كتابات

القرآن يربي العقل على التدبر [1]

بقلم د. وصفي عاشور ابو زيد

يركز القرآن الكريم على الاهتمام بالعقل، ومن هنا نجده في مئات الآيات ينوِّه بالعقل وأهميَّتِه، فنجد هذه المادة: “عَقَلَ” في كثيرٍ من الآيات، وكذلك كلمات عديدة كُرِّرَتْ كثيرًا في القرآن، مثل: يتدبَّرون، يتفكَّرون، يتذكرون، أُولو الألباب…، وغيرها.

وحسْبُنا أنَّ الإسلام جعل العقلَ مناطَ التكليف؛ فمَن لا عقل له فلا تكليف عليه، حتى مَن كان في حكم مَن لا عقل له ولو بعض الوقت؛ مثل السكران، والغضبان غضبًا مغلقًا، والمغمى عليه، لا يؤاخَذ بما فعل، ولا يكلَّف في هذا الوقت.

ومن الأمور التي وقف عندها الأستاذ سيد قطب في تفسيره للآية رقم (165) من سورة النساء: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 165]، قال:

“إنَّ دور هذا العقل أن يتلقَّى عن الرسالة، ووظيفته أن يفهم ما يتلقَّاه عن الرسول، ومهمَّة الرسول أن يبلِّغ، ويبيِّن، ويستنقِذ الفِطرةَ الإنسانية مما يَرِين عليها من الركام، وينبِّه العقلَ الإنساني إلى تدبُّر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاقِ، وأن يرسم له منهجَ التلقِّي الصحيح، ومنهجَ النَّظر الصحيح، وأن يُقِيم له القاعدةَ التي ينهض عليها منهجُ الحياة العملية، المؤدِّي إلى خير الدنيا والآخرة…، إنَّ هذه الرسالة تخاطِب العقلَ؛ بمعنى أنها توقِظه، وتوجِّهه، وتقيم له منهج النظر الصحيح، لا بمعنى أنَّه هو الذي يحكم بصحَّتها أو بطلانها، وبقَبولها أو رفضها، ومتى ثبتَ النصُّ كان هو الحكَمَ، وكان على العقل البشري أن يقبله ويطيعه وينفذه؛ سواء كان مدلوله مألوفًا له أو غريبًا عليه.

إنَّ دور العقل – في هذا الصَّدد – هو أن يفهم ما الذي يعنيه النصُّ، وما مدلوله الذي يعطيه حسَب معاني العبارة في اللغة والاصطلاح، وعند هذا الحد يَنتهي دوره؛ إن المدلول الصَّحيح للنصِّ لا يقبل البطلانَ أو الرفض بحكم من هذا العقل؛ فهذا النص من عند الله، والعقل ليس إلهًا يحكم بالصحَّة أو البطلان، وبالقَبول أو الرفض لما جاء من عند الله”[2].

وكثيرًا ما يدعونا الله تعالى إلى التدبُّر والتفكُّر، ويأمرنا أن نعيد النظرَ كَرَّةً بعد كَرَّة، ومرة بعد مرة في الآيات الكونية والآيات القرآنية، وما خلق الله في الأنفس والآفاق، أو بمعنًى آخر: يأمرنا بالنظر والتأمُّل في كتاب الله المنظور، كما يأمرنا بالتدبُّر والتفكُّر والنظر في كتاب الله المسطور، وهو ما يحافظ على العقل ويُنَمِّيه، ويرسم له الطريقَ ويهديه، وكل ذلك من كُلِّيات مقاصد الشريعة الإسلامية.

وعلى الوجه الآخر فإنَّ تعطيل العقل واتِّباع الآباء والأجداد لِمجرَّد التقليد أمرٌ مُستنكَر، وهي منهجية متبوعة منذ قديمٍ؛ قالها صناديدُ الكفر حين ظهرَت دعوة الإسلام ودعاهم النبيُّ لها، وقد أورد القرآنُ الكريم مقولاتهم حول اتِّباع آبائهم، واستنكار ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك:

  • ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 170].
  • ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [المائدة: 104].
  • ﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 78].
  • ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 51 – 53].
  • ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ [الشعراء: 69 – 74].
  • ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [لقمان: 21].
  • ﴿ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 22، 23].

وهكذا نجد مساحة هذا الأمر واسِعة في القرآن الكريم، ممَّا يُعطي إشارة إلى خطورة الأمر وأهميَّته؛ لأنَّ القرآن لا يعطي مساحة واسعة وتَكرارًا بصور مختلفة إلَّا لما له أهمية وخطورة في الحال والمآل، فالتقليد الأعمى سببٌ في الضَّلال والعمى، ومانعٌ من موانع التوفيق والهدى، ويغلق أمام العقل روافدَ الإيمان الصَّحيح والعقيدة السليمة عبر إعمال الفِكر والتأمُّل والنظر.

ومن هنا وجدنا عَلَمًا مجتهدًا مثل الإمام ابن الجوزي يقول: “اعلم أنَّ المقلِّد على غير ثِقة فيما قَلَّد فيه، وفي التقليد إبطالُ منفعة العقل؛ لأنَّه إنما خُلِق للتأمُّل والتدبُّر، وقبيحٌ بمن أُعطي شمعة يستضيء بها أن يُطفئها ويمشي في الظُّلمة”[3].

ولعلَّ مما يُعِين على تدبُّر القرآن – لكي يتحصَّل لنا تربية العقل على التدبر – فقهَ اللغة العربية وأساليبها، والتعمُّق في علوم البلاغة والبيان، والتعرُّف على أسباب النزول، ومطالعة سيرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والعكوف على القرآن الكريم، وإعطاءه أثمنَ الأوقات، وأحسن الحالات عقلًا وجسدًا وصفاءً؛ لكي يعطينا القرآن بقدر ما نعطيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] لأستاذنا الدكتور صلاح الدين سلطان منهجية في التعامل مع القرآن تقول: “يجب أن نعيش مع القرآن الكريم بالعقل تدبُّرًا، وبالقلب تأثرًا، وبالنفس تغيُّرًا”.

[2] في ظلال القرآن (2/ 806، 807).

[3] تلبيس إبليس: 74، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1421هـ/ 2001م.

*المصدر : موقع الألوكة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى