تعالوا نتعلم ”حرية التعبير” من بيت النُّبوة

تعالوا نتعلم ”حرية التعبير” من بيت النُّبوة

بقلم حسن خليفة

في أزمنة التحولات المجتمعية الكبرى، كما هو الشأن عندنا في وطننا اليوم، يكثر الحديث عن بعض القيّم الجوهرية في شكل مفردات ومصطلحات ومطالب يُعلى من شأنها وينادى ويُطالب بها، على أوسع نطاق ممكن، ويكاد يتفق في ذلك الجميع، من خلفيات فكرية مختلفة متنوّعة.

ومن هذه القيم التي رُفعت في شكل مطالب واضحة “الحريات”، ومنها “حرية التعبير” و”حرية الصحافة” و”حُرية الإعلام” والحريات السياسية والحريات المدنية الخ مما يتسع له معجم المطالب الجديدة في سياق الإفصاح عن أشواق الناس ومطامحهم وما ينتظرونه من حراك بدا استثنائيا عند كثير من المحلّلين والمتابعين .

والواقع أن مطلب الحرية عزيز وغال، وهو أساس من أسس الوجود الإنساني السويّ المكتمل، ولكن الإشكال فيه متعدد الوجوه ومن ذلك أنه نظري في الغالب، أي كلام يُردَّدُ وتصريحات تُطلق، وأما في الواقع فهو شيء يخالف ذلك تماما.

وإنما نتحدثُ هنا عن المسلمين عموما في بلدانهم المختلفة، وعن النّخب الواعية خاصة، وعن قادة الرأي والفكر، أيا كانت مواقعهم، بصورة أخص، فحال الحرّيات في بلاد المسلمين لا تسرُّ صديقا ولا عدوّا، ولا تمثّل أدنى منسوب قيمي، وبلاد المسلمين في المراتب الأخيرة في هذا المجال، بقطع النظر عمّا إذا كان ذلك مُرادا أم طوعيا، أم مزيجا من ذلك.

والواقع الأسيف أن قيمة الحُرية تكاد تضمُر في فضاءاتنا الاجتماعية والجمعوية والأسرية والعائلية والواقع خير مثال .

إن الأصل أن نكون ـ كمسلمين ـ أقرب إلى أخذ العبرة من ميراث النبوة المضيء وسيرة النبيّ الأكرم المختار صلى الله عليه وسلم، حيث إنه لو تمّ الانتفاع من دراسة السيرة الشريفة والسنّة النبوية الطاهرة الملزمة الإتباع لكنا أكثر الناس اهتماما بحرية التعبير وأقواهم صيانة لهذا الحق الإنساني الكريم، واعتداده  أمرا يخصّ كل إنسان، وأن الحرية  قيمة من أجلّ القيم الإنسانية، وأنه من حق ّ كل إنسان أن يعبّر عن رأيه، ولا يمكن أن يُمنع ذلك عنه أبدا، بل أكثر من ذلك، إن الواجب الإيماني والديني والأخلاقي هو العمل على  إشاعة ثقافة التعبير الحر عن الرأي، وحُسن الاستماع لمن يتحدث ( أو يكتب)، بسعة صدر وحسن تقبّل، مع مناقشته ومجادلته إن اقتضى الأمر.

أما أن يُمنع التعبير عن الرأي ابتداء، أو تنجرّ عن التعبير عن الرأي انشقاقات وتمزّق وتشرذم يصل إلى حدّ العداوة والبغضاء ونشر ” الغسيل الوسخ ” لكل طرف عن الطرف الآخر، والتخوين والتشويه والتسفيه  والقدح والذّم ..كما هو مشاهد للأسف الشديد فذلك دليل على أننا لم نأخذ شيئا ذا بال من السيرة العطرة، وقبل ذلك من مبادئ وأصول الدين التي تنص على أنه لا إكراه في الرأي …لأنه لا إكراه في الدين ابتداء . ولنستعرض هذا المثال النبوي الطاهر الشريف*:

إن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وسلم كشأنه في أحكام الشريعة عامة، لم يكن يكتفي بالتبليغ والبيان والإفهام، بل كان يطبّق ويسهر على تدريب الصحابة على التطبيق الأمثل والممارسة الجادة، تحت عينه ورعايته .

لذلك فهو لم يكتف بإشعار الناس بحقهم في التعبير عن آرائهم والدفاع عن وجهات نظرهم، وحقهم في إعلان الرأي المخالف، بل كان يمارس بهم ومعهم ذلك، بصورة عملية وبوتيرة يومية، حتى لو تعلّق الأمر بما يصدر عنه هو نفسُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من آراء واجتهادات وتدابير وتصرفات، مما ليس وحيا.

فمن أمثلة ذلك ما رُوي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: والله إن كنا في الجاهلية ما نعدّ النساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهنّ ما قسم . قال: فبينما أنا في أمر أتأمّره إذ قالت امرأتي: لو صنعتَ كذا وكذا؟. فقلت لها: مالك ولما هاهنا؟ فيما تكلّفُك في أمر أريده (بتعبيرنا: واش دخلك) ؟ فقالت: عجبا لك يا ابن الخطّاب، ما تريد أن  تُراجع أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبانا. فقام عمر فأخذ رداءه مكانه حتى دخل على حفصة فقال لها: يا بُنية، إنك لتُراجعين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى يظل يومه غضبانا ؟ . فقالت حفصة: والله إنّا لنراجعه. فقلتُ: تعلمين أني أحذّرك عقوبة الله وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم …قال: ثم خرجتُ حتى دخلتُ على أم سلَمة لقرابتي منها فكلّمتُها، فقالت أم سلمة: عجبا لك يا ابن الخطّاب دخلتَ في كل شيء حتى تبغي أن تدخل بين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأزواجه !!. أخذتني والله أخذا كسرتني عن بعض ما كنت ُ أجد، وفي رواية لمسلم قال عمر: فدخلت على عائشة  فقلتُ: يا بنت َ أبي بكر، أقد بَلَغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما لي ولك يا ابن الخطاب، عليك بعيبتك. (البخاري في كتاب التفسيرـ ومسلم في كتاب الطلاق) .

ألا يتراءى لنا هنا ـ وهو قليل من كثير مبسوط في السيرة وفي الكتب النافعة ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل من زوجاته ـ رضي الله عنهن ـ نموذجا في حرية الرأي والتعبير يقلنَ ما بدا لهنّ ولو كان فيه مراجعة للنبيّ صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله.

* الأمة هي الأصل (مقاربة تأصيلية لقضايا الديمقراطية ـ حرية التعبير ـ الفن) . أحمد الريسوني، دار الكلمة.ص59

(المصدر: صحيفة البصائر الالكترونية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى