كتابات

ملامح سياسية وإستراتيجية في السيرة النبوية (الجزء الأول)

بقلم عبدالمنعم منيب

كنت منذ عشرين عامًا قد ألقيت سلسلة محاضرات بعنوان: “قراءة سياسية للسيرة النبوية”، كانتْ تُقدم ملامحَ مأخوذةً من ممارسة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في مجالات ما، أصبح يُصطلح على تسميتها الآن: بالسياسة والإستراتيجية بجانب قليل مما بات يُعرَف بالاقتصاد الكلي، والاجتماع السياسي، وكنت أسوقها كملامحَ عامة، وخطوط رئيسة حاولنا أن نضع بها اللَّبِنة الأولى للتفكير السياسي والإستراتيجي والاقتصادي؛ لتقديم بديل إسلامي ناجح ينقذ الأمة من التخبُّط والمتخبِّطين باسم الإسلام.

وبعد ذلك بأكثرَ من خمس سنوات صدر كتاب بنفس العنوان لأحدِ الكُتَّاب المشهورين، ولما طالعتُه وجدته يمشي في سياق مختلف عما كنت أسيرُ فيه، فقررت أنه يجب عليَّ إعادة كتابة الموضوع ونشره ككتاب، ولكنَّ ضيق الوقت وكثرة المشاغل ما زالا يُعيقانني عن هذا الأمر، ورغم هذا فقد كتبت مقالاً طويلاً في نفس الموضوع في مناسبة مناقشات معينة دارت بيني وبين بعض الإخوة، فرأيت أن أنشرها الآن – مؤقَّتًا – إلى أن يُقدِّر لي الله كتابةَ الموضوع ككتاب كامل فيما بعدُ – إن شاء الله.

ونظرًا لطول المقال، فسوف ينشر على حلقتَيْن إن شاء الله، وهذه هي الحلقة الأولى.

القراءة في السيرة النبوية الشريفة تُوضِّح أن هناك محاورَ هامة في العملية السياسية الشاملة، نُلخِّصُها كعناصر رئيسة كالتالي:

  • بناء شراكة مع مختلف قطاعات المجتمع الداخلي للدولة الإسلامية، ومثاله في السيرة: “وثيقة المدينة”، ورغم ضعف سندها، فأغلب بنودها – أو كلها – وردت متفرقة من طرق صحيحة، والذي نراه أن شراكة بعض الحركات الإسلامية للقُوَى الأخرى الآن سطحية ووهمية، بينما شراكات أخرى نجدها انتهازية أو في غير محلِّها.
  • تقوية المجتمع بمكافحة الفقر والبطالة – خاصة لمن هم تحت خط الفقر – وأمثلة ذلك في السيرة كثيرة، وأبرزها: المُؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
  • خَلْق نِطاق من التحالفات في مجال العلاقات الإقليمية، ومثاله في السيرة: موادعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكل القبائل المحاذية والمحيطة بالمدينة، وركز على هذا الجهد منذ تأسيسه للدولة الإسلامية في المدينة حتى فتح مكة.
  • العمل على تفكيك تحالفات الأعداء عبر استمالة كل قوة من القوى المتحالفة ضده كلٌّ على حدة؛ مثاله في السيرة: مباحثاته صلى الله عليه وآله وسلم مع غطفان في غزوة الخندق.

وبالتوازي مع ذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم يترصَّدُ التحالفات التي تَتأسَّسُ ضده، ويضربها في مَهْدها.

  • التحليل الصحيح لبنية الكيانات المُعادية، والتعامل مع كلِّ جُزئية من جزئيات هذه الكيانات مع ما يُناسب طبيعتها، ومن ذلك: تحالُفه صلى الله عليه وآله وسلم مع خُزاعة قبل وبعد صُلح الحديبية، والطريقة التي قابل بها صلى الله عليه وآله وسلم سيدَ الأحابيش في غزوة الحديبية، وطريقة كلامه صلى الله عليه وآله وسلم مع كلٍّ من ممثلي قريش الذين وردوا عليه في الحديبية.
  • الاستعانة بالخبراء أيًّا كانت ديانتُهم، ودلائل ذلك في السيرة النبوية، منها:

دليلُه صلى الله عليه وآله وسلم في الهجرة كان مشركًا.

وكذلك ترجمةُ يهود بعض الرسائل له صلى الله عليه وآله وسلم.

دفعه صلى الله عليه وآله وسلم لأحد الصحابة لتعلم السريانية.

إرساله عددًا من الصحابة لتعلُّم صناعة المنجنيق جنوبَ الشام.

استخدام أسرى قريش في تعليم أبناء المسلمين القراءة والكتابة.

وواضح الآن عزوف كثير من المسلمين، ليس من الاستفادة بالخبراء غير المسلمين، بل ولا يستعينون بمن هو أخبر منهم من المسلمين ممن هو خارج جماعتهم، أو حتى خارج الشلَّة المسيطرة على أمر ما داخل الجماعة.

  • استقلال القيادة الإسلامية بتحديد الرؤية التي تمثل الاتجاه الإستراتيجي للخبراء؛ كي يحققوا الهدفَ والاتجاه الإستراتيجي الإسلامي، ومثال ذلك أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو مَن حدَّد لدليله في الهجرة أن يسير عكس اتجاه الطريق الذاهب للمدينة، ويكمن عدة أيام ثم يسير إلى المدينة من طريق غير مسلوك، بينما نَجِدُ المسلمين في عدد من الأقطار لا يحددون اتجاهًا إستراتيجيًّا إسلاميًّا لمعالجة عجز الموازنة، بل يتركون خبراء الحياة المتغربة، وخبراء صندوق النقد الدولي ليُحَدِّدوا له المحاور الإستراتيجية لمعالجة عجز الموازنة والأزمة الاقتصادية بعامة، عبر الاستدانة داخليًّا وخارجيًّا، وتخفيض الدعم، وتقديم حوافز لرجال الأعمال، وجَذْب المستثمرين الأجانب، والمعونات، والسياحة…، وكلها محاور فوق أنها غير إسلامية في مجملها، فإنها أيضًا تقليدية، وليس فيها تخيُّل ولا إبداع.
  • المشاورة ليست فقط لحِفْظ وَحْدَة الصفِّ، بل للاستفادة من الآراء المتعددة؛ لأنها غالبًا ما تأتي بجديد، بل ونزل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم على آراء أصحابه في العديد من المواقف؛ مثل الخروج لأُحُد رغم أن رأيه مختلف مع ذلك، وهناك أيضًا مثال حفر الخندق الذي نتج عن المشاورة، ومثال عدم إمضاء اتفاقِه مع غطفان بشأن إعطائهم ثلثَ ثمار المدينة مقابلَ انسحابهم من حلفهم مع قريش، كل هذا بشأن النزول على رأي أهل الشورى.

أما بالنسبة لنوعية أهل الشورى، فإنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يَقتصِرْ على استشارة فصيل دون آخر من أهل دولته، بل كان يُشاوِرُ كلاًّ من المهاجرين والأنصار، أوسِهم وخَزْرجِهم، كما كان يستمع حتى لمنافقين، ما داموا نافذين في قومهم مثل [عبدالله بن] أُبَيٍّ ابن سلول.

وهنا لا بد مِن ملاحَظة كون أنَّ الصَّحابة كانتْ لهم اتجاهاتٌ ومناهج متنوعة في التفكير، فكان صلى الله عليه وآله وسلم يَصِفُ عمرَ بالشدة لله، ويَصفه بالعزم، ومع هذا يستشيره، كما كان صلى الله عليه وآله وسلم يصف أبا بكر باللين لله، ويصفه بالحزم، ومع هذا أيضًا يستشيره.

ونفس المنهجَيْنِ كانا موجودَيْنِ عند صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمتقصي سيجد شواهدَ عديدة؛ لذلك ومع هذا كله كان يستشير ممثلي الاتجاهين (الشدة واللين)، ولم يقتصرْ على اتجاه اللين فقط، مع ملاحظة أن الوحي أيَّد في عدد من المواقف اتجاهَ عمر؛ ومنها موقف أسرى بدر، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ برأي (اللين – أبي بكر).

وفي حالنا الآن فكلُّ جماعة من المسلمين لا يشاورون غيرَ جماعتهم ولو استمعوا لأحد غيرهم، فإنهم يسمعونه دون أن يدرسوا رأيَه أو يختبروا مدى أهميته، فضلاً عن أنهم لا يأخذون به أبدًا.

ونلاحظ أن بعض جماعات المسلمين يطالبون بالشورى مع جماعات أخرى، لكنهم يطلبونها من أجل تحقيق طموحهم الشخصي بالمشاركة في النفوذ، واقتسامه مع هذه الجماعة أو تلك، والدليل على ذلك أن ما يطالبون به من التشاور معهم لا يطبِّقونه هم على أنفسهم، فلا نجدهم يسعون لمشاورة المسلمين الآخرين من خارج جماعاتهم ممن ليس لديهم نفوذ يطمعون فيه، وليس لديهم أي منفعة لهم، رغم أن هناك كفاءات هامة كثيرة غير تابعة لهم، ولو فرضنا – جدلاً – أنهم لا يعرفونهم فكان لزامًا عليهم البحثُ عنهم والتواصل معهم؛ لأن أمثال هذه الكفاءات معروفة أماكنها في الجامعات ومراكز البحوث، بجانب الكتاب ومنابر كبار الدعاة.

  • من أدوات العمل السياسي الإسلامي البارزة: الإعلام، وكان الإعلام في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الخطيب والشاعر، وكان خطباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشعراؤه متميزين بل ومتفوقين على نظرائهم؛ فنرى في مواقفَ عدة وفودًا من القبائل التي تَرِدُ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقول: “لَخطيبُه أفصحُ من خطيبنا، ولشاعرُه أفضل من شاعرنا”، مع ملاحظة أن شعراء وخطباء الإسلام كانوا ملتزمين بتعاليم وأحكام الإسلام بشكل كامل، في حين أن أبلغ الشعر عند العرب أكذبُه، ومع هذا فإن شاعر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يَكذِبُ، بل خط لنفسه مدرستَه الإسلامية الخاصة التي تميزتْ بأنها مختلفة عن الجاهلية، وملتزمة بالإسلام، وفي نفس الوقت تفوَّق شاعر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على شعراء الجاهلية هو وكافة شعراء الإسلام في هذه المرحلة.
  • من أهم قواعد الممارسة السياسية والإستراتيجية: التقديرُ الصادق والموضوعي للذات وللمنافس، فنجد النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يُنبِّهُ على أن الروم أرمى من المسلمين، وأن الفرس ذوو عزيمة نافذة، وبعد بدر عندما هوَّن بعض شباب الأنصار من قوة قريش وقدرة مقاتليها، علَّق النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك أنهم الملأ (أي القادة والسادة)، معبِّرًا بذلك عن قدر مَن عدم الإقرار بهذا التهوين، ومُلمِّحًا لأهمية الدقة والموضوعية في تقدير قيمة العدو الحقيقية.

ونُلاحِظُ الآن زهو الكثير من المسلمين بما يعتبرونه قدرتهم أو قوتهم، بل وصل الأمر لغرور وكِبر انتشر بين شباب أغرارٍ وجماعات ناشئة صغيرة، ولم يعدْ هذا المرض قاصرًا على الجماعات الكبيرة ذات الإمكانات والمكانة، بل انتشر إلى الجماعات الصغيرة أيضًا.

المصدر: الألوكة نت.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى