كتابات

بين الإجتهاد والتقليد

بين الإجتهاد والتقليد

مقالات شرعية – محمود العشري

هذا موضوع في غاية الخطورة، وهو مزلة أقدام، ومضلَّة أفهام، ومتاهَة لا يَنجو منها إلا مَن رحم الله – سبحانه وتعالى.

وقد بحثها الأصوليون في كتبهم أبحاثًا مستفيضة، وصنَّف فيها كثير من العلماء – قديمًا وحديثًا – كتبًا خاصة، وسأَعرِض ها هنا المنهَج الذي أرتضيه، وأُعرِض عما عداه، قاصدًا إلى الإيجاز والاختصار الشديد، فأقول:

يُمكِن تصنيف الناس في هذا الأمر إلى طرفين ووسَط:

فالطرف الأول:

يرى تحريم تقليد الأئمة في سائر العلم، أو اتِّباعهم، تحريمًا مُطلقًا لا استثناء فيه، ويقف على رأس هذه الطائفة الإمام أبو محمد بن حزم الظاهري – رحمه الله – ولعلَّه مِن أصرح وأبين مَن أعرب عن هذا الاتجاه المُغالي، فهو يقول في كتابه “الإحكام”: “فالتقليد حرام، على العبد المجلوب مِن بلده، والعامي، والعَذراء المُخدرة، والراعي في شعف الجبال، كما هو حرام على العالم المتبحِّر، ولا فرقَ، والاجتهادُ في طلب حكم الله – سبحانه وتعالى – ورسوله – صلى الله عليه وسلم – في كل ما خصَّ المرءَ من دينه – لازمٌ لكل مَن ذكرْنا كلزومه للعالِم المتبحِّر، ولا فرق؛ فمَن قلَّد مِن كل مَن ذكرْنا، فقد عصى الله – سبحانه وتعالى – وأثم”.

ولا شك أن هذا الرأي خطلٌ مِن القول، وأنه يترتَّب عليه من النتائج ما يفوق التصور، ومن ذلك:

– الفوضى التي لا تقف عند حدٍّ؛ إذ إن هذا الرأي لم يشترط حدًّا أدنى من المعرفة – مثلاً – بل ألزم كل مسلم، كما سبق بالاجتهاد، ولك أن تتصور مليون عقل، أو مائة مليون عقل، أو ألف مليون عقل، متفاوتة فيما بينها أشدَّ التفاوت في كل شيء، وكلها تريد أن تبدأ من أول الطريق في الاجتهاد في جميع المسائل: أصولها وفروعها، في العبادات، وفي المعاملات، وفي سائر الأمور!.

– اضمحلال الإسلام وزواله واندراس معالمِه؛ فقد صحَّ في النصوص والآثار الكثيرة أنه يقلُّ العلم في آخر الزمان ويَكثُر الجَهل، ويتعلق الناس بالدنيا، ويُعرضون عن الدين، إلى آخِر ما ثبت من كثرة الفتن وتغير الزمان.

فإذا كان الأمر كذلك، وطلبْنا من الناس – كل الناس – الاجتهاد بالصورة التي ذكَرها ابن حزم – رحمه الله – فسوف يجتهدون ثم يجتهدون، غير مُفرِّقين بين ما ثبت بصورة قطعية وما لم يَثبُت، وبين ما هو معلوم بالضرورة، وما كان ليس كذلك، وبين الأمور الاعتقادية المُقرَّرة بنصوص قطعية وغيرها.

ولعلَّ هذا الرأي من الأقوال التي يقول فيها بعض العلماء: إن مجرَّد تصوُّره كافٍ في إبطاله.

– ومِن نتائجه وآثاره زوال هَيبة العالِم وكرامته وفضله؛ فهو يستوي مع العبد المَجلوب الغريب المَشغول بشؤون سيده، ومع العذراء المخدرة الحييَّة، في أن الجميع يَحرُم عليهم التقليد ويجب عليهم الاجتهاد، ومَن اجتهد منهم فأصاب، فله أجران، وإن أخطأ، فله أجرٌ واحِد.

– ولا يُتصوَّر أن جميع الخَلق، سيَتركون أعمالهم وحاجاتهم الدنيويَّة اللازمة لقوام حياتهم، من بَيع وشِراء، وحِرفة وسفر، وأكل وشرب، ونِكاح، وغيرها، ويتفرَّغون للتعلم، ثم للاجتهاد، ولو حصل ذلك، لتعطَّلت المنافِع، وسارت الحياة إلى طريق الزوال.

وإذا كان ذلك كذلك – وهو كذلك – فمَعناه أن هؤلاء القائلين بالاجتهاد مُطلَقًا سيَضطرون الناسَ إلى حرج عظيم، أكتفي بإيراد نموذج منه، فأقول: أرأيتم هؤلاء الذين ألزمتموهم بالاجتهاد – وهم ليسوا أهلاً له – وحرَّمتم عليهم التقليد – وهو لهم ضرورة لا مُخلِّص منها – وجعلتموهم إن قلَّدوا عاصين آثمين: أنَّى لهم أن يعرفوا صواب حُكمِكم هذا؟!.

فإن قلتم لهم: فيه حق الاجتهاد، حتى يَصلوا إليه؛ فإن الاحتمال القويَّ الذي تشهد له جميع الأدلة، أن هؤلاء يُفضِّلون أن يُقلِّدوا مَن عرَفوا عِلمَه وحفظه وفهمَه وتفرُّغه لذلك، على أن يَرجموا بالغيب، ويتكلَّفوا ما ليس لهم به علم، فنتيجة الاجتهاد الذي ألزمتموهم به جاءت مخالِفة لما قرَّرتموه.

وإن قلتم: إن هذا الحكم ما لا مجال للاجتهاد فيه؛ بل هو مِن المعلومات الضرورية التي لا يُعذَر أحد بجَهلها، قلنا: ومِن أين لهم أن يَعرفوا ذلك؟ وإذا كان هذا من الضروري، فهناك أمور أخرى كثيرة جدًّا أوضح وجوبًا منه، وأقرب للعقل، وأبعَد عن الخلاف، ويَلزمكم أن تُلزموا هؤلاء جميعًا بفهم تلك الضروريات واستيعابها، وإذا فهموها، لم يكونوا حينئذٍ كما وصفتُم؛ بل يلزمهم قبل ذلك وقبل الاجتهاد في أي مسألة، أن يتعلموا إن كانت من الضروري أو من غيره، وحينئذٍ فهم عُلماء مطَّلعون.

أما الطرف الآخر، فهو يرى التقليد فرضًا لازمًا في جميع العلم العمَلي لزومًا مُطلَقًا لجميع الناس بعد عصور الاجتهاد الأولى المفضَّلة؛ حتى ليُصبح اتِّباع إمام من هؤلاء الأئمة بمنزلة اتباع الرسول – صلى الله عليه وسلم – بل ويتعدَّى الأمر ذلك إلى التعصُّب الأعمى المَمقوت، وقد يلتمس هذا المُلغي لما وهبه الله من العقل والعلم لتعصُّبه أدلةً شرعية، ويُجهد نفسه في ذلك ما لا يجهد نفسه في جلائل المسائل، واسمَع إلى أحدهم يَحمد الله الذي: “جبَله على التعصُّب لمُجتهد كان من قرون شهد النبي – صلى الله عليه وسلم – بخَيرها وعدالتها!”، وانظر في ذلك رسالة الاتِّباع للإمام الجليل ابن أبي العزِّ الحنفي كلها، وخاصة صفحتي 12، 14.

وحتى يصل الحال ببعضهم، إلى الزعم بأن كل نَصٍّ خالف المذهب، فهو إما منسوخ وإما مُؤول!.

فإن كان المتعصِّب حنفيًا، استدلَّ على صحَّة تعصبه وتقليده بما صُنع من الآثار في فضل أبي حنيفة، وعلوِّ كَعبِه في الدين.

وإن كان شافعيًّا، استدل بالأحاديث الصحيحة التي جعلت الإمامة في قريش، والشافعي – من بين الأئمَّة الأربعة المتبوعين – قرشي، فاتِّباعه – إذًا – فرض وحتْم عندهم!.

وإن كان مالكيًّا، استدلَّ بالحديث الذي أشار إلى أن الناس يوشك أن يَضربوا أكباد الإبل في طلب العلم، فلا يجدوا أعلم مِن عالم المدينة، ويُنزِّل هذا الأثر على مالك، ويُعدُّ دليلاً على وجوب تقليده!.

وهكذا اضطرمت نيران فِتنة أكَلت الأخضر واليابس في ماضي هذه الأمة وحاضرها؛ بسبب التعصُّب المذهبي، أو التعصُّب اللامذهبي، فقد يكون التعصب تعصبًا للأئمة المتبوعين، وقد يكون تعصُّبًا ضد اتِّباع الأئمة يؤدي إلى خَلعِ رِبقة تقليدهم، ثم تقليد مَن هو دونهم بمراحل من الشيوخ والمُعلِّمين ونحوهم.

وعلى العموم، فقد سوَّد التعصُّبُ صفحاتٍ من تاريخنا الإسلامي، امتلأت بالشقاق والنزاع والتطاحُن، والتبديع والتفسيق والتكفير، ومزَّق التعصُّب هيبة النصوص الشرعية، وفتح الباب على مصراعَيه للطعن فيها، وجعل كثيرًا من المناقشات – التي تبدو عِلميَّة – غير ذات جدوى، أو قلَّل من قيمتها؛ حيث تفوح منها رائحة الانتصار للشيخ أو المذهب، كما عطَّل عقول كثير من المسلمين عن التفكير، وجعلهم يتَّكؤون على جهود غيرهم، ثم وصل الحال إلى قَفل باب الاجتهاد، وبعبارة أخرى: توقُّف حركة الإسلام وانحسار مَدِّه؛ فإن الحياة مُتجدِّدة، ومشكلاتها وقضاياها لا تَتناهى، فإذا توقف المسلمون عن تقديم الحلول، وبيان حكم الله – سبحانه وتعالى – ورسوله – صلى الله عليه وسلم – في النوازل؛ أخذ الناس بحكم الطواغيت مِن الشيوعيِّين وعبَدة القانون البشري.

ومِن المَلحوظ أن الفترات التي تُسيطر فيها على المسلمين مثلُ تلك الأفكار الجامدة هي فترات الضعف والوهن والانحِطاط في جميع جوانب الحياة الإسلامية: السياسية والعسكرية والعِلمية والاجتماعية.

وأختم هذه الفقرة بأبيات – ذكرها ابن عبدالبر في جامع بيان العلم للمُنذر بن سعيد – من شيوخ الأندلس – ينعي فيها على المُقلِّدين من أهل مذهبه، فيقول:

عَذِيرِيَ مِن قومٍ يقولون كلما

                                    طلبتُ دليلاً: هكذا قال مالكُ

فإن عدتُ قالوا: هكذا قال أشهَب

                                   وقد كان لا تَخفى عليه المَسالكُ

فإن زدتُ قالوا: قال سُحنون مثله

                                   ومَن لم يقل ما قاله فهو آفكُ

فإن قلتُ: قال الله، ضجُّوا وأكثَروا

                                  وقالوا جميعًا: أنت قرنٌ مُماحِكُ

وإن قلتُ: قد قال الرسول، فقولُهم

                                 أتت مالكًا في تَركِ ذاكَ المَسالكُ

أما الرأي الذي أرتضيه، وأعدُّه وسطًا – بمعنى الوسطية المَطلوبة، التي هي الاعتدال بين الغلوِّ والجفاء – فيمكن تلخيصه في الفقرات التالية:

(1) الأئمة المَتبوعون – وغيرهم من علماء السلف – سادات فضلاء، والأصل فيهم أجمعين أنهم لا يَقولون إلا ما وافق القرآن والسنَّة، وأنهم لا يَخرجون عن نصوص الوحيين قيد شَعرة، وأنهم لا يستدلون إلا بالأدلة التي أحال عليها الشرع؛ ولذلك روى البيهقي “أن رجلاً سأل الإمام الشافعي عن مسألة فأفتاه، وقال: قال النبي – صلى الله عليه وسلم – كذا، فقال الرجل: أتقول بهذا؟ قال – أي الشافعيُّ:- “أرأيت في وسطي زنارًا – حزام يشدُّه النصراني على وسطه -؟! أتراني خرجتُ مِن الكنيسة؟! أقول: قال النبي – صلى الله عليه وسلم – وتقول لي: أتقول بهذا؟ أروي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا أقول به؟!”.

وما مِن إمام مِن أئمَّة الهُدى إلا أُثِرَ عنه نحو ما أثر عن الشافعي – رحمه الله – ولَيسوا يَختلفون أنه ليس لأحد مع الله – سبحانه وتعالى – ورسوله – صلى الله عليه وسلم – قول، وكما قيل: “إذا جاء نَهرُ الله، بَطَل نهر مَعقِل”.

(2)  إن هؤلاء الأئمة غير معصومين عن الخطأ، أو التقصير، فقد لا يَبلُغهم الحديث أصلاً، وإن بلغهم فلَيسوا مَعصومين عن الخطأ في فَهمِه، أو تنزيله مِن حيث العموم والخصوص، والنسخ والجَمع وغير ذلك.

ومَن ادَّعى أن الحديث قد يَبلغهم فيُعرضون عنه؛ فقد طعن فيهم أشدَّ الطعنِ، ومَن ادَّعى لهم العِصمة – بلسان الحال أو المَقال – في شيء من ذلك، فقد وصفَهم بما لا يَرضَون لأنفسهم أن يُوصَفوا به.

وهؤلاء الأئمة كانوا يَزدرون أنفسهم، ويَستقِلون عملهم؛ تواضعًا لله، وهضمًا للنفس، وإنما يغلو في الأئمَّة، ويرفعهم فوق منزلتهم من كان على ضلالة عمياء، وهوى مُهلِك؛ كالرافضة ونحوهم.

(3) أقوال هؤلاء الأئمة على العين والرأس؛ لأنها نابعة من القرآن والسنَّة، ولكن هذا لا يَمنع من اختيار ما يراه الإنسان أقرب إلى الصواب من أقوالهم عند اختلافها، بل يتبع المرء من أقوالهم ما يراه أسعد بالدليل، وأحظى بالحق، غير طاعن فيما سواه، ولا متَّخذ من الرجال – أيًّا كان فضلُهم وعِلمهم – أربابًا من دون الله – سبحانه وتعالى.

ولا شك أن مَن عرف الحق المقرَّر في نصوص القرآن والسنَّة، ثم أعرض عنه لقول فلان؛ أنه يُخاف عليه من هذه الآية: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 31].

 (4) أقوال الأئمَّة هي المُعتمَد في تصحيح النصوص وتَضعيفها، وتوثيق الرجال وتَجريحهم، وبيان العِلل، وشرح النصوص، وإيضاح دلالاتها، والجَمعِ بين ما ظاهره التعارُض منها، وهي المُعتمَد في تصوير المسائل وتقريرها وإيضاحها.

وإذا جاز لنا أن نَجتهد في الوصول إلى نتيجة طيِّبة في المسائل التي وقع فيها الاختلاف، سواء عن طريق ترجيح قول على آخَر، أو عن طريق التفصيل، وحَمل كل قول على حال، أو غير ذلك، فإنه لا يَجوز لنا أن نَستحدِث أو نَبتدِع رأيًا أو حُكمًا في المسائل التي كانت بين أيديهم، وقالوا فيها ما رَأوه؛ لأننا نقول: هم خير وأفضَل، وأعلم وأتقى، وأجدر بالتوفيق، و”لو كان خيرًا لسبَقونا إليه” كما قال الإمام ابن كثير – رحمه الله – في صِفَة أهل السنَّة والجماعة عند تفسير هذه الفقرة من الآية في سورة الأحقاف: “وأما أهل السنَّة والجماعة، فيقولون في كل فِعل وقول لم يَثبُت عن الصحابة – رضي الله عنهم:- هو بِدعة؛ لأنه لو كان خيرًا لسبقونا إليه؛ لأنهم لم يتركوا خَصلة مِن خصال الخير إلا وقد بادَروا إليها”.

(5) التقليد في حالات ليسَت قليلة يُعتبَر ضرورة لا مفرَّ منها؛ فإن الإنسان المعنيَّ بمعرفة الراجِح بدليلِه، الناصب نفسَه لهذا؛ يجد نفسه مُضطرًّا – أحيانًا – إلى التقليد حين تَنزل به نازلة فورية لا تَحتمِل التأخير، ويضيق وقتها عن البحث في طلب الراجِح.

كما أنه مِن غير المتصوَّر ألا يَعمل المرء عملاً، ولا يؤدي عبادة، ولا يَعقد عقدًا، ولا يُرشِد مُسترشِدًا في مسألة مهما صَغُرت أو كَبُرت؛ إلا ويَسبق ذلك كله البحث في الراجح من المَرجوح، مع ما يَحتاجه ذلك من دراسة الأدلة تصحيحًا وتضعيفًا، ودلالة وجمعًا، إلى غير ذلك مما هو ضَروري للترجيح، كما سيأتي – بإذن الله – في الكلام عن الخِلاف والترجيح.

وأنَّى للإنسان ذلك؟! وهو سيَجد في الوضوء، ثم في الصلاة، ثم في الصيام – إن كان في رمضان – ثم في الزكاة، والحج والعُمرة، ثم في سائر شؤونه الدُّنيوية مِن بَيع وشراء ونِكاح وغيرها، من المسائل الخلافيَّة ما تتقطَّع الأعمار دون الوصول منها كلها إلى رأي راجِح أو صحيح.

ولستُ أريد بهذا تضخيم الأمر وجعله مُستحيلاً لا يطمَع أحد فيه ولا في شيء منه، ولكنِّي أدعو إلى البحث والترجيح المُتثبِّت المتأني، مع الاعتراف بأن الاتِّباع لأقوال الأئمة دون تمحيص يعدُّ ضرورة في حالات – كالتي وصفت – حتى يتسنَّى للباحث تحقيق تلك المسائل، والوصول فيها إلى رأي راجِح لدَيه.

ويُمكن للمرء أن يَستفتي عالمًا مُحقِّقًا ممن يعلم عنهم التمسُّك بالسنَّة والأثر، والالتزام بالدليل، وهذا كله فيه نوع من التقليد والاتِّباع، وإن لم يَنطبِق عليه – في جميع الحالات – تعريفُ الأصوليِّين للتقليد.

 (6) أما في مجال الكتابة والبحث، فالأمر يختلف إلى حد كبير؛ حيث يتسنَّى للمرء دراسة الموضوع على هينة، وفي هدوء، ويتَّسع له الأمر في دراسة الأقوال بأدلتها دراسة مُتأنيَة هادئة.

ولا يَعني هذا أن الإنسان لن يجد حالات يُضطرُّ فيها إلى التقليد، أو بالتعبير الصحيح: الاتِّباع، بلى؛ فإن هناك العديد من المسائل بحثها جهابِذة الفقهاء واختلفوا فيها اختلافًا كبيرًا، وقد يجد الإنسان نفسه مُتردِّدًا بين الأقوال غير قادر على الترجيح، وقد يكون رجحان أحد الأقوال لديه بقرائن واهِنة ضعيفة.

وفي مثل ذلك سيَعرض الإنسان الأقوال منسوبة إلى أصحابها بأدلتها، ويُشير إلى ما قد يكون مُرجحًا، أو قرينة تغلب أحد الأقوال، وسيأتي مزيد تفصيل لذلك في مسألة الخلاف والترجيح – بإذن الله.

وثمَّة كلام طيِّب لحافظ المغرب الإمام ابن عبدالبر – رحمه الله – في “جامع بيان العلم” يتَّفق مع ما حرَّرتُه هنا في هذا الموضوع، أنقل منه بعض العبارات؛ يقول – رحمه الله:-

والواجب عند اختلاف العلماء طلب الدليل مِن الكتاب والسنَّة والإجماع والقياس على الأصول منها، وذلك لا يُعدَم، فإن استَوت الأدلة، وجب المَيل مع الأشبه بما ذكرنا بالكتاب والسنَّة، فإذا لم يَبِن ذلك، وجب التوقُّف، ولم يَجُز القطع إلا بيقين، فإن اضطر أحد إلى استعمال شيء من ذلك في خاصَّة نفسِه، جاز له ما يَجوز للعامَّة من التقليد، واستعمل عند إفراط التشابُه والتشاكُل وقيام الأدلة على كل قول بما يُعضِّده قوله – صلى الله عليه وسلم:- ((البر ما اطمأنَّ إليه القلب، واطمأنَّت إليه النفسُ، والإثم ما حاك في القلب، وتردَّد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك))؛ والحديث رواه أحمد في المسند، ورواه غيره بألفاظ أخرى.

هذا حال مَن لا يُمعن النظر، وأما المُفتون، فغير جائز عن أحد ممَّن ذكرْنا قوله لا أن يُفتي ولا يقضي؛ حتى يتبين له وجه ما يُفتي به من الكتاب أو السنَّة أو الإجماع، أو ما كان في معنى هذه الأوجه” اهـ.

وألصَق مِن هذا الكلام بما ذكرتُ قولُه – رحمه الله – في موضِع آخَر:

“واعلم أن مَن عُني بحفظ السنَن، والأحكام المَنصوصة في القرآن، ونظر في أقاويل الفُقهاء، فجعَله عَونًا له على اجتهاده، ومِفتاحًا لطرائق النظَر، وتفسيرًا لجُمل السنن المحتملة للمعاني، ولم يُقلِّد أحدًا منهم تقليد السنن التي يجب الانقياد إليها على كل حال دون نظر، ولم يُرِح نفسه مما أخذ العلماء به أنفسهم من حفظ السنن وتدبُّرها، واقتدى بهم في البحث والتفهُّم والنظَر، وشكر لهم سَعيهم فيما أفادوه ونبَّهوا عليه، وحمدهم على صوابِهم الذي هو أكثر أقوالِهم، ولم يُبرِّئهم مِن الزلل – كما لم يُبرِّؤوا أنفسهم منه – فهذا هو الطالب المتمسِّك بما عليه السلف الصالح، وهو المُصيب لحظِّه، المُعاين لرشْدِه، والمتَّبع لسنَّة نبيه – صلى الله عليه وسلم – وهدْي صحابتِه – رضي الله عنهم – ومَن أعفَى نفسَه مِن النظر، وأضرب عما ذكرنا، وعارض السنن برأيه، ورام أن يردَّها إلى مبلَغ نظرِه، فهو ضالٌّ مُضلٌّ، ومَن جهل ذلك كله أيضًا، وتقحَّم في الفتوى بلا علم، فهو أشدُّ عمًى، وأضلُّ سبيلاً” اهـ.

وحول اختلاف أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول:

“قال إسماعيل القاضي: إنما التوسِعة في اختلاف أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – توسِعة في اجتهاد الرأي، فأما أن تكون توسعةً لأن يقول الإنسان بقول واحد منهم، من غير أن يكون الحق عنده، فلا، ولكن اختلافهم يدلُّ على أنهم اجتهدوا فاختلفوا”، قال الإمام ابن عبدالبر: “كلام إسماعيل هذا حسن جدًّا”.

وأنت إذا تأمَّلتَ كلام ابن عبدالبر، وجدته كلامًا مُمتلئًا نافعًا مُنصِفًا، وهو – بحمد الله – مُنطبِقٌ على ما قرَّرتُه.

المصدر: موقع شبكة “الألوكة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى