العمري كان ينشر بعض الكتب ويدلل عليها في برامجه ليتعرف الشباب على الوعي الحركي، وهي كتب لا يُشار إليها في إعلام المملكة مثل “في الثورة والقابلية للثورة” لعزمي بشارة، و”أسئلة الثورة” لسلمان العودة، وغيرهم.

(المصدر: ميدان الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى