الشيخ محمد الغزالي .. النجم الساطع | بقلم د. يوسف القرضاوي

الشيخ محمد الغزالي .. النجم الساطع | بقلم د. يوسف القرضاوي

الشيخ محمد الغزالي (1335- 1416هـ = 1917- 1996م)

وأخيرًا هو النجم الساطع, واندك الجبل الأشم, وطوي العلم المنشور, وغابت الشمس المشرقة, وترجل الفارس المعلم.. ومات الشيخ الغزالي.

أخيرًا فقدت الأمة الإسلامية علم الأعلام, وشيخ الإسلام, وإمام البيان ورجل القرآن.

أخيرًا أغمد قلم كان سيفًا على أعداء الله, لم يفل له حد, طالما أرعب الملاحدة والمنافقين, وسكت لسان ظل يجلجل ويدوي خلال ستين عامًا, بالدعوة إلى الله, يحشد الناس ألوفًا ألوفًا في ساحته, ويجمعهم صفوفًا صفوفًا على دعوته.

مات الشيخ الغزالي, وهو في قلب المعركة لم يلق السلاح, ولم يطو الشراع, بل ظل يصارع الأمواج, ويواجه العواصف التي هبت من يمين وشمال على سفينة الإسلام, تريد أن يبتلعها أليم, وأن تغرقها الرياح الهوج.

فقد نشرت وكالات الأنباء أن الشيخ أصيب الأزمة القلبية الحادة, وهو يحاضر في ندوة: (الإسلام والغرب) التي عقدت في الرياض, لقد سقط الفارس والسيف مسلط في يده! وأحسبه من (الشهداء) إن شاء الله, فقد مات وهو يدعو ويدافع عن الإسلام, كما مات غريبًا.

كنت أعلم أن الشيخ الغزالي مصاب بجلطة منذ سنوات, وأن أطباءه نصحوه وأكدوا عليه ألا يسافر, لأن صحته لا تحتمل متاعب السفر, ولكن الشيخ لم يكن سعه إذا دعي إلى عمل إسلامي أن يرفض, ويقول: إن الكريم لو دعي إلى طعنة لأجاب!

ولهذا سافر منذ عدة أشهر إلى أمريكا ممثلًا لمجمع البحوث الإسلامية.

وفوجئت حين قرأت في الأسبوع الماضي حضوره مهرجان الجنادرية الثقافي بالرياض, ليشارك في ندوة عن (الإسلام والغرب), مع أن الشيخ أرسلت إليه دعوات كثيرة من عدة أقطار – خصوصًا من الخليج – تلح عليه أن يساهم ببعض المحاضرات في ليالي رمضان, ولكنه اعتذر بلطف للجميع.

ويبدو أن الله تعالى قدر له هذا السفر لأمر يعلمه سبحانه, وهو أمر يحبه الشيخ رحمه الله. ذلك أن يكون مثواه الأخير بالقرب من مثوى رسول الله عليه الصلاة والسلام ومسجده الشريف, بمدافن البقيع بالمدينة المنورة, التي ألف فيها كتابه القيم (فقه السيرة) ودمعه يختلط بالمداد تأثرًا وحبًّا للرسول الكريم, وما كان يتاح له هذا إلا بمثل ما حدث, والله غالب على أمره.

وقد أخبرني صديقه وصديقي الأستاذ الدكتور محمد عمر زبير الذي حضر جنازته ودفنه بالمدينة: أن قبره في موضع متميز, قريب جدًا من قبر الإمام مالك, وقبر الإمام النافع أحد القراء السبعة, رضي الله عنهم جميعًا.

لقد عرفت الشيخ الإمام منذ نحو نصف قرن فعرفت فيه العقل الذكي, والقلب النقي, والخلق الرضي, والعزم الأبي, والأنف الحمي, عرفت الغزالي فما عرفت فيه إلا الصدق في الإيمان, والسداد في القول, والإخلاص في العمل, والرشد في الفكر, والطهارة في الخلق, والشجاعة في الحق, والمعاداة للباطل, والثبات في الدعوة, والمحبة للخير, والغيرة على الدين, والحرص على العدل, والبغض للظلم, والوقوف مع المستضعفين, والمنازلة للجبابرة والمستكبرين, مهما أوتوا من قوة.

عرفت الشيخ الغزالي فعرفت رجلًا يعيش للإسلام وللإسلام وحده, لا يشرك فيه شيئًا ولا يشرك به أحدًا, والإسلام لحمته وسداه, ومصبحه وممساه, ومبدؤه ومنتهاه. عاش له جنديًا, وحارسًا يقظًا, شاهر السلاح, فأيما عدو اقترب من قلعة الإسلام يريد اختراقها, صرخ بأعلى صوته, يوقظ النائمين, وينبه الغافلين, أحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكيه على الله تعالى.

قد تختلف مع الشيخ الغزالي في قضية أو أكثر, وقد تنقده في بعض ما ذهب إليه من آراء, ولكنك لا تستطيع أن تشك في صدقه وإخلاصه وغيرته, وهو على كل حال مجتهد في فهم دينه وفي خدمته بالطريقة التي يراها أصلح وأصوب, فإن أصاب فله أجران, وإن أخطأ فله أجر واحد.

لقد ترك الشيخ الغزالي بصمات واضحة على العقل الإسلامي, لا يمحوها اختلاف الليل والنهار: بما ألف من عشرات الكتب, وما أنشأ من مئات المقالات, وما أقام من آلاف الدروس والخطب والمحاضرات, وما أذيع له من أحاديث لا تحصر في الإذاعات والتلفازات.

كما كان للشيخ تلاميذ وطلاب تلقوا عنه العلم في الجامعات التي عمل فيها: في الأزهر في مصر, وفي أم القرى في مكة, وفي كلية الشريعة في قطر, حيث سعدنا به فيها لمدة ثلاث سنوات, وفي جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية في الجزائر, الذي بقي فيها خمس سنوات متصلة.

لقد لقن الشيخ طلابه الموازنة بين العقل والنقل, وبين الأصول والفروع, وبين الدين والدنيا, ولم ينسق وراء الذين يريدون أن يبطلوا النصوص باسم المصالح, ولا الذين يريدون أن يرفضوا المنقول باسم المعقول, ولا الذين يريدون أن يقيموا حربًا بين الإسلام والعصر, أو بين الإسلام والتطور, إنه يقول للذين يطالبون الإسلام أن يتطور: لماذا لا تطالبون التطور أن يسلم؟!..

قد يأخذ الناس على الشيخ الغزالي بعض آرائه وفتاويه, لأنها ليست على مشربهم, ولكن الذي أعلمه أن الشيخ الغزالي لم يخرج في فتوى أو رأي على إجماع الأمة المستيقن. وقد بينت ذلك في كتابي عنه, وقد اتهم شيخ الإسلام ابن تيمية قديمًا بأنه خرق الإجماع في قضايا الطلاق وما يتعلق به. وهي التي قال فيها تلميذه الحافظ الذهبي: وله فتاوى نيل من عرضه بسببها, وهي مغمورة في بحر علمه.

وأنا أقول: إن هذه الفتاوى التي أوذي من أجلها ابن تيميمة وأدل فيها السجد ومات فيه, هي المعتمدة الآن لدى كثير من أهل الفتوى, وهي التي أنقذت الأسرة المسلمة من الانهيار.

لقد صدق الشيخ الغزالي بما يرى أنه الحق, ولا يسع عالمًا يخشى الله ألا يفعل ذلك, ما دام من {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39].

ربما كان في عباراته – في أحيان قليلة – بعض الحدة, وما ذلك إلا أثر من آثار الحرارة التي تتوقد في صدره, فهو لا يطيق العوج, لا من المسلمين ولا من غيرهم, فإذا رأى عوجًا تأجج قلبه نارًا, يظهر على ثمرات قمله ولسانه.

قد عاش الشيخ الإمام رحمه الله عمره كله محاربًا للقوى المعادية للإسلام في الداخل والخارج, والتصدي لتياراتها, والعمل على هدم أوكارها, وهتك أستارها, وكشف عملائها, وهو هنا مقاتل عنيد, لا يستسلم ولا يطأطئ, ولا يلين يومًا.

وقف في وجه الاستعمار, وكشف عن حقيقته ودوافعه, وأنها (أحقاد وأطماع).

وفي وجه الصهيونية, التي اغتصبت الأرض المقدسة وشردت الأهل, وخططت لهدم المسجد الأقصى وإقامة هيكل سليمان على أنقاضه.

وفي وجه التنصير, الذي يريد أن يسلخ المسلمين من عقيدتهم, ليصبح المسلمون عبيدًا للصليبية الغربية.

وفي وجه الشيوعية التي سماها (الزحف الأحمر) ونبه على خطرها من قديم, واكتساحها للجمهوريات الإسلامية في آسية.

وفي وجه الحضارة المادية وإباحتها الجنسية, وعصبيتها العنصرية, ومحاولتها للسيطرة الإمبريالية, وإن لم ينكر ما فيها من عناصر إيجابية يمكن الاستفادة منها.

وفي وجه العلمانية اللادينية, التي تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض, تريد الإسلام عقيدة بلا شريعة, وسلامًا بلا جهاد, ودينًا بلا دولة, واتباعًا أعمى للغرب ((شبرًا بشبر, وذراعًا بذراع)).

وقد بدأ الشيخ هذه المعركة من قديم, حين رد على صديقه الشيخ خالد محمد خالد في كتابه (من هنا نعلم) ولكنه لم يقس عليه, وكان يظن به خيرًا, وأنكر على الأزهر حين فكر بعضهم أن يجرد الشيخ خالدًا من شهادة العالمية, وقد صدقت الأيام ظن الغزالي, وعاد خالد إلى رحاب الإسلام الذي نشأ في ظله, وتربى في أحضانه.

وبقدر لين الشيخ الغزالي مع الأستاذ خالد, كان نارًا تكوي وتحرق, على العلمانيين المعادين علنًا لشريعة الإسلام, وهو يقول: لماذا لا نسمي هؤلاء باسمهم الحقيقي؟

إنهم المرتدون!.

لقد عرفت الشيخ الغزالي عن كثب, عرفته في معتقل الطور, وعرفته بعد المعتقل, وعايشته وصحبته في السفر والحضر.

وقد وجدت الشيخ الذي يشتد ويحتد في نزاله الفكري, فيهدر كالموج, ويقصف كالرعد, ويزأر كالرعد, ويزأر كالليث, حتى إنك لتحسبه في بعض ما يكتب مقاتلًا في معركة, لا مجادلًا في قضية, وتحسب القلم الذي في يده, كأنما السيف أو الرمح في يد ابن الوليد: وجدته – عن كثب – إنسانًا رقيق القلب, قريب الدمعة, نقي السريرة, صافي الروح, حلو المعشر, كريم الخلق, باسم الثغر, موطأ الأكناف, عذب الحديث, سريع النكتة, بسيطًا متواضعًا, هينًا لينًا, بعيدًا عن التكلف والتعقيد والتظاهر والادعاء, تسبق العبرة إلى عينيه إذا سمع أو رأى موقفًا إنسانيًا, ويهتز خشوعًا وتأثرًا, إذا ذكر الله والدار الآخرة, ولا يأنف أن يتعلم حتى من تلاميذه, يعترف لكل ذي موهبة بموهبته, لا يحسد ولا يحقد, يكره الظلم والتسلط على عباد الله يقول بصراحة لا أحب أن أتسلط على أحد, ولا أن يتسلط عليّ أحد.

لقد عاش الشيخ الغزالي حياته كلها حر الفكر والضمير, حر القلم واللسان, لم يعبد نفسه لأحد إلا لربه الذي خلقه فسواه, لم يبع ضميره ولا قلمه لمخلوق كان. وكم حاول أصحاب السلطان أن يشتروه, ولكنهم لم يقدروا على ثمنه, وكيف يمكن أن يشترى من يريد الله والجنة؟! ولقد لوح له بالمناصب التي يسيل لها لعاب الكثيرين من عبيد الدنيا, ولكن الشيخ لم تلن له قناة, ولم يغره وعد, كما لم يثنه وعيد. لقد كان يتمثل بالشافعي رضي الله عنه وهو يقول:

إنا إن عشت لست أعدم قوتًا وإذا مت لست أعدم قبرًا!

همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة كفرًا!

ومما يذكر للشيخ الغزالي هنا: أنه رفض الخضوع لأهواء العوام, كما رفض الخضوع لسلطة الحكام. وكتب مرة مقالة يقول فيها: أهواء العامة لا تهادن. ولم يحاول أن يزايد بإرضاء الجماهير, على حساب ما يراه حقًا في دينه, كما يفعل ذلك بعض (الأدعياء) الذين يحسبهم الناس (دعاة), وما أعظم الفرق بين الدعاة والأدعياء!

لقد مات الشيخ الغزالي, ولكن أفكاره لم تمت, إن الأفكار لا تموت بموت أصحابها, إنها لم تزل حية ناطقة في كتبه الأصلية المتميزة, التي انتشرت في المشارق والمغارب, وطبعت مرات ومرات, وترجم كثير منها إلى عدد من اللغات, وفي تلاميذه المنتشرين في أنحاء العالم, الذين يحملون دعوته, ويتبنون رسالته.

لقد ألفت كتابًا عن شيخنا الغزالي كما عرفته, خلال نصف قرن في 286 صفحة, وقد نشرته صحيفة الشرق القطرية, على ثلاثين حلقة, خلال شهر رمضان (1415هـ) ثم نشرته دار الوفاء في مصر, وقد ظهر خلال معرض الكتاب الدولي في القاهرة, ولا أدري هل قدر للشيخ أن يراه بعد صدوره أو لا؟ وهو بعض ما للشيخ من حق علي وعلى أمثالي ممن انتفعوا بعلمه, واقتبسوا من ضيائه.

ليس هذا الكتاب تاريخًا للغزالي, فلا أزعم أني أملك كل أدوات المؤرخ, ولا أملك المعلومات الكافية لمثل هذا العمل, وأنا أعلم أن الشيخ – رحمه الله – قد كتب قصة حياته, وكنت أدعو الله أن يمد في عمره في عافية وتوفيق وبركة, حتى يضيف إلى كتابه فصولًا وفصولًا, ولكن أجل الله إذا جاء لا يُؤخَّر.

كما أرجو أن يوفق الله بعض أبنائنا الدارسين في أقسام الدعوة وغيرها أن يقدموا في أطروحاتهم العلمية دراسات إضافية عن الشيخ رحمه الله وعطاءاته الخصبة والمتنوعة, بما يليق بمكانة الشيخ العلمية والدعوية والإصلاحية.

وقد قلت في مقدمة ذلك الكتاب:

ما أقدمه اليوم إنما هو ذكريات وخواطر وأفكار, تحاول أن تقدم صورة للشيخ الإمام, صادرة من معرفتي به, ومعايشتي له, وقراءتي وسماعي له, نحو نصف قرن من الزمان .

أجل لست أؤرخ للغزالي فما أنا بالمؤرخ, ولكني أشير إلى ملامح من حياته وسيرته, عرفتها عن معايشته وقرب, ولا أزعم أني رسمت له صورة بينة الملامح, فما أنا من يحسن الرسم.

وربما قيل: إنك تكتب بقلم المحب لا بقلم الناقد, وأنا أشهد أني أحب الغزالي وأتقرب إلى الله بحبه, ولكني لم أعْدُ الحق فيما خط قلمي, ولا ينبغي أن يغمط الإنسان من يحب, فرارًا أن يتهم بالتحيز, فالعدل يحكم القريب والبعيد, والصديق والعدو {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ} [الأنعام:152].

وإني لأنكر على الإسلاميين أنهم لا يعطون مفكريهم وعلماءهم وأدباءهم ما يستحقون من تكريم وتقدير, ينزلونهم منازلهم, في حين يصنع العلمانيون والماركسيون هالات مكبرة حول رجالاتهم, حتى يجعلوا من الحبة قبة, ومن القط جملًا! وصدق قول الشاعر:

وبقيت في خلف يزين بعضهم بعضًا ليدفع معور عن معور!

وإذا قيل: إنك تنظر إلى الشيخ بعين الرضا, وعين الرضا لا تبصر العيوب, فحسبي أن أقول: إني لا أزعم أن الغزالي مبرأٌ العيوب, فما هو بالملك المطهر, ولا بالنبي المعصوم, وإنما هو بشر يخطئ كما يخطئ البشر, ويصيب كما يصيب البشر, ولكن أخطاءه وزلاته مغمورة في محيط حسناته وميزاته.

و”إذا بلغ الماء القلتين لم يحمل الخبث”, فكيف إذا كان بحرًا لا تكدره الدلاء؟!.

والحق أن هذا الكتاب أو هذه الدراسة التي قدَّمتها عن الشيخ الغزالي – رحمه الله -: أثبتت أننا أمام قائد كبير من قادة الفكر والتوجيه، وإمام فذٍّ من أئمة الدعوة والتجديد. بل نحن أمام مدرسة متكاملة متميِّزة من مدارس الدعوة والفكر والإصلاح، لها طابعها، ولها أسلوبها، ولها مذاقها الخاص. وتحتاج إلى دراسات عدَّة لإبراز خصائصها ومواقفها وآثارها. فليس الغزالي ملك نفسه، ولا ملك جماعة أو حركة، ولا ملك قُطر ولا شعب، بل هو ملك الأمة الإسلامية جمعاء.

لقد عاش الشيخ – رحمه الله -، بشعور يغمره ويملأ فؤاده ووجدانه أبدًا: أنه حارس من حراس هذا الدين الأيقاظ، ولا ينبغي أن يُؤتي الدين من قِبَله وتفريطه، بل يجب أن يتنبه دائمًا لأعدائه في الداخل والخارج، وأن يقف لهم بالمرصاد مدافعًا ذائدًا، بل مقاتلًا مهاجمًا، فخير وسيله للدفاع الهجوم، لا يلقي السلاح، ولا ينشد الراحة، ومعركة المصحف في العالم الإسلامي قائمة، والحرب علي الإسلام وأمته دائرة، لم ينطفئ لها أُوار، والدم الإسلامي مستباح، وأكثر الموكَّلين بالحراسة يغطُّون في نوم عميق، أو مشغولون بالجدل حول فروع المسائل، وصغائر الأمور!.

لقد كتبت الأقدار على الشيخ أن يحارب في جبهتين واسعتين:

الأولى: جبهة الخصوم الكائدين للإسلام، المتربِّصين به الشرَّ، الكارهين لانتشار النور وعودته إلى قيد الحياة من جديد.

بعض هؤلاء من خارج الإسلام، وخارج أرضه، من القوى العالمية التي تخافه أو تبغضه: من اليهودية، والصليبية، والشيوعية، والوثنية، الذين اختلفت دياناتهم، واختلفت طرائقهم، ولكن اتَّحدت أهدافهم علي ضرب الإسلام، ووقف مسيرته، ووضع الأحجار والعثرات في طريقه، وهم الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73]، {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الجاثية:19].

وبعض آخر – للأسف الشديد – من داخل أرض الإسلام، بل من أبناء المسلمين أنفسهم، وممَّن يحملون أسماء المسلمين: محمد وأحمد وحسن وحسين وعمر وعلي.. ولكنهم لا يضمرون للإسلام إلا شرًّا، ولا لدعاته إلا عداوة، ولا لشريعته إلا تنكُّرا.. وربما عادوه لأنه ضد شهواتهم المحرمة، وضد مظالمهم المفترسة، وضد مصالحهم الآثمة، وضد مطامعهم الفاجرة.

والجبهة الثانية: جبهة (الأصدقاء الجهلة) للإسلام، الذين يضرُّون الإسلام أبلغ الضرر, من حيث يريدون أن ينفعوه، ويهشِّمون وجهه من حيث يظنون أنهم يدفعون ذبابة عنه! هؤلاء الذين سمَّاهم الشيخ (الدعاة الفتانين)، الذين يشغلون الناس بالفروع عن الأصول، وبالجزئيات عن الكليات، وبالمختلف فيه عن المتفق عليه، وبأعمال الجوارح عن أعمال القلوب.

لقد كان يشكو من دعاة أغلبهم نكبة علي الإسلام، وقذى في عينه! أنهم لا يقرؤون ولا يعانون، والقليل من الحقائق لديهم لا يضعونه في موضعه الصحيح، وعلل الأمة لا تلقى منهم أساة ولا بكاة، لأنهم مشدودون إلى جدليات الماضي السحيق، ولا يدركون ما جدَّ حولنا، ولا الطفرات الهائلة التي قفزت بها الحياة علي أرضنا.

وإذا كان الجسم المصاب بفقر الدم يسقط في أول مراحل الطريق، فالعقل المصاب بفقر المعرفة أعجز من أن يلاحق مطالب الجهاد، أو يلبي حاجات الحقِّ.

إن مكمن الخطر على مستقبل الإسلام ومستقبل أمته وصحوته، تكمن في هؤلاء الذين وجَّه إليهم الشيخ جلَّ كتبه في المرحلة الأخيرة، عساهم أن يتعلَّموا من جهل، وينتبهوا من غفلة، وينتهوا من الإعجاب بالرأي والازدراء للغير، وأن يتعلَّموا الذلة علي المؤمنين، والتوقير للكبار، والرحمة للصغار.

يقول الشيخ : ((والخطورة تجئ من أنصاف متعلمين أو أنصاف متدينين، يعلو الآن نقيقهم في الليل المخيم علي العالم الإسلامي، ويعتمد أعداء الإسلام – في أوروبا وأمريكة – على ضحالة فكرهم في إخماد صحوة جديدة لديننا المكافح المثخن بالجراح)).

إن الحضارة التي تحكم العالم مشحونة بالأخطاء والخطايا، بيد أنها ستبقى حاكمة ما دام لا يوجد بديل أفضل!.

هل البديل الأفضل جلباب قصير ولحيه كثة؟ أو عقل أذكى، وقلب أنقى، وخلق أزكى، وفطرة أسلم، وسيرة أحكم؟

لقد نجح بعض الفتيان في قلب شجره التعاليم الإسلامية، فجعلوا الفروع الخفيفة جذوعًا أو جذورًا، وجعلوا الأصول المهمة أوراقًا تتساقط مع الرياح.

وشرف الإسلام أن يبني النفس على قاعدة: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9-10].

وأنه يربط الاستخلاف في الأرض بمبدأ: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41].

وهذا يخيف الشيخ الإمام ويثير فزعه على غد الأمة.

يقول رحمه الله : ((لقد خامرني الخوف على مستقبل أمتنا، لما رأيتُ مشتغلين بالحديث – ينقصهم الفقه – يتحوَّلون إلى أصحاب فقه، ثم إلى أصحاب سياسة تبغي تغيير المجتمع والدولة على نحو ما رووا وما رأوا..!!

إن أعجب ما يشين هذا التفكير الديني الهابط: هو أنه لا يدري قليلًا ولا كثيرًا عن دساتير الحكم، وأساليب الشورى، وتداول المال، وتظالم الطبقات، ومشكلات الشباب، ومتاعب الأسرة، وتربية الأخلاق.. ثم هو لا يدري قليلًا ولا كثيرًا عن تطويع الحياة المدنية, وأطوار العمران لخدمه المُثُل الرفيعة، والأهداف الكبرى التي جاء بها الإسلام.

إن العقول الكليلة لا تعرف إلا القضايا التافهة، لها تهيج، وبها تنفعل، وعليها تصالح وتخاصم! هززتُ رأسي أسفا وأنا أرمق مسار الدعوة الإسلامية!

إن الرسالة التي استقبلها العالم قديمًا: استقبلها المقرور للدفء، واستقبلها المعلول للشفاء، هانت على الناس فلم يروا ما يستحق التناول، وهانت على أهلها فلم يدروا منها ما يرفع خسيستهم ويحمي محارمهم)).

وفي مقدمه كتابه: ((الإسلام في وجه الزحف الأحمر)) كتب الشيخ يقول: ((رأيت أن أكتب هذه الصحائف الحافلة بالحقائق العلمية والتاريخية، وأودعتها صرخات قلب غيور علي دينه، شفيق علي أمته, وأعرف أنني بكتابتها سأتعرض لعداوات مميتة!! ولكن بئست الحياة أن نبقى ويفنى الإسلام))!!.

وفي مقدمه كتاب: ( قذائف الحق ) قال الشيخ:

((أعداء الإسلام يريدون الانتهاء منه، ويريدون استغلال المصائب التي نزلت بأمته، كي يبنوا أنفسهم علي أنقاضها.

يريدون بإيجاز القضاء علي أمة ودين.

وقد قررنا نحن أن نبقى، وأن تبقى معنا رسالتنا الخالدة، أو قررنا أن تبقى هذه الرسالة، ولو اقتضى الأمر أن نذهب في سبيلها، لترثها الأجيال اللاحقة!

إلى أن يقول في نهاية المقدمة: ((إن الله أخذ علي حملة الوحي أن يعالنوا به، ويكشفوا للناس حقائقه، وأكَّد عليهم ذلك في قوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187]، فما بد من البيان وعدم الكتمان)).

وأعلم أن ذلك قد يعرِّض لمتاعب جسام، ولكني أقول ما قال صديقنا عمر بهاء الدين الأميري:

الهول في دربي وفي هدفي وأظل امضي غير مضطرب!

ما كنت من نفسي علي خور أو كنت من ربي علي ِريَب!

ما في المنايا ما أحاذره الله ملء القصد والإرب!

{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147].

شيخنا الحبيب:

لقد فقدتك الأمة أحوج ما تكون إليك، فقدتك والمعركة بين – الإسلام وأعدائه  – حامية الوطيس، والأعداء جاؤوا الأمة من فوقها ومن أسفل منها، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وظنَّ الناس بالله الظنون، {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11].

كنا في حاجة إلى قلمك السيف، أو سيفك القلم، ليصول ويجول، مدافعًا عن الحق في مواجهة الباطل، عن الإيمان في مواجهة الكفر، عن الإسلام المحاصر من اليهودية العالمية، والصليبية الغربية، والوثنية الشرقية، ومن عملائهم في ديار الإسلام، ممن ينتسبون إلى الإسلام وهو منهم براء.

فقدناك يا شيخنا، والمؤامرة تُبيَّت، والمؤتمرات تُعقد لضرب صحوة الإسلام – بيد أبنائه – تحت أسماء خدَّاعة وعناوين كاذبة، تحت (اسم الإرهاب)، وهم أكبر الإرهابيين، وتحت عنوان (العنف)، وهم أول مَن استخدمه، وتحت اسم (التطرف) وهم صانعو المتطرفين.

يريدون ألا يبقوا للجهاد جذوة تتقد، ولا للدعوة شمعة تضيء، ولا للصحوة صوتًا يجلجل، ولكنا تعلَّمنا منك أن كيد الله أقوى من كيدهم، ومكره سبحانه أسرع من مكرهم، ويده أشدُّ من أيديهم.

{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].

شيخنا الحبيب:

لا نجد كلمات في روعة بيانك نودِّعك بها، كل ما نقوله لك: إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

اللهم اغفر لشيخنا الغزالي، وارحمه، وأسكنه الفردوس الأعلى، وتقبَّلْه في عبادك المخلصين، واجْزِه خير ما تجزي به الأئمة الصادقين، واحشره مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، وأجرنا في مصيبتنا فيه، واخلفنا فيه خيرًا, اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله, آمين.

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى