كتب وبحوث

الفرق العقدية.. الحكم عليها والتعامل معها بين القديم والحديث

مركز التأصيل للدراسات والبحوث

نشأت الفُرقَةُ العقدية في الأمة الإسلامية على إثر الخلاف السياسي الذي انتهى بصراع عسكري بين الإمام علي بن أبي طالب –رضي الله عنه، ومخالفيه، ومنهم معاوية –رضي الله عنه- ومعه أهل الشام. سبق هذا الصراع مقتل خليفتين: عمر بن الخطاب –رضي الله عنه، على يد أبي لؤلؤة المجوسي، وعثمان بن عفان –رضي الله عنه، على يد طائفة من الأوباش الثائرين على سياسته. وكان معظم الصحابة –رضي الله عنهم- في زمن عهد الإمام علي إما استشهدوا أو انتقلوا إلى الثغور يجاهدون ويعلمون أهلها. وبدأت الآراء المحدثة في مسائل العقيدة والإيمان تتسرب بفعل الدسائس المعادية، أو بفعل الغلو والتنطع من الداخلين في الإسلام حديثا. فكان لعبدالله بن سبأ دور تاريخي في إظهار حركة تشيع مغالية في شخص الإمام علي –رضي الله عنه؛ وهو يهودي من صنعاء، أظهر الإسلام وأبطن التآمر عليه. وكان نشاطه في مصر والشام والحجاز. أما العراق فظهر فيها “الحرورية” بآراء مخالفة لما كان عليه الصحابة –رضوان الله عليهم- من الفقه. وكانت أولى مخالفاتهم تتعلق بأحكام الطهارة والصلاة والصيام اعتمادا على الرأي وزهدا في السنة.

تطور العقائد والأفعال والأسماء:

عرف الشيعة في مطلع حركتهم حين بدأوا في الغلو في شخص علي بن أبي طالب واعتباره وصيا بعد النبي –عليه الصلاة والسلام، وتشيعوا له على مخالفيه. وكان عبدالله بن سبأ –وهو شخصية تاريخية غامضة- ممن تولى نشر بعض الآراء والأفكار حول علي بن أبي طالب؛ فكان يعرف أتباعه بـ”السبئية”، دون الذي وقفوا مع علي –رضي الله عنه- انحيازا دون معتقد.

كما عُرِفَ الخوارج قبيل حملهم السيف ومفارقتهم جماعة المسلمين وتكفيرها بـ”الحرورية”؛ نسبة إلى قرية قرب الكوفة قطنها معظمهم. وفي حديث معاذة أن عائشة -رضي الله عنها- قالت لمن سألتها عن قضاء الصلاة للحائض: “أحرورية أنت”[1]. ثمَّ غلب عليهم اسم “الخوارج” بعد قتالهم علي بن أبي طالب.

كلا الفرقتين: الشيعة والخوارج، انتشرتا في المجتمع الإسلامي، ووجدتا من الإقبال ما جعلهما ظاهرتين ملازمتين للأمة عبر التاريخ، وحتى عصرنا اليوم. إلا أنَّ العوامل المختلفة أدت إلى تشرذم كل فرقة من هذه الفرق إما على أساس محدث من الآراء والتصورات، وإما على أساس التنازع على الزعامة. فظهرت للشيعة والخوارج فرقا لا تعد ولا تحصى، نسبة لمؤسسيها أو نسبة للآراء والمعتقدات.

لم تكن هاتان الفرقتان هما الوحيدتان اللتان أطلقتا سيل الحمم من العقائد والآراء المخالفة لعقيدة الصحابة –رضي الله عنهم. بل ظهر في الأمة من أحدث أقوالا في مسائل أخرى عقدية منهم معبد الجهني البصري، وواصل بن عطاء، وغيرهم. ومع توسع الأقوال المحدثة والجدل الفكري وتلقي المعرفة عن حضارات أخرى من خلال الاطلاع على كتبهم وترجمتها للعربية تأسست فرق حديثة تحمل منظومة من الأفكار والآراء المتسقة في إطار منهجها المعرفي والفلسفي؛ لم تكن من قبل: كالمعتزلة والأشعرية وغيرها.

وبنظرة عابرة على كتب الملل والنحل والفرق التي دونها علماء الإسلام تظهر عشرات الأسماء لفرق وطوائف ظهرت في التاريخ الإسلامي خلال ما يزيد عن أربعة عشر قرنا. كل فرقة من هذه الفرق كان لها رأس وإمام، ولديها عقيدتها الخاصة التي توالي وتعادي في ضوئها، وأوصاف أطلقتها على نفسها أو أطلقها عليها الآخرون.

إذن لم يكن الميدان العقدي والفكري في الأمة كتلة جامدة صلبة، بل كان بحرا زاخرا بالحركة والانسياب والتموج بحسب ظروف الأمة الإسلامية داخليا وخارجيا.

الحكم على الفرق والطوائف:

هذا المسار من التطور والتحول في عقائد الأمة الإسلامية، والانتساب لها في جماعات وفرق، يمثل ظاهرة سننية لم تتبدل في الأمم السابقة، ولم تتخلف عن الأمة الإسلامية. وقد ورد في القرآن الكريم تحذير من سلوك هذا المسلك الذي وقعت فيه الأمم الأخرى، ما يدل على إمكانية وقوعه، وأنَّه لا عصمة من حدوثه كونا.

قال تعالى: ((ولَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واختَلَفُوا مِن بَعدِ مَا جَاءَهُم البَيِّنَاتُ وأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ))، آل عمران: 105. وقال تعالى: ((فَأَقِم وَجهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهَا لَا تَبدِيلَ لِخَلقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَٰكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لَا يَعلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيهِ واتَّقُوهُ وأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ولَا تَكُونُوا مِن الـمُشرِكِينَ * مِن الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزبٍ بِمَا لَدَيهِم فَرِحُونَ))، الروم: 30- 32.

وفي صحيح البخاري أنه لمـَّا نزلت هذه الآيةُ: ((قُل هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبعَثَ عَلَيكُم عَذَابًا مِن فَوقِكُم))، قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: (أعوذُ بوجهِكَ)، فقال: ((أَو مِن تَحتِ أَرجُلِكُم))، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: (أعوذُ بوجهِكَ)، فقال: ((أو يَلبِسَكُم شِيَعًا))، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: (هذا أيسَرُ). وفي رواية عند ابن حبان: (سأَلتُ ربِّي فيها –أي لصلاة صلاها- ثلاثَ خِصالٍ، فأعطاني اثنتَينِ ومَنَعَني واحدةً. سَأَلتُه ألَّا يُهلِكَنا بما أهلَك به الأُمَمَ قبلَنا فأَعطَانِيها، وسَأَلتُه ألَّا يُظهِرَ علينا عدوًّا مِن غيرِنا فأَعطَانيها، وسَأَلتُه ألَّا يَلبِسَنا شِيَعًا فمنَعَنيها).

وخاف رسولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- على أُمَّته (الأئمةُ المضلّينَ)، وحذر من أنه (إذا وقعَ عليهم السيفُ –أي على أمته- لم يُرفع إلى يومِ القيامةِ)؛ وهذا غالبه يكون بخروج طوائف مكفرة للأمة، مستحلة لدمائها: (لا تَرجِعُوا بَعدِي كُفارًا –وفي رواية ضلالا- يَضرِبُ بَعضُكُم رِقَابَ بَعضٍ)؛ وأوصى الأمة بتقوى اللهِ، والسمعِ والطاعةِ وإن تأمر عليها عبدٌ حبشيٌّ، وقال: (فإنِّه مَن يَعِش مِنكُم يَرَ اختلافًا كثيرًا، وإيِّاكُم ومُحدَثَاتِ الأُمُورِ، فإنَّها ضَلالةٌ)، وجاء في بعض الأحاديث الإشارة لهذه السنة الاجتماعية: (افتَرَقَت اليَهُودُ علَى إِحدَى وسَبعِينَ فِرقَةً، وافتَرَقَت النَّصَارَى علَى اثِنتَينِ وسَبعِينَ فِرقَةً، وتَفتَرِقُ أُمَّتِي علَى ثَلاثٍ وسَبعِينَ فِرقَةً).. هذا عدا عن إخباره عن فرق بأوصافها كالخوارج.

وحيث عرفت هذه الفرق والطوائف بأسماء أطلقت عليها أو اتخذتها هي عنوانا لها فإن هذا لا يمنع من طبيعة التطور والنمو الذي شهدته هذه الفرق والطوائف في أفكارها ومناهجها وأصولها. فالخوارج الذين ظهروا في زمن الإمام علي بن أبي طالب ليسوا هم جماعات التكفير المعاصرة التي تتقاسم معها معتقداتها وتمثل امتدادا لها. وكذلك الأمر بالنسبة للشيعة أيضا؛ فقد ظهرت فيها طوائف غالية أشد تطرفا في معتقداتها وأفكارها، عرفوا بالباطنية.

هذا التباين بين القديم والحديث، مع اختلاف الظروف والمعطيات المحيطة اليوم، تفرض بالطبع رؤية مستجدة في توصيف هذه الفرق والطوائف على ضوء ما أحدثوه من أقوال وآراء. فقد كان من طبيعة علماء السلف –رحمهم الله تعالى- عدم التوقف على القديم من أقوال هذه الفرق أو آراءها؛ وإنما النظر لكل ما يحدثونه ويعلنونه ويلتزمونه مذهبا لهم.

ففرق الشيعة الباطنية التي أظهرت ادعاء بعض صفات الربوبية أو الألوهية في أئمتهم لم يأخذوا عند علماء الإسلام حكم طوائف الشيعة البدعية، والتي لم تتجاوز حدود حقيقة دين الإسلام في الربوبية والألوهية. وكذلك الشأن في فرق الصوفية الغالية، أو الفلاسفة الذين بلغوا حدا من الإلحاد شابهوا فيه الملاحدة. ومن ثم توزعت أحكام هذه الفرق ما بين التضليل والتبديع والتكفير؛ بحسب ما ثبت عنها.

يقول ابن تيمية –رحمه الله- وهو يتحدث عن فرق الباطنية والملاحدة وغلاة الصوفية الذين شابهوهم: “وهؤلاء الباطنية الملاحدة أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى”[2]. في حين أنه في مواطن مختلفة نقل الخلاف في تكفير فرق أخرى، كالخوارج والرافضة.

الاعتبارات والضوابط:

ينبغي في موضوع الحكم على الفرق المنتسبة للإسلام اعتبار ما يلي:

أولا: أن المعني بالحكم على هذه الفرق هم أهل العلم الذين خبروا العقيدة وأصول الدين وأقوال الناس فيها، وكانوا راسخين في فقه الدين ومعرفة أقوال المخالفين وما يلزم وما لا يلزم من أقوالهم. وليس الحكم في ذلك لآحاد الناس من العامة أو أنصاف المتعلمين، أو ممن لم يشتغل بهذا الفن من علوم الدين، ولا ممن يجهل أقوال المخالفين ومرادهم منها، وما يلزمهم وما يقتضيه قولهم.

ثانيا: أن الحكم على هذه الفرق متصل مسألة اجتهادية، أي أن تنزيل الحكم على المخالفين من أهل الأقوال المحدثة هو من النوازل التي يجتهد فيها العلماء، فليس فيها نص ظاهر على فرقة أو طائفة إلا ما أشير للخوارج خاصة. لذلك فإن من الطبيعي أن يختلف حكم العلماء فيها بحسب معرفتهم، وبحسب اطلاعهم لأقوال المخالفين وثبوت نسبتها إليهم عنده، والتزامهم بالمعاني الباطلة التي قد ترد عليها. وقد اختلف الصحابة والتابعين في شأن الفرق والطوائف التي ظهرت في زمنهم.

ثالثا: أن الحكم على طائفة أو فرقة يختلف عن الحكم على القول أو الفعل، أو أحاد من الناس. فالحكم على الأعيان يختلف عن الحكم عن القول أو الفعل، فقد يوصف القول أو الفعل بأنه كفر أو بدعة في ذاته، ولكن لا يلزم ذلك تكفير فاعله أو تبديعه إلا وفقا لقاعدة توفر الشروط وانتفاء الموانع. ثم إن الحكم على طائفة من الناس تعتقد بمذهب عقدي ينشأ صغيرهم عليها، فلا يعرف سواها، ويلتحق بها العامة والداخل حديثا في الإسلام، هو بخلاف الحكم على رؤوسها ودعاتها ممن لهم علم واطلاع. ومن هنا وقع الخلاف في حكم أفراد وطوائف من فرق البدع والضلال.

يقول ابن تيمية: “فإنهم [أي الجهمية] إنما يتظاهرون بقول معتزلة الأشعرية النافين للصفات الخبرية ولغيرها، وبقول متفلسفة الأشعرية نفاة الصفات مطلقا، كما أن الباطنية القرامطة إنما يتظاهرون بالتشيع. ولهذا كان ابن سبعين يقول للشيخ الجليل تقي الدين الحوراني، الذي كان بمكة مجاورا، وكان من أهل العلم والدين، وكان يناقض ابن سبعين ويرد عليه، قال له: إنما أنت تبغضني لأني أشعري! فقال: لو كنت أشعريا لقبلتك -أو كما قال، وهل أنت مسلم؟! وهذا كما يقول القرمطي لأهل السنة: إنما تبغضوني لأني من الشيعة! فيقال له لو كنت من الشيعة لأكرمناك! وهل أنت مسلم؟! فإن ما في أقوال الشيعة من الأقوال المخالفة للسنة هي الباب الذي دخل منه القرامطة الباطنية وما في أقوال المتكلمين من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية من الأقوال التي تخالف السنة هي الباب الذي دخل منه هؤلاء الملاحدة الجهمية”[3].

رابعا: أن أحوال هذه الفرق يبعد أحيانا ويقرب احيانا، بحسب ظهور أهل العلم وتمكنهم أو ضعفهم وخفائهم؛ وبحسب مخالطتها لأهل السنة وتعايشهم معهم إلى حد التأثر بهم. وكلما قمع رؤوس البدعة ودعاة الضلالة، وأنكرت الأحوال الشركية والأقوال الإلحادية، أصبح عامة أهل الفرق تبعا لعموم أهل الإسلام. ومن ثمَّ فالقول في الفرق يختلف زمانا ومكانا، وحالا وظرفا، خلافا للحكم على المقالات والأفعال.

خامسا: أن الأوصاف العامة التي تشترك فيها طوائف عدة لا يكون محل الحكم على أهله إلا بالقدر الذي يشتركون فيه. فوصف الشيعة يضم طوائف متعددة لا يقر بعضها لبعض في أصولها ومناهجها. ومن الخطأ أن يعطى الشيعة كطائفة عامة ووصف مشترك حكما خاصا بطوائف منهم، لمجرد استحقاق هذه الطوائف الخاصة لها. من هنا جاء توصيف أهل العلم في كتب الملل والنحل والفرق بالتخصيص، والتمييز، وذكر الفروق والخلافات، بين كل طائفة وأخرى؛ وذلك تحقيقا للعدل والإنصاف.

سادسا: أن التثبت والعدل والإنصاف مطلوب مع المخالفين، كفارا –كانوا- أو مبتدعة أو فساقا أو ظلمة. ذلك أن أي وصف يطلق على طائفة يلزم منه نوعا من التعامل، سواء على مستوى الدولة أو المجتمع. وباب التثبت والعدل باب واسع، يتطلب التدقيق والتحقيق، والبحث والسؤال، والجدال والمناظرة، ودراسة طبيعة الطائفة ومنهجها وصياغة الوعي والإدراك فيها، واعتبار مرجعيتها، وارتباطها بكل من انتسب إليها، ومدى التزامها بأقواله وآراءه.

سابعا: أن الحكم على هذه الطوائف والفرق شيء، وإظهار القول به أو العمل بمقتضاه شيء آخر. فقد يراعى في أوقات الفتن، وفي ظروف معينة حالة الأمة وما يرتبط به داخليا أو خارجيا من مفاسد عظمى وتهديد مطلق. من ثمَّ فإنَّ مراعاة المصلحة ودرء الفتنة مطلوب شرعا. وهذا لا يعني تصحيح مناهجهم أو أقوالهم والشهادة لهم بعكس حقيقتهم التي هم عليها، ولكن الصمت وعدم الإثارة ورعاية ما هو أعظم حقا وأوجب فرضا.

[1] أخرجه الشيخان، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة.

[2] التدمرية: ج1/49.

[3] الصفدية: ج1/276.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى