كتب وبحوث

تاريخ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بين المصادر الإسلاميَّة والفرضيات الإسرائيليَّة 4 من 5

تاريخ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بين المصادر الإسلاميَّة والفرضيات الإسرائيليَّة 4 من 5

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

الفتح العُمري وبناء الْمَسْجِد الْأَقْصَى

سبقت الإشارة إلى أنَّ مُسمَّى “الْمَسْجِد الْأَقْصَى ” هو المُسمَّى القرآني لبيت المقدس، كما ورد في سورة الإسراء (الآية 1)، حيث عُرف فيما سبق باسم بيت المقدس، كما يشير حديث النَّبيّ(ﷺ)، الَّذي يورده البيهقي في دلائل النُّبوَّة (390/2، 391)، عن أبي سعيد الخُدري، أنَّ النَّبيَّ (ﷺ) قال “ثُمَّ دَخَلْتُ أَنَا وَجِبْرِيلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَصَلَّيْتُ، ثمَّ أُتِيتُ بِالْمِعْرَاجِ”؛ وكذلك كما يشير حديثه (ﷺ)، الَّذي أخرجه الحاكم في المستدرك، وصحَّحه الألباني في السّلسلة الصَّحيحة (954/6)، عن أبي ذرّ (رضي الله عنه) “صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ فِيهِ، وَلَنِعْمَ الْمُصَلَّى، وَلَيُوشِكَنَّ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ مِثْلُ شَطَنِ فَرَسِهِ مِنَ الأَرْضِ، حَيْثُ يَرَى مِنْهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا”. أمَّا عن المرحلة الَّتي اعتُمد فيها مُسمَّى “الْمَسْجِد الْأَقْصَى ” في الإشارة إلى بيت المقدس، فكان بعد الفتح العمري للقُدس، ما بين عامي 16 و17 هجريَّا، ما يوافق عاميّ 637 و638 ميلاديًّا. ينتقل لاندكويست إلى تلك المرحلة الفارقة في تاريخ بيت الله المحيط بالصَّخرة المشرَّفة، مدّعيًا أنَّ أوَّل ما طلبه أمير المؤمنين عُمر بن الخطَّاب من صفرينيوس، بطريرك القُدس حينها، هو أن يصطحب إلى “المعبد العظيم الَّذي بناه سليمان”، مستشهدًا بما يذكره هيو نيبلي في مقاله Christian Envy of the Temple”-الحقد المسيحي على الهيكل” (1959م، ص118-119).

أصيب عُمر بصدمة لمَّا اكتشف أنَّ مكان بيت المقدس أصبح مكبًّا للنّفايات، إلى جانب حطام متناثرة، ربَّما تعود لهيكل هيرودس (الهيكل الثَّاني)، أو هيكل جوبيتر كابيتولينوس الَّذي بناه الرُّومان مكانه. يسرد المؤرّخ الإسلامي محمد بن جرير الطبري المتوفى عام 310 هجريًّا قصَّة الفتح العُمري للقُدس ورحلته إليها في ثالث أجزاء كتابه الموسوعي تاريخ الرُّسُل والملوك، ويذكر عن وصول عُمر ورفاقه من الفاتحين إلى بيت المقدس، مشيرًا إلى أنَّ أوَّل ما فعله عُمر كان التَّوجُّه إلى محراب داود، ثمَّ قرأ قوله تعالى “وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ” (سورة ص: الآية 24)، وسجد سجدة نبيّ الله داود (عليه السَّلام)، في تأكيد منه على أنَّ ما جدَّده سليمان بن داود وأعاد إعماره كان مسجدًا، ولم يكن هيكلًا. صلَّى أمير المؤمنين عُمر إمامًا بالمسلمين في صلاة الفجر في بيت المقدس، وقرأ في الرَّكعة الأولى سورة ص، وفي الثَّانية “صدر بني إسرائيل”، أي فواتح سورة الإسراء، الَّتي تذكر وعدي الأولى والآخرة لبني إسرائيل، كما يذكر الطَّبري (ص511).

يضيف الطَّبري في تاريخ الرُّسُل والملوك أنَّ كعب الأحبار، الَّذي رافق عُمر في رحلته لتسلُّم مفاتيح القُدس، قد أشار على الخليفة الثَّاني بتأسيس مسجد شمال الصَّخرة المشرَّفة؛ فيجمع بذلك القبلتين في مسجد واحد. غير أنَّ عُمر رفَض وعنَّف كعب الأحبار واتَّهمه بمحاولة إدخال مُحدثة يهوديَّة على الإسلام. يقول الطَّبري في ذلك أنَّ عُمر استدعى كعب الأحبار، “فقال: أين ترى أن نجعل المصلَّى؟ فقال: إلى الصَّخرة، فقال: ضاهيت والله اليهوديَّة يا كعب، وقد رأيتك وخلعك نعليك، فقال: أحببت أن أباشره بقدمي، فقال: قد رأيتك، بل نجعل قبلته صدره، كما جعل رسول الله (ﷺ) قبله مساجدنا صدورها، اذهب إليك، فإنَّا لم نؤمر بالصخرة، ولكنَّا أمرنا بالكعبة” (جزء3، ص511). جدَّد عُمر بناء الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى على أنقاض معبد جوبيتر كابيتولينوس، الَّذي بُني على حطام هيكل هيرودس؛ أمَّا عن أوَّل بناء للْمَسْجِدِ، فهو، كما يروي الصَّحابي الجليل أبو ذرٍ الغفاري (رضي الله عنه وأرضاه)، وجاء في صحيح البخاري (3425) وصحيح مُسلم (520): “قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قالَ: المَسْجِدُ الحَرَامُ. قُلتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قالَ ﷺ: ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قُلتُ: كَمْ كانَ بيْنَهُمَا؟ قالَ ﷺ: أَرْبَعُونَ…”. خضع ذلك البناء للتَّجديد في عهد نبيّ الله سليمان بن داود (عليهما السَّلام)، كما ورد في صحيح ابن ماجه (1408) حديث أخرجه النَّسائي (693) ورواه الإمام أحمد (6644) يقول “لمَّا فرغَ سُلَيْمانُ بنُ داودَ من بناءِ بيتِ المقدِسِ سألَ اللَّهَ ثلاثًا…”.

صلَّى عُمر جنوب الصَّخرة، وأسَّس المسجد في تلك البقعة، حيث يقع المصلَّى القبلي والمصلَّي القديم والمصلَّى المرواني ومُصلَّى النّساء ومُصلَّى البراق، وهو يُعتبر أوَّل نموذج للمسجد الأقصى. أمَّا عن مواصفات المسجد في صورته الأولى، فكما يشير الباحث شفيق جاسر في مقاله “الفتح العُمري للقُدس”، الَّذي نشَره موقع قصَّة الإسلام (Islam Story) بتاريخ 21 أبريل 2015م، لم يذكر المؤرّخون الَّذين تناولوا الفتح العُمري، ومن بينهم الطَّبري ذاته والبلاذري واليعقوبي وابن الفقيه، “وهذا أمر يدعو إلى الاستغراب”، وفق تعليق الباحث. كان الواقدي من القليلين الَّذين تناولوا الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى في مهده في كتابه فتوح الشَّام، وقال عنه “وخطَّ عمر بن الخطاب مسجده إلى الجنوب الغربي من الصَّخرة، وصلَّى وأصحابه به صلاة الجمعة. وكان البناء من الخشب، ويتَّسع لحوالي ثلاثة آلاف مصلٍّ، وغادر القُدس بعد أن أقام بها عشرة أيام” (جزء 1، ص242)، نقلًا عن جاسر. بُني أساس الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، الَّذي أخضعه الأمويون للتَّوسعة والإعمار، من بقايا أعمدة وجذوع أشجار ودون سقف، وظلَّ الغربيون يطلقون عليه “مسجد عُمر”، برغم أنَّ هناك مسجد آخر بالقرب من كنيسة القيامة بهذا الاسم، وهو المسجد الَّذي صلَّى فيه خليفة المسلمين بعد أن رفَض الصَّلاة داخل الكنيسة.

وبعد انتهاء فترة الخلافة الرَّاشدة بمقتل رابع الخلفاء، عليّ بن أبي طالب (كرَّم الله وجهه)، عام 661م، وتنازُل خليفته، الحسن بن عليّ بن أبي طالب، عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان، درءً للفتنة، انتقل مقرُّ الخلافة الإسلاميَّة إلى الشَّام، حيث بويع معاوية خليفةً للمسلمين (661-680م). لم يأخذ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، الَّذي خضع لتحديثات وترميمات شاملة خلال التّسعينات من القرن العشرين، صورته الَّتي بقي عليها إلى يومنا هذا إلَّا في عهد الوليد بن عبد الملك (705-715م)، خامس خلفاء بني أميَّة، حيث أكمل الوليد ما بدأه أبوه، عبد الملك بن مروان (685-705م)، من توسعة للمسجد، شملت بناء مُصلَّى قبَّة الصَّخرة لحماية الصَّخرة المشرَّفة من التَّخريب، وفق ما يذكره بنجامين مازار وجلياهو كورنفلد وديفيد نويل فريدمان في كتابهم The Mountain of the Lord-جبل الرَّبّ (1975م، ص262). لم يكرّر لاندكويست ما أثاره كارل بروكليمان في كتابه History of the Islamic Peoples-تاريخ الشُّعوب المسلمة (1973م)، وأيَّده روبرت فريدمان في مقاله “حفْر جبل الهيكل: المعالم الأثريَّة والصّراع العربي-الإسرائيلي من الانتداب البريطاني إلى اليوم” (2011م)، عن أنَّ هدف تأسيس مُصلَّى قبَّة الصَّخرة ليضمَّ الصَّخرة المشرَّفة لم يكن سوى محاولة لإبعاد العامَّة عن مكَّة، عاصمة دولة الخلافة الَّتي أسَّسها عبد الله بن الزُّبير، ومنْح الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى ما للمسجد الحرام من مكانة. لم يذكر لاندكويست شيئًا عن سعي عبد الملك بن مروان إلى صرْف المسلمين عن المسجد الحرام لصالح الأقصى، إنَّما ذكر أنَّه ربَّما أراد بتأسيس مُصلَّى قبَّة الصَّخرة صرْفهم عن الكنائس العظيمة في القُدس، وعلى رأسها كنيسة القيامة بقبَّتها السَّماويَّة.

القبَّة السَّماويَّة في كنيسة القيامة في القُدس-فلسطين المحتلَّة

ومن المثير للدَّهشة أن تجد يوسف زيدان، وهو أحد المصنَّفين بأنَّهم من المفكرين الإسلاميين والمعنيين بالتُّراث العربي، يتبنَّى موقف بعد المستشرقين الَّذي يفترض أنَّ مُصلَّى قبَّة الصَّخرة في الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بُني لصرف المسلمين عن الحجّ إلى الكعبة المشرَّفة في مكَّة، كما صرَّح خلال استضافته في إحدى حلقات برنامج “رحيق الكتب” على فضائيَّة ON E المصريَّة بتاريخ 10 ديسمبر 2017م، ونقل عنه موقع اليوم السَّابع بتاريخ 11 ديسمبر 2017م.

جدير بالذّكر أنَّ الكاتب نفسه سبق وأن أدلى بتصريح أكثر جدلًا، بأن ادَّعى أنَّ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى ليس موجودًا في القُدس الشَّريف في فلسطين، إنَّما هو بين مكَّة والطَّائف في شبه الجزيرة العربيَّة، أو المملكة العربيَّة السَّعوديَّة وفق مسمَّى اليوم.

وقد بدأ بعض النُّشطاء السَّعوديين في التَّرويج لهذا الأمر حتَّى يترسَّخ في الأذهان ويصبح من المسلَّمات.

ومن الملفت أنَّ الناشط السَّعودي يعلّق على زعمه باحث أكاديمي إسرائيلي يروّج لأنَّ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى في القُدس بُني لأهداف سياسيَّة قوامها التَّنافس بين بني أميَّة وبني هاشم، تزامنًا مع ما يثار عن إمكانيَّة التَّطبيع بين السَّعوديَّة وإسرائيل.

4.قضيَّة الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى: دفاع عن المقدّسات أم استراتيجيَّة سياسيَّة؟

من منظور تاريخي واسع، يناقش روبرت فريدمان، أستاذ العلوم السّياسيَّة في جامعة جونز هوبكنز الأمريكيَّة، في مقال تحت عنوان “Digging The Temple Mount: Archaeology And The Arab-Israeli Conflict From The British Mandate To The Present-حفْر جبل الهيكل: المعالم الأثريَّة والصّراع العربي-الإسرائيلي من الانتداب البريطاني إلى اليوم”، المنشور ضمن محتوى كتاب The Temple of Jerusalem: From Moses to the Messiahهيكل أورشليم: من موسى إلى المسيح (2011م)، الصّراع الدّائر بين المسلمين واليهود حول السَّيطرة على منطقة جبل الهيكل/الحرم الشَّريف، كما يطلق على موقع الْمَسْجِد الْأَقْصَى ، منذ الاحتلال الإسرائيلي للضَّفَّة الغربيَّة لنهر الأردن في 7 يونيو 1967م، خلال حرب الأيَّام السّتَّة، وإن كان ذلك الصّراع قد بدأ فعليًّا منذ فرْض الانتداب البريطاني على أرض فلسطين منذ عام 1920م. يجد فريدمان تشابهًا بين سعي الحاج أمين الحسيني، مفتي القُدس، خلال الفترة ما بين عاميّ 1920 و1938م، ومن بعده ياسر عرفات، زعيم حركة فتح ورئيس السُّلطة الفلسطينيَّة (1995-2004م)، ما بين عاميّ 1967 و2004م، لاستخدام الْمَسْجِد الْأَقْصَى  ورقة ضغْط لاكتساب الشَّرعيَّة السّياسيَّة اللازمة لزعامة الفلسطينيين، وبين محاولة كلّ من نيقولاس الأوَّل، قيصر روسيا، ونابليون الثَّالث، إمبراطور فرنسا، السَّيطرة على كنيسة القيامة، الواقعة هي الأخرى في البلدة القديمة في القُدس، ليدعم كلٌّ منهما مركزه السّياسي في بلاده. يتتبَّع العالم السّياسي اليهودي محاولات استغلال الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى سياسيًّا من قِبل الزُّعماء العرب، دون إشارة إلى الأطماع الإسرائيليَّة في تقسيم المسجد وتحويل جزء منه إلى كنيس يهودي يمثّل هيكل أورشليم.

تاريخ الصّراع على الْمَسْجِد الْأَقْصَى

في رأي فريدمان، لم يبدأ الصّراع على الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، أو كما يسمّيه “جبل الهيكل/الحرم الشَّريف” منذ الاستعمار البريطاني للقُدس عام 1917م، بعد إنهاء الوجود العثماني في الشَّام وشبه الجزيرة العربيَّة؛ حيث يرى أنَّ القرون السَّابقة على ذلك شهدت صراعات بين فرق مسلمة متنافسة سياسيًّا استُغل الأقصى فيها لدعْم المركز السّياسي (ص389). يتَّبع فريدمان نفس النَّهج الصُّهيوني الَّذي يتعمَّد إظهار مصلَّى قبَّة الصَّخرة وكأنَّما هو كيان منفصل عن الْمَسْجِد الْأَقْصَى ، ويدَّعى وجود أدلَّة تاريخيَّة على “بناء قبَّة الصَّخرة والْمَسْجِد الْأَقْصَى  كان ضمن جهود غزاة القُدس من العرب، إن لم يكن لصرْف العامَّة عن الحجّ إلى مكَّة من خلال إقامة مركزين منافسين للعبادة على جبل الهيكل، فقد كان على الأقل لاكتساب نفس ما تحظى به مكَّة من شرعيَّة دينيَّة”(ص389-390)، مستشهدًا برأي كارل بروكليمان في كتابه History of the Islamic Peoples-تاريخ الشُّعوب المسلمة (1973م). ويقصد المؤرّخ السّياسي اليهودي بذلك ما يُشاع عن أنَّ الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان أمَر وبتوسعة الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وبناء مصلَّى قبَّة الصَّخرة خلال فترة خلافة عبد الله بن الزُّبير (64-73 هجريًّا)، الَّتي اتَّخذ فيها من مكَّة المكرَّمة عاصمة لدولة خلافته الممتدَّة من بلاد الشَّرق إلى العراق وحتَّى شبه الجزيرة العربيَّة، بينما لم يبقَ للأمويين سوى الشَّام.

كما يدَّعى البعض، أراد الأمويون اكتساب مكانة دينيَّة تضاهي ما لدولة عبد الله بن الزُّبير، المسيطرة على الحرمين الشَّريفين. وبعد استغلال الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى في صراع سياسي بين فريقين متنازعين من المسلمين في القرن السَّابع الميلادي، تعرَّض المسجد لصراع آخر بعدها بأربعة قرون، زمن الحروب الصَّليبيَّة، حينما حوَّل الغزاة الصليبيون مصلَّى قبَّة الصَّخرة إلى كنيسة، ورفعوا فوقها صليبًا ذهبيًّا كبيرًا، في إشارة إزاحة السيَّطرة الإسلاميَّة، كما حوَّلوا المصليَّات القبليَّة إلى قصر. لم يدم الوضع هكذا طويلًا، حيث استعاد المسلمون الْمَسْجِد الْأَقْصَى  من الصَّليبيين، بعد فتْح صلاح الدّين الأيُّوبي عام 1187م، وحينها أعادوا إلى المسجد هويَّته الإسلاميَّة، وجرُّوا الصَّليب الذَّهبي في شوارع القُدس لإثبات عودة السَّيطرة الإسلامي على المدينة والقبلة الأولى للمسلمين، كما جاء في كتاب Contested Holiness: Jewish, Muslim and Christian Perspectives on the Temple Mount-القداسة التنازَع عليها: المنظورات اليهوديَّة والإسلاميَّة والمسيحيَّة لجبل الهيكل (2003م) للباحثة اليهوديَّة رفقة جونن.

تجدَّد الصّراع الإسلامي-المسيحي على الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عام 1917م، مع انتصار القوَّات البريطانيَّة بقيادة الجنرال ادموند ألنبي مع القوَّات العثمانيَّة وإجلائها على الشَّام بالكامل، حيث أبدى المسلمون تخوُّفهم بشأن مصير المسجد؛ وحينها طمأن القائد العسكري، ولاحقًا المندوب السَّامي البريطاني في مصر، المقدسيين، ووعد بعدم المساس بدور العبادة الإسلاميَّة، كما أورد مارتن جلبرت في كتابه Jerusalem in the Twentieth Century –القُدس في القرن العشرين (1996م، ص56). غير أنَّ التَّجربة أثبتت خلاف ذلك، وتبيَّن أنَّ وعْد ألنبي لم يكن سوى خدعة لامتصاص الغضب المسلمين ووأْد ثورتهم؛ فسرعان ما بدأ النّزاع الإسلامي-اليهودي على الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، خاصَّةً مع تنامي النُّفوذ الصُّهيوني داخل فلسطين. في ظلّ الحُكم العثماني، كان يُسمح لليهود في فلسطين بالصَّلاة عند الحائط الغربي للأقصى، والمعروف عند المسلمين بحائط البُراق وعند اليهود بحائط المبكى، لكنَّهم مُنعوا من إحضار مقاعد أو طاولات للعبادة، وكذلك من فصْل الرّجال عن النّساء في قسمين. أصبحت صلاة اليهود عند الحائط الغربي تشكّل ما عُرف بالوضع الرَّاهن (Status Quo)، الَّذي كان يعني استمرار الوضع على ما هو عليه، وعدم مساس أيّ طرف بالقسم الَّذي يسيطر عليه الطَّرف الآخر، وهو ما لم يرق للمسلمين، كما يشير فريدمان. أثار ترميم المسلمين، مطلع العشرينات من القرن العشرين، الأجزاء العلويَّة من الحائط الغربي، الَّذي يُعتبر أقدس أماكن العبادة اليهوديَّة، استياء يهود فلسطين؛ فسجَّلوا شكواهم لدى السُّلطات الحاكمة وقادة الانتداب البريطاني.

ومع تصاعُد التَّوتُّر بين الطَّرفين، استغلَّ الحاج أمين الحسيني، الواعظ الدّيني ومفتي القُدس لاحقًا، الأمر في اكتساب سُلطة سياسيَّة، متَّخذًا من الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وسيلة لتحقيق مآربه، وفق رأي المؤرّخ اليهودي. أسفر عن خطاب الحسيني المندّد بصلاة اليهود عند الحائط الغربي للأقصى عن تأجيج المشاعر السَّلبيَّة تجاه أهل الكتاب؛ وأدَّى ذلك بدوره إلى أعمال عُنف ضدَّهم خلَّفت قتلى وجرحى. وبعد أن تكرَّر استغلال الحسيني للأقصى في سعيه لتحقيق الزَّعامة، قرَّر هربرت صموئيل، المندوب السَّامي البريطاني الأوَّل في فلسطين، تعيين الحسيني مفتيًا للقُدس، وهو منصب استُحدث خصّيصًا من أجل الحسيني، كما يقول المؤرّخ الأمريكي، فلسطيني الأصل، رشيد خالدي، أستاذ الدِّراسات العربيَّة الحديثة في جامعة كولومبيا الأمريكيَّة في كتابه The Iron Cage: The Story of the Palestinian Struggle for Statehood-القفص الحديدي، قصة الصراع الفلسطيني لإقامة دولة (2006م). غير أنَّ تعيين الحسيني في ذلك المنصب لم يثنهِ عن إثارة المسلمين ضدَّ اليهود، خاصَّةً بعد بنائهم حائطًا لفصْل الرّجال عن النّساء أثناء الصَّلاة عند الحائط الغربي عشيَّة عيد الغفران عام 1928م؛ حيث أسفر تحريضه ضدَّ اليهود عن أعمال شغب، تطوَّرت إلى ما بات معروفًا باسم ثورة البُراق، الَّتي انطلقت في 23 أغسطس 1929م. ويتعمَّد فريدمان غضَّ الطَّرف عن حقيقة أنَّ ثورة البراق اشتعلت نتيجة الاستفزاز اليهودي، بخروج مجموعات من يهود فلسطين في مسيرات تهتف “الحائط لنا”، تزامنًا مع احتفالهم بعيد خراب الهيكل في 15 أغسطس 1929م. حرصًا منه على إثارة انتباه المسلمين إلى الخطر الَّذي يهدد المقدَّسات الإسلاميَّة، وعلى رأسها الْمَسْجِد الْأَقْصَى ، ألقى الشَّيخ المقدسي حسن أبو السُّعود خطبة أشعلت حماسة المسلمين؛ وأدَّى ذلك إلى أعمال عنف خلَّفت قتلى وجرحى من الجانبين.

استمرَّت المناوشات بين المسلمين واليهود حتَّى عام 1936م، حينما اندلعت الثَّورة الكبرى، وظلَّت مشتعلة حتَّى عام 1939م، وقد حاولت بريطانيا تهدئتها من خلال تشكيل لجنة بيل عام 1937م، والَّتي أوصت بدورها بتقسيم فلسطين إلى دولتين، عربيَّة ويهوديَّة. أيَّد دافيد بن غوريون، زعيم المجتمع اليهودي حينها، اقتراح لجنة بيل، بل وأضاف إلى تقسيم فلسطين اقتراحًا بتحويل البلدة القديمة المحاطة بسور داخل القُدس، الَّتي تضمُّ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى وكنيسة القيامة، إلى “متحف ديني-روحاني-ثقافي لكلّ الأديان، يخضع لحماية دوليَّة”، كما يذكر فريدمان (ص393). أعاد بن غورين ذلك الاقتراح خلال بيانه أمام لجنة الأمم المتَّحدة الخاصَّة بفلسطين، أو اليونسكوب (UNISCOP)، عام 1947م. ويعلّق المؤرّخ اليهودي بقوله إنَّه برغم فكرة بن غوريون تلك قوبلت بالرَّفض حينها، “لربَّما كانت من أكثر الحلول الممكن تطبيقها لإنهاء الصّراع حول جبل الهيكل/الحرم” (ص394).

خلال حرب الاستقلال الإسرائيليَّة، أو حرب فلسطين عام 1948م الشَّائع تسميتها بـ “النَّكبة”، فقد اليهود إمكانيَّة الوصول إلى الحائط الغربي للصَّلاة، وكذلك إلى البلدة القديمة بأكملها، إثر خضوعها للسَّيطرة الأردنيَّة وقتها. عمد الأردنيون إلى تدمير جزء كبير من الحيّ اليهودي في البلدة القديمة، في محاولة للتخلُّص من الهويَّة اليهوديَّة. غير أنَّ الأمور انقلبت لصالح اليهود، لتقل الإسرائيليين، بعد نصرهم المؤزَّر في حرب يونيو/حزيران عام 1967م، حينما استعادوا السَّيطرة على البلدة القديمة، بعد احتلال الضَّفة الغربيَّة، بما تضمُّه من مقدَّسات أهمُّها الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، لأوَّل مرَّة منذ دمار هيكل أورشليم عام 70 ميلاديًّا. سارعت الحكومة الإسرائيليَّة حينها بهدم منازل العرب في المنطقة المجاورة للحائط الغربي لتوفير مساحة أكبر لليهود لأداء شعائرهم. تجنُّبًا لإشعال أزمة قد تتطوَّر إلى حرب مع العالم الإسلامي، أبقت مع الإبقاء على سيطرة الأوقاف الإسلاميَّة على المسجد، حتَّى خضع المسجد لاحقًا إلى إشراف دائرة الأوقاف الأردنيَّة. وكما تزعم الباحثة رفقة جونن في كتابها آنف الذّكر (2003م)، طُلب من اليهود الحفاظ على مشاعر المسلمين بعد أن سُمح بزيارتهم الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لإقامة الصَّلاة عند الحائط الغربي. غير أنَّ غالبيَّة الرَّبَّانيين الأرثوذكسيين، كما يقرُّ فريدمان، يعارضون الصَّلاة هناك، على أساس أنَّ “لا أحد يعرف أين يقع الهيكل”، وأنَّ على اليهود التَّطهُّر من الاحتكاك بالموت، باستخدام رماد بقرة حمراء لا شية فيها، قبل دخول الهيكل؛ وبما أنَّ وسيلة التَّطهُّر تلك غير متاحة، فالصَّلاة غير مسموح بها (ص394). مع ذلك، يستشهد فريدمان بما ذكره مردخاي انباري، أستاذ العلوم الدّينيَّة في جامعة كارولينا الشَّماليَّة الأمريكيَّة، في مقاله ” Religious Zionism and the Temple Mount Dilemma—Key Trends-الصُّهيونيَّة الدّينيَّة ومعضلة جبل الهيكل—اتّجاهات رئيسيَّة” (2007م، ص37)، عن اقتناع بعض الرَّبَّانيين الأرثوذكسيين بأنَّ هضبة موريا هي موقع الهيكل؛ ومن ثمَّ فلا حرجَ في الصَّلاة هناك.

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى