تقارير وإضاءات

مجتمع العُزلة والتفاهة.. هل نفقد الرغبة في الحياة في ظل الاستبداد؟

مجتمع العُزلة والتفاهة.. هل نفقد الرغبة في الحياة في ظل الاستبداد؟

إعداد شريف مراد

“كلٌّ منا يخاف فكرة الزوال من عالم لا يُبالي بوجوده، الزوال دون أن يراه أو يسمعه أحد. في مواجهة هذا الخوف ربما ينبع نضالنا الإنساني كله، نضال من أجل نزع اعتراف العالم بنا”

(ميلان كونديرا)

أثناء تعليقها على حوادث الانتحار التي باتت متكررة بشكل ملحوظ، أعلنت هيئة مترو الأنفاق في مصر أن “قضبان المترو ليست جهة انتحار، وأن تلك الحوادث تُكبِد الدولة خسائر مُعتَبرة بسبب تعطُل عمل المترو لعدة ساعات في كل مرة، بجانب عمليات الصيانة التي يتم إجراؤها بعد كل حادث انتحار على قضبان المترو”، مشيرة إلى أن هذه الإجراءات تُكلِف خزينة الهيئة الكثير من الأموال، كما أكدت الهيئة أنها عازمة على تكوين فِرَق خاصة للرقابة على خطوط المترو الثلاثة في العاصمة، لمنع مثل تلك الحالات قبل وقوعها، وهو التصريح الذي آثار ردود أفعال واسعة اتسمت في غالبيتها بالسخرية المريرة من الخبر نفسه ومن تصريح هيئة المترو، حيث يبدو أن هذا النوع من السخرية بات الآن هو الوسيلة الوحيدة للفكاهة والضحك في مصر.

سخرية من لا مبالاة أجهزة الدولة من حوادث الانتحار

ففي أكثر أعمالهم عبثية وسوداوية، لم يتخيل الأديب المصري ألبير قصيري أو المخرج والسينمائي رأفت الميهي أن يتناول المصريون ظاهرة موتهم منتحرين بهذه الصورة، وتحت هذا التصريحات الصحفية، ولا بهذه الحالة من الجدل وردود الأفعال التي يتسم غالبها بالسخرية والضحك حتى لو كان كالبكاء، ففي أعمال كلٍ منهما كان دائما ما يتم تصوير الطبيعة القاسية للحياة في مصر بشكل مكثف، وبهذه الكيفية كان يتفنن ألبير قصيري في رواياته ورأفت الميهي في أفلامه في تخيُل حيل وألاعيب يطورها المصريون لمراوغة واقعهم القاسي والتحايل على قبحه.

كما في فيلم “الأفوكاتو” لرأفت الميهي الذي يحكي عن محامٍ يترافع عن قضايا الفقراء متضامنا معهم بدون مقابل، ليخسر متعمدا تلك القضايا، مردفا أن حياة الفقراء داخل السجن باتت أفضل من حياتهم خارجه، وانتهى قصيري والميهي إلى أقصى درجة من الحدة في نقدهم لطبيعة الحياة في مصر وبأقصى حدود ما سمحت به سلطة الحياة والموت بشكل عام، معترفين بأهمية الحياة والموت وقداستهما الجذرية دون أي نقد أو تفكيك أو سخرية، فكان كلٌّ من قصيري والميهي يَعْتَبِران أعمالهم خيالية، إلا أن -وكما يردد العديد من المصريين منذ أعوام- فاقت سوداوية الواقع الخيال.

فالقضية لم تَعُدْ تتعلق بالحياة والموت أو حتى الانتحار نفسه كظاهرة، بل فرط الشعور بالتفاهة وتساوي الحياة والموت، فحجم السخرية الذي نادى به كلٌّ من قصيري والميهي في خيالهم وأعمالهم لتخفيف وطأة الحياة في مصر تجاوزته سخرية الواقع بالفعل، مُحطِمة أسوار الحياة والموت كحدود أنطولوجية للعالم الاجتماعي الذي يحيا فيه الإنسان بصفة عامة حيث لا يقربهما الضحك ولا السخرية، أما الآن؛ فقد تضاءل كل شيء في مصر؛ الحياة والموت والغيب وحتى الإيمان الديني، أمام شعور عارم بالهشاشة وتفاهة الحياة وعبثية المعاناة والمشقة التي يحيا فيها غالبية المصريين.

في التوحش والهشاشة

“نقيض الإيمان ليس الهرطقة، بل اللا مبالاة، ونقيض الحياة ليس الموت، بل اللا مبالاة. وأكثر ما يؤلم الضحية ليس قسوة الجلاد ووحشيته، بل صمت المتفرجين”

كان إميل سيوران مفتونا بعبارة إيلي ويزل تلك، ودائما ما يُعقِّب عليها ويُعيدها ويُضيف إليها في خواطره التي نشرها في غالبية كتبه، وكانت واحدة من إضافات إميل سيوران المهمة على عبارة إيلي ويزل أن “اللا مبالاة هي الحالة الوجودية والنفسية الوحيدة المتفوقة على الحياة والموت”، فحين تهون الحياة وتسودّ الدنيا في عيون الناس ليس بالضرورة أن يسود الانتحار، بل في أحيان كثيرة يصبح إمكان الانتحار هو شرط الحرية الوحيد الذي يمتلكه الإنسان، فيحتفظ به ولا يهدره، ويصبح الاستمرار في الحياة مجرد عناد أعمى ضد البؤس واليأس، بل ضد الحياة نفسها التي تضيع بلا جدوى، هذا هو جوهر اللا مبالاة الذي يحبه إميل سيوران، وإذا سادت اللا مبالاة تجاه الحياة بهذا المعنى داخل مجتمع ما، يصبح أعضاؤه حاملين بداخلهم إمكانات كونهم ضحايا ومجرمين معا، أحرارا تماما من أي عبء أخلاقي أو بُعد جمالي تجاه الحياة أو الإنسان، فالحياة باتت مستباحة ومهدرة، وفي هكذا مجتمع إما أن تكون ضحية لتلك الاستباحة، أو مجرما تستبيح حياة الآخرين، أو الاثنين معا، فتكون مجرد قنطرة لتمرير الاستباحة والقهر والعنف من المستبد الأكبر إلى الضحية التي بدورها ستتحول إلى مستبد على ضحية أخرى، وهكذا في دورة أبدية مستمرة.

في أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول لهذا العام، حدثت إحدى الوقائع اللافتة للانتباه والتأمل، بائعان جائلان في عمر الشباب، خرجا إلى العالم من خلفية طبقية واجتماعية تكاد تكون مُعدمة، تلك الطبقة التي تعج بها مدينة القاهرة، المدينة المليونية الضخمة، صعدا على متن قطار من الدرجات المميزة أملا في رزق وافر حلال، يتحرك القطار، يأتي إليهما محصل الأجرة فلا يجد معهما ثمن تذكرة القطار المميز، يهددهما إما التوجه بهما إلى الشرطة أو أن يقفزا من القطار، وبعد أن فشل الشابان في استمالة قلب محصل الأجرة أو بعض الركاب، وخوفا من بطش الشرطة وإهانتها لهما، اختارا القفز من القطار وهو يتحرك بسرعته الطبيعية، يقفز الأول ليسقط أسفل عجلات القطار ويلقى مصرعه في الحال أمام أنظار زميله ومحصل الأجرة والركاب ولا مبالاة العالم، ثم في اعتيادية مرعبة يأمر المحصل الشاب الثاني بالقفز، يقفز بالفعل، لتُقطع كلتا قدميه تحت عجلات القطار.

لا تبدو هذه الحادثة بعيدة عن المشهد العام في مصر، فلا محصل الأجرة اهتم بحياة الشابين خاصة بعد ما رأى مصرع الأول أمام عينه وأمام عين صديقه، ولا الركاب اهتموا، والأهم أن الشابين نفسيهما لم يدافعا عن حقهما في الحياة، هانت عليهما نفسيهما وهانت عليهما الدنيا وألقيا نفسيهما بشكل شبه طوعي تحت عجلات قطار، من فرط شعورهما بالهشاشة والضعف وانعدام القيمة.

في مكان وزمان غير بعيدين، كان القائد العسكري كامل الوزير قد عُيِّن في منصب رئيس وزارة النقل، فور تعيينه يُهدِّد كامل الوزير كل مُحصّلي الأجرة في هيئات السكك الحديدية والمترو بأنه إذا ضبط أحد الركاب دون تذكرة فستكون هناك عقوبات صارمة بحق الجميع على الطريقة العسكرية، بعد ذلك بأيام نرى كامل الوزير في حوار مع سيدة بسيطة تشتكي أن لها ابنا وحيدا من ذوي الاحتياجات الخاصة، وأنها معتمدة على الدعم الذي كانت تحصل عليه من هيئة القطارات بتخفيض ثمن الأجرة لتسافر هي وابنها لعلاجه بشكل شبه يومي، يخبرها كامل الوزير في حسم وفي لغة عسكرية أنه منذ توليه المسؤولية لا يوجد أحد فوق القانون والنظام العام، حتى لو كانت سيدة بسيطة تكافح في الحياة بصفة مستمرة من أجل تأمين علاج بسيط لولدها المريض.

https://www.facebook.com/AJA.Egypt/videos/737163833454058/

فيديو يوضح تفاهة وانعدام قيمة الحياة في مصر

تشبه تلك السيدة المعدمة والمسكينة جموع الشعب المصري الذي يموت أفراده يوميا على الطرقات وفي محطات المترو وأسفل عجلات القطار أو صعقا داخل مياه الأمطار بعد أن مرت بها كهرباء أعمدة الإنارة غير المعزولة، إحدى اللفتات العبقرية للفيلسوفة حنة أرندت حين أوضحت أن واحدة من سمات السلطات الشمولية والعسكرية -وعادة ما يكونان معا في سلطة واحدة- هي خلق حالة من العُزلة والإحساس بالتفاهة بين الأفراد، ليست العُزلة هنا مرادفة لغياب الرفاق والأصدقاء أي العُزلة بمعنى الوحدة، ولكن العُزلة كما توضح أرندت هي الشعور بالاغتراب والهامشية وانعدام القيمة، فالمُجتمع الشمولي العسكري هو مجتمع يبدو فيه الجميع زائدين عن الحاجة وتافهين غير ضروريين، وجودهم وغيابهم هش وغير مؤثر، والكل يرى نفسه ويرى الآخر بهذا الشكل، والأهم أن السلطة الشمولية تنظر لنا بهذا الشكل.

فلا أحد يُبالي بمَن ينتحر في محطات المترو، أو مَن تكافح في سبيل علاج طفلها، أو بشابين ماتا واحدا تلو الآخر أمام أعين الجميع، فكلنا في هذه البلد نُعاني، وكلنا تحت ضغط شعورنا العارم بالهشاشة والضعف والتفاهة لا نملك لأنفسنا ولا لغيرنا نفعا ولا ضرا، فلا نملك إلا أن نعاني بلا أمل في الخلاص، وبلا عزاء في تلك الحياة التي تتسرب من بين أيدينا دون أن نحياها.

في الاستبداد والتفاهة والاكتئاب

أثناء التعديلات الدستورية الأخيرة بمصر منتصف العام 2019، قام عدد قليل من النواب البرلمانيين، لا يُشكّلون في مجملهم أي كتلة تصويتية، بمعارضة التعديلات علنا في المجلس البرلماني، وفي اليوم التالي مباشرة تم تسريب مقاطع مرئية وصوتية لواحد من هؤلاء البرلمانيين في أوضاع مخلة وشديدة الإباحية، وعدد آخر من الصور والمقاطع في أوضاع شديدة الخصوصية وليس لها أي توصيف آخر، إذا إنها مجرد ممارسات لا تُسيء في حد ذاتها إلى أصحابها بقدر انتمائها إلى صلب حياتهم الخاصة التي اقتحمتها السلطة ليس أكثر.

وتعليقا على تلك التسريبات يرى الباحث شادي لويس أن الهدف هنا ليس تشويه شخص بعينه، ولا تحطيم تكتل سياسي، أو إسكات صوت لمعارضة غير موجودة بالأساس، والسلطة أول مَن يعلم ذلك، لكن الهدف هو نشر الذعر بين الجميع. فلا حرمة للحياة الخاصة، ولا عاصم لكرامة خلف الأبواب المغلقة، ولا أمان حتى في غرف النوم، فالكل عارٍ أمام عين السلطة. الحياة في مصر باتت مسرحا للفضيحة، مادة للتسلية، وهذا الشبق الذي يتملك الجميع تجاه الفضيحة، خليط من الشماتة والحسد مغرق في الرياء وادعاء الفضيلة، هذا الفضول المنحط هو هدف السلطة لتعميم الشعور بالعار والدونية عند عموم الناس.

وفي صورة مُكمّلة، يبدو الإهمال المتعمّد للبنية التحتية للمدن المصرية، خاصة العاصمة التي يعيش بداخلها عدة ملايين من المصريين من المصالح الحكومية والمكاتب البيروقراطية وشبكات المواصلات والسكك الحديدية، يُشكّل تصورا عاما عن كيف ترى الدولة المصرية حياة مواطنيها، فهذه البنية التحتية هي حلبة المهانة العامة الممتدة بطول الوطن وعرضه، التي تُشْعِر مَن فيها دائما أنه محاصر داخل شبكة عبثية لا يفهمها ولا تفهمه، وعليك أن تخضع لها وإلا دمرت حياتك وتعطلت بالكامل.

وهو ما وجد أفضل تعبير عنه في إحدى الشكاوى المُرَّة للشاب المصري العشريني شريف قمر، وهي أن حياته باتت حالة من الانتظار الدائم: “أنا طوال حياتي واقف في طوابير الانتظار من مراحل تعليم ونتيجة وطرق ومواصلات، طوابير العلاج، وطوابير تخليص أوراق حكومية، وطوابير البحث عن وظيفة، وطوابير الزواج، لغاية ما أموت. فالآن أريد أن أذهب إلى الموت دون انتظار”. كانت هذه الشكوى جزءا من حديثه قبل أن يقرر إنهاء حياته منتحرا، فربما كانت أحد أسباب أزمته النفسية التي دفعته للانتحار مجرد الملل من حياة بائسة وميتة لا أمل فيها ولا رجاء، جعلته أمامها بلا جدوى، كما وصف هو نفسه قبل انتحاره بالضعيف الهش الذي لم يَعُدْ يستطيع أن يتحمّل أكثر من ذلك.

تُظهِر الصور السابقة أننا لسنا أمام مجتمع عادي يتكوّن من أفراد عاديين، بل كأننا أمام مشاهد سوداوية كئيبة متفرقة ومتصلة في الوقت ذاته خرجت من روايات كافكا، فمشهد القطار والشابين اللذين قفزا منه طوعا بأمر من محصل الأجرة مشهد شبيه لرواية كافكا “مستعمرة العقاب” التي نجد فيها عسكريا بائسا تماما، ذا وجه ذاهل زائغ النظرات، لا يبدو أنه يفهم أو يتفاعل مع أيٍّ مما يجري حوله، حتى حُكم عليه بالإعدام بواسطة آلة معقدة من المؤسسات والقوانين والإجراءات واللوائح التي لا يدركها، لا لشيء إلا لكونه قد غفا في النوم قليلا أثناء تأدية خدمته، لم يُسائل هذا العسكري البائس مصيره ولم يكن يعرف حتى أنه محكوم عليه بالإعدام، ولم يُبدِ أيٌّ ممّن حوله أي رد فعل تجاهه.

وكما في رواية “المحاكمة”، حيث المتهم المعاقب الذي لا يعرف أحد اسمه، حتى القارئ، لا يدري تحديدا ما جريمته لكنه ظل طوال أحداث الرواية يبحث عنها، وكأنه تحت وطأة امتهان الذات والإحساس بالذنب تم تجنيده ضد نفسه، فهو مذنب يبحث عن ذنبه وعقاب يبحث عن جريمة، حتى انتهت الرواية وقد نفذ حكم الإعدام ضد نفسه بنفسه، تصح كذلك شكوى شريف قمر عن حياة الانتظار بجانبها آلاف القصص من السجون وزيارات الأهالي لذويهم المعتقلين عن رواية “المتاهة”، حيث يتحول المجتمع كله إلى مكاتب وموظفين وملفات ومستندات وطرقات مظلمة، ويصبح أفراد ذلك المجتمع عالقين داخل متاهة بيروقراطية ضخمة لا يدرون أولها من آخرها.

تُفصِّل حنة أرندت تلك الصورة أكثر قائلة إن قصة الشمولية “ليست قصة قوة سياسية ما تنتهي بالوصول إلى السلطة والاستيلاء على أجهزة الدولة، إنما هي قصة الهيمنة الشمولية، هيمنة مُتمثّلة بالحضور والنشاط في مجمل الأبعاد الاجتماعية والنفسية للمجتمع والأفراد، قصة تستمر فيها السلطة بالتمدد لتأكل المجتمع بأسره؛ مُكوِّنة حالة عدمية قاتلة للسياسة والذات الفردية وكل أشكال المجتمع المدني”، فهذا العالم الكافكاوي الذي يحياه المصريون الآن ليس وليد تجمع مجموعة مصادفات نتيجة للحظ العاثر أو مجرد تراكم أخطاء سياسية أدّت إلى ما نحن فيه، بل السبب الأساسي -كما توضح حنة أرندت- في هذا الإحساس العارم بتفاهة الحياة والإنسان والشعور بالهوان والهشاشة ووحشية العالم هو النزوع الشمولي العنيف لدى النظام الحاكم الآن في مصر، اللاعب الأساسي في سحق إنسانية الأفراد، بداية من ارتكابه للمذابح الجماعية على مرأى ومسمع من المصريين كلهم، والأعداد المرعبة للمُعتقلين والمختفين قسريا والمقتولين خارج إطار القانون، وصولا إلى التوحش النيوليبرالي للسياسات الاقتصادية وتحطيم الأمان الاجتماعي والاقتصادي لدى الأفراد، يأتي هذا كله في ظل ظرف دولي وإقليمي ضاغط مع تراجع قيم الديمقراطية الليبرالية وصعود الشعبويات اليمينية، وما يُصاحبها من ارتفاع أصوات طبول الحرب في المنطقة بشكل عام.

تشير مؤشرات منظمة الصحة العالمية إلى أن معدلات الانتحار في مصر تتحرك في اتجاه تصاعدي بصورة تدعو للقلق

وفي مقابلة أجراها “ميدان” مع الطبيب النفسي المصري محمد سعيد، يوضح د. سعيد أن “سببا مهما من أسباب الاكتئاب لدى الشعب المصري هو فقدان المستقبل”، يصح هذا عن عدد واسع ممّن يستمع لهم سعيد كطبيب نفسي كما يوضح، مردفا أن الغالبية باتوا يشعرون دائما أنهم بلا مستقبل ومُعرّضون دائما للفصل من العمل، الشركات نفسها مُعرّضة لغلق مشاريعها أو للإفلاس أو لتقليص العمالة، كل هذا وارد حدوثه في أي وقت وطوال الوقت، وداخل دول وأنظمة عربية محكوم عليها بالفشل ويبدو أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة، ليس لصالح مستقبل أفضل ولكن بالمصادرة على هذا المستقبل.

يوضح د. سعيد أن “مناطق التفكير في الماضي داخل المخ هي ذاتها مناطق التفكير في المستقبل، فإذا كنا نتذكر ماضيا أفضل لكننا لا نملك أي شيء عن المستقبل فإن القلق (anxiety) هو مصيرنا الوحيد. الحياة في مصر وعدد من دول الشرق الأوسط باتت بالفعل تهديدا للصحة والسلامة النفسية”، فمنذ نهاية العام 2014، تشير مؤشرات منظمة الصحة العالمية إلى أن معدلات الانتحار في مصر تتحرك في اتجاه تصاعدي بصورة تدعو للقلق، وحسب دراسات المنظمة تشير الدراسات إلى أن الشريحة العمرية الأساسية لتلك الظاهرة هي في الشريحة العمرية نفسها التي ينتمي إليها شريف قمر والشباب ضحايا القطار، فمصر الآن الدولة الأولى في الشرق الأوسط في نسب وأرقام معدلات الانتحار، ويبدو هذا جليا على وجوه الناس في كل شوارع مصر، فمُعدلات الانتحار تلك تعوم على بحر كبير من أرقام الذين يلتهمهم الشعور بالاكتئاب والقلق والوحدة وانعدام الفرص، وسط انهيار عام للصحة النفسية يتزايد بسرعة رهيبة داخل المجتمع.

    

تبدو مصر الآن وكأنها في مشهد أفول ونهاية، أو أننا بالفعل نسير في اتجاه شمولي انتحاري قاتل لكل مستويات الحياة، لكن كل نهاية في التاريخ هي بالضرورة تنطوي على بداية جديدة، بل إن البداية هي الوعد الوحيد والرسالة الوحيدة التي يمكن لأي نهاية إعطاؤها، فالشعوب والمجتمعات التي ربما تتجه في طريق انتحاري من الممكن لها في الوقت ذاته وفي لحظة معينة فريدة أن تخلق مجددين عظماء يَنْتَشلُونها من كآبتها وهوانها على نفسها وهوانها على الناس، هذا ما يخبرنا به الفيلسوف أوغسطين حين قال: “إن الإنسان خُلق حتى يكون هناك دائما بدايات جديدة، وإن ضمان هذه البدايات يأتي مع كل ولادة جديدة، إن البداية الجديدة في الحقيقة هي كل إنسان”.

هنا على المؤمنين بإمكانية البدايات الجديدة -على عكس الشمولية- أن يحاربوا العُزلة والتفاهة، فرُؤية ولو قطاع بسيط من الناس يُؤمنون بالتضامن والحب بين الناس وقدسية الإنسان والحياة، ويتمسّكون ببعضهم بعضا وبمَن حولهم دون أي سعي لاستغلال أو لمنفعة مادية، في واقع قائم على التهميش والإهمال والإهانة، هذا تحديدا ما يرسم أول الطريق نحو الخلاص من أسر الشمولية والعُزلة والتفاهة.

(المصدر: ميدان الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى