علماء من عصرنا

بين المحدث الأعظمي والمحدث الحلبي – رسائل بين الشيخين

بين المحدث الأعظمي والمحدث الحلبي – رسائل بين الشيخين

بقلم أ. مسعود أحمد الأعظمي “سبط الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي”

ضوء على العلاقة الوثيقة بين الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي الهندي  والشيخ عبد الفتاح أبو غدة الحلبي،  في ضوء رسائل الثاني إلى الأول.
أهلاً بمقدمك الهنيء ومرحبا
لم يحو علم الفقه والآثار شا

يريد بالشامي الإمام العلامة ابن عابدين
 
يا عالم الشهباء إمام الشام
ميّ كجمعك بعد ذاك الشامي

هذه القطعة الشعرية قالها المحدث المحقق العلامة حبيب الرحمن الأعظمي رحمه الله تعالى تحية وترحيباً بالعلامة المحدث الشيخ عبد الفتاح أبى غدة رحمه الله حينما زاره في بيته ونزل ضيفاً عليه سنة 1979م، وإنها لاعتراف صادق، وتقدير واقعي لعظمة الرجل وعبقريته من عظيم آخر وعبقري مثله.
إن الشيخ عبد الفتاح أبو غدة كان يتميز من بين علماء العرب وفضلائها بأنه كان قد أحرز اطلاعاً واسعاً على كتب علماء الهند ومؤلفاتهم، ومعرفة عميقة بحياتهم وسيرهم وأحوالهم؛ فكان بطبيعة الحال يقدر جهودهم في تطوير العلم والنهوض بالثقافة والمعرفة. وكان العصر الأخير الذي قلّ فيه اهتمام الناس به كما يقول فلي كلمة تعريفه بمسند الحميدي التي يستهلها بقوله:” لإخواننا علماء الهند أياد غرّ بيض في خدمة السنة النبوية الشريفة، يشهد لهم بها كل عالم بالحديث الشريف وعلومه، وقد نهضوا بخدمة السنة المطهرة علماً وتعليماً وشرحاً وتأليفاً في الزمن الذي توانى فيه علماء سائر الأقطار عن النهوض بها، فكان لهم الفضل الأكبر في الاضطلاع بهذا الشطر العظيم من أصول الشريعة الغراء”.
معرفته بخدمتهم الجُلّي للحديث الشريف وقيمة كتبهم ونفاسة مؤلفاتهم في هذا الشأن بعثته على تناوله لكثير منها بالدراسة والتحقيق والتعليق والنشر.
وممَّن كان تربطه بهم أواصر الحب والإخلاص والثقة الروحيَّة من علماء الهند وفضلائها:العلامة المحدث المحقق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، وكان الشيخ أبو غدة يعتبر نفسه تلميذاً للعلامة الأعظمي، ويعامله معاملة تلميذ بأستاذه الذي أحبه بقلبه وروحه حباً خالصاً صادقاً وكان يعرف العلامة الأعظمي قبل أن يلقاه أو يكاتبه؛ فكانت معرفته به منذ أن قامت سلسلة المراسلات بين العلامة الأعظمي والعلامة محمد  زاهد الكوثري رحمهما الله، وذلك في أواخر ستينات القرن الهجري المنصرم، وكان الشيخ أبو غدة إذ ذاك طالباً في الأزهر الفاطمي، ولكن انتفاعه واستمداده كان من الأزهر الكوثري على حد قوله، فلما رأى رسائله عند شيخه وأستاذه وهي تنطق بعلمه الغزير ومعرفته الواسعة، ورأى شيخه مقراً بفضله، مثنياً عليه، غلب عليه حبه والثقة والإعجاب به كما قال الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى         فصادف قلباً خالياً فتمكنا
ثم لما يسَّر الله له  الفرصة لمعرفته عن كثب، ورأى منه صدقه، وإخلاصه مع وفرة العلم وغزارته وإتقانه واستحضاره، ازداد به ثقة واعجابا واتصالا.
 ولا شك في أنه قد عملت في علاقته الوثيقة مع العلامة الأعظمي بواعث شتى، منها أنه كان بينهما توافق كبير في المذهب والذوق والاتجاه والإعراض عن الظهور الكاذب والصيت الفارغ مع توافقهما في كثير من حقول العلم والفن والمعرفة، ولا سيما علم الحديث النبوي الشريف.
وقد ظفرت يدي بما أبقته لنا حوادث الأيام من رسائل الشيخ عبد الفتاح أبو غدة تُسلَّط بعض الأضواء على علاقته مع العلامة الأعظمي، ويستنتج منها أن اتصاله بالعلامة عن طريق المراسلة كان قد بدأ في سنة 1382 من الهجرة، وذلك عندما قدم الشيخ عبد الفتاح أبو غدة الهند في شهر ربيع الأول من العام المذكور، فكان أن وصل في تلك الرحلة إلى ديوبند حيث مكث بها لبضعة أيام، فكتب منها رسالة في 2 من نفس الشهر إلى العلامة الأعظمي، ويحلو بنا أن نقدم إلى القراء كتابه بتمامه:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الأستاذ الجليل المحدث الناقد مولانا الشيخ حبيب الرحمن حفظه الله تعالى: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فأرجو أن يكون سيدي الأجل على أطيب حال وأنعم بال ممتعاً بالصحة والعافية إن شاء الله.
سيدي الأجل: أنا العاجز الضعيف المعروف بـ عبد الفتاح أبو غدة أحد طلاب العلم في مدينة حلب من بلاد الشام، قدمت البلاد الهندية الكريمة لأتبرك بعلمائها وأحظى بصلحائها، وكان اسمكم الكريم في طليعة من أقصده، ولما كنت في ” ماليكون” علمت أنكم ستقدمون إليها بعد مبارحتى لها بثلاثة أيام، وكانت مدتي التي قطعتها لإقامتي فيها قد انتهت، فسافرت من” ماليكون” آسفاً أن لم يقدر لي الاجتماع بحضرتكم، ثم قلت: الاجتماع مقدر، وبدأت أفكر كيف ألتقي بكم، وخطتي التي رسمتها لم تكن تسمح لي أن أعود إلى ” ماليكون” وطريقي فلي الرحلة يبعدني عن الوصول إلى رحابكم الكريمة، وكلما تذكرت ذلك تحرك فيّ أسف. ثم أمس علمت من فضيلة مولانا الشيخ محمد منطور النعماني حفظه الله تعالى أنكم ستقدمون إلى ديوبند فتجدد أسفي، ثم رأيتني من الحق عليّ أن أقدم لكم هذه الرسالة نائبة، عني تلثم يديكم وتحظى بدعواتكم الطيبة لي ، وتعرب لكم عن حبي العميق لفضيلتكم من أكثر من عشر سنوات يوم أخذت كتابكم إلى سيدي وأستاذي وعمدتي وملاذي الإمام الكوثري رحمه الله تعالى صديقكم الصادق ومحبكم الوامق، يوم كنت في مصر أتمم دراستي في الأزهر الكوثري لا في الأزهر الفاطمي، وإن كان انتسابي إلى هذا، فقد كان انتفاعي واستمدادي من الكوثري المعين والروض المبين. وكان رحمه الله تعالى يطلعني على كل مكاتبات العلماء التي ترد إلى حضرته، وخصوصاً كتب إخوانه العلماء في الهند المسلمة الناهضة بعلوم الإسناد.
فهذه نسبتي وخرقتي، وتلك بليتي في عدم لقائكم ومصيبتي، فلعل الله يقدر لي الاجتماع بكم على أفضل حال، إذ القلوب بيد الله تعالى، وأنا متوجه الآن إلى سهارنبور، وأقيم فيها ثلاثة أيام إن شاء الله أو دونها قليلاً ومن بعدها أتوجه إلى ” لكنؤ” لأقيم فيها ثلاثة أيام أيضاً. ومن بعدها إلى ” كلكته” لأمكث فيها ثلاثة أيام أيضاً.
 وقد أمكث في ” مراد آباد” يوماً واحداً من أيام” سهارنبور” ثم بعد الفراغ من ” كلكته” أتوجه إلى ” عليكرة” وأبقى فيها يومين، وأعود بعدهما إلى دهلي، فهذا منهاجي الذي التزمته مع الرفاق المبلغين جزاهم الله خيراً، أذكره لكم لعل الله يحرك قلوبكم إلى قريب من هذه الجهات، وأتمكن من الدنوِّ منكم وأحظى بكم، وأستودعكم الله أطيب لقاء إن شاء الله ، والسلام عليكم ورحمة الله.
ديوبند 28/ربيع الأول/1382هـ .
فبدأت منذ ذلك الحين وتواترت سلسلة مكاتبات ودية علمية، يشتمل معظمها على الإفادات والتساؤلات العلمية وتبادل الآراء حول الكتب، حتى إنه لما صدر مسند الحميدي عام 1382هـ بتحقيق العلامة الأعظمي وتعليقه كتب إليه في اليوم السابع من شهر ربيع الأول يخبره فيها بأنه كتب كلمة تعريف بالمسند ودفعها إلى المجمع العلمي الدمشقي ليقوم بنشرها في مجلته، وبعث منها صورة مشفوعة من الرسالة التي اقتطفنا منها آنفا.ً
وفي نفس السنة 1383هـ حصلت له الإجازة من العلامة الأعظمي كتابةً. كما يظهر من كتاب يزف فيه شكره على ذلك مكتوب من حلب في 13من جمادى الأخرى سنة 1383هـ يقول فيه :
بسم الله الرحمن الرحيم:
 إلى سماحة مولانا العلامة الكبير والمحدث الشهير سيدي الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي حفظه الله تعالى وزان به المسلمين.
  السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأرجو أن تكونوا بخير من الله ونعمة، وصلت النسخ العشر من :” مسند الحميدي” والنسخة الحادية عشرة هديتي معها، فشكر الله لكم عملكم وأحسن إليكم عن العلم والإسلام أجزل الإحسان كما وصلت الإجازة الكريمة، فبارك الله في اليد التي كتبتها، والنفس التي منحتها، والروح التي أحاطتها، فشكراً لكم وجزاكم الله عني خيراً”.
وإنه كان في إعجابه بالعلامة الأعظمي وإكباره له مخلصاً صادقاً غاية الإخلاص والصدق، فلم يكن قد جاء ذكره في حديث أو كتاب من كتبه إلا وقد استفاض في الحديث عن علمه وفضله وتفوقه وبراعته، نستطيع أن ندرك ذلك من كتاب له إلى العلامة الدكتور الشيخ مصطفى الأعظمي:
” بسم الله الرحمن الرحيم
 إلى الأخ الكريم الأستاذ الدكتور مصطفى الأعظمي حفظه الله ونفع به، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرجو أن تكونوا بخير من الله ونعمه.
أخبركم أني توصلت إلى استلام نسخة من مجموع فتاوى ابن تيمية، لشيخنا وأستاذنا مولانا حبيب الرحمن الأعظمي، وهي جاهزة للإرسال حيث تشاءون فقد أبقيتها في المستودع جاهزة التسلم فوراً، حتى أكاتبكم بها لتعلموا سماحة الشيخ أو تشيروا إليّ بتسليمها لمن رأيتم من الموثوقين، وحبذا لو ذكرتم ذلك لسماحة الشيخ سلمه الله، لأن حقوقه عليّ كثيرة لفضله، فيكون سعيي بتحصيل هذا الكتاب فيه بعض الوفاء لفضله الجسيم، يفوق ملاحقاتي الكثيرة لتحصيل النسخة”.
في أواخر سنة 1390هـ الموافق لعام 1970م زار العلامة الأعظمي سوريا ولبنان، وكان هدف رحلته المتابعة لطباعة المصنف لعبد الرزاق والإشراف على أمور طباعته، إذ كان المصنف حينذاك يمر بمرحلة الطباعة بدار القلم بيروت، وهذه الرحلة قد امتدت لعدة أشهر، وكان بمثابة نعمة عظيمة لأهل تلك البلاد، ووقع منهم موقع الماء من الصادي، فكانوا يتسابقون إليه ويردون عليه عطشى ويصدرون عنه مرتوين، فاستجاز منه واستفاد كثير من علمائها وفضلائها، وكان على رأسهم الشيخ أبو غدة؛ فإنه متى رجع العلامة الأعظمي من هذه الرحلة قامت مجلة :” الأضواء” الصادرة من ” ماليكاؤن” بتسليط ضوء على أهمية الرحلة، وتحدثت عن الشيخ عبد الفتاح أبو غدة على الوجه الأخص فقالت:” لقد استفاد منه كثير من رجال العلم والباحثين الإسلاميين من مختلف الكليات والمعاهد في هذه الرحلة ، فقد اتصل به غير مرة فضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة واستفاد منه في دراسته وتحقيقه حول مصنفات الشيخ مولانا عبد الحي”.الأضواء مارس ـ ابريل 1971م ـ
ثم إنه قام برحلة ثانية لسوريا في أواخر شوال سنة 1398 للهجرة الموافق سبتمبر سنة1978 من الميلاد، ويبدو من مذكرات العلامة الأعظمي أنه وصل دمشق لخمس وعشرين من سبتمبر، فمكث فيها يومين، ثم رحل إلى حلب وقضى هناك نحو مدة شهر وربع، وغادرها في 6 نوفمبر الموافق 6 ذي الحجة، وكان ذلك فرصة ذهبية للشيخ أبو غدة فاغتنمها وقضاها أياماً سعيدة حافلة بالأخذ والانتفاع والاستفادة وتبادل الآراء حول كثير من موضوعات العلم.
وكان الشيخ أبو غدة من مدة طويلة تواقاً لزيارته في بيته وداره، فما لبث أن تيسر له ذلك في العام القادم 1399 الموافق1979م عندما قدم في أواخر جمادى الأخرى دار العلوم ندوة العلماء بلكناؤ كأستاذ زائر، فما أن فرغ من مهمته بعد أسبوعين إذ توجه نحو “مئو” بلدة العلامة الأعظمي وأقام فيها ثلاثة أيام، وكان العلامة الأعظمي قد أسس حديثاً المعهد العالي للدراسات العليا، تتبعه مدرسة مرقاة العلوم، بجانبهما مسجد كبير، ولكن المعهد والمدرسة والمسجد كانت في طورها البدائي وتمر بمرحلة البناء، فلما قدم الشيخ أبو غدة كان الجمعة أحد الأيام التي أمضاها في “مئو” فطلب إليه العلامة الأعظمي أن يصلي بهم الجمعة فخطب وصلى، وبعد الفراغ من الصلاة ألقى كلمة توجيهية مستفيضة. وإن تلك الأيام الثلاثة كانت مشهودة في تاريخ “مئو” لأن كثيراً من علماء مئو وما جاورها من القرى والمدن كانوا قد تجاذبوا عالي “مئو” حيث كان اجتماع إمامين كبيرين لهذا العصر، فكانت ذكريات تلك الأيام وبركاتها إلى مدة طويلة حديث النوادي والمجالس، ولا تزال موجودة في نفوس كثير من الناس إلى يومنا هذا، كما أن الشيخ أبو غدة نفسه لم يستطع أن ينساها، فكتب بعد عودته رسالة من الرياض يُعبِّر فيها عن خواطره وانطباعاته تجاه رحلته مؤرخة في 29 رجب 1399هـ.
 بسم الله الرحمن الرحيم
 إلى العلامة الأجل والمحدث الأنبل مولانا حبيب الرحمن الأعظمي حفظه الله تعالى ورعاه وأكرمه وأولاه.
من محبه: عبد الفتاح أبو غدة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فأحمد الله إليكم وأرجو أن تكونوا بخير من الله ونعمة، وصلت الرياض بحمد الله تعالى، ذاكراً فضلكم، شاكراً لطفكم وكريم استقبالكم ووداعكم وضيافتكم، فقد أنسيت بكم الأهل والوطن، وجزاكم الله عني خيراً وإحساناً”.
ثم يقول في رسالة أخرى كتبها في 17 شعبان سنة 1399هـ نذكرها بتمامها فيما يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
 إلى سماحة شيخنا وأستاذنا مولانا حبيب الرحمن الأعظمي حفظه الله تعالى وأولاه آمين.
 من محبه وراجي دعواته: عبد الفتاح أبو غدة. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد فأحمد الله إليكم، وأرجو أن تكونوا أنتم ومن حولكم بخير وعافية، تنسمت أخباركم من العزيز أزهر وفقه المولى، فالحمد لله على عافيتكم الغالية، وبارك في همتكم العالية.
أرسلت لكم من فترة رسالة من الرياض أجدد فيها شكري لكم عما لقيته من حفاوة وتكريم، وأكرمكم الله، وأجدد هذا الشكر الآن أيضاً، وقد بالغتم في تكريمي، وأرجو أن أمتع بزيارتكم في وقت معتدل، وأقيم عندكم في غرفتكم المتواضعة الرفيعة، فأكون من أهل العبادة، أهل البيت، وأرجو من اله أن أمتع بهذا في الآتي إن شاء الله تعالى، سلامي لفضيلتكم وللأخ الكريم المفضال نجلكم الرشيد رشيد أحمد والأخ الكريم الشيخ سعيد أحمد، وباقي الشيوخ الأكارم حفظهم الله ونفع بهم وبارك لهم وعليهم.
 وختاماً أرجو أن لا تنسوني من دعواتكم المباركة، فإن الأزمة في سورية على أشدها، وصهري ـ عبد الله المصري ـ الذي حملنا بسيارته إلى دمشق ما يزال محبوساً، فادعوا له بالفرج والعافية والباقي الأحباء والمحبين لكم.
ختاماً أيضاً: أستودعكم الله، إلى لقاء قريب حبيب بإذن الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرياض17/من شعبان1399هـ محبكم.
وفي سنة 1985م عقدت بدار العلوم بمدينة حيدر آباد ندوة حول السنة والسيرة النبوية، وذلك فيما بين 29إلى 31 مارس، وكان ممن شاركها الشيخ أبو غدة، أما العلامة الأعظمي فلم يسنح له المشاركة لأسباب صحية، فلما فرغ الشيخ أبو غدة من نشاطاتها هاجه الحنين والشوق لزيارة شيخه وأستاذه، فقدم” مئو” في أول يوم من أبريل إثر صلاة المغرب، وكان قدومه على غير موعد، فلما رآه العلامة الأعظمي كاد يطير فرحاً وسروراً ورحَّب به ترحيباً حاراً، وحقاً إن الذي رأيناه على وجهه من الطلاقة والتهلل، بلقاء الشيخ أبو غدة قلما رأيناه في مناسبة أخرى، فعرفنا منه منزلته لدى العلامة الأعظمي ومكانه منه ثم لما كان من الغد التمس إليه أن يلقي أمام الأساتذة والطلبة وأعيان البلدة كلمة تربوية فاجتمعوا في المسجد وقبل أن يتحدث إليهم الشيخ أبو غدة قام العلامة الأعظمي بتعريفه إلى الناس باللغة الأردية التي هي لغتهم الأم، وترجمتها فيما يلي:
“إن من كرم الشيخ عبد الفتاح أبو غدة الصحيح العقيدة الصحيح المسلك أنه يحب هذا العاجز، ومن سعادة جِدِّنا وموضع فخرنا أنه قدم ” حيدر آباد” فدفعه هذا الحب أن يتفضَّل علىّ بزيارته، ولكن نزوله بنا كان في ضيق الوقت، ولقد عرضت عليه أن يقيم هذا اليوم عندنا وألححت عليه بعض الشيء، ولكن المشكلة أن الغد موعد طائرته، فلو أفلتها تأخر إلى يوم الأحد، فلا بد له من أن يصل اليوم إلى دهلي، يغادرها غدا، فلم نبالغ في الإلحاح عليه لئلا يتأذى، ويتعطل عن بعض مشاغله، ومع ذلك فإن نفسي لم ترض بأن ينزل بنا الشيخ ويعود دون الاجتماع بكم، فطلبت إليه أن يتحدث إليكم يسيراً لتتشرفوا بزيارته ولقائه، وأرجو منكم أن يكون سعيكم، العمل بما سيعظم به، هذا وإن شخصية الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، ممن يغتنم به، فإن العلماء الكبار الذين هم العلماء بمعنى الكلمة سواء كانوا في الهند أو في بلاد العرب لا يزالون يفارقون هذه الدنيا”.
وفي اليوم العاشر من رمضان المبارك سنة 1412هـ الموافق16 من مارس سنة 1992م توفي العلامة الأعظمي إلى رحمة ربه، وألمَّ بالمسلمين وخصوصاً بعلمائها ما ألم، فلم يكن من صنيع الشيخ أبو غدة أن يقطع صلته به وبأهله، فكان من كرمه ومعرفته بالجميل أن قام برحلة خاصة إلى “مئو” يعزِّي أهله وذويه ويلقنهم الصبر والسلوان، ويستغفر له ربه ويدعو بفسيح الجنان، وكان أثره عليه شديداً بالغاً، كأن وفاته رحمه الله قد أضْنته وأنهكت قواه، فكان كلما ذكر العلامة الأعظمي وذكر معه علومه ومآثره ومعارفه اغرورقت عيناه وسالت دموعه ويصعب عليه الاستمرار في الكلام كما قال الشاعر:
عليك سلام الله من منزل قفر             فقد هجت لي شوقاً قديماً وما تدري
*   *   *
مجلة البينات ـ مصدرها جامعة العلوم
الإسلامية ـ رجب ـ رمضان ـ (1419)
انظر: نماذج من رسائل العلماء في هذا الموقع.
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى