كتب وبحوث

شبهات الحداثيين العرب حول تدوين السنة النبوية والرد عليها

إعداد شنوف عبد الهادي

 

هـذه دراسة نقدية، تبرز أهم الشبهات التي أثارها الحداثيون العرب حول تدوين السنة النبوية وما يتعلق به، ولقد حاولت ذكر أبرز الشبهات المتداولة حديثاً بين أوساط الحداثيين والعقلانيين، وبينت بطلان هذه الشبهات معتمداً في ذلك على جملة من الأدلة العقلية والنقلية، ومستعينا بأقوال جملة من أهل العلم ممن درسوا هذه الشبهات وبينوا زيفها، متتبعين في ذلك سقطاتهم، ومسلطين الضوء على عثراتهم وهناتهم، وموضحين الآليات القويمة في التعامل معها، والله الموفق والمستعان، وعلى نبيه الصلاة السلام.

♦ ♦ ♦

مقدمة:

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:

فإن الله قد اختار لهذه الأمة خير نبي مرسل، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، وتكفل الله بحفظ دين نبيه الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، وسخّر رجالاً على مر العصور كان همهم وشغلهم الشاغل حفظ هذا الدين والدفاع عنه، ومنذ اللحظة الأولى من عصر الخلافة أمر أبو بكر الصديق – رضي الله عنه- الصحابة بجمع القرآن وتدوينه، وما فتئ الزمان حتى قام الخليفة الثالث عثمان بإرساء لبنة راسخة في حصن الإسلام الحصين؛ فنسخ القرآن في مصحف واحد وأرسل به للمدائن والبلدان، وبقي أمر السنة النبوية المطهرة محفوظاً في القلوب والعقول، حتى بدأت بذرة التدوين، وبزغ عصر الصحيحين والسنن والمسانيد وغيرها من المصنفات، وما رافقها من أجواء الحفظ والنقد، والتدقيق والتحقيق، وما نتج عن ذلك من تصفية لكتب السنة التي بقيت حتى عصرنا هذا حاملة في طياتها كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم.

 

ومن ذلك العصر تأسست أجواء الفهم والتحليل لنصوص الوحي، ودراستها، واستنطاق عباراتها، وتحليل إشاراتها، وحراسة مدلولاتها، وفهمها وتأويلها ضمن قوانين مضبوطة، وقواعد مشدودة ومناهج راسخة، مرتبطة بمقتضيات اللغة ومحتكمة للشرع وحدوده، خوفاً من أي تأويل مجازف، أو استنباط مخالف، وصيانة لنصوص الوحي من الإسفاف، والبعد عن قوانين التأويل المجانبة لقواعد اللغة والشرع، فتشكلت منظومة متناغمة من أصول الدين والفقه، تحمل قواعد مستندة إلى أدلة شرعية ولغوية معلومة لكل مشتغل في هذا الفن.

 

ولقد بقي الأمر كذلك، حتى برز عدد من الباحثين العرب؛ تناولوا نصوص القرآن والسنة بقراءة جديدة تُسمى ب”الحداثة”؛ وهي قراءة تأويلية خارجة عن نطاق المعهود المنطقي، مستمدة آلياتها من تجارب الغرب في فهم نصوصهم المقدسة، غير مكترثين لنتاجات نصوصهم العقدية والفقهية بقدر ما تتوق إليه أنفسهم من النقد، باستخدام “نظريات عقلية” والتي كانت وليدة الصراع الحداثي الغربي مع الدين، مما يؤدي إلى إلغاء مصادر الدين وإسقاط عصمتها، والثورة عليها، والتحرر منها، وعزلها عن قائلها، والتعامل معها من منطلق عقلي تجريبي بحت.

 

ولقد أثار الحداثيون العرب عدة شبهات حول السنة النبوية، شبهات يشككون بها في ثبوت السنة، ويتعسفون في تأويل نصوصها، ويقللون من الجهود الضخمة المبذولة في خدمتها، ومن أهم المواضيع التي كثر كلامهم حولها موضوع تدوين السنة النبوية، وتأخر كتابتها، والكيفية التي تم بها جمعها.

 

وأمام هذا الواقع الصعب جاء هذا البحث بعنوان: ” شبهات الحداثيين العرب حول تدوين السنة النبوية والرد عليها ” ليجيب عن التساؤل التالي:

ماهي أبرز الأطروحات التي يتبناها الحداثيون العرب حول تدوين السنة النبوية؟ وكيف نرد على هذه الأطروحات ونبين بطلانها؟

وللإمام بثنايا هذا الموضوع الطويل في حدود الاشكالية المطروحة قسمت المداخلة إلى تمهيد عرفت فيه بالحداثة وتاريخ نشأتها عند العرب، وثلاث مطالب تناولت في كل مطلب شبهة من الشبهات المثارة حول تدوين السنة وما يتعلق به والرد عليها؛ فكان المطلب الأول لشبهة ” عدم كتابة السنة في عهد النبي والصحابة التابعين ” وخصصت المطلب الثاني لشبهة “حجية السنة النبوية فلو كانت حجة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابتها ” أما المطلب الثالث فكان للحديث عن شبهة ” الإسناد منافٍ للعقل ومناقض للمنهج القرآني “.

 

وهناك عدة أسباب دفعتني لاختيار هذا الموضوع والكتابة فيه من أهمها:

تعالي أصوات المدرسة الحداثية المعاصرة لإعادة قراءة التراث ونقده، مدّعين أنهم يقفون موقف المدافع عن الإسلام وإخراجه من الزاوية الضيقة التي وضع نفسه فيها.

 

تغير شريحة المستهدفين من الخطاب الحداثي العقلي، فبعد أن كانت كتابات الحداثيين العرب في الماضي عبارة عن مقالات يعبر فيها الكاتب عن رأيه، أضحت اليوم هذه الكتابات تستهدف نخبة المجتمع الاسلامي، حتى تأثرت شريحة كبيرة من المثقفين العرب بل وحتى بعض طلاب العلوم الشرعية بهذه الأفكار.

 

الهجمة الكبيرة التي تتعرض لها السنة النبوية قصد الانقاص من قيمتها وحجيتها.

 

كثرة الشبهات المثارة حول تاريخ تدوين السنة النبوية، إذ يعد هذا الموضوع مدخلا لكل ناقد للسنة النبوية.

 

أما عن سبب اختيار هذه النماذج المذكورة من الشبهات؛ فذلك لأنها أكثر الشبهات انتشارا بين الحداثيين وأتباع هذا الفكر والمتأثرين به، لذلك وجب التنبيه عليها وبيان زيفها وبطلانها.

 

وتتجلى أهمية هذه الدراسة في توضيح مفهوم الحداثة ونشأتها، ونقد أبرز شبهاتها المثارة حول تاريخ كتابة السنة النبوية وتدوينها، ونقد كل الشبهات المتعلقة بهذا الموضوع، لنوضح أن هذا الفكر الغريب بعيد عن هويتنا وثقافتنا الإسلامية.

 

وفي الأخير نسأل الله العلي القدير أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وأن يوفقنا للدفاع عن سنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

♦ ♦ ♦

تمهيد:

قبل الكلام عن أبرز الشبهات التي أثارها الحداثيون العرب حول مسألة تدوين السنة، لابد من تعريف مصطلح الحداثة ونشأة هذا الفكر عند العرب والمسلمين وأهم الأسس التي يقوم عليها هذا الفكر.

 

أولاً: تعريف الحداثة

الحداثةَ لغةً مشتقَّة من مادة “ح د ث”، وفي اللغة يُقال: “حدث حدوثًا وحَداثَةً فهو حديث”، ويُقال: (حَدَثَ) نقيض (قَدُم)[2]. ومنه فكلمة حداثة كلمة نسبية؛ إذ كل ما هو قديم كان حديثاً نسبة لما قبله، وكل ما سيكون حديثاً في المستقبل سيؤول إلى قِدَم قياساً لما سيكون بعده، فالحداثة مصطلح لا يرتبط بنص معين، أو حدث معين[3].

 

أما في الاصطلاح فإن هذا المصطلح يتّسم بالغموض، ما أدى إلى اختلاف واسع غير منضبط في تعريف الحداثة، فتعددت تعريفاتها بتعدد جوانب النظر إليها، فكان للباحثين في مفهومها تعريفات متعددة، والتعريف المختار للحداثة هو: ( محاولة صياغة نموذج للفكر والحياة يتجاوز الموروث ويتحرر من قيوده -ثوابته- ليحقق تقدم الانسان ورقيه بعقله ومناهجه العصرية الغربية لتطويع الكون لإرادته واستخراج مقدراته لخدمته)[4].

 

ويمكن تعريف الفكر الحداثي بأنه: (منهج فكري أدبي علماني، مبني على عدة عقائد غربية ومذاهب فلسفية، يقوم على الثورة على الموروث ونقده وتفسيره بحسب وجهة نظر القارئ)[5].

 

ثانيا: أسس الفكر الحداثي

إن أصحاب الفكر الحداثي العربي لهم تأثر كبير بالفكر الغربي ومنظريه، لذلك فقد تعامل الحداثيون مع النصوص الشرعية عامة، والسنة النبوية بشكل خاص وفقاً للمعايير الغربية، الملخصة فيما يلي[6]:

1- “أنسَنَة الدِّين”، أي: إرجاء الدين إلى الإنسَان، وإحلال الأساطير محلَّ الدِّين.

2- تطبِيق المبادئ النَّقدية الوَافِدة على النصوص المقدَّسة.

3- وضع العمليَّة أو “العقلانيَّة” والدين على طرفَي نقِيض، على أساس أن: الدِّين فِكر غيبِيٌّ، يتعارض مع التفكير العلمِي والعقلاني.

 

ثالثا: نشأة الفكر الحداثي العربي

إن الحداثة -في أصلها ونشأتها- مذهب فكري غربي، ولد ونشأ في الغرب، ثم انتقل منه إلى بلاد المسلمين، نتيجة للملابسات التاريخية التي عانى منها المسلمون في القرن العشرين، من سقوط لسيادتهم، واستعمار بلدانهم، وتوالي الهزائم الفكرية والنكسات العسكرية عليهم أمام الغرب، وفشل التيارات العلمانية، والرأسمالية، والاشتراكية الشيوعية وغيرها في تحقيق ما وعدت به من شعارات التنمية والتحرر، الأمر الذي أجبر العلمانيين على إعادة النظر في أساليب العمل والنضال السابق[7].

 

ويمكن التأريخ للحداثة العربية ببداية ” الصدمة الحضارية ” المصاحبة للاحتلال الفرنسي النابليوني لمصر والذي يمثل المرحلة الأولى لظهور الفكر الحداثي العربي، هذه المرحلة سبقتها دراسات الغرب حول الشرق الاسلامي من خلال المستشرقين الذين درسوا العلوم العربية والاسلامية وخرجوا بأفكار عديدة تخدم مصالحهم، في هذه الفترة تصدى العديد من علماء العالم الإسلامي لهذه الأفكار وحاولوا أن يظهروا الإسلام بمظهر المتلائم مع الواقع خاصة الواقع الغربي، وكان من أعلام هذه المرحلة: رافع الطهطاوي، محمد عبده وأحمد رشيد رضا؛ والذين يعدون رواد الحداثة العربية الأوائل[8].

 

المطلب الأول: الرد على شبهة “تأخر تدوين السنة النبوية وعدم كتابتها في عهد النبي والصحابة”.

إن من أبرز الشبهات المثارة حول السنة النبوية هي شبهة تأخر تدوينها وعدم كتابتها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الصحابة ولا في عهد التابعين، حيث أن أول من أثار هذه الشبهة هم المستشرقون ومنهم ” جولد تسيهر “، لتُعاد إثارة هاته الشبهة من طرف بعض الكتاب العرب المتأثرين بالفكر الحداثي والمنبهرين بكتابات المستشرقين.

 

ومن الحداثيين العرب الذين أثاروا هذه الشبهة نجد محمود أبو رية[9]، والذي كان من أشد المتأثرين بأفكار المستشرقين فيما كتبوه بشأن السنة النبوية، وكان أسلوبه صادما لمشاعر المسلمين، وهذا لأن كتاباته تحاملت كثيرا وتجرأ فيها على السنة النبوية المطهرة، فأنقص من قيمتها وقلل من حجيتها وكذّب تاريخها ونقد رجالها[10].

 

ومن بين الاتهامات التي وجهها الأستاذ أبو رية حول تأخر تدوين السنة، قوله في كتابه “أضواء على السنة النبوية” تعليقا على قصة جمع الصحابة للقرآن، حيث يقول: ( مما يلفت النظر البعيد، ويستدعي العقل الرشيد، أن عمر لما راعه تهافت الصحابة في حرب اليمامة تهافت الفراش في النار، فزع إلى أبي بكر لكي يسارع إلى جمع القرآن وكتابته، لم يقل عنهم أنهم حملة الحديث بل قال إنهم حملة القرآن، ولم يطلب جمع الحديث وكتابته عندما فزع إلى أبي بكر، بل جعل همه في جمع القرآن وحده وكتابته، ولم يقف الأمر عند ذلك فحسب بل إننا نجدهم وهم يجمعون القرآن ويكتبونه – وكان ذلك على عين الصحابة جميعا- قد اقترح واحد منهم أن يجمعوا الحديث ويكتبونه، بل انحصرت عنايتهم جميعا في جمع القرآن فحسب، وفي ذلك أقوى الأدلة وأصدق البراهين على أنهم لم يكونوا يعنون بأمر جمع الحديث، ولا أن يكون لهم فيه كتاب محفوظ يبقى على وجه الدهر كالقرآن الكريم)[11].

 

ولقد ردّ كثير من أهل العلم على هذه الشبهة وهذا التساؤل الذي طرحه الأستاذ أبورية، منهم محمد أبو شهبة في كتابه: ” دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين ” والعلامة عبد الرحمان بن يحي المعلمي في كتابه: ” الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء عن السنة من الزلل والتضليل والمجازفة” وغيرهم كثير من أهل العلم. ونلخص ردهم في النقاط التالية[12]:

• إن الحكمة كانت تقتضي في ذلك الوقت المسارعة إلى جمع القرآن في مصحف واحد، خشية أن يضيع منه شيء بموت جمهور القراء، أما الأحاديث فلم تكن الحاجة ماسة إلى جمعها لأن المعول فيها المعنى لا اللفظ، وأنهم نهوا عن كتابتها حتى لا تختلط بالقرآن.

 

• أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعن بكتابتها بل عنى بحفظها في صدور الصحابة كما حفظ القرآن في أول الأمر.

 

• لم يدون الصحابة السنة النبوية تدوينا رسميا كتدوينهم للقرآن، ولكن دونها تدوينا شخصيا، فقد كان بعض الصحابة يكتبون بعض الأحاديث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، مثل الصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو بن العاص، والصحيفة الصحيحة برواية همام بن منبه عن أبي هريرة، وصحيفة سمرة بن جندب وغيرها.

 

• لم يتفق للسنة في عهد الصحابة ما اتفق للقرآن، اذ استحرّ القتل بحُفّاظه من الصحابة قبل أن يتلقاه التابعون، ولم يتفق أن استحرَّ القتل بحفاظ السنة من الصحابة قبل أن يتلقاها التابعين.

 

• ويرد على فريته أن الصحابة لم يهتموا بالأحاديث اهتمامهم بالقرآن، ما رواه البيهقي عن عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشاروا عليه أن يكتبها فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا ثم أصبح يوما وقد عزم الله له قال: (إني كنت أردت أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا)[13].

 

إن الشبهات المثارة من الحداثيين حول تأخر تدوين السنة كثيرة جدا، ومن الشبهات التي أثاروها أن السنة لم تدون إلا لأسباب سياسية، واستدلوا على ذلك بجملة أمور، منها[14]:

1- نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة السنة، وقد أوردوا عدة أحاديث تدل على ذلك، وقد رأوا في نهي النبي عن كتابة السنة خوفا منه صلى الله عليه وسلم من وقوع التصرف البشري فيما يدوَّن عنه وتتناقله الأجيال، دون أن توجد الوسائل الحاسمة للتمييز والفصل والغربلة والتنقية.

 

2- عدم قيام الصحابة بتدوين الحديث، والنهي عن روايته ويتشددون فيما يُروى لهم منه.

 

3- ما قام به أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما جمع ما هو مكتوب عنده من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والبالغة خمسمائة حديث، فأمر بها فأحرقها في النار[15].

 

وقد تصدى لرد هذه الشبهات العديد من العلماء والباحثين، محاولين إثبات البداية المبكرة لتدوين السنة، وقد استدلوا لذلك بجملة من الأمور، منها:

1- وجود الكتابة زمن النبي صلى الله عليه وسلم بدليل الرسائل التي بعثها صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والسلاطين.

 

2- الروايات التي تدل على الكتابة وتحث عليها، منها حديث: (أكتبوا لأبي شاه)[16] وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (اكتبوا فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا الحق)[17].

 

3- جمعت السنة في مصنفات جامعة زمن عمر بن عبد العزيز، ولم يطل العهد بعدم تدوينها، وأن التدوين بدأ بصفة خاصة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قوي وأشتد عوده في عصر الصحابة وكبار التابعين، ولم يزل يقوى ويشتد حتى بلغ عنفوانه واستوى على سوقه في القرن الثالث هجري خاتمة القرون المشهود لها بالخير، فإن هذا التعاقب على تدوين الحديث منذ زمن الصحابة إلى زمن ظهور المصنفات الكبرى المعتمدة، يبعد القول على أن العامل السياسي وأمر السلطان هما السبب في تدوين الحديث، فالحديث مدون قبل ذلك والدافع لجمعه متوفر في نفوس العلماء، سواء وجد القرار السياسي ورغبة السلطان أم لم توجد.

 

لكن هذه الحجج والأدلة لم يقتنع بها الحداثيون، لأن علماؤنا استدلوا إلى الروايات ومنهج النقل، وهذا المنهج لا يعد مقبولا عندهم، وإن كانوا اعتمدوا قد عليه في نقل بعض الروايات التي تخدم أفكارهم.

 

المطلب الثاني: الرد على شبهة ” عدم حجية السنة النبوية ”

يرى الحداثيُّون العرب أنَّ الأحاديث النبوية ماهي إلا تراث أكثر من أن تكون وحياً، وقد ذكر الفيلسوف محمد أركون[18] في معرض ردّه على من يصفهم بالمتشددين أنهم: (يعتقدون أنَّ التُّراث (السُّنَّة) ينبغي أن تتغلب على كُلّ بدعة”. واعتبار السُّنَّة تراثاً يتطلب تجريدها من سماتها الخاصة التي جعلت منها مصدراً ثانياً للشريعة الإسلامية. ويستلزم من ذلك اعتبار السُّنَّة مجرد خطاب أو نص ظهر في التَّاريخ لمهمة خاصة ليس لها طابع الديمومة)[19].

 

ويقول المهندس محمد شحرور[20]: “إنَّ المشكلة تأتي مرة أخرى من زعم الفقهاء أنَّ حلال محمَّد صلى الله عليه وسلم حلالٌ إلى يوم القيامة، وحرام محمَّد صلى الله عليه وسلم حرام إلى يوم القيامة، وتأتي من اعتبارهم أنَّ القرارات النَّبويَّة التنظيمية لها قوة التنزيل الحكيم الشامل المطلق الباقي، ناسين أنَّ التحليل والتحريم محصور بالله وحده، وأنَّ التقييد الأبدي للحلال المطلق يدخل حتماً في باب تحريم الحلال، وهذه صلاحية لم يمنحها تعالى لأحد بما فيهم الرُّسُل[21].

 

وممن سوّق لفكرة أن السنة النبوية ليست حجة من الحداثيين العرب الذين لا إلمام لهم بأمور الدين؛ الدكتور توفيق صدقي[22]، والذي نشر مقالين في مجلة المنار بعنوان: “الدين هو القرآن وحده” وأنكر فيهما حجية السنة، وتتلخص شبهته في ما يلي[23]:

أولا: قول الله تعالى: ﴿ مَا فَرَطنَا في الكِتابِ من شيءٍ ﴾ [ الأنعام: 38] وقوله تعالى: ﴿ ونزَّلنا عليك الكتَابَ تِبيانًا لكل شيءٍ ﴾ [النحل: 89] بدل هذا على أن القرآن حوى على كل شيء من أمور الدين وأحكامه، وأنه بيّنه وفصّله بحيث لا يحتاج لشيء آخر كالسنة تشرحه وتبينه وإلا كان الكتاب مفرِطا فيه.

 

ثانيا: قول الله تعالى: ﴿ إنّا نحنُ نزّلنا الذِّكرَ وإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9 ] يدل على أن الله تكفل بحفظ القرآن دون السنة، فلو كانت السنة حجة كالقرآن لتكفل الله بحفظها أيضا.

 

ثالثا: لو كانت السنة حجة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابتها وتدوينها، ولعمل الصحابة والتابعون من بعده على جمعها وتدوينها، لما في ذلك من صيانتها من العبث والتبديل والخطأ والنسيان، وفي صيانتها من ذلك وصولها للمسلمين مقطوعا بصحتها فإن ظني الثبوت لا يصحُّ الاحتجاج به. ولا يحصل القطع بثبوتها إلا بكتابتها كما هو الشأن مع القرآن، ولكن الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابتها وأمر بمحوِ ما كتب منها، وكذلك فعل الصحابة والتابعون، فلم تدون السنة إلا في عصور متأخرة بعد أن طرأ عليها الخطأ والنسيان، ودخل فيها التحريف والتغيير، وذلك مما يوجب الشك بها وعدم الاعتماد عليها في أخذ الأحكام.

 

هذا ملخص ما أورده الدكتور توفيق صدقي من الشبه على عدم حجية السنة النبوية، ولقد ردّ هذه الشبه بعض علماؤنا ومشايخنا، نلخص ردهم على هذه الشبه وغيرها في النقاط التالية[24]:

1- إن حجية القرآن لم تأتِ مِن كتابته حتى نقول بوجوب كتابة السُّنة النبوية، ثم إن حجية السُّنة لا تأتي مِن كتابتها؛ إنما مِن حفظها ونقلها على مرِّ العصور، والكتابةُ لا تعني القطعَ بالشيء؛ لأن ما يُقطَع به في العلم هو عدالة ناقل الشيء، والتحقُّقُ منه، ضمن قواعد التأكد من صحة الخبر، فنقول: الكتابةُ ليست من لوازم الحُجِّية، وكتابة الشيء لا تفيد القطع به، فكثير من المعلومات التي يتناقلها الناس قديمًا كانت تعتمد على المشافهة والسماع أكثر؛ وذلك في سائر الأديان، وعند العلماء إذا تعارَضَ حديثٌ مسموع مع مكتوب، أُخذ بالمسموع.

 

2- ثم إن العرب كانت تعتمِدُ على الحفظ أكثر من الكتابة، فمنذ عصر الجاهلية كانت العرب تشتهرُ بحفظ المُعلَّقات، ولا يستغرب وقتها أن فلانًا يحفظ ألف أرجوزةٍ، أو ألف بيت شعرٍ، فكان من المتوارَث والمتعارف عليه الاعتمادُ على حفظ الأخبار ونقلها مشافهةً؛ كما هو حال كثير من الأخبار والأشعار التي تناقلها الناس حتى كُتِبت، كذلك القرآن بقِي في عهد النبوة محفوظًا في الصدور حتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم واستشهاد كثيرٍ مِن القرَّاء في معركة اليمامة، فاقترح عمرُ بن الخطاب وبعض الصحابة على أبي بكر رضي الله عنه كتابةَ القرآن.

 

3- إن القرآن الكريم قد حو أصول الدين وقواعد الأحكام العامة، ونص على بعضها بصراحة، وترك بيان بعضها الآخر لرسوله صلى الله عليه وسلم، وما دام الله أرسل رسوله ليبين للناس أحكام دينهم وأوجب عليهم اتباعه، كان بيانه للأحكام بيان للقرآن، ومن هنا كانت أحكام الشريعة من كتاب وسنة وإجماع وقياس أحكاما من كتاب الله، إما نصا وإما دلالة، فلا منافاة في حجية السنة وبين أن القرآن جاء مبين لكل شيء.

 

4- إن ما وعد الله بحفظه من حفظ الذكر لا يقتصر على القرآن وحده، بل المراد به شرع الله ودينه الذي بعث به رسوله، وهو أعم من أن يكون قرآنا أو سنة، ولا شك أن الله كما حفظ كتابه حفظ سنة نبيه، بما هيأ لها من أئمة العلم يحفظونها ويتناقلونها ويتدارسونها ويميزون صحيحها من سقيمها.

 

5- لا يُوجَد تلازمٌ بين عدم الكتابة وبين عدم الحجية، فهل نستدلُّ على حجية القرآن؛ لأنه مكتوب فقط؟ نقول أن الحجية تثبت بأشياء كثيرة؛ منها التواتر، ونقل العدول الثقات، ومنها الكتابة، وليس النقل عن طريق الحفظ أقل صحة وضبطا من الكتابة، خاصة من قوم عرفوا بقوة الحافظة، فاعتمادهم على ذاكرتهم كان أساسا لما ينقلونه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتدارسونه.

 

6- أما القول بأن السنة قد تأخر تدوينها فزالت الثقة بضبطها، وأصبحت مجالا للظن، والظن لا يجوز في دين الله، فهذا قول من لم يقف على جهود العلماء في مكافحة التحريف والوضع، وإذا كانت السنة نقلت بالضبط والحفظ غالبا والكتابة أحيانا، كانت سلسلة الحفظ والصيانة متصلة لم يتطرق إليها الانقطاع فلا يصح أن يتطرق إليها الشك، أما ما دُسَّ على السنة من كذب وافتراء فلقد تصدى له العلماء وبينوه بما لا يدع مجالا للشك، فالنفس تطمئن إلى السنة إلى حد يكاد يصل درجة اليقين، وإن كانت أغلب أحاديث السنة أحاديث أحاد، فهي حجة يعتمد عليها سواء كانت تفيد العلم أو تفيد الظن – على اختلاف بين أهل العلم – ولا ينازع في ذلك إلا مكابر.

 

7- يُردُّ على شبهة محمد شحرور أن الدِّراسات الإسلامية العلمية حول السُّنَّة فرقت بين السُّنَّة التشريعية وغير التشريعية، وبين تصرف النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كرسول وقاضٍ وإمام، ونبهت إلى بشريته صلى الله عليه وسلم التي لا يوافقها الوحي أحياناً؛ حينما يجتهد صلى الله عليه وسلم تحت شعار “أنتم أعلم بأمور دنياكم”، وأكدت أنَّ النسخ في السُّنَّة حاصل للتدرج في التشريع والتيسير على المكلفين. إلا إن خطأ شحرور يكمن في منهجه التعميمي الذي جعل من القضايا السالفة الذكر السمة الغالبة للسُّنَّة النَّبويَّة، وهو بالتالي يستدل بالجزء على الكل، ويستنبط دون وجود أدلة كافية تشكل قاعدة للاستنباط، وغريب منهج الحداثيين أنهم يفرقون بين محمَّد صلى الله عليه وسلم كنبي ومحمَّد صلى الله عليه وسلم كرسول، فيقولون أننا مُلزمون بطاعة محد الرسول ولسنا ملزمين بطاعة محمد النبي أو محمد البشر، وهنا يتصادم شحرور مع منطوق قول الله تعالى: ((وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى))، ومفهومه على حد سواء، كما يخرج عن دلالات كثير من الآيات المماثلة، بل وما تواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك كذلك، ولم يجد شحرور أو غيره ما يعاضد قولهم الشاذ هذا.

 

المطلب الثالث: الرد على شبهة ” الإسناد منافٍ للعقل ومناقض للمنهج القرآني “

إن الإسناد عند المحدثين يسعى إلى غاية كلية شريفة؛ وهي حماية حديث النبي صلى الله عليه وسلم من التحريف والوضع، لذلك اعتنى علماؤنا بهذا العلم الذي ميز الله به أمة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأمروا الناس بتعلمه والحفاظ عليه، قال الأوزاعي: ” الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء “.

 

ولما كان للإسناد أهمية كبيرة في حفظ السنة النبوية وتدوينها، ألقى الحداثيون العرب عديد الشبهات حول الإسناد للإنقاص من قيمته، في سياق الذم للسنة النبوية عموما ولعلوم الحديث خصوصا، فينكرون على المحدثين تعلقهم الكبير بالأسانيد، والمبالغة في الاعتداد به باعتباره أساسا لصحة الحديث، حتى أطلق أحدهم على المحدثين لقب “عبيد الإسناد”.

 

ومن الشبهات المثارة حول الإسناد شبهة أن الإسناد يشكل خطورة على العقل البشري ويمارس عليه تغييبا، حيث أن هذا الإسناد – بزعمهم – يمكن اختلاقه وتوظيفه، فلا يصعب على من اختلق المتن أن يختلق له سندا، فيكفي أن يقول القائل (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيسارع الناس بتصديقه، ويمتثلون لما يقول دون تفكير أو تمحيص، وهذا لارتباط الناس بالأسانيد واعتمادهم عليها وعدم اعتمادهم على عقولهم[25].

 

وممن أثار هذه الشبهة من الحداثيين العرب الدكتور أحمد صبحي منصور[26]، في مقال منشور على الأنترنت بعنوان: “الإسناد في الحديث” إذ بدأ مقاله بذكر قصة مشهورة ملخصها: ( أن رجلا أراد أن يثبت لصاحبه غفلة الناس وأنهم كالبقر لا يفقهون شيئا، فصعد ربوة وقال: يا قوم هلموا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا حوله وأقبل يحدثهم: روى فلان عن فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا بلغ لسان أحدكن أرنبة أنفه دخل الجنة) فأخرج السامعون ألسنتهم إلى أنوفهم وأصبح شكلهم يشبه البقر)

 

وبعد سرد هذه القصة قال الدكتور صبحي معلقا عليها: ” ما الذي جعل عقول أولئك الناس تغيب، إنه التصديق والإيمان بأن ما يقوله هذا الرجل قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم حقا، وما الذي جعلهم يؤمنون ويصدقون بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك الكلام؟ إنه الإسناد، أي أسند أو نسب ذلك الكلام للنبي صلى الله عليه وسلم عبر العنعنة، أي قال حدثني فلان عن فلان… إلخ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا. وهذا معنى الاسناد وهذه خطورته على العقل.. اهـ”، ثم يقول: “إن الإسلام الصحيح هو دين العقل، بل إن التعقل أو استعمال العقل هو سبب إنزال القرآن، ولكن الإسناد أوجد خصومة مستحكمة بين المسلمين والتعقل”[27].

 

ويرد على هذه الشبهة بأن الإسناد في الحقيقة لا يغيب العقل ولا يلغيه – كما صرح بذلك الكاتب – بل إن الإسناد دليل مادي عقلي محسوس، ويتضح هذا من أمرين، هما:

أولا: أن أفراد هذه الأسانيد ليسوا أشخاصا مجهولين، بل هم أفراد معروفون ولهم تراجم وافية في كتب التراجم وكتب الجرح والتعديل، يذكر فيها كل التفاصيل التي تتعلق بروايتهم وبحياتهم الشخصية، ومن كان منهم مجهولا فإن حديثه يطرح ولا يقبل.

 

ثانيا: لم يقل أحد من المحدثين أن أي حديث يرُوى بالإسناد فهو صحيح ومقبول لا محالة، بل إنهم يروون بالإسناد الصحيح وغيره، ولكنهم يمحصون الروايات، فإذا كان رجال السند كلهم ثقات وخلا الحديث من العلل فإن المحدثين يصححون ذلك الحديث ويقبلونه، أما إذا كان رجال الإسناد ضعفاء أو فيهم راو ضعيف فإن المحدثين لا يقبلون ذلك الحديث ويضعفون تلك الرواية، وهذا هو المنهج الصحيح الذي يرتضيه أي عقل سليم.

 

كما يُرد عن الأستاذ أحمد صبحي منصور بادعائه أن الإسناد منافٍ للعقل استنادا على هذه القصة؛ فنقول له: نحن لا نثق بهذه القصة لأنها مسندة، كما أن هذا الحديث الوارد في القصة لا يخف أمره على أحد من المحدثين، فلا نجده مثبتا في أي كتاب من كتب السنة، ولو كان يمكن اختلاق الإسناد وتمريره على الناس، لرأينا هذا الحديث مثبتا في كتب السنة المعتمدة، أو نرى رواته موثقين في كتب الرجال[28].

 

وأثار أحمد صبحي شبهة أخرى حول الإسناد، وأدعى أنه مناقض للمنهج القرآني، إذ يقول في مقاله سابق الذكر: ( إن إسناد قول ما للنبي صلى الله عليه وسلم يعني تحويل ذلك القول أو الحديث إلى حقيقة دينية يكون المسلم مطالبا بالإيمان بها والعمل وفقا لأحكامها، وهذا لا يتأتى إلّا للقرآن وحده، فالقرآن محفوظ بقدرة الله تعالى، وليس هنالك من وحي أما تلك الأحاديث التراثية فلا أول لها ولا آخر، وهي تتناقض مع بعضها وتناقض القرآن…) ثم يواصل الكتاب كلامه بقوله: ( إن إسناد قول ما للنبي صلى الله عليه وسلم وجعله حقيقة دينية هو اتهام للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه فرط في تبليغ الرسالة، وأنه ترك جزءا من الرسالة يتناقله الناس من بعده ويختلفون فيه، إلا أننا نؤمن أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة كاملة وهي القرآن الكريم) والنتيجة التي خلص إليها الكاتب للخروج من هذا المأزق – على حد تعبيره – تكمن في إلغاء ذلك الإسناد، وقطع الصلة بين تلك الأحاديث والنبي صلى الله عليه وسلم رحمة بالإسلام، وتماشيا مع المنطق، والمنهج العقلي والعلمي[29].

 

ويمكن مناقشة هذه الشبهة بقولنا إن عمل المحدثين باعتبار الإسناد دليلا على صحة الحديث يتفق في طبيعته مع المنهج القرآني، ولا يخالفه بأي حال، ويمكن الرد على هذه الشبهة من خلال النقاط التالية:

أولا: لم يقل أحد من المحدثين أن إسناد أي قول للنبي صلى الله عليه وسلم يعني الحكم بصحته، فهم يروون بالإسناد كل نوع من أنواع الحديث؛ الصحيح والحسن والضعيف بل حتى المكذوب، أما الحكم على الحديث المسند الصحيح بأنه حقيقة دينية فليس في ذلك مؤاخذة، فإن الحديث إذا صح سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح حقيقة دينية، لأن الأخذ بالحديث الصحيح هو في حقيقته استجابة للأمر القرآني في قوله تعالى: ﴿ وما ءاتكم الرسول فخذوه ﴾ [سورة الحشر: 7 ].

 

ثانيا: أن القرآن علّق قبول الأخبار بمعرفة أحوال ناقليها، فأمرنا سبحانه أن نتبين في خبر الفاسق ونتثبت منه، حتى يثبت صدقه، فمفهوم الآية يدل على قبول خبر العدل، ويدل دلالة ظاهرة على اعتبار الاسناد في قبول الأخبار، وهذا الأصل بنى عليه المحدثون نقلهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم.

 

الخاتمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، ثم أما بعد: ففي ختام هذا البحث الذي حاولنا فيه الدفاع عن السنة النبوية التي تتعرض لهجمات كبيرة، من بعض أبناء جلدتنا ومن يتكلمون بلساننا؛ وهم الحداثيون العرب، الذين أثاروا عدة شبه حول تدوين السنة النبوية وما يتعلق به، نقف على جملة من الحقائق والنتائج، أهمها:

• الحداثة فكر غربي ومشروع أيديولوجي، له أهدافه وأدواته وغايته التي يناضل من أجلها، والحداثيون العرب متأثرون بهذا الفكر، وينطلقون منه لنقد الموروث الإسلامي.

 

• وقف الحداثيون العرب موقف المعادي الشديد للسنة النبوية، قصد النيل منها، والحد من حجيتها، وإلغاءها من مصادر التشريع الإسلامي، وجعل العقل مكانها.

 

• أثار الحداثيون العرب عدة شبهات حول تدوين السنة النبوية، وفي الحقيقة هي تساؤلات عقلية، يستطيع أي عقل ان يشكك في أي شيء وفي أي وقت، فتساؤل كيف وأين ومن ولعل.. لا يعجز أحد عن نثره.

 

• إن الشبهات المثارة حول تأخر تدوين السنة كلها شبهات باطلة، أثارها أول من أثارها المستشرقون، وأعاد نشرها بعض المثقفين العرب المتأثرين بالأفكار الغربية، إلا أن علماؤنا كانوا بالمرصاد لهذه الشبه وفندوها من عدة وجوه.

 

• إن شبهة عدم حجية السنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدونها هي شبه باطلة، لأنهم حصروا الحجية في الكتابة فقط، وإهمال وسائل التوثيق والحجية الأخرى، وجهل بصور العناية بالسُّنة النبوية في القرنين الأول والثاني، وجهل بوجود الكتابة المبكِّرة للسنة النبوية.

 

• إن الادعاء الذي أثاره بعض الحداثيين حول الإسناد بقولهم تارة أنه منافٍ للمنهج القرآني، وقولهم تارة أخرى أنه مناقض للعقل لسهولة اختلاقه، هي تهم داحضة، وكلام لمن لا علم له، فالإسناد هو حقيقة المنهج القرآني الذي دعانا للتثبت في قبول الأخبار.

 

وفي الختام أضع بين أيدي من يقرأ بحثي هذا شيئاً من التوصيات، علها تجد آذاناً صاغية وقلوباً

 

مفتوحة وأنفساً غيورة على هذا الدين العظيم، فأقول:

• ضرورة قيام المعاهد والكليات الشرعية والمؤسسات الإسلامية بدورها في الحَدِّ من نشر الشبهات الواهية حول السنة النبوية.

 

• تكوين الأئمة والدعاة، وتبيين الطرق العلمية للرد على شبهات الحداثيين العرب حول السنة النبوية وحجيتها.

 

• تقريب الخطاب الاسلامي المعتدل للمثقفين العرب، خاصة المتأثرين بالفلسفات الغربية. فعلماء الإسلام مطالبون أكثر من أي وقت مضى بالوقوف على القرآن الكريم والسنة النبوية واستجلاءهما وإخراج العلوم منها بما يتلاءم مع روح العصر وأدواته.

 

• ضرورة مراجعة المنهج النقدي عند المحدثين، لا لأنه عاجز بل لإدامة إحياءه والإفادة منه.

 

وفي الختام أسأل الله العلي القدير ان يكون هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وأن يتقبله مني، وأن يجعله لبنة في صرح الدفاع عن السنة النبوية المطهرة، وما كان فيه من صواب فمن الله وحده، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي والشيطان، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.

 

قائمة المراجع:

• ابن منظور، لسان العرب، دار صادر: بيروت، ط3: 1993.

أحمد صبحي منصور، الإسناد في الحديث، مقال إلكتروني منشور في شبكة الأنترنت.

• أنس سليمان المصري، المنطلقات الفكرية والعقدية لدى الحداثيين للطعن في مصادر الدين، مجلة دراسات علوم الشريعة والقانون، جامعة الأردن، العدد 1، 2015.

• الحارث فخري عيسى عبد الله، الحداثة وموقفها من السنة، دار السلام: القاهرة، ط1: 2013.

خالد أبا الخيل، الاتجاه العقلي وعلوم الحديث جدلية المنهج والتأسيس، دار وجوه: الرياض، ط1: 1435ه.

• عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام، المركز الثقافي العربي، ط1: 1998.

عبد الرحمان بن يحي المعلمي، الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء عن السنة من الزلل والتضليل والمجازفة، ت: علي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد: مكة المكرمة، ط1: 1434ه.

• عبد الغني وائل، سقطة الحداثة والخصوصية الغربية، مجلة البيان، جامعة آل البيت: الأردن، العدد: 110.

• عبد المجيد الشرفي، الإسلام والحداثة، دار التونسية للنشر: تونس، ط1: 1991.

• الفيروز آبادي، القاموس المحيط، دار الفكر: بيروت، ط1: 1995.

• محمد أبو شهبة، دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، مجمع البحوث الاسلامية: القاهرة، ط2: 1985.

محمد أركون، الفكر الاسلامي نقد واجتهاد، دار الساقي: بيروت، ط2: 1992.

محمد شحرور، نحو أصول جديدة للفقه الاسلامي، دار الأهالي: دمشق، ط1: 2000.

محمود أبو رية، أضواء على السنة المحمدية، دار المعارف: القاهرة، ط6: 1994.

مصطفى السباعي، السنة ومكانتها من التشريع، المكتب الاسلامي: بيروت، ط3: 1982.

• يوسف عبد اللاوي، فصول من تاريخ السنة وحجيتها ورد الشبهات عنها، دار توكل: سطيف، ط1: 2016.


[1] إعداد الباحث: شنوف عبد الهادي – طالب سنة ثانية دكتوراه ل.م.د، تخصص: دراسات حديثية معاصرة – جامعة الشهيد حمه لخضر – الوادي.

[2] ينظر: ابن منظور، لسان العرب، مادة: “حدث”، ج3/ص 75. والفيروز آبادي، القاموس المحيط، مادة حدث.

[3] عبد الغني وائل، سقطة الحداثة والخصوصية الغربية، ص47. بتصرف.

[4] الحارث فخري عيسى عبد الله، الحداثة وموقفها من السنة، ص33.

[5] أنس سليمان المصري، المنطلقات الفكرية والعقدية لدى الحداثيين للطعن في مصادر الدين. ص81.

[6] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[7] عبد المجيد الشرفي، الاسلام والحداثة، ص28.

[8] ينظر: الحارث فخري، الحداثة وموقفها من السنة، ص 52، بتصرف.

[9] محمود أبو رية: كاتب مصري، ولد في محافظة الدقهلية بمصر يوم 15 ديسمبر 1889، له تطاولات كبيرة على السنة النبوية، ألف عدة كتب في الطعن في السنة النبوية، منها: “أضواء على السنة المحمدية” و “أبو هريرة شيخ المضيرة” و”قصة الحديث المحمدي، توفي يوم 11ديسمبر 1970 بالجيزة.

[10] ينظر: يوسف عبد اللاوي، فصول من تاريخ السنة وحجيتها ورد الشبهات عنها، ص50، بتصرف.

[11] محمود أبو رية، أضواء على السنة النبوية، ص220.

[12] ينظر: محمد أبو شهبة، دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، ص223-224. وعبد الرحمان بن يحي المعلمي، الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء عن السنة من الزلل والتضليل والمجازفة، ص59-60.

[13] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، باب من كره كتابة العلم وأمر بحفظه، رقم 590.

[14] ينظر: الحارث فخري، الحداثة وموقفها من السنة، ص 186-188، بتصرف.

[15] أخرجه الحاكم بسنده عن القاسم بن محمد عن عائشة.

[16] أخرجه البخاري، الجامع الصحيح، كتاب العلم، باب كتابة العلم. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج.

[17] أخرجه أبو داود في سننه، كتاب العلم، باب في كتابة العلم.

[18] محمد أركون، فيلسوف ومؤرخ، جزائري الأصل، ولد يوم 1فيفري 1928 بالجزائر، شغل منصب مسؤول الدِّراسات الإسلامية في جامعة السوربون بفرنسا، متأثر جدا بالفكر الغربي، وصاحب نظرية نقد العقل الإسلامي، يعتبر من أبرز الحداثيين العرب، توفي يوم 14سبتمبر 2010 بباريس، فرنسا.

[19] محمد أركون، الفكر الاسلامي نقد واجتهاد، ص102.

[20] محمد شحرور، من مواليد سنة 1983 بدمشق، أستاذ الهندسة المدينة في جامعة دمشق، مؤلف ومنظر القراءة المعاصرة للقرآن التي حاول فيها إيجاد معاني جديدة له، تأثر بالفكر الماركسي، ويعد أحد رموز الحداثة العربية، له عدة مؤلفات بالقراءة الحداثية للقرآن.

[21] محمد شحرور، نحو أصول جديدة للفقه الاسلامي، ص160.

[22] توفيق صدقي، كاتب ومفكر مصري، ولد يوم 9 سبتمبر 1881، درس الطب وكان من المتفوقين، له عدت مقالات يدعو فيها إلى استخدام العقل، ونقد التراث، له تأثر كبير بالفكر الغربي، حيث يصف مذهب داروين – نظرية التطور الالحادية – أنه أسمى ما وصل إليه الفكر البشري لحل معميات الآثار الجيولوجية والتشابه العظيم بين الانسان والحيوان، توفي يوم 21 أفريل 1920.

[23] مصطفى السباعي، السنة ومكانتها من التشريع، ص176-177.

[24] ينظر: مصطفى السباعي، السنة ومكانتها في التشريع الاسلامي، ص 181-185. وأنس سليمان المصري، المنطلقات الفكرية والعقدية للطعن في مصادر الدين، ص 85-86. بتصرف.

[25] عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام، ص260. وأحمد صبحي منصور، الإسناد في الحديث. بتصرف.

[26] أحمد صبحي منصور، مفكر إسلامي مصري، ولد في 1 مارس 1949 بالشرقية، كان يعمل مدرسا في جامعة الأزهر، لكنه فصل منها بسبب إنكار للسنة النبوية، وتأسيسه للمنهج القرآني الذي يكتفي بالقرآن مصدرا وحيدا للتشريع الاسلامي، سافر إلى أمريكا ليعمل مدرسا في جامعة هارفارد، له عدة آراء جريئة جدا على السنة النبوية ومناقضة لأصول الإسلام.

[27] أحمد صبحي منصور، الإسناد في الحديث.

[28] خالد أبا الخيل، الاتجاه العقلي وعلوم الحديث جدلية المنهج والتأسيس، ص 114.

[29] أحمد صبحي منصور، الإسناد في الحديث.

(المصدر: شبكة الألوكة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى