علماء من عصرنا

مذكرات الشيخ رفاعي طه (24 – الأخيرة) | من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية

مذكرات الشيخ رفاعي طه (24 – الأخيرة) | من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية

سجلها عنه وحررها: أ. محمد إلهامي
أعود إلى لحظة تأسيس الجماعة الإسلامية..

وكنت ذكرت أنها قامت على رؤية تخالف رؤية الإخوان والسلفيين أيضاً، فقد كانت الرؤية: تكوين جماعة ثورية دينية عقدية سلفية للتغيير، ونستطيع التأريخ للاجتماع التأسيسي بهؤلاء الستة (صلاح هاشم وأسامة حافظ وحمدي عبدالرحمن وأبو بكر عثمان وناجح إبراهيم ورفاعي طه)، في أواخر السبعينات (1978 – 1979م).

وقد بسطنا رؤيتنا في جلسات عقدناها في الجمعية الشرعية، حددنا فيها “من نحن؟” و”لماذا الجماعة الإسلامية اليوم”؟ وكتبنا فيها هذه الأفكار في كشاكيل كانت تُدَرَّس للإخوة، وهذه وثائق مهمة لا أدري إن كان ثمة أحد من قادة الجماعة الإسلامية يحتفظ بها أم لا.

كنا نعرض أنفسنا وأفكارنا على الشباب من واقع ما نخرج به في هذه الجلسات، لم يكن الميثاق قد كُتِب بعد، إنما كتب ميثاق الجماعة الإسلامية فيما بعد في السجن.

كانت وسيلتنا للتغيير تتلخص في: ثورة شعبية يدعمها إخواننا في الجيش أو بعض الإخوة المدربين على حمل السلاح.
وبهذا تلخص عملنا في ثلاثة أمور:

1. دعوة نشطة تُسَفِّه النظام وتعمل على تثوير الشعب المصري.
2. تكوين مجموعات في الجيش تعمل على الانحياز للثورة أو على الأقل عرقلة وتعويق تحرك الجيش للقضاء عليها.
3. مجموعات مدنية مدربة على السلاح تتمكن من حماية الثورة عند قيامها.

ولم نضع تصوراً زمنياً لهذا، كنت من الذين يقولون إن التصور الزمني ينبغي أن يظل مفتوحاً، حتى نختبر أنفسنا وإمكانياتنا وقدراتنا.

على أنني، وبعيداً عن عمل الجماعة الإسلامية، وقبل أن تستقر لدينا هذه الرؤية في الجماعة الإسلامية، بل قبل أن تتحول الجماعة الإسلامية التي تكونت في الجامعة إلى تنظيم يعمل خارج الجامعة، قبل هذا كله كنتُ أعمل بشكل ذاتي ومنفرد على تجميع الضباط العسكريين، وبدأت بالفعل في البحث عمن يمكن أن يكونوا نواة عمل في الجيش، مثل الشيخ محمد شوقي مع خالد الإسلامبولي، وهكذا!

وكنت أعرف ضابطاً من مركز أرمنت اسمه محمد أحمد القيرفاني رحمه الله، وقد سُجِن في أحداث 1981 فيما بعد، وكان برتبة مقدم في كلية الفنية العسكرية ومديراً لمطار الأقصر.

تعرفت على خالد الإسلامبولي حين كنا معاً من تلاميذ الشيخ السماوي، وكان من تلاميذ الشيخ السماوي أيضاً عبدالحميد عبدالسلام وهو المتهم الثاني في قضية اغتيال السادات.

وأذكر يوماً قال لي فيه خالد الإسلامبولي: إن الشيخ عبد الله السماوي يحثنا على ترك الجيش بسبب أن إعفاء اللحية ممنوع فيه.

فقلت له: لا تترك الجيش، بل احلق لحيتك.

قال: هل لديك دليل شرعي على هذا؟

قلت: نعم، إن حلق اللحية حرام لا شك، لكن النفع الكبير الذي قد يأتي منك لو بقيت في الجيش أعظم بكثير من إعفاء اللحية وترك الجيش.

وأقنعته بهذا، واقتنع!

ثم قررنا أن نجمع الضباط الذين انضموا إلينا، لنجعلهم في مسؤولية الشيخ عبود الزمر، وكان الشيخ كرم زهدي قد تعرف في ذلك الوقت على أخ من بولاق اسمه شعبان، وكان تعارفهما في العمرة أو الحج، وعرف منه أن ثمة تشكيلاً آخر في الصعيد يبحث نفس الفكرة.. كان هذا التشكيل هو مجموعة محمد عبدالسلام فرج!

عقد الشيخ كرم العزم على التعرف على محمد عبدالسلام فرج حين يعود إلى مصر، وزاره مع أخينا شعبان هذا، وحصل بينهما توافق وانسجام، ونمتْ بينهما أخوة ومحبة في الله، ثم زارنا الشيخ محمد عبدالسلام وبدا أنه قريب للغاية منا، وسرعان ما توطدت العلاقة بيننا.

إلى ذلك الحين كان مجلس شورى الجماعة الإسلامية هو المجلس نفسه الذي ضمَّ قيادات العمل في الجامعة، وهم قد تخرجوا الآن، وصاروا مجلس شورى الجماعة الإسلامية التي تكوَّنت لها هذه الرؤية التي أسلفت الإشارة إليها. ثم عزمنا أن ننشيء مجلساً قيادياً خاصاً بالتنظيم العسكري الذي سيتحمل مؤونة التغيير الثوري، وكان هذا المجلس الخاص بالتنظيم هو الذي ضمَّ صفوة المؤسسين للجماعة الإسلامية بصفته التنظيم الأهم والأكثر خطورة، لكن تدريجياً صار هذا المجلس الخاص هو هو نفسه مجلس شورى الجماعة الإسلامية كلها.

تكون هذا المجلس من الشيخ طلعت فؤاد قاسم والشيخ صلاح هاشم والشيخ عصام دربالة والشيخ كرم زهدي، وكان لقاؤنا التأسيسي الأول في بيت الشيخ طلعت فؤاد قاسم في نجع حمادي، المركز التابع لمحافظة قنا، وكان المبادر إلى ذلك الشيخ طلعت فؤاد قاسم فتولى هو مسؤولية هذه الجلسة، وفيها بادر الشيخ كرم زهدي قائلاً: هذا الأمر عظيم وهذا العمل كبير، ويحتاج إلى قاعدة اقتصادية وقاعدة عسكرية، فأرجو أنكم تفوضوني لهذا الأمر. فوافقنا!

والتفويض هنا بمعنى أن يكون له أمر اختيار الشخص المناسب لكل عمل أو مسؤولية، بحيث يتحقق الهدف: بناء القاعدة الاقتصادية والعسكرية للجماعة الإسلامية بتحقيق وجود قوي للجماعة داخل الجيش، وبناء مؤسسات اقتصادية توفر التمويل اللازم لكل العمل الدعوي والتنظيمي.

وسرعان ما انضم إلى المجلس الشيخ حمدي عبدالرحمن والشيخ ناجح إبراهيم والشيخ عاصم عبدالماجد والشيخ محمد عبدالسلام فرج والشيخ عبود الزمر، فهذا هو مجلس شورى الجماعة الإسلامية الذي تشكل باختيار من الشيخ كرم زهدي بناء على التفويض الـمُعطى له في اللقاء التأسيسي أو اللقاء التنظيمي الأول، وكان المجلس يتمثل في أحد عشر عضواً –أو ثلاثة عشر عضواً- بقيادة الشيخ كرم زهدي.

تأخر عن الانضمام الشيخ أسامة حافظ، كان متحفظاً على أمريْن؛ الأول: خوض الجماعة في المجال العسكري، فقد رأى أنه يسير بخطوات متسارعة للغاية ويجب أن يكون الأمر أبطأ وأكثر أناة وتريثاً. والثاني: العمل مع إخوة الوجه البحري الذين تعرفنا عليهم مثل الشيخ محمد عبدالسلام والشيخ عبود وغيرهم. إلا أنه في نهاية الأمر التحق بالركب وانخرط في العمل.

انقسم العمل إلى ثلاث لجان رئيسية: لجنة العُدَّة، ولجنة الدعوة، واللجنة الاقتصادية. فالأولى يهمها الإعداد العسكري ورئيسها الشيخ كرم زهدي، والثانية للعمل الدعوي الشعبي التثويري ورئيسها الشيخ محمد عبدالسلام فرج، والثالثة: لتوفير احتياجات العمل كله ولا أذكر الآن من كان رئيسها.

نشطت لجنة الدعوة في الوجه البحري لكونها تحت قيادة محمد عبدالسلام فرج، بينما كان نشاط بقية اللجان يغلب عليه الصعيد لطبيعة القائمين عليه.

نبتت في ذهن الشيخ كرم فكرة أن نضع على رأس الجماعة أميراً يكون من علماء المسلمين، فالجماعة إنما هي جماعة إسلامية شرعية دينية، ومن اللائق أن يكون على رأسها عالِم، وبحثنا عن عالم معتبر يمكن أن يقبل بهذه المهمة، فوقع الاختيار على الشيخ عمر عبدالرحمن، فقد كان أكثر العلماء جرأة وقوة في هذه المرحلة.

ذهب ثلاثة منا، وهم الشيخ كرم زهدي والشيخ طلعت فؤاد والشيخ محمد عبدالسلام، إلى الشيخ عمر عبدالرحمن، وعرضوا عليه أفكار الجماعة وأهدافها وقيامها على محور دعوي وعمل عسكري وعمل شعبي وهكذا، وكان السؤال الأول: هل جماعة بهذه الصفة يجوز لها أن يكون على رأسها عالم من العلماء؟ فقال: يجوز أن تستعينوا بعالم من علماء المسلمين ليقوم بأمر الجماعة.

وبعد حين ذهبوا إليه مرة أخرى عارضين عليه أن يكون هو نفسه هذا العالِم:

– قالوا له: قد وقع اختيارنا على فضيلتك للقيام بهذا الأمر
– فقال: لا أستطيع ذلك، وهذه مهمة كبيرة، ويحسن أن يقوم بها رجل صحيح وليس ضريراً مثلي!
– فقالوا: هل كون الرجل ضريراً يمنعه شرعاً من أن يتولى إمارة جماعة للمسلمين؟ أم أن الأمر متعلق باستطاعتك أنت نفسك؟
– فقال: لا، من الناحية الشرعية يجوز للضرير أن يكون أميراً، وقد أمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن أم مكتوم –وكان أعمى- على المدينة حين خرج لبعض الغزوات، لكن المانع هو الصعوبة الخاصة بي أنا.
– فقالوا له: لا عليك من هذا، فنحن معك، ونحن بصرك الذي تبصر به، وسمعك الذي تسمع به، وكلنا لك أعوان وأتباع.

وانتهى الأمر على أن أقنعوه، وبايعوه أميراً على الجماعة الإسلامية.

صار الشيخ عمر أميراً على الجماعة الإسلامية ولم تعلن إمارته لها، إنما أعلنت بعد أحداث 1981م، ولم يكن الشيخ في ذلك الوقت معروفاً لعموم أعضاء الجماعة الإسلامية بل كان معروفاً لمجلس الشورى.

ولقد كان الشيخ عمر رجلاً كبير النفس قوياً، وما كان أمراً سهلاً أن يتولى أحد قيادة جماعة على هذا النحو أبداً، وأظن أن المسؤولية عُرِضت على آخرين تلميحاً لكن أحداً منهم لم يُبْدِ تجاوباً كافياً للفكرة نفسها، إلا الشيخ عمر، فقد كانت قوته وحماسته وعلو همته وتجاوبه مع الفكرة مما شجعنا على إسناد الإمارة له، ولما قبلها بعد إلحاحنا عليه، قطع إعارته لكلية البنات الإسلامية في السعودية، وهذه فرصة عمل متميزة يسعى لها الناس، إلا أنه تركها وتخلى عنها وبقي ليتولى أمر الجماعة التي كانت ما تزال في مرحلتها الهلامية ولما يستتب أمرها بعد. ولقد شهدت الجماعة أفضل عصورها في هذه المرحلة.

ثم تسارع الأمر، وبدأنا نختار أماكن لتدريب الشباب في الجبال، كان منها أماكن في قنا وسوهاج، وبدأنا نجمع الإخوة الضباط الذين كانوا معنا مثل الشيخ عبود الزمر وأحمد القيرفاني وخالد الإسلامبولي، وكان هذا التسارع المفعم بالحماسة هو اللائق بشباب حديث التخرج في ذلك الوقت.

ولم يكن كل عضو في الجماعة الإسلامية يرسل به إلى التدريب، بل لا بد أن تتحقق في هذا العضو شروط خاصة، وقد بدأ هذا الأمر من سنة 1979/1980م وبحلول أحداث 1981 كان لدينا في الجماعة من مائتين إلى ثلاثمائة عنصر مدرب من الجماعة الإسلامية، وطوال ذلك الحين لم يُكتشف أي شيء من معسكرات تدريب الجماعة الإسلامية، ولا أي عضو، ولا أي سلاح. بل إن أول حالة جرى اكتشافها في 18 سبتمبر 1981م، أي قبيل أحداث المنصة بفترة وجيزة!

كانت الجماعة الإسلامية، بمثابة الأم، ويُنتقى منها الأعضاء الصالحون لهذا العمل النوعي العسكري الذي يعمل على تغيير النظام، بينما بقية جسم الجماعة علني مفتوح، يمارس النشاط الدعوي والاقتصادي والسياسي، ولها علاقاتها الممتدة بالأطراف الموجودة في ذلك الحين، ولا تستنكف من التعاون مع أحد، وقد آلينا على أنفسنا أن تكون علاقتنا حسنة بالجميع: الإخوان المسلمين والسلفيين والأزهريين والأحزاب القائمة التي كانت في ذلك الوقت منبراً أكثر منها أحزاباً حقيقية.

وركزنا العمل في ذلك الوقت على أئمة وزارة الأوقاف، إذ هؤلاء هم خطباء المساجد، وكان لنا في هذا الباب نشاط كبير، وقد كان معظمهم من الشباب القريب منا في السن، وكنا نؤثر فيهم، ونجحنا في مرحلة لاحقة أن يكون كثير من هؤلاء على خط الجماعة الإسلامية لا سيما في الصعيد، وبهذا الأسلوب تحولت كثير من المساجد التابعة لوزارة الأوقاف إلى مساجد تابعة لدعوة الجماعة الإسلامية.

ولعل المعاصرين الآن لا يتذكرون أن أئمة وزارة الأوقاف في ذلك الوقت كان السائد فيهم حلق اللحى وتدخين السجائر، وإنما هو يرتقي المنبر ويخطب الجمعة كجزء بارد من وظيفة ميتة يتقاضى عليها أجراً لا أكثر، ولا يخطر بباله أمر الدعوة إلى الله ولا هداية الناس. وقد طرأ التحول على عموم أئمة المساجد والخطباء حتى صار عيباً أن يوجد فيهم حليق اللحية أو مدخن السجائر أو الذي يكرر الخطبة الميتة ويحفظها في المناسبة، هذا التحول إنما كان للجماعة حظ كبير منه!

كانت لنا مجهودات أخرى مع الشيوعيين والصوفية والعصاة، ثم مجهودات أخرى في هذا العمل التغييري، لقد كانت هاتان السنتان (من أواخر 1979 حتى أحداث 1981م) حافلتين بالبركة والنشاط، إن الإنجاز الذي حصل فيهما بالمقارنة إلى حجمنا وقدراتنا كان شيئًا عظيمًا جداً جداً جداً!

لعلنا في الحلقة القادمة نستعرض المجهود المبذول مع الشيوعيين والصوفية والعصاة إن شاء الله..
***

أقول أنا (محمد إلهامي):

لكن الله تبارك وتعالى لم يشأ، سبحانه هو الحكيم الخبير، فقد كانت هذه آخر مرة لقيتُ فيها الشيخ لتسجيل مذكراته، بتاريخ الأول من نوفمبر 2015م، ثم شُغِلْت عنه وشُغِل عني، ولم يتيسر أن نستكمل بقية هذه المذكرات حتى فوجئت بخبر استشهاده في الشام (إبريل 2016م) رحمه الله.

(المصدر: مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى